
في المقهى
وصل يوسف إلى المقهى الهادئ في زاوية المدينة، دخل بخطوات مترددة وكأن عقله يخبره بألّا يكون هنا، لكنه تجاهل ذلك وجلس عند الطاولة المعتادة. لم تمضِ سوى لحظات حتى ظهرت يارا أمامه.
كانت أنيقة كعادتها، نظراتها تحمل ثقة لم تتغير رغم مرور السنين، جلست أمامه بابتسامة خفيفة وهي تميل نحوه قليلاً.
“كنت متأكدة إنك هتيجي.” قالت بنبرة واثقة.
ألقى يوسف نظرة سريعة حول المكان، وكأنه يخشى أن يراه احد
ابتسمت يارا، ميلت ناحيته شوية وقالت:
— “وحشتني يا يوسف.”
اتوتر، بص بعيد عنها، شرب شوية من المية اللي على الترابيزة… لكنه في الحقيقة كان بيحاول يبلع التوتر اللي في حلقه.
— “يارا… قولتلك قبل كده إن…”
قاطعت كلامه بسرعة:
— “أنا عارفة إنك متجوز… وعارفة إنك بتحب مراتك… بس أنا متأكدة إنك لسه بتحبني.”
كلامها كان صادم… لكنه مش غريب، لأنه في مكان ما في قلبه، كان عارف إنها صح.
— “يارا… إحنا خلصنا الموضوع ده من زمان، و…”
— “أنا هتجوز.” قالتها فجأة، وهي عارفة إن وقع الكلمة عليه هيكون قوي.
رفع عينه ليها بسرعة، اتحرك في مكانه بانفعال واضح، حس بلسانه مربوط… كل كلمة كان بيخطط يقولها اختفت فجأة.
— “هتتجوزي؟” سأل أخيرًا، وهو مش مصدق إنه حاسس بالغيرة دي كلها.
— “آه… خلاص، لازم أكمل حياتي.” قالتها وهي بترقب كل تعبير في وشه.
يوسف حس بحاجة غريبة… إحساس خانق، كأن حد بيضغط على قلبه بقوة. هو المفروض يكون سعيد إنها أخيرًا بتبعد، المفروض يحس بالراحة… لكنه مش حاسس بأي حاجة غير الغيرة.
— ” بس إنتِ مش بتحبيه.” قالها فجأة، وكأن لسانه نطق قبل عقله.
يارا ابتسمت، قربت أكتر وقالت:
— “ولو؟ إنتَ بتحب مراتك؟”
اتسمر مكانه… مش عارف يرد، مش عارف حتى يفكر.
نظر إليها يوسف ولم يرد، لكن صمته كان يحمل أكثر من معنى.
في اللحظة دي… كانت رحيل واقفة قدام الكافيه، بتراقب من بعيد… قلبها كان بيدق بسرعة، وإيديها بتترعش. هي تبعته… ومش مصدقة اللي شافته قدامها.
زوجها، قاعد قدام طليقته… بنظرات مش ممكن تكون عادية.
عادت رحيل إلى المنزل وهي بالكاد تستطيع التقاط أنفاسها. لم تكن تعرف كيف وصلت، كيف فتحت الباب، كيف دخلت إلى غرفتها. شعرت أن كل شيء ينهار من حولها، أن الأرض تسحبها للأسفل بلا رحمة. جلست على السرير، تحدّق في الفراغ، بينما صدى حديثهما يتردد في أذنها.
في منتصف الليل، عاد يوسف إلى المنزل. دخل بخطوات هادئة، لم يكن يتوقع أن يجد رحيل مستيقظة. وقف للحظة يراقبها، لكنها لم تحرك ساكنًا. شعر ببعض التوتر لكنه تظاهر بالهدوء وقال بنبرة طبيعية:
— “لسه صاحية؟”
رفعت عينيها ببطء وحدّقت فيه للحظات قبل أن تسأله بهدوء:
— “كنت فين؟”
تردد قليلًا قبل أن يقول بصوت ثابت:
— “قلتلك… كان عندي عشاء عمل.”
— “كان يوم طويل جدًا في الشغل، وبعد العشاء العمل قعدنا نتكلم في شغل جديد، معرفتش أخرج بدري.”
نظرت إليه رحيل نظرة ثابتة، وكأنها تزن كلماته واحدًا تلو الآخر، ثم قالت بصوت هادئ لكنه حاد:
— “متعلّقش نفسك بالكلام، أنا خلاص… فهمت كل اللي كنت عاوزة أفهمه.”
تسمر يوسف في مكانه، شعر بالارتباك، سألها وهو يحاول أن يتماسك:
“قصدك إيه”؟
الفصل الرابع – رحلة غامضة
“متعلقش نفسك بالكلام، أنا خلاص فهمت كل اللي كنت عاوزة أفهمه.”
شعر يوسف بوخزة قلق وتوتر ، واقترب منها قليلًا وهو يعقد حاجبيه:
“قصدك إيه؟”
نظرت إليه بابتسامة خفيفة لكنها خالية من أي دفء، وقالت بصوت هادئ لكنه قاطع:
“قصدي إنك مشغول كتيير… مابتفضاش.”
ثم نهضت بثبات واتجهت إلى غرفتها، تاركة يوسف واقفًا مكانه، يشعر بأن كلماتها تحمل أكثر مما تبدو عليه. لم يحاول إيقافها، لكنه شعر أن هذه الليلة لن تمر بسهولة على عقله.