منوعات

وهم

شعر يوسف بشيء ما في كلماتها… وكأنها تخفي وراءها شيئًا، لكنه قرر ألا يفتح أي نقاش الآن. تنهد ببطء وهو يراقبها تختفي داخل الغرفة، بينما بدأ القلق يتسلل إلى داخله، دون أن يعرف السبب الحقيقي لذلك

في صباح اليوم التالي، وبينما كان يوسف في الحمام، دخلت رحيل إلى الغرفة لترتيب أغراضه بعد عودته من السفر. اعتادت على فعل ذلك دائمًا، لكنه اليوم بدا مختلفًا، إحساس غريب كان يراودها، وكأنها على وشك اكتشاف شيء لن يعجبها.

راحت ترتب الملابس بلا اهتمام حقيقي، وعندما مدّت يدها إلى الحقيبة لإفراغها، شعرت بشيء معدني بين الثياب.

إسوارة فضية…

توقفت يداها عن الحركة، حدّقت فيها للحظات قبل أن تلتقط هاتفها بسرعة، وبتوتر، فتحت حساب يارا على إنستغرام. قلبت الصور بسرعة حتى وصلت إلى الصورة التي نشرتها أثناء الرحلة… كانت يارا تضع نفس الإسوارة!

وكأن الهواء اختفى من الغرفة للحظات… شعرت بوخزة في قلبها، بعاصفة تدور داخلها، وكأن كل شيء أصبح واضحًا فجأة. يوسف كان معها… ليس مجرد صدفة، بل شيء أكثر من ذلك.

وقبل أن تستوعب صدمتها بالكامل، سمعت صوت الباب يُفتح.

استدارت ببطء، لترى يوسف واقفًا عند باب الغرفة، يُجفف شعره بمنشفة. نظراته تلاقت مع نظراتها… ثم سقطت عيناه على الإسوارة في يدها، ثم على هاتفها الذي كان مفتوحًا على صورة يارا.

في لحظة، تغيرت تعابير وجهه… الهدوء الذي كان يتحلى به اختفى، وحلّ مكانه توتر واضح. حاول أن يبدو طبيعيًا، لكنه فشل.

نظرت إليه ببطء، ثم رفعت الأسوارة قليلًا أمامه وسألته بصوت هادئ لكنه حمل كل العاصفة داخله:

“الدنيا صغيرة برضو؟”

“الإسوارة دي…!” قالها بتلعثم واضح، وهو يحاول أن يجد تفسيرًا قبل أن تنطق هي بكلمة.

الفصل الخامس – مرآة الحقيقة المشوهة

وقف يوسف في منتصف الغرفة، يراقب رحيل وهي تمسك بالإسورة بين أصابعها، تقلبها كما لو كانت تبحث عن إجابة محفورة داخلها. كان الجو ثقيلًا، محمّلًا بتوتر لم يعهده بينهما من قبل.

“قولّي يا يوسف… الإسورة دي لمين؟”

نظر إليها للحظة، ثم التفت إلى الطاولة حيث وضعت الإسورة، التقطها ببطء، تفحصها للحظات، لكنه لم يعطِ أي إجابة.

رفعت رحيل حاجبها، كانت تعرفه جيدًا… صمته الآن ليس صمت البراءة، بل صمت الشخص الذي يبحث عن مخرج.

“يوسف، لمين؟”

تنهد، مرر يده في شعره، ثم قال بصوت متردد:

“مش عارف… يمكن بتاعت حد وقعت في شنطتي بالغلط.”

ضحكت رحيل بسخرية، وكأنها توقعت هذا الرد الساذج. تركته لدقائق في راحته المزيفة، ثم أخرجت هاتفها ومررت إصبعها على الشاشة، قبل أن تديرها ناحيته.

“وهي دي كمان بالغلط؟”

نظر إلى الشاشة، فتجمد في مكانه. كانت صورة واضحة… يارا جالسة في أحد الأماكن، ترتدي نفس الإسورة في معصمها، والصورة التقطت حديثًا!

رفعت رحيل عينيها إليه، في عينيها كان هناك سؤال أخطر من مجرد الإسورة… كان سؤالًا عن الحقيقة التي لم يقلها بعد.

“هتفضل تكذب لحد إمتى؟”

“إنت قابلتها في الرحلة… مش كده؟”

شعر يوسف أن الحبال بدأت تلتف حول رقبته، وأنه إن لم يتحدث الآن، قد لا يستطيع إصلاح أي شيء لاحقًا.

“آه، قابلتها… بس بالصدفة. والله بالصدفة، رحيل!”

قالها بصوت بالكاد خرج منه.

رحيل نظرت إليه نظرة طويلة، وكأنها تحاول أن ترى ما وراء الكلمات، ثم قالت ببرود:

“ليه ماقولتليش إنك شُفتها؟ ليه استنيت لما أنا ألاقي الإسورة وأسألك؟”

يوسف بلع ريقه، شعر أن الكلام يتجمد في حلقه. قال بصوت متقطع:

“مفيش حاجة… كانت مجرد صدفة، واتكلمنا كلمتين وخلاص.”

ارتخت ملامح رحيل قليلًا، لكنها لم تكن ملامح اقتناع… بل ملامح خيبة أمل. هزّت رأسها، ثم همست:

“صدفة؟ وكلمتين وخلاص؟ يعني شُفتها وقعدت تتكلم معاها… بس أنا كان المفروض أعرف بالصدفة برضه؟”

صمت يوسف. لم يكن لديه رد مناسب.

” يوسف لو في حاجة لازم أعرفها، قولي دلوقتي… متخلينيش أكتشفها لوحدي.”

كانت هذه الجملة كافية لجعل يوسف يشعر وكأن الأرض تهتز تحته. لم يكن يعلم ماذا يقول. لم يكن هناك شيء يعترف به، لكنه أيضًا لم يكن قادرًا على إقناعها أنه بريء تمامًا.

في أحد المقاهي الفاخرة، جلست يارا أمام صديقتها المقربة، سمر، وهي تلوّح بملعقتها داخل فنجان قهوتها، وعيناها تلمعان بمكر.

“يوسف لسه بيفكر فيا، أنا متأكدة.” قالتها وهي تتظاهر بعدم الاكتراث، لكنها كانت تنتظر ردة فعل صديقتها.

سمر رفعت حاجبها بشك: “إنتي بتتكلمي جد؟ ده متجوز وباين إنه مستقر في حياته.”

ضحكت يارا بسخرية وهي تميل للأمام: “متجوز، بس مش سعيد. شوفي، هو أول ما شافني في الرحلة، مكنش عارف يخبي مشاعره. باين عليه إنه لسه متعلق بيا.”

سمر هزّت رأسها ببطء: “يارا… إنتي متأكدة إنك مش بس بتتوهمي؟”

ابتسمت يارا بخبث: “سمر، لو شوفتي نظراته ليّا، كنتي فهمتي كل حاجة. هو مش عارف يعترف، بس أنا عارفة… يوسف عايز يرجع لي.”

ترددت سمر للحظة قبل أن تسأل: “طب وإيه خطتك؟”

يارا وضعت يدها على خدها ونظرت إلى الخارج كأنها تفكر بصوت عالٍ: “أنا بسهل عليه القرار. خليت رحيل تشك فيه، وسايباه يتصرف. في الآخر، لما المشاكل بينه وبينها تكتر، مش هيلاقي غيري قدامه.”

سمر نظرت إليها بدهشة: “إنتي فعلًا بتلعبي بالنار.”

لكن يارا ابتسمت بثقة: “وأنا بحب النار، يا حبيبتي.”

في صباح اليوم التالي، جلس يوسف في مكتبه، يحاول التركيز لكنه لم يستطع. كان يشعر أن هناك شيئًا ناقصًا… شيء لم يفهمه بعد.

أخرج هاتفه، فتح قائمة الأسماء، وظل ينظر إلى اسم يارا، تردّد… ثم ضغط على زر الاتصال.

رنّ الهاتف مرتين قبل أن يأتيه صوتها، هادئًا لكنه يحمل نبرة خفية من الانتصار:

“وأخيرًا افتكرت تتصل.”

صمت لحظة، ثم قال بصوت منخفض:

“يارا… إنتي اللي حطيتي الإسورة في شنطتي؟”

ساد صمت قصير قبل أن ترد بصوت هادئ وكأنها تفكر بجدية:

“إسورة؟ أي إسورة يا يوسف؟ أنا معرفش أنت بتتكلم عن إيه.”

قطّب حاجبيه، شعر أن نبرتها خالية من أي انفعال… لا سخرية، لا اعتراف، لا ندم. فقط هدوء قاتل.

“يارا، متلعبِيش معايا. الإسورة اللي كنتي لابسها في الرحلة… إزاي وصلت لشنطتي؟”

ضحكت ضحكة قصيرة، ثم ردت بهدوء أكثر، وكأنها تتعمد تركه يغرق في أفكاره:

“أنا فعلاً مش فاهمة إنت بتتكلم عن إيه… بس واضح إن فيه حاجات في حياتك بقت تلخبطك، يوسف.”

ثم أنهت المكالمة دون كلمة إضافية.

ظل يوسف ممسكًا بالهاتف، يحدّق في الشاشة، يشعر أن عقله يوشك على الانفجار. هل كانت تكذب؟ أم أن هناك شيئًا آخر لا يفهمه بعد؟

لأول مرة، بدأ يشك في كل شيء… حتى في نفسه.

في صباح اليوم التالي، وبينما كانت رحيل تستعد للخروج، رنّ هاتفها برسالة مجهولة المصدر. فتحتها، ووجدت صورة… صورة التقطت في الرحلة.

الصورة كانت واضحة جدًا: يوسف ويارا يقفان في بهو الفندق الذي نزل فيه خلال الرحلة. كانت يارا تضحك، ويدها قريبة من كتف يوسف، بينما كان يوسف ينظر إليها نظرة لم تستطع تفسيرها. هل كان يبتسم؟ هل كان متوترًا؟ هل كان مستمتعا؟

لا يبدو الأمر كأنه “لقاء عابر” كما ادّعى.

شعرت رحيل بوخزة في صدرها. من الذي أرسل هذه الصورة؟ ولماذا الآن؟

قبل أن تستوعب الصدمة، وصلتها رسالة أخرى:

“الحقيقة دايمًا أوضح في الصور، مش كده؟”

حاولت تتبع الرقم، لكنه كان مجهولًا. هل كانت يارا؟ أم شخص آخر يحاول تحذيرها؟

رفعت رأسها، ونظرت إلى يوسف الذي كان يخرج من الحمام وهو يجفف شعره، غير مدرك أن عالمه على وشك الانهيار أكثر.

الفصل السادس – صدى الخيانة

صوت الماء المنهمر من الحمام كان الخلفية الوحيدة للصمت المشحون الذي اجتاح الغرفة.

رحيل جلست على حافة الاريكة ،عيناها مثبتتان على شاشة هاتفها، حيث استقرت الصورة التي قلبت عالمها رأسًا على عقب. أصابعها قبضت على الجهاز بقوة، وكأنها تحاول سحق الشكوك التي بدأت تتسلل إلى قلبها.

لم تكن مجرد صورة… كانت صفعة قاسية على ثقتها، على كل مرة أقنعها فيها يوسف أن ماضيه مع يارا قد انتهى.

كانت رحيل تحدّق في هاتفها، نبضاتها تتسارع مع كل ثانية تمرّ. الصورة أمامها لم تكن مجرد لقطة عابرة، بل كانت خنجرًا غُرس في قلبها دون رحمة. يوسف… ويارا… معًا.

انت في الصفحة 5 من 8 صفحات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
6

أنت تستخدم إضافة Adblock

انت تستخدم اضافة حجب الاعلانات من فضلك تصفح الموقع من متصفح اخر من موبايلك حتي تقوم بتصفح الموقع بشكل كامل