
عاد بها “عاصي” لمنزله، فصعد للطابق الأعلى ثم إختار أحد الغرف ليضعها على فراشها، كان قريباً منها بدرجةٍ أربكته، فإبتعد عنها سريعاً حينما إنتصب بوقفته، فأبت عينيه التخلي عن تأملها، إبتسم حينما وجدها تحتضن الوسادة بطفوليةٍ غريبة، ثم فردت ساقيها على طول السرير الضخم، وكأنها في معركةٍ حاسمة تخوضها بنومها، فخرجت نبرته المنخفضة ساخرة:
_مش طبيعية أكيد مجنونة!
ثم غادر لغرفته بعدما أغلق الضوء وتركها تنير ذاك الجانب البائس من قصره الذي إعتاد على صحبته هو فقط.
رفع الليل جلبابه الأسود القاتم، فكان لشروق شمس هذا اليوم إختلافاً عن المعتاد كثيراً، وكأن بوجود تلك الفتاة ذات الثلاثة والثلاثون عاماً جعل القصر الكئيب مفعم ببريقٍ من الأملٍ، فتسللت أشعة الشمس لداخل الغرفة بحريةٍ وكأنها تعلن عن بداية يوماً هام، وخاصة مع بداية استيقاظ تلك الفتاة التي يصغرها شكلها رغماً عن سنها المعترف به، عبثت “لوجين” بعينيها وهي تحارب نومها العميق الذي يسحبها بأحضانه، فأتكأت بمعصمها على الفراش الناعم حتى استقامت بجلستها، فركت عينيها بعبثٍ وهي تتلفت بالمكانٍ باستغرابٍ، فحاولت بقدر الإمكان تذكر ما حدث بالأمس، مر على مخيلاتها هروبها من الحفل بصحبة ذلك الرجل الوسيم، وبقائهما بمنزل شقيقته من أجل احتفاله بعيد ميلاده الأربعون، تذكرت كيف غفلت على الأريكة ومن ثم وجدت ذاتها هنا، فربما وضعها بأحدى الغرف، نهضت عن الفراش ثم اتجهت لباب الغرفة ففتحته وخرجت لتتصنم محلها في ذهولٍ تام، حينما وجدت نفسها بقصرٍ ضخم ، يملأه الأثاث الوثير والانتيكات الباهظة، أغلب ما يشمل لونه الكحلي الداكن، مشطت بيدها خصلات شعرها وهي تردد بحيرةٍ:
_أنا فين؟ وهما راحوا فين!
_صباح الخير يا أنسة.
انتبهت “لوجين” لصوت الخادمة القادم من خلفها، فانتفضت بفزعٍ، ومن ثم هدأت من روعها لتجيبها بلهفةٍ:
_قوليلي أنا فين؟
لمست من تعابير وجهها القلق، فقالت:
_إهدي بس، إنتي هنا بقصر الباشا “عاصي سويلم”.
ارتسمت ابتسامة حالمة على وجهها:
_بجد!
هزت الاخيرة رأسها بتأكيدٍ، ثم قالت باهتمامٍ:
_هحضرلك الفطار..
قالت بلهفةٍ:
_ياريت بسرعة لحسن أنا واقعة من إمبارح ومحدش سأل فيا.
ضحكت وهي تهم بهبوط الدرج الضخم، فلحقت بها “لوجين” للأسفل وهي تتطلع لكل ركناً بزواية القصر بإهتمامٍ، فجذب انتباهها الصور الموضوعة بكل مكانٍ بباحته له ولفتاةٍ غريبة بملامح هادئة، جدائل شعرها الاسود منسدل على ظهرها بخفةٍ، عينيها كحبات الزيتون اللامع، وعلى ما بدى لها بأنها زوجته، خاصة بوقفتها لجواره بحريةٍ كبيرة، أفاقت “لوجين” من شرودها على صوت الخادمة وهي تخبرها:
_إتفضلي الأكل جاهز .
سألتها ويديها تشير على الصورة:
_هي مين دي؟
راقبت الخادمة الطريق من حولها قبل أن تجيب على السؤال المطروح بحزنٍ ظاهر:
_دي “هند” هانم زوجة “عاصي” باشا سابقاً.
ضيقت “لوجين” عينيها بذهولٍ، فلم تشبع إجابتها المختصرة فضولها، لذا عادت لتتساءل من جديدٍ:
_يعني أيه سابقاً هما إنفصلوا؟
هزت رأسها بالنفي، ثم قالت بتوضيحٍ:
_توفت قبل الفرح بأسابيع، لأنها كانت بتعاني من مرض خبيث عفانا الله.
حزنت لما استمعت إليه، فرفعت رأسها تجاه الصورة مرة أخرى، لتردف بلهجةٍ مختنقة:
_وجع الفراق محدش يعرفه غير اللي عاش معاه، اللي مخليني مستغربة في اللحظة دي هو إزاي قدر يتجاوز كل ده بالبساطة دي!
ردت عليها الخادمة بشفقةٍ تجاه سيدها:
_للأسف مقدرش يتجاوزه، من اليوم اللي توفت فيه والقصر ده إتحول لسجن إتحبس جواه طول السنين دي، حتى إنه مفكرش في الجواز من بعدها.
استندت بذراعيها على مقدمة المقعد المقابل لها، لتهيم بحديث الخادمة الذي زرع الإعجاب بقلبها تجاهه، أعجبت بتفانيه بحبها حتى بعد وفاة من أحبت، وبشهامته واصراره على مساعدتها رغم استغلالها له وكذبتها المتعلقة بأمر حبيبها، وُلد بداخلها رغبة بسماع كل شيء يخص هذا الأربعيني الوسيم، فلامست بيدها خصلات شعرها المتدلية على وجهها،وعينيها تراقب ملامحه المتغيرة، فعلى ما يبدو بأن تلك الصورة منذ أعواماً والذي أثار دهشتها جاذبيته التي ازدادت كلما كبر عاماً، فهمست بصوتٍ غير مسموع:
_هو العمر بيتقدم معاه ولا بيرجع لورا سنة، غريبة!
قطع حساباتها المعقدة وحالة صدمتها المؤثرة صوت البيانو القادم من إحدى الغرف بالطابق الأسفل، تتبعت “لوجين” الصوت كالدمية المسحورة التي تحركها الساحرة الشريرة، حتى وصلت لأحدى الغرف المغلقة، حررت بابها بربكةٍ غامضة تطرق أبواب قلبها لأول مرة، وخاصة حينما وجدته يجلس على البيانو، يحرك أصابعه على أزراره بحرافيةٍ ومهارة، حتى وعينيه مغلقة، وقفت مقابله تراقبه وتستمع لعزفه الساحر بصمتٍ، مظهره المرتب ببذلته الرمادية الآنيقة، حتى تصفيفة شعره المرتب وعطره الذي يتسلل إليها بالرغم من المسافةٍ بينهما،وكأنه يضع الزجاجة بأكملها، ظنت ببدء الأمر بأنه لم يراها لذا استرقت النظر إليه باستمتاعٍ لعزفه المميز، فكسر صوته الرخيم قواعد الصمت المخيمة بالغرفة:
_لو خلصتي مراقبة تقدري تدخلي وتقعدي على الكراسي بدل ما رجلك توجعك من الواقفة.
انفرجت شفتيها بصدمةٍ، فبللتهما لتمنحها ترطيب بعد أن جفت مثل حلقها، ثم قالت بارتباكٍ:
_آآ.. أنا كنت بدور على مكان المطبخ لإني جعانة فبالصدفة سمعت صوت البيانو وبصراحة العزف الرائع اللي جذبني لهنا.
أغلق باب البيانو الصغير، ثم نهض ليقترب منها، قائلاً بهدوءٍ:
_تعالي ورايا.
إنصاعت إليه، فاصطحبها لمطبخ القصر الرئيسي، ثم أشار بعينيه لأحدى الخادمات، فأتت مسرعة حاملة صينية دائرية الشكل، تحوي أنواعاً متعددة من الطعامٍ الشهي، فوضعتها على الطاولة المستطيلة الموضوعة بالمطبخ، فجلست تتناول طعامها وعينيها تراقبه، فجذب “عاصي” أحد المقاعد المقابلة لها، ثم جلس يتطلع لها بنظراتٍ ثابتة، قضمت أحدى الشطائر ثم بدأت بالحديث الذي لم تكف عنه منذ أن راته:
_أنت عايش هنا لوحدك؟
رفع حاجبيه ساخراً: