
في صباح اليوم التالي، استيقظ يوسف وهو يأمل أن يكون ما حدث مجرد لحظة عابرة، لكن الأجواء في المنزل لم تكن توحي بذلك.
دخل إلى المطبخ فوجد رحيل تحضّر قهوتها كالمعتاد. حاول أن يتحدث معها كأن شيئًا لم يكن، وقال بنبرة طبيعية:
“صباح الخير.”
ردّت دون أن تنظر إليه:
“صباح النور.”
جلس على الطاولة، يراقبها وهي تصب القهوة في الكوب وتأخذ رشفة، ثم قال بحذر:
“أخبارك إيه؟ شكلك مش نايمة كويس.”
هزّت كتفيها بلا اهتمام:
“عادي.”
لاحظ أنها تتجنب النظر إليه، وترد بكلمات مختصرة. حاول أن يفتح موضوعًا آخر، لكنها كانت ترد بكلمات مقتضبة أو تكتفي بالإيماء.
بعد لحظات صمت، وضع كوبه جانبًا وقال:
“أنا رايح الشغل، عندي يوم طويل.”
“تمام.” أجابته ببساطة، ثم حملت كوبها وخرجت من المطبخ، تاركة يوسف يشعر وكأنه يتحدث إلى جدار.
خرج من المنزل وهو يشعر بأن هناك شيئًا تغير. لم تكن رحيل تصرخ أو تواجهه مباشرة، لكنها كانت ترسل رسائلها بطريقتها الخاصة، وكان ذلك يقلقه أكثر من أي مواجهة مباشرة.
في مكتبه، كان يوسف يحاول التركيز على عمله، لكن عقله ظل مشغولًا برحيل وتصرفاتها الغامضة.
رنّ هاتفه، فوجد اسم يارا يضيء على الشاشة.
“ألو، عامل إيه؟” جاء صوتها مرحًا كعادته.
“كويس، انتي أخبارك إيه؟”
“تمام، بس عندي فكرة ممكن تخلينا نكسر الروتين شوية.”
“إيه هي؟”
“أنا رايحة رحلة يومين في مكان تحفة، وحسّيت إنه هيكون ممتع لو كنت معايا.”
تردد يوسف للحظة، لكنه شعر برغبة غريبة في مرافقتها. جزء منه كان يريد الهروب من التوتر في المنزل، وجزء آخر كان يشعر بغيرة غير مبررة عندما سمعها تتحدث عن السفر وحدها.
“هفكر في الموضوع وأقولك.” قالها وهو يحاول أن يبدو متزنًا، لكنها فهمت تردده.
“يوسف، الدنيا صغيرة برضو، ممكن تلاقي نفسك هناك بالصدفة.” ضحكت، ثم أغلقت الخط.
ظل ينظر إلى هاتفه للحظات، قبل أن يتخذ قراره أخيرًا…
في المساء، جلس مع رحيل بعد العشاء، بدا متوترًا قليلًا، لكن ملامحه كانت هادئة بشكل مبالغ فيه.
“أنا مسافر بكرة.” قالها فجأة، وهو يتجنب النظر إلى عينيها.
“مسافر؟ فين؟” قالت وهي تضع كوب الماء على الطاولة، تحاول أن تبقى هادئة رغم المفاجأة.*
“رحلة شغل، بس يومين وراجع.”
“غريبة… مقلتش حاجة قبل كدا.”
“جت فجأة، رئيسي في الشغل قرر إننا لازم نحضر الاجتماع ده.”
لم تقل شيئًا، فقط راقبته بصمت. كان يوسف قادرًا على الكذب بسهولة، لكنه لم يكن قادرًا على إخفاء التوتر في يديه، كيف يمسك الهاتف بشدة، كيف يبتعد بنظره عنها.
في صباح اليوم التالي، كانت رحيل صامتة تمامًا، تراقب تحركاته بدقة. كان يتحدث على الهاتف بصوت منخفض في غرفة المكتب، بدا قلقًا ومتوترًا. عندما خرج، وجدها واقفة عند الباب، وكأنها تحاول أن تلتقط أي كلمة قد تكشف السر.
“هتسافر النهارده؟” سألته ببرود، رافعة حاجبها.
“آه، رحلة عمل، يومين بالكتير وهرجع.” قال بسرعة وهو يرتب أوراقه.
راقبته وهو يغادر، وشعرت أن هناك شيئًا غير منطقي في حديثه. لم يكن يوسف يسافر كثيرًا، وعندما يفعل، كان يخبرها بذلك قبل أيام. لكنها لم تقل شيئًا. قررت الانتظار
في مساء ذلك اليوم
كانت رحيل تجلس على الأريكة، تحتسي قهوتها بصمت، لكن عقلها لم يكن هادئًا أبدًا. منذ أن غادر يوسف في رحلته، كانت تحاول إقناع نفسها أن الشكوك التي تنهشها لا معنى لها… لكنه لم يتصل بها كثيرًا، وكانت رسائله مقتضبة وكأن شيئًا يشغله أكثر من العمل.
بتنهيدة ثقيلة، أمسكت هاتفها تتصفح بلا هدف، حتى توقفت يدها فجأة عند صورة مألوفة ظهرت أمامها على إنستغرام.
“يارا.”
فتحت الصورة ببطء وكأنها تخشى ما ستراه. ظهرت يارا في مكان فاخر بإضاءة دافئة، ترتدي فستانًا أنيقًا، وعلى معصمها أسوارة فضية بأحجار زرقاء. لم يكن هذا ما جعل قلب رحيل ينبض بعنف، بل الكلمات التي كتبتها يارا تحت الصورة:
“الأماكن تصبح أكثر جمالًا حين نكون برفقة من نحب.”
“ليس المكان هو المهم، بل من يرافقك فيه.”
شعرت رحيل بقشعريرة تسري في جسدها، وأخذت تحدق في الصورة، تبحث عن أي تفصيلة قد تؤكد أو تنفي شكوكها. لكن شيئًا ما في الخلفية شد انتباهها أكثر… المكان بدا مألوفًا، وكأنها رأته من قبل… أو بالأحرى، كأنها رأته في صورة أخرى، صورة أرسلها يوسف لها عندما أخبرها أنه في العشاء مع زملائه من العمل.
الصدف كثيرة… لكنها لم تعد تؤمن بالصدف.
وضعت هاتفها ببطء، نظرت أمامها بشرود، ثم عضت شفتيها وهي تفكر… هل يعقل أن يوسف كان معها هناك؟
بعد يومين عاد يوسف من السفر متأخرًا، مرهقًا من الرحلة، لكنه لم يكن يتوقع أن يجد رحيل مستيقظة، جالسة في غرفة المعيشة، وكأنها تنتظره. كان ضوء خافت ينبعث من المصباح الصغير بجانبها، ينعكس على ملامح وجهها التي بدت هادئة، لكن في عينيها بريقًا لم يستطع تحديده… كان أشبه بمزيج من الفضول والترقب.
ابتسم لها وهو يخلع سترته ويضع الحقيبة بجانب الباب.
“لسه صاحية؟ المفروض تبقي نايمة دلوقتي.” قالها بنبرة هادئة وهو يحاول أن يبدو طبيعيًا.
رفعت رحيل عينيها إليه، تأملته للحظة قبل أن ترد بصوت ثابت:
“وأنت المفروض تبقى راجع بدري.”
توقف لبرهة، ثم اقترب منها وجلس على الكرسي المقابل. شعر بشيء غريب في طريقتها، لكن قرر أن يتجاهل ذلك.
“كانت رحلة متعبة، شغل… اجتماعات، تعب، حاجات مملة.” ، بس خلاص، رجعت.” قال وهو يمرر يده بين شعره بتوتر خفيف.
رحيل لم تقل شيئًا للحظات، ثم نهضت بهدوء، ومرت بجانبه متجهة إلى الغرفة، لكنها قبل أن تختفي عند الباب، ألقت عليه نظرة جانبية وقالت ببرود:
“أكيد استمتعت بالسفر… المكان واللي في المكان كان حلو، صح؟”