
الفصل الأول
اِحتلت الفَجِيعة ملامح تلك الجالسة و انسابت دموعها في صمت، الصَدْمَة لم تكن من نصيبها وحدها بل كانت من نصيب أبنائها أيضًا.
والدهم العزيز المُحب لوالدتهم التي دومًا ما تغنت بقصة حبهم، له طفلاً من امرأة أُخرى.
الوجوم اِرتسم على ملامح أفراد العائلة يستمعون في صمت إلى ما يُخبرهم به محامي العائلة.
– “أحمد رأفت العزيزي”
ابن السيد “رأفت العزيزي” و مدام “نوره السيد حسن”.
صرخة خرجت من شفتيّ “نورسين” التي نهضت على الفور تلتقط الأوراق التي يمسكها المحامي تبحث عن وثيقة زواج والدها.
– لا مش معقول.
لم تَكُن السيدة “لطيفة” أقل صدمة من ابنتها لكنها ظلت صامتة تعبر عن وجعها بالدموع.
لقد خانها شَريك حياتها في أخر أيامهم ، خانها من تعهد لها في أول ليلة أنغلق عليهم بابًا واحداً أنها ستظل امرأته الأولى والآخيرة إلاَ أن يفارقوا الحياة.
– “نـورسـيـن” كفايه صراخ ، أنتِ مش مستوعبه حالة ماما.
صَاح بها “خالد” الذي خرج أخيرًا عن صمته.
إندفعت نحوه “نورسين” تلقي بنفسها بين ذراعيه تنتحب من الصدمة والحُزن.
– دخلتها بيتنا وعطفت عليها وفي الأخر اتجوزت بابا يا “خالد”.
أنا السبب … أنا السبب.
دفنت رأسها في حـ,ـضن شقيقها لا تقوى على تصديق الكَارِثَة التي حطمتها.
غَادَرَ المحامي في صمت بعدما أعطاه “خالد” إماءة برأسه بالإنسحاب ، فالوضع الآن لا يُحتَمل.
– ضحكت على بابا واتجوزته ، عضت إيدينا اللي أتمدت ليها.
حديث “نورسين” كان يسقط على قلب السيدة “لطيفة” وكأنه سكين حاد…
حاولت السيدة “لطيفة” النهوض من فوق الأريكة لكن جسدها لم يتحمل في هذا العمر ما عاشته من نَڪَبات في ليلة واحدة.
– مـامـا.
…
– إرفعي راسك ، ضهرك خليه مفرود ، خليكِ واثقه في نفسك وجمالك.
هذه كانت نصائح -والدتها- السيدة “ثريا الدمنهوري” لشقيقتها “ريناد”.
لكن هي بالطبع ليست مرئية وعليها أن تكون دائمًا بالخلف حتى لا تجعل والدتها أُضحوكة بين أقاربها.
” عائلة الدمنهوري باشا ”
تمتمت بها “خديجة” ساخرة ، فأكثر ما تكرهه بحياتها هي تلك المناسبات العائلية التي تُصِر والدتهم على اِصطحابهم إليها لعلّ “ريناد” تحصل فيها على عريس ثري.
– مش عايزاكي تتحركي من مكانك ، الكرسي اللي هتقعدي عليه متقوميش من عليه.
هذا الحديث كان من نصيبها عندما اقتربت من إحدي الطاولات.
– حبيبت ماما، عايزاكي تفضلي حوالين العروسه ، أنتِ عارفه هي متجوزه مين .. ابن مساعد وزير الداخليه…يعني كل اللي في الفرح ناس مهمه.
أماءت “ريناد” برأسها مبتهجة من حديث والدتها ، فهي لن تخيب أمل والدتها فيها وستحصل على عريس ثري مهما كلفها الأمر… هي لن تعيش حكاية والدتها وتتزوج من موظف بسيط كوالدها.
– متقلقيش يا ماما … خليكي واثقه في بنتك.
ابتسمت السيدة “ثريا” بإنتشاء وألقت بنظرة استحسان على ملامح ابنتها التي تُشبهها.
– طالعه جميلة ليا زي ما كنت في شبابي … مش عايزاكِ تخيبي خيبتي يا “ريناد”.
اتجهت عينيّ السيدة “ثريا” شزرًا نحو “خديجة” التي جلست فوق المِقْعَد تضع بكفها على خدها وتتأمل الفتيات من حولها ثم تخرج زفيرًا.
بدأت “ريناد” في تنفيذ نصائح والدتها التي كلما تتبعتها بنظراتها شعرت بالفخر خاصةً عندما تلتهمها أعيُن الرجال لكن عندما تقع عيناها على “خديجة” -التي تلتهي تارة بالنظر إلى هاتفها وتارة أخرى في مطالعه الفتيات اللاتي يماثلونها في العمر- تشعر بالحسرة.
– ستات العيله كلها بيقولولي سايبه بنتك كده إزاي يا “ثريا” ، وياريتك بتحسي ولا بتشوفي نظرات الناس ليكِ.
طبعاً ولا كأنك سمعاني وأكيد بتفكري امتى هيفتحوا البوفية وهتجري زي الجاموسة عشان تملي بطنك وأهو أنتِ مش غرمانه حاجة أنا اللي عماله أدفع فلوس لدكتور التخسيس.
اِستمرت “ثريا” في توبيخها إلاَ أن اِقتربت منهم ابنة خالتها.
اِندمجت “ثريا” مع ابنة خالتها في الحديث ، “ناهد” ابنة خالة والدتها كانت شبيهه تمامًا بوالدتها .. وكأن هذه العائلة تعشق المظاهر والعجرفة.
– مش معقول يا “ثريا” هتسيبي البنت بالشكل ده … كده عمرها ما هتتجوز مين هيبصلها وهي بالجسم ده.
امتقعت ملامح “ثريا” ثم رمقت “خديجة” بنظرة ممتعضه، فأسرعت “خديجة” في اِشاحت وجهها عنهم ثم نهضت من فوق المقعد الجالسة عليه قائلة:
– ماما أنا رايحه الحمام.
باِبتسامة مصطنعه نظرت إليها “ثريا” بنظرة تحمل التوعد.
– روحي يا حبيبتي.
مكثت “خديجة” بدورة المياة قُرابة الساعة ، البعض يدخل ويخرج بعدما يقضون حاجتهن أو ربما للتزين وهندمت هيئتهن أو إلتقاط الصور لكن هي مكوثها كان هَربًا.
أخيراً بعثت لها والدتها رسالة لتأتي إليهم أمام باب القاعة فهم سيغادرون حفل الزفاف.
– مش لو خسيتي كنتي جيتي لينا بسرعه بدل ما بتتحركي زي السُلحفاه.
طالعتها “ريناد” بتهكم بعدما ألقت عليها كلماتها اللاذعه ثم اتبعت والدتها التي أخذت تنفث أنفاسها بقوة لضيقها من تجاهلهم لها بالحفل.
– فاكرة نفسها مين بنت “شاكيره” ، هي نسيت نفسها … أه يا خبتك يا “ثريا” خليتي حُثَالة العيلة تتريق عليكِ …
أهو جوزها ده اللي طالعه بيه السما كان هيمـ,ـوت ويتجوزني بس أقول إيه النصيب اللي وقعني في أبوكم.
هكذا كانت تتذمر “ثريا” دومًا رغم أنها من اختارت السيد “ڪمال” رَحِمَه الله لتتزوجه.
نظرت إليها “ريناد” بنظرة ممتعضه ثم نظرت نحو أظافرها المطلية دون أن تعير والدتها إهتمام.
إزداد مقت “ثريا” كلما تذكرت تلك الكلمات البغيضة التي ألقتها عليها قريبتها وكان عليها أن تُخرج غضبها على أحد.
– “خديجة”
…
أغلق الباب خلفه بعدما اطمئَن على خُلود والدته للنوم.
زفر أنفاسه بقوة ثم بخطوات حملت إرهاق صاحبها اِتجه لغرفة شقيقته.
– لسا صاحيه يا “نور” ؟؟
قالها “خالد” بعدما دلف الغرفة وقد انتبه على صورة والده التي أسرعت شقيقته بإخفائها أسفل وسادتها.
إقترب منها وعيناه عالقة بملامحها الذابلة، فشقيقته كانت شديدة التعليق بأبيهم.
جاورها فوق الفراش ثم رفع كفه نحو خدها يُمسده بحنو.
– “نور” عايزك تكوني قوية عشان ماما.
– مش قادرة يا “خالد”.
قالتها “نورسين” ثم عادت دموعها تتدفق بغزارة فوق خديها.
– ليه بابا شّوه صورته في عينيا ، ليه وجع ماما كده ومع مين يا “خالد” مع أعز صحباتي.
اِرتفعت شهقات “نورسين” عاليًا، فهي مازالت لا تستوعب ما أخبرهم به المحامي ليلة أمس.
ضمها “خالد” إليه بعدما عجز عن إخماد وجع شقيقته.
– ليه بابا خان ماما ؟!!
أربع سنين وهو متجوزها يا “خالد” … خدها فرع دبي عشان محدش يكتشف جوازهم ، كانت صاحبتي يا “خالد”.
أنا اللي شغلتها في الشركة ودخلتها بيتنا، وماما يا “خالد” كانت بتعاملها وكأنها بنتها …ياريتك مكنتش بعدت عننا وسبتنا يا “خالد”.
…
في رُڪن مظلم ، جلست “خديجة” منزوية على حالها قرب البراد بعدما إلتقطت منه عُلبة الشيڪولاته.
دست الملعقة في فَاهِها تتناول الشيكولاته دون شهية حتى فرغت العُلبة تمامًا.
تعلقت عيناها بالعُلبة التي صَارت فارغة تبحث داخلها عن المزيد لكنها كانت بالفعل فارغة.
ثواني مرت وعيناها عالقة داخل العُلبة ثم انفجرت بالبكاء.
بكت “خديجة” كما تبكي كُلّ لَيلة ينغرز فيها سهام تنمرهم بها وبجسدها، بكت على حالها وعلى استمرارها في تناول الطعام، بكت على أشياء دُفِنت داخل قلبها.
اِستمرت بالبكاء إلا أن شعرت بالراحه.
عادت عيناها تتعلق بعُلبة الشيكولاته بحسرة.
…
رحب “خالد” بالسيد “جلال” المحامي وقد تعلقت عيناه بذلك الطفل الذي يحمل دُميته وتحتضنه مربيته.
– أهلًا “جلال” بيه.
ابتسم السيد “جلال” الذي تربطه قرابه وعلاقة قوية بالعائلة ثُمّ تَساءَل عن حال السيدة “لطيفة”.
– “لطيفة” هانم عامله إيه دلوقتي.
– بخير الحمدلله.
أجاب “خالد” بعدما زفر أنفاسه وأشار للسيد “جلال” بالجلوس.
نظر السيد “جلال” للطفل الصغير الذي أنكمش داخل أحضان مربيته ثم زفر أنفاسه قبل أن يُسلط عيناه نحو “خالد” الذي أحتل الجمود ملامحه .
– طبعًا أنت عارف بجواز السيد “رأفت” قبل وفاته بفترة قصيرة.
تعلقت نظرات السيد “جلال” به قبل أن يستكمل حديثه.
– من يوم ما اتولد “أحمد” والسيد “رأفت” الله يرحمه كاتب الوصاية ليك يا دكتور، هو عارف ومتأكد إنك هتحافظ على أخوك وماله.
…
دمعة فاضت من عين والدته بعدما أخبرها بوجوب وجود أخَاه لديهم ورعايته.
والدته لم تكن امرأة سيئة أبدًا حتى أنها لا تستحق ما فعله والده بها لكن حدث ما حدث وانتهى الأمر.
مسح دموع والدته بقلب عجز عن فعل شىء ثم ضمها لصدره يُخبرها.
– لو مش هتقدري تتحملي وجوده أنا ممكن أخده لعمتي يتربى عندها.
ابتعدت عنه السيدة “لطيفة” تهز رأسها رافضة لإقتراحه.
رؤيته لوالدته وهي لا تستطيع الحديث يجعله يشعر وكأن النيران تندلع داخله.
– مين ده اللي هيعيش معانا يا “خالد” ، أنا مش عايزه الولد ده هنا.
إندفعت “نورسين” لداخل غرفة والدتها وعيناها عالقة بشقيقها ثم هتفت صائحة بأنفاس لاهثة.
– ابن الخاينة ديه استحالة يعيش معانا ولا هقبل في يوم إنه يكون أخويا.
نظرة كسيرة اِحتلت عينيّ السيدة “لطيفة” وهي تُطالع عيون ابنتها الحزينة.
– عايزانا نرمي أخونا يا “نـور” …ردي عليا.
-أمه خاينة، خانت العيش والملح… هيطلع زي أمه.
أخفضت “نورسين” رأسها أرضًا وقد انسابت دموعها.
الصدمة مازالت تأسرها ، صديقتها المقربة لها تتزوج والدها بالسر، من فتحت لها منزلها وجعلت والدتها تُرحب بها، من ساعدتها لتتخلص من بطش زوج والدتها هكذا يكون رد المعروف.
– اللي حصل حصل خلاص يا “نور”.
جواز بابا الله يرحمه من ست تانية واقع ولازم نتعايش معاه.
– أنا بكّره بابا، بكّره يا “خالد”…
غادرت “نورسين” الغرفة باكية.
بإرهاق زفر “خالد” أنفاسه ثم تلاقت عيناه بعينيّ والدته التي شحب وجهها وأصبحت أنفاسها ثقيله بعد رؤيتها لحُزن ابنتها التي تعلم مقدار عشقها لوالدها.
– مــامــا
صرخة خرجت من “خالد” وهو يندفع نحو والدته لقياس نبضها.
…
– ليه أَخُد “خديجة” معايا يا ماما، أنتِ عايزاها تحرجني بشكلها ده.
قالتها “ريناد” وهي تشير نحو “خديجة” التي حاولت التلاهي بالنظر لأي شىء أمامها.
– أنا قولت هتاخدي أختك وخلاص، الحفله هتخلص متأخر… إزاي هترجعي لوحدك بعد نص الليل.
امتعضت ملامح “ريناد” ثم أشاحت عيناها بعيدًا تتأفف بضجر.
– خلاص يا ماما مع إنها مش هتتبسط وسط صحابي وممكن يضايقوها بكلامهم.
– “ريناد” أنا قولت كلمتي خلاص مش معنى إني بشجعك إنك تخرجي وتسهري وتكوني منفتحه إني اتساهل معاكِ في كل حاجة.
إزدادت ملامح “ريناد” تجهمًا، فأسرعت السيدة “ثريا” في احتضان ابنتها المدلله القريبة لقلبها تمسد فوق خصلات شعرها.
– اسمعي كلامي يا حبيبتي، أنتِ عارفه أنا بخاف عليكِ إزاي.
ابتسامة واسعة ارتسمت فوق ملامح “ريناد” عندما تلاقت عيناها بعينيّ “خديجة” التي أسرعت في خفض رأسها أرضًا وقد اعتصر الألم قلبها.
إنها لم تشعر بحب والدتها لها يومًا رغم إغداقها على شقيقتها بحنان تتمنى لو تحصل منه على جزء حتى لو بسيط، والدها وحده من أحبها.
الحسرة اِحتلت قلب “خديجة” حتى عيناها فضحت حسرتها، مما جعل “ريناد” تشعر بغبطة لأنها دائمًا مميزة لدى والدتهم.
ابتعدت السيدة “ثريا” عن “ريناد” بضعة سنتيمترات لتفحص هيئتها بتدقيق ثم أشارت لها بالإلتفاف.
– قمر يا حبيبتي وهتخـ,ـطفي كل الأنظار ليكِ النهاردة في الحفلة.
– بجد يا مامي.
ويا للغبطة التي تحتل قلب السيدة “ثريا” وهي ترى تدلل ابنتها وجمالها، إنها تُذكرها بنفسها في شبابها لكنها لن تجعلها تلقىٰ نفس مصيرها وتتزوج من مجرد موظف شريف لم تحصل من ورائه إلا على الفقر دونًا عن بنات عائلتها.
النظرة التي حملت الغبطه تحولت لنظرة حانقة عندما رمقت “خديجة” التي ارتدت بنطال من الجينز وقميص باللون الوردي.
– أنا مش قولتلك متلبسيش حاجة فاتحه عشان متظهرش الكلاكيع اللي في جسمك.
وكأن والدتها انتبهت على ما ترتديه.
كتمت “ريناد” صوت ضحكاتها عندما استمعت لتوبيخ والدتها لشقيقتها ثم أشاحت عيناها وأخذت تُداعب خصلات شعرها المموجة بيديها.
لا ملابس بألوان فاتحه يمكن أن ترتديها؛ عليها أن تختار الملابس الواسعة والغامقة وكأن سمنتها عار عليها.
اتجهت “خديجة” لغرفتها لتبدل قميصها وهي تُقاوم ذرف دموعها ، لن تبكي الآن عليها الإنتظار بضعة ساعات حتى تختلي بنفسها.
لم تكن “خديجة” تُحِب تلك الحفلات التي تأخذها إليها شقيقتها لكنها كانت عليها مرافقتها.
الموسيقى الصاخبة وتلك القِناعات التنكرية التي يضعونها على وجههم ورقصهم وإلتصاق الأجساد ببعضها كل هذا كان يُثير إشمئزازها.
– خدي يا “خديجة” جبتلك طبق فيه كل أنواع الجاتوهات، اقعدي كلي وركزي في الحاجة الوحيدة اللي بتحبيها.
قالتها “ريناد” وهي تُعطيها طبق الحلوى ثم أسرعت نحو أصدقائها لتندمج معهم بالرقص.
تعلقت عينيّ “خديجة” بشقيقتها وأرادت التحرك خلفها وإلتقاط يدها وإخبارها أن عليهم مغادرة هذا الحفل لكنها تراجعت… ففي النهاية لا تتلقىٰ إلا الكلام اللاذع من شقيقتها و توبيخ والدتها.
بيأس نظرت نحو طبق الحلوى ثم بدأت تتناول منه دون شهية؛ فهي لا تحب الطعام كما تظن والدتها وشقيقتها بل تجد فيه ملاذ لحزنها.
…
توقف “خالد” جوار الطبيب المختص بعدما غادر غرفة والدته وقد اتجهت شقيقته “نورسين” نحوه بهلع بعدما علمت من الخادمة عند عودتها للمنزل أنه تم نقل والدتها للمشفى.
– ماما حصلها إيه يا “خالد”؟!
إندفعت “نورسين” لحـ,ـضن شقيقها تشعر بالندم، ما كان عليها أن تتحدث عن ذلك الطفل -الذي لن تعتبره أخَاهَا يومًا- أمام والدتها.
اِبتعد الطبيب عنه ليمنحهم بعض الخصوصية.
– ماما بخير يا “نـور” ، كفايه عياط.
أبعدها “خالد” عن حـ,ـضنه ثم احتوى وجهها بين كفيه ومسح دموعها.
نظرات شقيقته له ذكرته بنظراتها عندما كانت صغيره.
“نورسين” لم تكن إلا فتاة والدها المدلله عندما كان يريد والدهم عقابها كان يعاقبها بالخصام.
هو يعلم تمامًا أن فَاجِعة زواج والدهم لن تتجاوزها شقيقته بسهولة حتى والدته المرأة الرقيقة التي لا تستحق من والده أن يطعنها بهذا الشكل.
“سامحك الله يا أبي”
هذا ما ردده “خالد” داخله، لقد تركه والده في وضع لم يَظُن يومًا أنه سيعيش بِه.
غادر “خالد” المشفى بعدما أصرت “نورسين” عليه أن يغادر هو وتبقىٰ هي مع والدتها.
ليأخذ قسطًا من الراحه ولكن من أين ستأتي له الراحه هذه الأيام.
…
صدحت أصوات الموسيقى الصاخبة بشكل مبالغ فيه وقد ارتفعت أصوات التهليل مما أفزع “خديجة” التي ألهت حالها بإطعام القطة الصغيرة التي وجدتها بحديقة المنزل الذي يُقام به حفل العيد ميلاد.
نظرت نحوهم “خديجة” بأعين متسعة من الذهول والصدمة وقد انتبهت أخيرًا نحو شىء لم تظن أنهم يفعلوه.
الأكواب البلاستيڪية التي يضعون بها العصائر والمشروبات الغازية وتلك الزجاجات التي ظنت أنها مياة غازية مستوردة ما هي إلاّ خُمور.
شهقة حملت صدمة صاحبتها عندما وقعت عيناها على شقيقتها التي كانت تشرب من تلك الزجاجات وأرادت أن تجعلها تشرب منها لكنها رفضت لإعتيادها على تناول مشروب المياة الغازيه “الكوكاكولا”.
– بتشربي خمره يا “ريناد” ، طيب والله المرادي ما أنا ساكته وهقول لماما.
اِندفعت “خديجة” نحو شقيقتها التي تحركت مع أحد الأشخاص لداخل الڤيلا.
أسرعت “خديجة” في خطواتها نحوها وقد بدأت العديد من السيناريوهات تقتحم عقلها عما يحدث بالداخل مع شقيقتها.
•••••••••••••••
الفصل الثاني
لم تستوعب “خديجة” ما تراه أمامها، شقيقتها تجلس جوار أحدهم ملتصقة به وتلتقط منه لفافة التبغ.
شهقة قوية خرجت منها وهي تتجه نحوها وقد انتفض الجالس جوار شقيقتها من مكانه.
– هي حصلت يا “ريناد” بتشربي سجاير.
صاحت بها “خديجة” ثم التقطت السيجارة من كف “ريناد” التي حدقت بها بوجه مستاء.
– إيه رأيك تخدي نفس يا حلوة.
قالها الواقف وهو يترنح في وقفته و اقترب من “خديجة” التي حملقت به بفزع وقد أخفت فزعها بصراخها عليه.
– أبعد عني القرف ده… شكلها أصلًا مش سيجارة عادية.
ارتفعت قهقهة الواقف كما ارتفعت قهقهة “ريناد” التي لم تَكُن تشعر بشىء حولها إلا أنها تطير فوق السحاب.
– هات يا “كامل” السيجارة بتاعتك أصلها عملتلي دماغ حلوه…
حاولت “ريناد” النهوض لتتجه نحو “كامل” لكنها تهاوت فوق الأريكة مرة أخرى.
– قومي يا “ريناد” خلينا نمشي من هنا… والله لهقول لماما على اللي عملتيه النهارده… هم دول أصحابك ولاد الناس.. دول فاشلين.
حاولت “خديجة” سحب شقيقتها من فوق الأريكة لتُخرجها من هذا المكان لكن “ريناد” دفعتها عنها.
– إبعدي عني.
– “ريناد” أنتِ تعرفي البنت دي.
تساءَل الواقف بملل بعدما بدأ يشعر بالضيق من وجود “خديجة” التي قطعت عليهم لحظة استمتاعهم.
أشارت “ريناد” نحو “خديجة” ثم ارتفع صوت ضحكاتها.
– لا معرفهاش.
حدقت بها “خديجة” بصدمة وقبل أن يخرج صوتها صائحًا بـ “ريناد” المغيبة من أثر ما تجرعته وجدت جسدها يتهاوى فوق المقعد وقد حاصرها “كامل” بذراعيه ثم نفث دخان سيجارته بوجهها.
سعلت “خديجة” بشدة وصرخت به.
– إبــعــد عــنــي.
“ريناد” إبعديه عني وخلينا نمشي من هنا.
…
في الولايات المتحدة الأمريكية
داخل أحد المشافي الكُبرى كانت “هيلين” تخرج من غرفة أحد المرضى ثم اتجهت إلى غرفة الأطباء.
تهاوت فوق مقعدها، فمازال متبقي على إنتهاء مناوبتها خمس ساعات.
دلف أحد الأطباء متسائلًا وهو ينظر نحو “هيلين”.
– هل ما سمعته صحيح؟
ضاقت عينيّ “هيلين”، فما الذي يقصده” ألبرت” بكلامه.
– “خالد” قدم استقالته من المشفى وسيستقر بمصر.
طالعته “هيلين” وهي لا تستوعب ما يُخبرها به “ألبرت”.
– ما الذي تقوله “ألبرت” ؟
“خالد” من المفترض أن يستلم بعد اسبوعين عمله كأستاذ جامعي بـ ستانفورد…، كيف له أن يترك ما وصل إليه هكذا.
هز “ألبرت” رأسه في حيره، فهذا ما سمعه من مدير المشفى.
– هذا ما سمعته للتو “هيلين” لكن كيف لم يكن لديكِ عِلم بهذا القرار.
تساءَل “ألبرت” بخبث وهو ينظر لملامح “هيلين”، إنه سعيد للغاية اليوم… فهذا العربي الذي لا يطيق وجوده بسبب تفوقه ونبوغته سيرحل تمامًا ويعود لموطنه.
التقطت “هيلين” هاتفها بعُجالة ثم غادرت الغرفة تحت نظراته المتخابثة.
زفر “خالد” أنفاسه بقوة بعدما صدح رنين هاتفه والتقطت عيناه اسم “هيلين”.
أجاب عليها على الفور لأنه يعلم سبب اتصالها وقد خرج صوته متحشرجًا.
– مرحبًا “هيلين”.
لم تجيب “هيلين” تحيته، فما يشغل عقلها الآن ما سمعته من “ألبرت”.
– هل ما أخبرني به “ألبرت” صحيح “خالد”، أنا كنت أحادثك منذ أيام لما لم تخبرني بقرارك.
هذا المسمى بـ “ألبرت” يعلم نواياه تمامًا.
– أنا سآتي لأمريكا بعد بضعة أيام لأنهي كل الأمور العالقة وسنتحدث هيلين”.
– سترحل “خالد” ! ، أين هو وعدك لي؟ أليس من المفترض أن نتزوج هذا الصيف؟
صوتها المختنق يُشعره بالإستياء لكن ما عساه أن يفعل…
كل شىء سقط فوق رأسه وأصبح الآن هو المسئول عن عائلته وشركة أبيه.
لقد ظن أنه سَيُكمل حياته بأمريكا كطبيب لكن وفاة والده وكارثة زواجه السري الذي كسر فؤاد والدته وحطم شقيقته وذلك الأخ الصغير الذي أصبح تحت وصايته؛ كل شىء حدث فجأة وحطم أحلام سعى إليها لسنوات.
– من فضلك “هيلين” اجعلي حديثنا عندما آتي إليكِ.
…
سقطت دموع “خديجة” بعجز بعدما تمكن – ذلك المدعو “كامل” ورفاقه- من محاوطتها.
لا تعرف متى وكيف أصبحت محاصرة بهم.
أغمضت عيناها عندما شعرت بالرعب من أصوات تهليلهم حولها وكأنهم يقومون بطقوس خاصة.
– ابعدوا عني ، ابعديهم عني يا “ريناد”.
لكن “ريناد” لم تكن بوعيها بل كانت تفعل مثلما يفعلوا.
أغلقت “خديجة” فمها بقوة لتمنع فوهة تلك الزجاجة من لمس شفتيها.
حاولوا جعلها ترتشف الخمر لكن عندما شعروا بالضجر من إغلاقها لفمها رفعوا زجاجات الخمر وسكبوها فوق رأسها.
تعالا صياحهم وهم يشعرون بالسعادة لرؤيتهم لها وهي ترتجف بهذا الشكل.
استكملوا طقوسهم وصياحهم وقد ارتفعت أصوات الموسيقى وأخذ البعض يندمج في الرقص.
توسلت لشقيقتها بنظرات صامته لكن “ريناد” كانت مثلهم تترنح وتُهلل مع صخب الموسيقى.
حاولت “خديجة” بإستماته التحرر من تقيدهم لها لكن ثُقل وزنها حال دون ذلك.
الذُعر احتل عيناها وهي تراهم يحملون المِقْعَد الذي أجلسوها وقيدوها عليه عُنوة.
خرج صوتها بتحشرج تبحث عن شقيقتها بينهم وتناديها.
– “ريــنــاد”.
عندما اقتربوا بها من المسبح صرخت بكل قوتها.
– لاااا.
ارتفع صياحهم مجددًا بحماس بعدما ألقوا بها في المسبح ثم عادوا لرقصهم وكأن شيئًا لم يَكُن.
توسعت أعيُن حارس الڤيلا وقد شعر بالصدمة مما يحدث.
لم يترك لعقله لحظة للتفكير واندفع بهروله نحو المسبح.
توقف الجميع عن الرقص والتهليل ثم سلطوا أنظارهم نحو المشهد.
بدأ البعض يفيق من حالة اللاوعي التي جعلتهم يستمتعون برؤية أحدًا يُصارع المـ,ـوت.
بدأت “ريناد” تفيق أخيرًا وهي ترى شقيقتها تلتقط أنفاسها بصعوبة ويُساعدها ذلك الحارس بالخروج من المسبح.
– أنتِ كويسة؟!
سألها الحارس الشاب، فهزت رأسها بضعف له.
الجميع أصبح يسلط عيناه على المشهد، البعض كان متأثرًا والبعض الآخر لا يفرق معه الأمر…
فهم هنا ليستمتعون.
عادت الموسيقى ترتفع مرة أخرى ليستكملوا سهرتم.
– متجيش مكان زي ده تاني، الناس دي مش شبهنا.
قالها الحارس وهو يعطيها غطاء إحدى الطاولات لتلفه حول جسدها.
ارتجف جسد “خديجة” وسُرعان ما خرجت شهقاتها بصوت مرتفع.
طالعها الحارس بشفقة وحزن ثم أخذ يلعن هؤلاء الشباب.
لا يصدق أن استهتارهم وصل بهم لهذا الحد.
– خليكي هنا، هدخل أشوفلك حاجه عندي ينفع تلبسيها عشان تعرفي تروحي.
أشار الحارس بيده نحو الغرفة الصغيرة التي يسكن بها لحراسة الڤيلا التي دائمًا يقوم صاحبها بتأجيرها.
تحرك الحارس نحو الغرفة ليبحث لها عن شىء ترتديه.
تعلقت عينيّ “خديجة” به ومازالت دموعها تنهمر فوق خديها.
غادرت “خديجة” الڤيلا وهي تضع يديها فوق أُذنيها لتمنع صوت الموسيقى الصاخب من إختراق روحها المهشمة.
بخطوات شاردة سارت “خديجة” في ذلك الطريق الخالي من المارة لا تشعر بشىء حولها حتى برودة الهواء التي اخترقت عظامها.
إنها حتى هذه اللحظة لا تُصدق ما عاشته من رعب على أيديهم، جعلوها كالأضحوكة حتى “ريناد” شقيقتها تعاونت معهم.
استمرت دموعها بشق طريقها إلى خديها وارتفعت أنفاسها عاليًا بسبب شعورها بالإختناق الشديد.
…..
شعر “خالد” بالإختناق بعدما أنهى مكالمته مع “هيلين”، إنه بالفعل كان على وشك إعلان رغبته -لوالديه- بالزواج منها فهو وجد حياته بأمريكا ولا يرغب بالإستقرار بالوطن لكن مـ,ـوت والده المفاجئ غَيّر جميع خططه.
أخذته أفكاره لذلك اليوم الذي علم فيه بزواج والده.
كان في مؤتمر طبي بدولة الإمارات وبعد إنتهاء المؤتمر قرر الذهاب لوالده.
« فلاش باك ».
منذ ثمانية أشهر.
– إلى أين أنتَ ذاهب “خالد”؟
تساءَلت “هيلين” التي كانت من ضمن الفريق الطبي المبعوث إلى الإمارات ثم بعدها نظرت لساعه معصمها وأردفت:
– مازال الوقت معنا، ما رأيك أن نتجول بالمدينة إلى أن يأتي موعد طائرتنا.
– اعذريني “هيلين”، يجب عليّ رؤية والدي… أنتِ تعلمين أن والدي لديه أعمال هنا وهذه الأيام هو هُنَا في الإمارات.
مطت شفتيها بحنق بعدما علمت أن أمر تجولهم سويًا قد ضاع.
– سأذهب لرؤيته ،هو لا يعلم بتواجدي هُنَا.
قالها “خالد” ثم نظر إليها آسفًا.
– أنتَ بالتأكيد لا تريدني أن آتي معك.
تمتمت بها “هيلين” وقد أصاب ملامحها الحزن عندما رأت تردده.
– لا بأس “خالد” ، أنا أعلم أن الوقت لم يحن بعد لتعرفني على عائلتك.
حاول “خالد” الهرب من تلك المناقشة ، فهو حتى اليوم مازال لم يحدد مشاعره نحو “هيلين”.
هو بالفعل يريد الإقتران بها لأنها تمتلك الكثير من مواصفات شَريكة حياته لكنه يشعر أن الأمر يحتاج لوقت.
– على العكس “هيلين” أن أريد أن تتعرف عليكِ عائلتي لكن أُفضل أن أخبرهم نيتي بالزواج منك أولًا.
“خالد” لم يكن يوماً بالرَجُل الذي يمتلك القدرة على تزييّن الكلام أو إظهار مشاعره.
غادر الفندق الذي يُقام فيه المؤتمر الطبي لكن بمجرد أن أشار لأحد سيارات الأجرة بأن تتوقف كان هاتفه يرن.
ضاقت عيناه وهو ينظر نحو رقم المتصل ثم أجاب بعدما استقلَّ سيارة الأجرة.
– طبعاً أنت أكيد هتكون نسيتني يا دكتور بعد ما سافرت أمريكا.
– أستاذنا العظيم، مش معقول!!
هتف بها “خالد” وقد ابتهجت ملامحه من السعادة بسبب سماع صوت أستاذة الطبيب “إدريس”.
ابتسم وهو يستمع إلى صوت أعز تلامذته.
– منور الإمارات يا “خالد” ، أنا أول ماعرفت بوجودك هنا حاولت أعرف رقم تليفونك.
– حقك عليا أستاذي، أنا عارف إني مقصر بالسؤال عنك لكن هتفضل طول عمري قدوتي واستاذي الغالي.
التمعت عينيّ “إدريس” بالفخر وهو يتذكر حديث بعض الأطباء هُنَا عن مهارة “خالد” كطبيب عظام متنبئين له بمستقبل باهر.
– أنا فخور بيك يا “خالد” أوي، اسمك بقى واصل ليا هنا.
– مش كنت تلميذك يا استاذي ومازالت تلميذك.
لم تفارق الإبتسامة شفتي “إدريس”، فهو فخور بالفعل بـ” خالد” وبمديح الأطباء به.
– “خالد” مُعلمك محتاجك في استشارة طبيه.
وللأسف ضاعت خطته للذهاب لوالده.
انتهى أخيراً الوقت الذي صَبّ فيه “خالد” كل تركيزه مع الطبيب “إدريس” وبعض الأطباء عن حالة أحد المرضى.
نظرات الفخر التي كان يرمقه بها الطبيب “إدريس” كانت تستحق التوثيق لكن “خالد” لم يكن منتبهًا لها لأن من عادته التركيز في عمله.
– عرض عمل بمبلغ مغري في كام ساعه بس، لا يا دكتور أنت خلاص وصلت.
قالها الطيبب “إدريس” ممازحًا “خالد” رغم رغبته في عمل “خالد” معه بالمشفى هنا لكنه يرى أن مستقبله بالفعل في الولايات المتحدة الأمريكية.
– إني اشتغل تحت إيدك استاذي ده شىء يشرفني.
ابتسم “إدريس” له بحب أبوي ثم ربت على كتفه.
– دايمًا كنت أقول لنفسي إن “خالد” مش هيكون مجرد دكتور عادي.
لم يكن “خالد” في تلك اللحظة منتبهًا على حديث الطبيب “إدريس” له، فعيناه قد علقت نحو والده الذي يسير جوار امرأة يبدو عليها التعب ويحيط خصرها بذراعه.
« باك»
فاق من أفكاره على نظرة الذعر التي احتلت أعيُن تلك الواقفة أمام سيارته بعدما تمكن بصعوبة من التحكم في توقف سيارته دون الإصطدام بها.
ترجل من سيارته بقلق ينظر إليها وقد اِنتبه على هيئتها التي صدمته، فهي مبتلة الملابس وتحيط جسدها بمفرش طاولة.
– أنتِ كويسه؟!
نظرت إليه “خديجة” ثم حركت له رأسها دون حديث.
– لو محتاجه…
وقبل أن يستكمل “خالد” كلامه وجدها ترحل من أمامه وقد أذهله هيئتها العجيبة في هذا الوقت المتأخر من الليل.
نظر “خالد” حوله، فالمنطقة هنا لا يسكنها إلا القليل لأن أغلب قاطني المجمع السكني ليسوا مستقرين بالوطن.
سلط “خالد” عيناه عليها لمرة أخيرة قبل أن تختفي عن ناظريه ثم استقلَّ سيارته، فما الذي يشغل باله فهو عرض المساعده وانتهى الأمر.
••••••••••••••••
الفصل الثالث
« بعد مرور ثلاث أعوام »
وقف “خالد” أعلىٰ المنصة يُلقي كلمته بعدما حصل على جائزة تكريميه لأفضل رائد أعمال ورئيس تنفيذي -لهذا العام- في الوطن العربي.
تعلقت عينيّ “نورسين” به وابتسامة واسعة تشق طريقها نحو شفتيها.
تعالا تصفيق الحضور بعدما أنهى كلمته.
– ابن عمي اللي دايمًا رافع راسنا.
قالها “ڪريم” وهو ينظر نحو “خالد” وقد تعلقت “نورسين” بحضـ,ـن شقيقها.
– مبروك يا “خالد” ، تستحق الجايزة حقيقي.
– الله يبارك فيك يا “طارق”.
ابتسم “خالد” وهو يربت بكفه على كتف “طارق” ابن عمته.
– عشان المناسبة الحلوة دي أنا عزماكم النهاردة.
هتفت بها “نورسين” ثم تعلقت بذراع “خالد” الذي ضمها إليه بحنان.
اتجهوا جميعًا نحو المطعم الذي اختارته “نورسين” لتناول الطعام إحتفالاً بتكريم شقيقها.
..
تعلقت عينيّ “خديجة” بذلك المطعم الذي اصطحبتها إليه “ريناد” إحتفالًا بترقيتها.
– “ريناد” المكان شكله نضيف أوي، أي حاجه هنطلبها هتكون غاليه.
طالعتها “ريناد” بملامح ممتعضه ثم نظرت حولها.
– بصي فوق بقى يا “خديجة”، متخافيش مش هدبسك زي كل مره في دفع الفاتورة.
تركتها “ريناد” وتقدمت لداخل المطعم.
تَبِعتها “خديجة” في صمت دون المزيد من الكلام فيكفيها أنها وشقيقتها الآن صارتا مقربتين بعض الشىء بعد تلك الليلة التي ستظل مُرسخه داخل عقلها.
ارتجف جسد “خديجة” لوهله لتذكرها تفاصيل هذه الليله ثُمّ دخلت المطعم ورائها.
المطعم بالداخل كان بالفعل راقي مثل هيئته الخارجية مما جعلها تتأكد بأن شقيقتها ستدفع راتب هذا الشهر بأكمله.
للمرة الأخيرة أرادت أن تُنبه شقيقتها أن عليهم المغادرة، فبسبب البَذَخ الذي تعيش فيه هي ووالدتهم أصبحت الديون تتراكم عليهم.
– “ريناد” أنا مش معايا فلوس الشهر ده عشان أقدر أدفع قسط البنك.
إزدادت ملامح “ريناد” امتعاضًا، فهي بدأت تشعر بالضجر لأنها اصطحبت معها “خديجة” اليوم.
– ابقى اشربي عصير بس يا “خديجة” ولا اقولك كفايه عليكِ الميه.
تنقلت “خديجة” بعينيها نحو الطاولات وديكور المطعم وقد انشغلت “ريناد” بهاتفها.
أتى النادل ليدون طلباتهم واكتفت “خديجة” بتناول طبق بسيط من الأطباق المعروضة بقائمة الطعام.
ابتعد النادل عن طاولتهم وقد اجتذب أنظار “ريناد” فتاة بجسد ممتلىء -تُشبه جسد شقيقتها بالسابق- تدلف المطعم برفقة شابًا بملامح وسيمة.
ارتفعت زاوية شفتي “ريناد” بسخرية وهي ترمق الفتاة ثم نظرت نحو “خديجة”.
– أنا ممكن اتصدم فيها لو الشاب ده حبيبها أو خطيبها، معقول في واحد يحب واحده بالجسم ده.
تعلقت عينيّ “خديجة” بالفتاة التي تتمتع بقدر عالي من الجمال..
– وفيها إيه يا “ريناد” ، اللي بيحب حد بجد مبيفرقش معاه شكله ولا جسمه غير إن البنت جميلة أوي.
رمقتها “ريناد” بسخرية ومازالت تركز أنظارها نحو الفتاة والرجل الوسيم وقد شعرت بالحقد عندما رأته يطالعها بنظرة أدركت تمامًا أنها نظرة حبيب لحبيبته.
– جسمها بيفكرني بجسمك من تلت سنين يا “خديجة”، الوزن الزايد بيضيع الملامح… أنا مش عارفه هو إزاي مش محرج يمشي معاها وهي بالشكل ده.
لم تتحمل “خديجة” سخافة شقيقتها، فأكثر ما تكرهه في صفاتها -التي ورثتها عن والدتها- السخرية على الناس والإهتمام بالمظاهر الزائفة.
– على فكرة الوزن الزايد أحيانًا بيكون مرض، فبلاش تتريقي على الناس لتكوني زيهم في يوم.
– اوه، لااا… أنا اكون بالجسم ده… أنا ممكن انتحر ساعتها.
نطقتها “ريناد” ثم مررت أصابعها على خصلات شعرها.
أشاحت “خديجة” عيناها عنها وشعرت بالأسف داخلها نحو شقيقتها.
أثناء تناولهم للطعام خرجت شهقة خافته من “ريناد” التي أسرعت في دفع ساق “خديجة” حتى تنتبه إلى ما تنظر إليه.
– “خديجة” ،شكلي حلو وأنيق… بقولك إيه أنا هقوم اروح التويليت.
لم تفهم “خديجة” شىء من شقيقتها التي تركتها بالفعل والتقطت حقيبتها وهاتفها واتجهت نحو المكان المخصص لدورة المياة.
الصدمة احتلت ملامح “خديجة” عندما نظرت نحو النادل وشىء واحد اخترق عقلها.
– معقول هتكوني عايزه تدبسيني زي كل مرة في دفع الحساب يا “ريناد” لكن أنا المرادي مش معايا فلوس أدفع.
فقدت “خديجة” شهيتها من تناول الطعام وأخذت تفرك كفيها بتوتر مما سيحدث لها اليوم.
…..
– ما دام “نور” هي اللي عزمانا فأنا هطلب كل الأصناف اللي في المنيو حتى لو مش هاكلها.
هتف بها “ڪريم” مازحًا، فطالعته “نورسين” بشفتي مزمومتين.
ارتفعت ضحكات “ڪريم” من رؤيتة لإمتعاض “نورسين” ثم بدأ بمزاحه المعتاد معها تحت نظرات “طارق” الذي جاهد -بكل قوته- لعدم إظهار غيرته.
كان “خالد” يشعر بالراحه من رؤية شقيقته تعود لطبيعتها يومًا بعد يوم.
أتى لـ “خالد” اتصالًا، فانسحب من بينهم ليُجيب على المتصل.
..
استمرت “خديجة” في فرك يديها وعيناها عالقة نحو الجهة التي اتجهت إليها شقيقتها.
استدارت حولها ثم عادت تنظر أمامها بتوتر.
زفرت أنفاسها أخيرًا وهي ترى “ريناد” تتجه نحوها، شعرت بالراحه ولكن سُرعان ما أصابها الفضول وهي ترى شقيقتها تتجه نحو الطاولة التي اجتذبت أنظارها للحظه عندما ارتفع صوت ضحكات الجالسين عليها.
لم تلتقط أذنيّ “خديجة” أي شىء من حديث شقيقتها مع هؤلاء لبُعد الطاولة عن طاولتهم.
ابتسامة شقيقتها الواسعة واللطف الذي تتعامل به مع هؤلاء جعلها تعلم أن من تصافحهم ليسوا بأشخاص عاديين.
أنهى “خالد” مكالمته واتجه نحوهم لكن عيناه ضاقت بمقت من طريقه ابن عمه في التعامل مع الموظفات ، فهذه الفتاة يعرفها تمامًا.
أشرقت ملامح “ريناد” عندما تأكدت من عدم رحيل “خالد”.
ضاقت عينيّ “خديجة” وهي تركز أنظارها نحو ذلك الرَجُل الذي تجاهل حديث شقيقتها له واكتفى بتحريك رأسه بإماءة بسيطه.
– أنا حاسه إني شوفته قبل كده.
وسُرعان ما طرقت رأسها ذكرى تلك الليلة المشئومه.
إنه هو ذلك الرَجُل الذي كاد أن يصدمها بسيارته… فهي لم تنسى شىء من تلك الليلة التي سببت لها كُره للحفلات والموسيقى الصاخبة.
ارتجف قلبها بعدما عاد كل شئ يخترق رأسها، ضحكاتهم وهم يسكبون الخمر فوق رأسها ، تلك الموسيقى الصاخبة، تهليلهم حولها ثُمّ صياحهم بعدما قذفوها بحوض السباحة.
دمعت عيناها مع رعشة جسدها ودون قصد منها سقط كأس الماء -الذي أرادت الإرتشاف منه- أرضًا.
تحولت أنظار البعض نحوها كما تحولت نظرات “ريناد” إليها.
لولا سقوط الكأس من يد “خديجة” لكانت “ريناد” قبلت عرض العَزيمة التي قدمتها لها “نورسين” لتجلس معهم.
– أسفه يا فندم لكن أختي معايا.
أسرعت “ريناد” نحو “خديجة” كما اتجهت أنظار “ڪريم” نحو الطاوله التي اتجهت إليها “ريناد”.
– أختها مختلفه خالص عنها.
التفت “نورسين” نصف التفافه برأسها بعدما أخذها فضولها لترى شقيقة تلك الموظفة الثرثارة التي تعلم نواياها تمامًا.
التوت شفتي “نورسين” بتهكم، فأكثر من صارت تكرهم بحياتها هم من يتمتعون ببرائه الوجه والحشمة..
– إحنا هنقضي سهرتنا نتكلم عن الموظفة اللي مش فاكره اسمها وعن اختها ولا إيه.
نطقتها “نورسين” بضيق ثم أشاحت عيناها للجهة الأخرى وقد اصطدمت نظراتها بنظرات “طارق”.
تنهد “خالد” من تلك الجلسة التي تحولت لحديث لا معنى له، فهو بالأساس لا يهتم بأشياءً كهذه ولا يحب تلك السخافات والأحاديث التي يعتبرها خاصة بالنساء و “طارق” كان مثله تمامًا عكس “ڪريم” الذي دائمًا ما يحب محاوطة الفتيات له.
– خلينا نطلب العشا وكفايه كلام.
قالها “خالد” ثم تعالا رنين هاتفه مرة أخرى.
– الباشا طبعًا النهارده الاتصالات هتهل عليه من كل مكان عشان يباركوا ليه.
تمتم بها “ڪريم” بمزاح فرمقه بنظرة يأسه من طباعه التي لا تليق بطبيب صيدلي.
– إيه اللي عملتيه ده يا “خديجة”، فضحتيني قدام مدراء الشركة وصاحبها وأخته.
تأففت “ريناد” وهي تنظر لـ “خديجة” التي استطاعت بصعوبه طرد تلك الأصوات التي اقتحمت رأسها.
بتوتر تمتمت “خديجة” وهي تحاول التقاط أنفاسها بعدما خرجت من المطعم.
– افتكرت اللي حصلي يوم الحفله اللي روحتها معاكِ لما شوفت….
كادت أن تخبرها أن رؤيتها لذلك الرَجُل ذكرتها بما حدث لها لكن “ريناد” قطعت حديثها.
– وكمان خلتيني أدفع تمن الكاس اللي اتكسر منك.
استمرت “ريناد” بالتأفف حتى أتت سيارة الأجرة التي طلبتها.
استدار “خالد” بجسده ينظر نحو سيارة الأجرة بجبين مقطب بعدما استمع إلى حديث تلك المتعجرفة التي لا يراها إلا في صورة الفتاة التي تلهث وراء كل ما يُمّكنها من الوصول إلى هدفها.
…
ترك الصغير يد مربيته فور أن أستمع لصوت “خالد” الذي انحنى بجسده يفتح له ذراعيه.
– بـابـي
نطق بها الصغير الذي لم يتخطى الستة أعوام.
ضمه “خالد” إليه بحنو يمسح فوق خصلات شعره متسائلًا:
– حبيبي البطل، عامل إيه.. اوعي تكون تعبت الناني.
هز الصغير رأسه ثُمّ دفن رأسه بحـ,ـضن “خالد” تحت نظرات السيدة “لطيفة” الحنونه و”نورسين” الحانقة من دلال شقيقها لهذا الصغير الذي لم ولن تتقبله يومًا على أنه أخَاهَا.
– أنا كمان أكلت الطبق بتاعي كله النهاردة وشربت اللبن.
استطرد الصغير في سرد أحداث يومه، فتحولت نظرات “خالد” نحو والدته التي ابتسمت وأشارت إليه بالصعود لغرفته لتغيّر ملابسه وأخذ حمامه.
تابع “خالد” تحركه لأعلى وهو يحمل الصغير بعدما تعلقت عيناه بوالدته بنظرة حنونه.
– أنا مش عارفه ليه لحد دلوقتي سايبه يقوله بابي.
هتفت “نورسين” صائحة وهي تتحاشىٰ النظر إلى والدتها.
– حتى أنتِ يا ماما سيباه يقولك نانا… هيفضل لحد امتى فاكرك جدته وفاكر “خالد” أبوه.
ثم تابعت “نورسين” بضيق.
-إيه المهزله اللي احنا عايشين فيها دي. الولد ده لازم يعرف إنه مجرد أخ إتفرض علينا بسبب نزوة السيد “رأفت”
– “نور” ، انتبهي على كلامك….
نظرت “نورسين” نحو والدتها.
– اللي بتتكلمي عنه ده والدك وراح لرحمة الله… و “أحمد” ده أخوكِ هو ملهوش ذنب في حاجة… أنا عمري ماربيتك على غلاظة القلب… معاملتك لأخوكي مش عجباني.. كفايه يا بنتي، انسي بقى زي ما أنا واخوكي نسينا.
– أنتِ بتكذبي على نفسك ولا عليا يا ماما، شايفه الحزن وصلك لإية.
أخفضت السيدة “لطيفة” عينيها نحو مقعدها المدولب الذي تجلس عليه بحزن.
شعرت “نورسين” بقسوة حديثها الذي جلى فوق ملامح والدتها؛ فأسرعت نحوها تجثو على ركبتيها وتدفن رأسها في حجرها.
– أنا أسفه يا ماما.
وهل تحزن السيدة “لطيفة” من قُره عينيها، هي حزينة عليها… لا تريدها أن تعيش عمرها كله تحمل الكره نحو أشخاص لا ذنب لهم.
– الكره يا بنتي لما بيستوطن القلوب مبيدمرش غير أصحابها.
بكت “نورسين” بحرقة، فهي لا تستطيع نسيان خيانة صديقتها لها وزواجها من والدها ولا تستطيع نسيان والدها الذي كانت تمثله في رمز الوفاء.
ضمتها السيدة “لطيفه” إليها تربت برفق فوق خصلات شعرها وقد وقف “خالد” أعلى الدرج ينظر إليهم بملامح كساها الجمود.
اقترب منهم وقد تركت “نورسين” حضـ,ـن والدتها وأسرعت إلى حـ,ـضنه وكأنها طفلة صغيرة وليست شابة أتمت الثلاثون من عمرها.
بعد وقت
كان “خالد” يساعد والدته بالتسطح على فراشها ثم انحنى يلثم جبينها والتقط كفها ليُقبله.
– طمنيني عليكِ يا حببتي، مش محتاجه حاجه مني…محتاجه تغيري جو مثلًا أو أي حاجه نفسك فيها.
رفعت السيدة “لطيفة” يدها نحو خده تربت فوقه بحنان.
– متقلقش عليا يا حبيبي أنا كويسه.
ابتسم “خالد” وهو يلتقط كفها ثُمّ قبله مرة أخرى.
– ربنا يخليكِ لينا يا حبيبتي.
فاضت عينيّ السيدة “لطيفة” بحنان وهي تنظر إليه ثُمّ غادر الغرفة بعدما اطمئن عليها.
خرجت تنهيدة السيدة “لطيفة” بأنفاس مرهقة وهي تسترجع بذاكرتها ذلك اليوم الذي أخبرها فيه “خالد” أنه سيتولى أعمال والده ويسترك مهنته كطبيب.
رأت الألم في عينيه لكنه كان مبتسمًا وهو يخبرها بالأمر.
…
استمعت “ريناد” لمكالمة “خديجة” مع إحدى صديقاتها ثُمّ تساءَلت بعدما أنهت “خديجة” المكالمة.
– فرح مين اللي معزومه عليه ومش عايزه تروحي.
التقطت “خديجة” نظارتها الطبية ثم عادت تركز بشاشة حاسوبها لتقوم بترجمة بعض الوثائق التي تأخذ أجرها عن طريق مواقع العمل الحر.
– فرح “زينة فهمي” أكيد فكراها.
– إيه ده هي هتتجوز، ويا ترى هتتجوز مين.
تساءَلت “ريناد” بعدما جلست فوق الفراش وربعت ساقيها.
خلعت “خديجة” نظارتها واستدارت إليها.
– ابن “حامد صفوان”
اتسعت عينيّ “ريناد” ثُمّ خرجت شهقتها في صدمة.
– “حامد صفوان” رجل الأعمال.
أماءت “خديجة” برأسها إليها ثُمّ عادت تركز بعينيها نحو شاشة حاسوبها.
ظلت “ريناد” تدور بالغرفة ذهابًا وإيابًا وهي تقضم أظافرها..
– طلعت ناصحة وأنا اللي كنت فكراها هبله، ده أنا اللي معرفاها على الشلة اللي بيقعد معاها “معتز صفوان”.
دلفت السيدة “ثريا” الغرفة بعدما عادت من زيارة إحدى قريباتها ثم نظرت إليهم.
أسرعت “ريناد” نحوها تُخبرها بإستياء عن تحقيق إحداهن حلمها بالزواج من رَجُل ثري.
– شوفتي “زينة فهمي” هتتجوز مين؟!
استندت “خديجة” برأسها فوق ذراعيها تزفر أنفاسها بقوة بعدما غادروا غرفتها ، والدتها وشقيقتها لن تتغير طباعهم أبدًا.
نظرت إلى إطار صورة والدها وقد اقتحمها الحنين إليه واخترقتها الذكريات.
« فلاش باك »
تقف هي وشقيقتها قُرب باب غرفتهما ينظرون ويستمعون إلى شجار والدتهم مع والدهم الذي صار معتادًا.
– أنت عايز تفضل حتت محاسب في شركة محلتكش غير مرتبك.
صاحت بها السيدة “ثريا” وقلبها يتآكل من الغيظ بسبب رؤيتها لإحدى قريباتها التي كانت أدنى منها بالمستوى الإجتماعي قبل زواجها والآن أصبحت تعيش في مجمع سكني راقي ولديها سيارة خاصه بها.
– حتت المحاسب ده أنتِ رضيتي بيه يا “ثريا”.
احتقنت ملامح “ثريا” ثُمّ اتجهت نحو الأريكة وهوت بجسدها عليها.
– متفكرنيش بغلطتي اللي ندمت عليها.
– ندمتي على جوازنا يا “ثريا” !! ، راح فين الحب اللي كان بينا.
– بيضيع كل يوم مع الفقر.
ألجمه جوابها، فأشاحت وجهها عنه وهي تسمعه يردد بنبرة سكنها الألم.
“فقر” !!
أين هو الفقر الذي تتحدث عنه؟ …
إنه يعمل بوظيفتين أحدهم بدوام جزئي حتى يُرضيها ويجلب لها كل ما تتمنى.
– إحنا مش فقرا يا “ثريا”، احمدي ربنا على عيشتك.
وردها الذي صار محور حديثهم منذ أن بدأت تلتقي بأصدقائها وقريباتها.
– هي دي عيشه، أنا كان المفروض اسمع كلام بابا الله يرحمه مش اسمع كلام ماما واتجوز واحد يحبني ويصوني … “ثريا” بنت العز تتجوز جوازه زي دي.
– الله يسامحك يا بنت الحسب والنسب.
قالها السيد “ڪمال” ثُمّ غادر المنزل تحت نظرات ابنتاه.
« باك »..
أغمضت “خديجة” عيناها بألم بعدما غادرت تلك الذكرى عقلها.
مازالت نظرة والدها الكسيرة عالقه بذاكرتها وڪأن الزمن لم يرغب بإزالتها من روحها.
لقد سافر والدها للعمل بإحدى دول الخليج لكي يُحقق لوالدتها رغباتها التي لم تنتهي لكن للأسف بعد خمس أعوام من إغترابه مرض بشدة ثُمّ توفى في غربته.
وصلها الحديث الذي يدور بين والدتها و “ريناد”، مازالت والدتها تسعى لتزويج شقيقتها برَجُل ثري.
…
رفع “خالد” عيناه عن الأوراق التي كان يُطالعها بعدما دلف “طارق” غرفة مكتبه.
– لسا عرض السفر موجود ولا فكرت تعين حد تاني في فرع دبي.
ضاقت عينيّ “خالد”، فعرض العمل هذا قدمه لأبن عمته منذ شهر وقد رفض أمر تولي إداره فرعهم بالإمارات.
– لا العرض مازال موجود يا “طارق” لكن إيه اللي غير رأيك؟!
جلس “طارق” بالمقعد المقابل له ثُمّ ركز عيناه نحو نقطة ما.
– كنت الأول قلقان على عمتك لكن دلوقتي هي معظم الوقت قاعده مع “مها” بسبب ظروف شغل جوزها، و “سلوى” خلاص كلها اسبوع وتتجوز… فأنا شايف إني أنسب واحد فيكم…
نهض “خالد” عن مِقْعَده واقترب منه يجلس قبالته.
– لو جينا لوضع كل واحد فينا ومسئولياته فـ “كريم” أنسب واحد إنه يمسك فرع دبي.
– “كريم” أنت عارفه مبيحبش الإلتزام في حاجه وهو رافض إداره شركة هناك، لو حابب تعرض عليه الأمر من تاني معنديش مشكله.
قالها “طارق” ثُمّ نهض لڪن “خالد” أوقفه قائلاً.
– أقعد يا “طارق” خلينا نتكلم… قولي يا ابن عمتي عايز تهرب من إيه.
نظر إليه “طارق” بإرتباك ثم قال بتلبك جلي في صوته.
– ههرب من إيه يا “خالد”.
ابتسامة خفيفة داعبت شفتيّ “خالد” سُرعان ما اختفت قبل أن ينهض من أمامه ويسير بضعة خُطوات.
– من حُبك لـ “نور” يا ابن عمتي.
•••••••••••••
الفصل الرابع
هل أمره مكشوف بتلك الطريقة؟
شعر بالْخِزْي من معرفة “خالد” بمشاعره نحو شقيقته.
أخفض “طارق” عيناه أرضًا من شدة شعوره بالْخِزْي ولم يعرف من أين يبدأ حديثه ليُوضح لـ “خالد” أنه لم يخون ثقته به، وأن مشاعره نحو “نورسين” يحتفظ بها داخل قلبه.
– أنا عارف بمشاعرك من زمان يا “طارق” وكنت فاكراها مجرد مشاعر هتنتهي مع الوقت.
شعر “طارق” بجمودة ملامح “خالد”، فنهض من مكانه وأسرع إليه ليوضح له أنه حاول كثيرًا محو هذا الحب لأنه يعرف الفرق تمامًا بين الحياة التي تعيشها
“نورسين” وبين وضعه الإجتماعي ولكن قبل أن يقول شىء.
تساءَل “خالد” بملامح احتلها اللين.
– هتفضل لحد أمتى مخبي مشاعرك يا “طارق” ؟!
هل ما كان يخشاه بتلك البساطة!!
احتل الذهول ملامح “طارق” وقد إزداد ذهوله وهو يستمع لـ “خالد”.
– خالك الله يرحمه كان مستني اللحظه اللي هتطلب فيها إيد “نور” منه، لأنه كان عارف ومتأكد إنك الوحيد اللي هتحافظ عليها وتصونها.
آه ملتاعه خرجت من شفتيّ “طارق” بلا صوت لكنها كانت حبيسة داخل قلبه.
لسنوات طويله يحب “نورسين” لكنه لم يستطع الكشف عن مشاعره لخاله حتى لا يظنه طامعًا بأمواله والآن “خالد” يُخبره أنها كانت أمنية خاله “رأفت” رَحِمَه الله.
…
اقترب “خالد” من مكان جلوس والدته التي كانت منشغله بتطريز أحد الأقمشة ويجلس قُربها الصغير “أحمد” المنشغل باللعب في قطاره الحبيب.
رفعت السيدة “لطيفة” عيناها نحوه ثُمّ اتسعت ابتسامتها شيئًا فشىء وهي تراه في أبهى حُلة.
– ربنا يحميك يا حبيبي.
تمتمت بها السيدة “لطيفة” ثُمّ رفعت كلا ذراعيها في دعوة منها ليقترب حتى تتمكن من معانقته.
– عقبال ما اشوفك وأنت عريس يا بني وافرح بيك أنت وأختك.
ابتسم “خالد” وهو يُقبل كلا كفيها.
– نفرح بس بـ “نور” الأول يا ست الكل.
– بابي أنت رايح فين، خدني معاك.
قالها الصغير الذي اقترب منه والتصق به، فابتسم “خالد” وهو يداعب وجنتاه.
– حبيبى مينفعش للأسف أخدك معايا، بكره الجمعه هنروح النادي سوا.
ابتهجت ملامح الصغير والتصق بحضـ,ـنه فرحًا.
– ربنا يخليك لينا يا ابني.
قالتها السيدة “لطيفه” وهي تربت على كتفه… تتمنى من كل قلبها أن يحظى قرة عينها بكل خير وفرح -في الدنيا- بقدر ما يمنحه لهم.
…
ترجلت “خديجة” من سيارة الأجرة بعدما وصلت للعنوان المطبوع على كارت دعوة الزفاف.
نظرت للڤيلا التي تلألأت الأضواء في مدخلها وحولها.
أخرجت هاتفها من حقيبة يدها الصغيرة لتهاتف “سارة” صديقتها تُخبرها أنها وصلت وتنتظرها أمام الڤيلا كما اتفقوا.
– أنتِ فين يا “سارة”، أنا وصلت وواقفه قدام الڤيلا… بتقولي إيه، طيب ليه معرفتنيش
– أنا أسفه يا “خديجة”، أنا اتلهيت في خناقة” محمد” أخويا وماما ومعرفتش اتصل بيكِ أقولك.
شعرت “خديجة” بحزن صديقتها فلم ترغب بعتابها.
– صدقيني كان نفسي أحضر، كنت عايزه أشوف أصحابنا… كلنا اتفرقنا بعد الجامعه وقولت أهي فرصه نشوف بعض.
تعلقت عينيّ “خديجة” بالڤيلا وتحركت مبتعده.
– نشوفهم مره تانيه بقى يا “سارة”.
– إيه ده أنتِ مش هتحضري؟
زفرت “خديجة” أنفاسها وهي ترفع فستانها قليلاً حتى لا تتسخ أطرافه.
– أنا جيت عشان أنتِ هتكوني موجوده.
استمرت “ساره” بِـ حَثّ “خديجة” على حضور حفل الزفاف حتى أقنعتها أخيرًا.
أغلقت “خديجة” المكالمة مع “سارة” وشعرت ببعض التردد ثُمّ نظرت لفستانها الذي أعطته لها “ريناد” لترتديه اليوم بل وأعطتها أحد أحذيتها ذات الكعب العالي وساعدتها في وضع زينة خفيفة لوجهها.
إنها ممتنه اليوم بشدة لـ “ريناد”، ليتها لا تنصت إلى حديث والدتهم الدائم عن السعي وراء الثراء الذي لن يأتي إلا بالزواج من رَجُل ثري.
زفرت أنفاسها بقوة لعلها تُهدأ من توترها قليلاً، فهي لا تحب هذه التجمعات التي يتحول فيها البعض لكاميرات مراقبة يترصدون من خلالها سقطات البعض أو يجعلونها جلسة من النميمة حول ملابسك وهيئتك أو الهَمْز و اللَّمْز بالحديث.
كادت أن تتحرك من مكانها لكن صوت بوق السيارة أفزغها.
التفت برأسها نحو السيارة وسُرعان ما كانت تضع يدها أمام عينيها لتتفادى ضوء السيارة المنبعث من مصابيح الإضاءة الأمامية.
تحركت “خديجة” من أمام السيارة بعدما أشارت لصاحبها أنها ستتحرك على الفور.
قطب “خالد” جبينه عند رؤيتها، فهي ذاتها الفتاة التي رآها بالمطعم منذ أيام مع شقيقتها التي تعمل لديه كـ كيميائية.
…
بصعوبة بالغه استطاعت “خديجة” رسم ابتسامة مزيفة على شفتيها وهي تستمع لتعليقات بعض صديقاتها
-اللاتي لم تقابلهن منذ تخرجهن من الجامعه- عن فقدانها للوزن.
شعرت بأنها أتت لهذا الحفل لتكون مادة دسمة للتهكم عليها بكلام مُبطَّن.
حاولت الإنسحاب من بينهن بعدما بدأت تشعر أنها بحاجة لإستنشاق بعض الأكسچين وطرد تلك الذكرى التي تعْلق بذاكرتها وتقتحم عقلها كلما سألها أحدًا كيف فقدتي هذا الوزن؟
– “خالد رأفت العزيزي”
ابن” رأفت العزيزي” صاحب أكبر شركة أدوية في البلد ده غير الفروع الكتير لشركته في أمريكا والإمارات وسويسرا.
التقطت اسم أحدهم من أفواه صديقاتها عندما عادت إليهن لتكون قربهن.
– كان دكتور عظام كبير في أمريكا لكن بعد ما والده اتوفى في حادثه فجأة، اتولى هو إدارة الشركة ومن ساعتها والشركة اسمها دايمًا فوق..
– رغم ذكائه ووسامته إلا إنهم بيقولوا بارد في تصرفاته ومشاعره وخصوصًا مع الجنس الناعم اللي هو احنا.
قالتها إحداهن ثُمّ ارتفع صوت ضحكاتهن -من يقِفن معها- عاليًا يُشاركنها الضحك.
– الراجل التقيل ليه وضعه برضوه يا “شروق” ، شايفه ابتسامته… مش قادره أقاومها.
تمتمت بها “ليالي” الواقفة وهي تحدق به بهيام وسُرعان ما لمعت عيناها وهي تنظر نحو “خديجة” المنشغله بالتحديق بهاتفها ولم تهتم بالنظر نحو الرَجُل الذي يقصدونه.
التقطت عينيّ “شروق” تلك النظرة التي رمقت بها “ليالي” “خديجة” ثم أشارت إليها بتنفيذ حيلتها لتستطيع لفت نظر “خالد العزيزي”.
– “خـديـجـة”
هتفت بها “ليالي” وهي تقترب من “خديجة”، فتعلقت عينيّ ” خديجة” بها..
– أنتِ الوحيدة اللي لسا مسلمتيش على “زينة” وباركتي ليها، وانا زيك.. ومينفعش نكون جينا الفرح ومنباركش ليها.
استدارت “خديجة” برأسها ناحية “زينه” المنشغله بالرقص وسط أقاربها.
– خلينا نستنى لما فقرة الرقص تخلص.
حاولت “خديجة” التهرب منها، فهي مجرد عشرة دقائق وستغادر الحفل.
– ومين قالك إن “زينة” هتبطل رقص النهاردة.
تمتمت بها “ليالي” وهي تسحب “خديجة” خلفها دون أن تعطيها مجال للرفض.
ارتفعت ضحكات “شروق” بعدما رأت “ليالي” تسحب “خديجة” خلفها..
– خلينا نتفرج على اللي هيحصل.
لم تشعر “خديجة” بأي حُبُور بعدما قدمت المُبَاركة لـ “زينة”، كل ما شعرت به الندم أنها آتت.
بعدم راحة نظرت “خديجة” إلى “ليالي” التي تبطأت ذراعها..
– صاحب “أمجد” أخويا واقف هناك أهو… تعالي معايا يا “خديجة” أسلم عليه.
حاولت “خديجة” تحرير ذراعها من “ليالي”.
– روحي أنتِ يا “ليالي” … أنا هستناكِ هنا.
لكن “ليالي” واصلت سحبها إلى الجهة التي بها هدفها.
لا تعرف ما حدث لها فجأة، فكل ما أدركته وتأكدت منه أن فعلت “ليالي” كانت مقصودة خاصةً بعدما حررت ذراعها ثُمّ دهست فوق طرف فستانها.
بصعوبة حاولت تمالك جسدها من الميل للخلف ثُمّ تراجعت بخطوات متعثرة للوراء وقد اصطدم بها النادل دون قصد منه.
انسكبت المشروبات التي كان يحملها النادل على ثوبها ، فأصبح عبارة عن لوحة ممتزجة الألوان..
تجمدت نظراتها نحو “ليالي” التي حاولت إظهار فزعها عليها ثُمّ حولت عيناها نحو النادل الذي نظر إليها بأسف وذعر، فهو بحاجة لهذا العمل.
نظراتها تحولت للفزع عندما انتقلت عيناها نحو ثوبها…شهقة خرجت من شفتيها استطاعت كتمها بكف يدها تتمتم بخوف.
– الفستان ، “ريناد” …
اطبقت “خديجة” جفنيها بحسرة؛ فاليوم ستتلقى توبيخ لا حصر له من شقيقتها التي أعطتها فستانها وحذرتها من حدوث شىء له.
– انتبهي، يا آنسة.
فاقت من صدمتها على ذلك الصوت الرجولي وقد انتبهت أخيرًا أن ذراعه مُلتفًا حول خصرها ليمنعها من سقوط لا مفر منه هذه المرة بعدما التوى كاحلها.
انتفضت مبتعده عنه تنظر إليه بذعر مصحوب بالخجل ثم تمتمت بإعتذاز.
– أنا أسفه.
ثم نظرت جهة النادل الذي مازال واقفًا وحركت رأسها له بإعتذار هو الأخر.
– “خـديـجـة” استني.
هتفت بها “ليالي” ثُمّ ارتسمت فوق شفتيها ابتسامة واسعه أخفتها سريعًا واستدارت بجسدها نحو “خالد” الذي مازال واقفًا مكانه يُحدق بتلك التي غادرت الحفل بهروله.
– أنا أسفه نيابه عن صديقتي يا دكتور “خالد”.
لم يكن انتباه “خالد” معها بل كان مع “خديجة” التي فرت مذعورة من الحفل.
– إيه ده العصير اتكب على بدلتك كمان.
تمتمت بها “ليالي” لجذب انتباهه بعدما وجدته لم يهتم بها.
نظر “خالد” نحو كُمّ بذلته الذي بالفعل حصل على بقعة مُبللة.
– على فكرة يا دكتور “خالد” والدي سيادة اللواء “رفعت سامي” كان صديق والد حضرتك السيد “رأفت” الله يرحمه، ووالدتي…
لم ينتظر “خالد” سماع المزيد منها وابتعد عنها يمسح فوق كُمّ بذلته.
انفرجت شفتي “ليالي” في دهشة سُرعان ما تحول الأمر لصدمة ثُمّ تجهمت ملامح وجهها، إنه لم يعيرها أي إهتمام.
ابتسامة ساخرة احتلت ملامح “شروق” التي وضعت يدها على كتف “ليالي” تهتف ساخرة..
– كنت واثقة إنه هيعمل كده، أصلك يا حبيبتي اختارتي طريقه سخيفة عشان تلفتي نظره ليكِ.
ثُمّ ارتفعت ضحكات “شروق” بعدما انتهت من سخريتها.
…
– يعني أنتِ مش مضايقه إني بوظت الفستان يا “ريناد” ؟
نظرت “ريناد” إليها ثُمّ للثوب مع ابتسامة حالمة و حركت رأسها لها بالنفي.
تنهدت “خديجة” بارتياح ثُمّ أسرعت في معانقة “ريناد” التي تقبلت عناقها دون تأفف.
في اليوم التالي فهمت “خديجة” سبب تلك الحالة المزاجية الهادئة التي تعاملت بها “ريناد” معها.
– أنتِ متأكده إنه عينه منك ولا بيلعب بيكِ زي اللي قبله.
تساءَلت السيدة “ثريا” وهي تنظر نحو “ريناد” التي انشغلت في وضع طلاء أظافرها.
تقابلت عينيّ “ريناد” بـ “خديجة” التي خرجت للتو من غرفتها تحمل كوب النسكافيه الخاص بها.
– قولتلك يا ماما عزمني على فرح بنت عمته، ده غير عروضه الكتير ليا في الشركة إنه يوصلني.
استاءت ملامح السيدة “ثريا” ، فكل مرة تخبرها أن أحدًا يهتم بها ويلمح لها بالزواج ثُمّ تخبرها أنه خدعها.
– كل مرة تقوليلي كده يا “ريناد” لحد ما بقى عمرك سبعه وعشرين سنه ولسا متجوزتيش، بنت “ناهد” وبنت “صفية” اتجوزوا وكل واحدة فيهم وقعت صح.
استمرت السيدة “ثريا” بالحديث عن الزيجات التي حصل عليها ابنتي بنات خالتها حتى زفرت “ريناد” أنفاسها بضجر ثُمّ نظرت نحو “خديجة” التي اتجهت للمطبخ بعدما شعرت باليأس من تغير والدتها مهما حدثتها ونصحتها.
– عندك “خديجة”، خليها تجبلك العريس الثري صاحب الشركة.
توقفت “خديجة” مكانها، لتتعلق عينيّ “ثريا” بها ثُمّ عادت تشير نحو “ريناد”.
– “خديجة” مش جميلة ولا كلاس زيك، الست الحلوة الكلاس هي اللي بتقدر تجذب الرجاله.
ابتسمت “خديجة” بمرارة بعدما استمعت لكلمات والدتها الذي كانت تتوقعه ثُمّ أكملت سيرها نحو المطبخ لتعد لها كوبًا من النسكافيه لتستطيع إكمال ترجمة الوثائق وتحصل على أجرها الذي ستدفعه في سداد الديون التي تتثاقل على كاهلها بسبب حياة الترف التي تحب أن تتظاهر بها والدتها أمام بنات خالتها وصديقاتها فارغات العقل.
شعرت “ريناد” بالإنتشاء وهي تستمتع لمديح والدتها لها ثُمّ عادت لتستكمل طلاء أظافرها.
– على فكره يا ماما أنا مش هقدر أدفع فلوس السوبر ماركت الشهر ده عشان هشتري فستان مناسب أحضر بيه الفرح خلي “خديجة” هي اللي تدفع.
…
شعرت “ريناد” بالسعادة عندما وقعت عيناها على سيارة “كريم العزيزي” لا تُصدق أنه يقف أسفل مسكنها وينتظرها لتحضر معه حفل زفاف ابنة عمته.
التمعت عيناها وهي تنظر للسيارة الفخمة ذات الموديل الحديث ثُمّ استكملت خُطواتها نحو السيارة.
ابتسم “كريم” لها بعدما وجدها تصعد السيارة ثُمّ سألته بنبرة رقيقة.
– اتأخرت عليك؟!
– لا أبدًا.
قالها “كريم” ثُمّ تحرك بسيارته نحو القاعة التي يُقام بها حفل الزفاف.
بعد وقت
كان “كريم” يقف بسيارته أمام إحدى القاعات وقد شعرت “ريناد” بالدهشة وهي تنظر للقاعة التي يُقام بها الزفاف.
– هو فرح أخت الدكتور “طارق” هنا!!.
تسألت “ريناد” بدهشة وقد لاحظ “كريم” صدمتها، فحفل الزفاف لم يَكُن في فندق خمس نجوم كما ظنت تلك التي تظن أنها استطاعت لفت نظرة بأفعالها التي يحفظها عن ظهر قلب.
– شايفك مصدومة، كنتِ فاكرة الفرح في فندق خمس نجوم؟؟
طالعته “ريناد” ثُمّ حاولت تبرير صدمتها، فهل ابتاعت هذا الثوب لتحضر في قاعة كتلك!!.
– لا مش مصدومة يا دكتور ولا حاجه لكن دكتور “طارق” يعني ليه معارفه ووضعه الإجتماعي فقولت أكيد هيكون في مكان راقي.
وسُرعان ما تساءَلت بفضول، فهي لا تصدق أن “خالد العزيزي” سيحضر حفل زفاف كهذا.
– هو دكتور “خالد” هيحضر؟.
شعر “كريم” بالضجر لأنه اصطحبها معه، فهو لا ينقصه هذه الليلة اسألتها الفارغة.
ترجل “كريم” من السيارة بعدما رمقها بنظرة لم تفهمها.
عند باب القاعة سحب ذراعها لتتبطأ ذراعه، اندهشت “ريناد” من فعلته لكنها شعرت بالسعادة لأنها ستظهر أمام عائلته وهذه خطوة متقدمة لم تحظى بها في علاقاتها السابقة.
فور أن دلفت القاعة جِوار “كريم” انتقلت عينيّ “خالد” و “طارق” نحوها في دهشة وكأنهم يستغربون وجودها مع “كريم” لكن سُرعان ما أزاحوا أعينهم عنها.
كان حفل زفاف بسيط أدهش “ريناد”.
التفت “ريناد” حولها بعدما وجدت نفسها تَقِف بمفردها.
انتبهت على خروج “كريم” من القاعة يُرافقه “خالد”، فتحركت ورائهم.
اقتربت منهم وقد وقعت عينيّ “خالد” عليها لكنه لم يهتم لأمرها وتركها تستمع لحديثهم.
– عشان تعاندني راحت اتجوزته يا “خالد”.
الغضب كان يحتل ملامح “كريم” الذي استوعب أخيرًا زواج حبيبته من رَجُل آخر.
– “سلوى” معملتش كده عشان تعاندك يا “كريم”، أنت عارف سبب جوازها من “هشام” كويس.
– كنت هتغير عشانها يا “خالد”.
خرج صوت “كريم” ببحه حملت الألم.
شعر به “خالد” وربت فوق كتفه.
– عاندت نفسك ليه من الأول، سبتها ليه تضيع من إيدك لحد ما جيه واحد غيرك عرف يسرق قلبها.
دمعت عينيّ “كريم” وهو يُجيبه بحقيقة يعرفها.
– كنت فاكر انها هتفضل تحبني مهما أعمل أو أعرف بنات غيرها.
ثُمّ واصل حديثه بمرارة.
– كنت فاكر إني هشوف نظرة الوجع في عينيها لما تشوفني داخل الفرح مع واحدة لكن مشوفتش غير السعادة في عينيها وهي بترقص معاه.
لم يكن للحديث معنى اليوم، فسكينة الغرور قد سرقته.
– خلاص يا “كريم” بقت مراته.
تيبست “ريناد” في وقفتها وشعرت وكأن دلو من الماء البارد انسكب عليها، هي هُنَا حتى تُقدم عرضًا لا أكثر.
تعلقت عينيّ “خالد” بها بعدما استدارت بجسدها راحله ، فلا داعي لوجودها.
وصورة واحدة كانت تخترق عقل “خالد” ، صورة لا تُشبه تلك التي ابتعدت عن أنظاره، صورة لأخرى رقيقة وهشة ووجه المقارنة بينهم مختلف رغم أنهم من نفس الدم وربما متقاربتين في الملامح.
••••••••••••
الفصل الخامس
نظرت “ثريا” بدهشه لـ “ريناد” التي عادت مُبكرًا من حفل الزفاف ثُمّ اتجهت لغرفتها دون أن تنطق ببنت شَفَةٍ.
تركت “ثريا” طبق المقرمشات الذي تأكل منه ثُمّ اتجهت بعينيها نحو “خديجة” التي كانت مندمجة في مشاهدة المسلسل التلفزيوني.
– شكله طلع زي اللي قبله، وقال عماله تقولي يا ماما عينه مني ونظراته فضحاه.
تمتمت “ثريا” بكلامها ثُمّ نهضت من فوق أريكتها واتجهت نحو غرفة ابنتها الغالية التي تُريدها أن تحظى بزوج ثري ولا تكون مثلها.
أشاحت “خديجة” عيناها عن شاشة التلفاز ثُمّ نظرت جهة غرفة شقيقتها، وهي حزينة على حالها.
تعالا صوت “ريناد” بعدما بدأت “ثريا” كعادتها بإلقاء حديثها الساخط من غبائها.
زفرت “خديجة” أنفاسها بضيق وخنقة، فضياع مستقبل شقيقتها سيكون على يديّ والدتهما التي تُريد تحقيق أحلامها في تزويج شقيقتها من رَجُل ثري تتباهى به بين قريباتها و صديقاتها.
غادرت “ثريا” غُرفة ابنتها – التي أغلقت الباب بقوة فور خروجها- بسخط.
– ماشي يا “ريناد” بتقفلي الباب في وشي.
اتجهت “ثريا” لأريكتها بغضب وقد تضاعف غضبها وهي تجد “خديجة” تزيل نظارتها عن عينيها ثُمّ تفرك جفنيها وبعدها عادت لإرتداء نظارتها.
– الواحد ما صدق خسيتي، كمان ليل نهار لبسالي النضارة…
ابتسامة ساخرة احتلت شفتيّ “خديجة” ثُمّ عادت تنظر نحو شاشة التلفاز.
– الفلوس اللي كنت محوشاها لعملية الليزك أنتِ أخدتيها لما سافرتي تقضي كام يوم في الساحل مع طنط “فاريهان”.
امتقعت ملامح “ثريا” عندما استمعت لكلامها واستشاطت غضبًا عندما وجدتها تنهض من فوق الأريكة الأخرى وتتجه إلى غرفتها.
– شكلي معرفتش أربيكي أنتِ كمان، اسمعي يا كبيره يا عاقله حتى أختك بقت ترد عليا… ما هي شيفاكي مش عامله ليا حساب.
صاحت بها “ثريا” وهي تتجه بعينيها نحو غرفة “ريناد” التي دفعت وسادتها بقوه نحو الجدار صارخة.
أغلقت “خديجة” باب غُرفتها واستندت بظهرها عليه.
أغلقت جفنيها ثم زفرت أنفاسها لتستطيع طرد ذلك الشعور الذي يحتل روحها، ليتها كانت مثل “ريناد” تُخرج غضبها بصراخها وتمردها.
اتجهت نحو مكتبها ثم فتحت حاسوبها.
تنهيدة طويلة خرجت منها عندما اقتحم عقلها معايرة والدتها لها بإرتداء نظارة طبية ، لقد ضعف بصرها بسبب انكبابها الدائم أمام الحاسوب لكي تحصل على الأموال من عملها على منصات مواقع العمل الحر.
ابتسامة ساخرة ارتسمت على شفتيها قبل أن تشرع في عملها، فالأموال التي تجنيها يتم صرفها على رفاهيات والدتها لكن هي لا تتذكر أخر ثوب متى قامت بشرائه.
…
هبطت “نورسين” الدرج وهي تتحدث مع سكرتيرة مكتبها وقد ارتسمت الحيرة فوق ملامحها وسؤال واحد يتردد داخل عقلها.
متى قرر “طارق” تولي إدارة فرع دبي – رغم رفضه من قبل- ولما لم يُخبرها بقراره رغم أنها كانت معه قبل يومين يتحدثون في أمور عِدة ألهذه الدرجة هي لا تعني له شىء.
عند تلك النقطة تبدلت ملامحها من الحيرة إلى الغضب وهي تقترب من مائدة الطعام وقد انشغل “خالد” كالعادة بتدليل الصغير والإستماع إلى ما يقصه عليه تحت نظرات والدتها التي تفيض بالحنان والمحبة.
– إزاي “طارق” يتنقل فرع دبي وأنا ميكونش عندي علم.
تعجبت والدتها من حالة الغضب التي هي عليها ثُمّ تساءَلت بدهشة.
– هو “طارق” سافر يمسك فرع دبي يا “خالد”؟
– خلص طبقك بسرعه يا “أحمد” عشان ميعاد المدرسة.
قالها “خالد” للصغير ثم استدار نحو والدته.
– أخد القرار ده قبل فرح “سلوى” باسبوع وهو اللي طلب مني أني مبلغكمش بقراره، وحتى عمتي عرفت ليلة سفره.
اندهشت السيدة “لطيفة” من الأمر لكن سُرعان ما تمتمت له بالدعاء.
– ربنا يوفقه، “طارق” ابن حلال ويستاهل كل خير.
أماء “خالد” برأسه مؤكدًا حديث والدته ثم نظر نحو “نورسين” التي استشاطت غضبًا.
– لكن السكرتيرة بتاعته عارفه بسفره من إمبارح وأنا آخر من يعلم مع إنه من يومين كان في مكتبي… قولي دلوقتي مين اللي هيتولي الشغل بتاعه بعد سفره.
استمرت “نورسين” بالكلام الغير مترابط والذي ينم عن غضبها من سفر “طارق” المفاجئ.
تعلقت نظرات والدته به وكأنها تُخبره أن ما يعتقدوه من مشاعر “نورسين” لـ “طارق” صحيحة وليست وهمًا.
– متقلقيش يا “نور” ، المدير الجديد هيكون على مكتبه النهاردة وده شخص موثوق فيه جدًا.. أكيد عارفه “عبدالرحمن ثابت”.
– “عبدالرحمن ثابت” !! ، هو رجع من امتى من إنجلترا؟؟
اندهشت “نورسين” من عودة ذلك الذي يجمعه صداقه قويه بـ “طارق”.
– رجع من شهر بعد انفصاله عن مراته.
قالها “خالد” وهو يتجه نحو والدته ليُقبل جبينها ثُمّ التقط يدها ليُقبل كفها متسائلاً.
– محتاجه حاجه مني يا ست الكل.
ابتسمت السيدة “لطيفة” لإبنها الغالي الذي عوضها وجوده عن كل شىء قد حدث.
– لأ يا حبيبي، تسلملي.
بادل “خالد” والدته الإبتسامة ثُمّ نظر للصغير قائلاً.
– يلا يا باشا عشان أوصلك المدرسه.
ترك الصغير مِقْعَده واتجه إليه بسعادة لأنه اليوم سيحظى بمرافقة أباه كما يَظُن.
تعلقت عينيّ “لطيفة” بولدها الحبيب تتمنى داخلها أن تراه يومًا يُمْسِك في يده طفله.
نظرت “نورسين” إلى شقيقها وهو يغادر ثُمّ تحولت نظراتها نحو والدتها – المبتسمة لما تراه على ملامح ابنتها وتفهمه- وبعدها اندفعت نحو الدرج ثُمّ لغرفتها حانقة.
…
في اللحظة التي رفعت فيها “سارة” عيناها عن شاشة هاتفها تقابلت عيناها بعينيّ “خديجة” التي دلفت للتو من باب المقهى الذي اعتادوا المجيء إليه.
– خمس دقايق تأخير ياهانم.
ابتسمت “خديجة” ثُمّ جلست قبالتها هاتفه.
– لا سبع دقايق عشان نكون دقيقين.
قالتها “خديجة” بمزاح وهي تُسلط عينيها نحو كوب المثلجات الذي لم تمسه “سارة”.
سحبت “خديجة” الكوب نحوها تهتف قائلة.
– اطلبي ليكِ بقى واحد غيره يا “ساره”.
لم تكن فعلت “خديجة” بالأمر الجديد على “سارة”.
صفعتها “سارة” على يدها تهتف قائلة بعبوس مصطنع.
– أنا غلطانه إني مأكلتهوش بسرعه قبل ما تيجي.. وقال إيه كنت فرحانه لأن صاحب الكافيه عملهولي مخصوص.
ابتلعت “خديجة” قطعة المثلجات الممزوجة بقطع الفاكهة ثُمّ نظرت في تلك الجهة التي يتواجد بها دومًا صاحب المقهى.
وقعت عيناها عليه وقد شعر بالحرج من نظرات “خديجة” له، فأسرع بإشاحة عيناه عن طاولتهم.
شعرت “سارة” بالحرج لأن الأمر صار مفضوح لكنه لم يُصرح لها بمشاعره بعد.
– هنيالك يا ست “سارة”… ما أنتِ عشان كده دايمًا جيباني هنا.. قال إيه الكافيه هادي وراقي.
توترت “سارة” لكن سُرعان ما زمت شفتيها حانقة.
– على فكرة بقى أنتِ اللي عرفتيني على مكان الكافيه.
– وأنتِ ما شاء الله حبتيه أوي وبقيتي زبونه دايمة.
قالتها “خديجة” بمداعبة لـ “سارة” التي توردت وجنتاها من الخجل.
استمرت “خديجة” بمداعبتها لـ “سارة” إلى أن أنتهت من إلتهام كوب المثلجات.
– لا طعمه خطير فعلاً ومعمول بحب.
هتفت بها “خديجة” ثم أخذت تحرك حاجبيها بمداعبة.
مالت نحوها “سارة” ثُمّ أسرعت بوضع يدها على فمها تهمس بتوتر وخجل.
– كفايه يا “خديجة”.
أخيرًا انتهت “خديجة” من فقرة مزاحها، مزاح لا تكون في صورته إلا مع “سارة” صديقتها.
– احكيلي اللي حصل في فرح “زينة فهمي” بالتفصيل.
قالتها “سارة” وهي تنظر لـ “خديجة” التي زفرت أنفاسها بحنق من تذكر ذلك الزفاف.
– ما أنا حكتلك كل اللي حصل في التليفون.
– يا بنتي هو أنا كنت عارفه أسمع حاجه من صريخ “مروان” ابن “نورهان” أختي.
طالعت “خديجة” وجه “سارة” التي ارتسم الحماس على ملامحها.
– تحبي نبدأ من أنهي جزء يا “سارة” هانم.
ارتفعت ضحكات “سارة” لكن سُرعان ما وضعت يدها على شفتيها من الحرج والربكة خاصةً عندما تلاقت عيناها مع ذلك الذي يختلس النظرات إليها.
– من أول ما حطيتي رجلك في الفرح.
سردت لها “خديجة” كل شىء بالتفصيل لكن دون تلك المواقف السخيفة التي شعرت بها بين صديقاتها التي قطعت علاقتها بهم منذ تخرجها من الجامعه.
– “ليالي” ديه طول عمرها سخيفة، وأنتِ زي الهبله يا “خديجة” سيباها تسحبك وراها.
هتفت بها “سارة” بضيق من فعلت تلك المتكبرة السخيفة التي لا تطيقها منذ أن تعرفت عليها بالجامعة.
– عشان كده كنت عايزاكي تكوني معايا يا “سارة”، أنتِ عارفاني مبعرفش اتصرف… بفتكر دايمًا الناس عندهم حسن نية.
ربتت “سارة” على كفها وارتسمت فوق شفتيها ابتسامة دافئة تحمل في طياتها الدعم.
– أنا محظوظة عشان عندي صديقه زيك يا “خديجة”.
“سارة” كانت أكثر من يعرف المعاناة التي عانتها “خديجة” من قبل بسبب التنمر على وزنها الزائد وقلة إهتمام والدتها بها والتفريق بينها وبين شقيقتها.
ورغم فقد “خديجة” لوزنها بسبب تلك الليلة المشئومة قبل ثلاث سنوات -وكانت “ريناد” سببًا فيها- إلا أن السيدة “ثريا” مازالت لا تهتم إلا بـ “ريناد” وكأنها لم تنجب “خديجة” من رحمها.
وجدت “خديجة” أن دموعها أوشكت على خيانتها بعد كلام “سارة” لها، فـ “سارة” الوحيدة التي كانت معها في أشد أوقاتها احتياجًا لأحد.
عادت النظرة العابثة تحتل عينيّ “خديجة” التي سلطت عيناها على كوب المثلجات الفارغ مرة أخرى.
– ما تطلبي ليا واحد تاني متوصي عليه.
هذه المرة كانت عُلبة المحارم الورقية الموضوعة على الطاولة تُقذَف على “خديجة” التي انفجرت ضاحكة من فعلت “سارة”.
رفعت “خديجة” لها ذراعيها تُعلن إستسلامها.
– خلاص يا “سارة” رفعت راية الإستسلام.
رمقتها “سارة” بنظرة ممتقعة سُرعان ما تحولت لنظرة متحمسة وهي تتذكر شيءً.
– صح نسيت أوريكي الإعلان اللي كنت لسا شيفاه قبل ما حضرتك تمسكيني تريقة.
أسرعت “سارة” بإلتقاط هاتفها والبحث عن صفحة الوظائف التي رأت بها الإعلان الوظيفي.
اقتربت “خديجة” بمقعدها من “سارة” التي أخذت تخبرها بحماس متطلبات الوظيفة.
– عايزين مترجمة بتعرف روسي كويس لمدة 6 شهور، المرتب حلو أوي يا “خديجة”.
أخبرتها “سارة” بالراتب الذي ستحصل عليه مما جعل “خديجة” تهتف بإحباط.
– المرتب المعروض بيدل إن معايير اختيارهم للشخص هتكون صعبة يا “سارة”… بيتهيألي كده عايزين مواطن روسي ومقيم حاليًا في مصر وبيعرف عربي كويس أو واحد عايش حياته كلها فـ روسيا.
امتقعت ملامح “سارة” بعدما استمعت لكلام “خديجة”.
– إيه الإحباط اللي أنتِ فيه ده، أولاً الراتب لو ممتاز فهو عشان يغري المتقدمين للوظيفة متنسيش إنها مش وظيفة دايمة، فمش أي حد هيقبل بيها..
ثانيًا يا أستاذه يا مُحبطة قدمي وخلاص.
وبعيداً عن أولاً وثانيًا خليكي واثقة في نفسك يا “خديجة”.. أنتِ شاطرة ومجتهدة يا “خديجة”.
أرادت “سارة” أن تُشجعها.
– أنا لو مكانك مش هسيب الفرصة ديه حتى لو مش واثقة في قدراتي لكن أعمل إيه أنا قسم إيطالي.
بدأت “خديجة” تقتنع برأي “سارة” فلما لا تُجرب وبالنهاية هي تجربة لن تخسر فيها شىء.. صحيح ستشعر بالإحباط بعدما يتم رفضها لكن لا بأس.
– وريني كده الإعلان عشان أشوف اسم الشركة بدل ما احنا بنتكلم عن الفرصه التي لا تعوض ويطلع الإعلان في الأخر وهمي.
أعطتها “سارة” الهاتف وعلى وجهها إبتسامة واسعة، فالشركة التي تعرض الوظيفة شركة أدوية معروفة ولها اسمها.
فور أن وقعت عينيّ “خديجة” على اسم الشركة تحولت ملامحها للوجوم.
– دي الشركة اللي بتشتغل فيها “ريناد”
التقطت “سارة” الهاتف منها تنظر لإسم الشركة فهي تعرف أن “ريناد” تعمل بشركة أدوية يحلم الكثير بالتوظيف بها لكنها لم تركز يومًا بإسم الشركة لأن الأمر لا يعنيها.
– وفيها إيه يا “خديجة” وقبل ما تقوليلي عشان متضايقش من وجودك معلش المرادي هقولك هتفضلي لحد امتى ظل خفي ليها…ليه شايفه نفسك إنك أقل من إنك تكوني أختها… كفايه يا “خديجة” لأن أنتِ اللي المفروض ترفعي راسك مش هي.
كل ما تخبرها به “سارة” تعرفه تمامًا لكن ما نسمعه من الغير ليس كالذي يُرسخ داخلنا لأننا نحياه.
شعرت “سارة” بالحزن لأجل صديقتها التي حياتها عبارة عن نبذ وفي داخلها كانت تزداد كراهيتها لتلك الأم والشقيقة.
– هتقدمي للوظيفة وهتتقبلي فيها عشان الست “ريناد” تبطل تباهىٰ بكل حاجه بتملكها من غير ما تتعب فيها…
حاولت “خديجة” الإعتراض وإخبار “سارة” أنها مكتفيه بعملها على مواقع العمل الحر.
– أوعي تعترضي فاهمه، ولا تبلغي “ريناد” إنك هتقدمي للوظيفة.. خليها تتفاجىء لما تكوني موظفه فيها.
ابتسمت “خديجة” بسبب تلك الثقة التي تتحدث بها “سارة” عن قَبولها بالوظيفة التي لم تتقدم إليها بعد.
– مش عارفه إيه الثقة اللي عندك في إني هتقبل يا “سارة”.
وبثقة لا تعرف “سارة” كيف تأتيها وقد استرخت فوق مقعدها.
– قلبي حاسس إنك هتتقبلي وبكره تقولي “سارة” قالت.
•••••••••••••
الفصل السادس
نظرت إلى هاتفها بعدما انتهت المكالمة التي أَبْلَغَهَا من خلالها مسؤول التوظيف عن قَبولها بالعمل.
للحظات ظلت تُحدق بالهاتف إلى أن أستوعبت أخيرًا أنها بالفعل قد تم قَبولها بأهم الشركات التي تعمل بمجال الأدوية بالوطن العربي.
هذا ما كانت تسمعه من شقيقتها “ريناد” عندما تريد التباهي بوظيفتها – التي ساعدها بالحصول عليها أحد أقارب والدتها- لكن بالحقيقة هي تأكدت من مكانة الشركة بالسوق.
فتوظفيها بشركة لها اسمها ومكانتها بالسوق حتى لو لمدة محددة سيكون مكسب لها بسيرتها الذاتية.
– أنا لازم أكلم “سارة” عشان أفرحها.
أسرعت بإلتقاط هاتفها مرة أخرى لتُخبر “سارة” بقَبولها بالوظيفة.
وفور أن أجأبت “سارة” عليها هتفت قائلة:
– أكيد اتقبلتي بالوظيفة، شوفتي عشان تعرفي قلب الأم.
خرجت ضحكات “خديجة” من قلبها.
– أه اتقبلت وقولت أفرحك.
– شوفتي يا “خديجة” لو كنتِ استسلمتي لأفكارك مكنتيش هتعرفي إنك تستحقي دايمًا تكوني في مكان أفضل.
– المشكلة يا “سارة” إني هتعود على المرتب الثابت وبعد ست شهور هيقولولي مع السلامة.
تمتمت بها “خديجة” بإحباط، فهي بالفعل تخشى من الإعتياد على الدخل الثابت.
– استفيدي من الست شهور يا “خديجة” وشيلي فلوس على جنب ليكِ ينفعوكي مع شغلك على مواقع الترجمة.
ثُمّ تابعت “سارة” حديثها هذه المرة بحماس.
– يلا قومي البسي خلينا ننزل نشتري طقم جديد ليكِ عشان تروحي بيه الشغل بكره.
شعرت “خديجة” بالحرج من إخبارها أنها لا تملك المال الذي يجعلها تشتري ثوب جديد لكن “سارة” كعادتها كانت تفهم صمتها.
– متقلقيش أنا معايا فلوس هسلفك لحد ما تقبضي أول مرتب من الشركة لا وكمان هخليكي تعزميني في أفخم مطعم فيكِ يا بلد.
…
ضاقت عينيّ “ريناد” بدهشة وهي ترى “خديجة” تدلف المطبخ في هذا الوقت المُبكر على غير عادتها.
ارتشفت “ريناد” من كوب النسكافيه الخاص بها بتمهل ثُمّ تساءَلت :
– غريبة صاحية بدري يعني النهاردة لا و كمان لابسه ومتشيكة.
ارتبكت “خديجة” قليلاً ثُمّ تناولت عبوة النسڪافيه لتضع محتواها في الڪوب.
– النهاردة أول يوم شغل ليا.
أرادت “خديجة” مواصلة كلامها وإخبار “ريناد” بالشركة التي قامت بتوظيفها كمترجمة لمدة ستة أشهر لكن “ريناد” قطعت كلامها حين انفجرت ضاحكة تنظر إليها بنظرة مستخفة.
– اتقبلتي في شغل جديد وبعد شهر تطلع شركة تحت السلم وتقبضك مرتبك بالعافية اللي هو مجرد ملاليم.
قالتها “ريناد” وهي تضع الكوب خاصتها في حوض الجليّ ثُمّ غادرت المطبخ.
ارتسم الحزن فوق ملامح “خديجة”، فهي كانت تتمنى أن ترى فرحة شقيقتها بخبر توظيفها بنفس الشركة التي تعمل بها.
سكبت “خديجة” الماء الساخن بالكوب ثُمّ أخذت تقلب مسحوق النسكافيه بذهن شارد.
نفس الدهشة التي رمقتها بها “ريناد” كانت ترمقها بها والدتها أثناء إلتقاطها لحذائها لإرتدائه قبل مغادرتها.
تثاءَبت “ثريا” بنُعاس وهي تنظر إليها قائلة:
– أنتِ لابسه ورايحة فين؟
والرد لم تنتظر السيدة “ثريا” لمعرفته فقد اتجهت نحو المطبخ لتصنع فنجان قهوتها الصباحية قبل أن تعود لغرفتها مرة أخرى وترتدي ثيابها لتذهب للنادي الرياضي لمقابلة صديقاتها.
لم تكن المسافة طويلة بين مقر الشركة الرئيسي الذي ستعمل به ومحل إقامتها، فهي تسكن في حي المعادي الذي أصرت والدتها بعد عمل والدها بالخليج أن يشتري لهم شقة بتلك المنطقة.
شقة ووديعة بالبنك -أضاعتها والدتها على تلك المظاهر الزائفة- كان ثمن غُربة والدها ووفاته وحيد.
ذكريات كلما اخترقت عقلها تجعلها تشعر بالإختناق.
وصلت مقر الشَركة وقد عاد لعينيها نفس الإنبهار الأول؛ فأخيرًا ستعمل في شركة تستطيع فيما بعد التفاخر أنها عملت بها.
أرشدها مسؤول التوظيف على الدور الذي ستعمل به وأعطاها بطاقة الهوية الخاصة بها لتستطيع الدخول بها بعد ذلك لمقر الشركة دون التعريف بحالها وبالقسم الذي تعمل به.
– أنتِ لسا جديدة هنا؟!
تسألت بها إحداهن وهي تَمُد يدها لها لمصافحتها والتعرف عليها وتعريف نفسها لها.
– أنا “فريدة” موظفة في قسم المبيعات.
مدَّت لها “خديجة” يدها لمصافحتها وتعريف حالها.
– أنا “خديجة” موظفة في قسم العلاقات العامة.. هشتغل فترة هنا مترجمة.
رحبت بها “فريدة” بحفاوة، فـ “فريدة” كانت شخصية ودودة.
– إن شاء الله الصفقات تستمر بينا وبين الروس وتفضلي في الشركة.
تمنّت “خديجة” من كل قلبها هذا، فوظيفة بمرتب جيد وثابت حُلم الكثير.
– هسيبك بقى تشوفي شغلك عشان تثبتي نفسك لأن هنا الأستاذ “سامر” مش بيعدي غلطة خصوصًا للموظفين الجداد.
وقد تأكدت “خديجة” من هذا الأمر بعد نصف ساعة من وجودها.
وثائق عِدة قامت بترجمتها فهناك إجتماع بالغَد وستكون برفقة الرئيس التنفيذي للشركة.
– بكرة تكوني على مكتبك قبل الدوام بنص ساعة، مفهوم.
قالها السيد “سامر” ثُمّ غادر من أمامها.
لِكُلّ قسم مشرف خاص به ومن سوء حظها كان السيد “سامر” مشرف قسمها.
في وقت إستراحة الموظفين لم تتصادف مع “ريناد” وقد علمت أن الصيادلة والكيميائين تواجدهم معظم الوقت يكون بالمعمل أو بمصنع الإنتاج.
بالطبع أول يوم عمل لها كان عليها أن تقص لـ “سارة” كُلّ شىء قد حدث معها.
لم تهتم “ريناد” أو والدتها بمعرفة أي شىء عن عملها، فكل ما كان يهمهم أنها ستقوم بدفع قسط البنك وأي فواتير يتراكم سدادها.
باليوم التالي وكما طلب منها السيد “سامر” ذهبت للعمل مُبَكرًا عن موعد دوامها.
أخبرها السيد “سامر” أن الإجتماع الذي سيتم فيه مناقشة بنود الصفقة مع الشركاء الروس سيكون في تمام الساعه الثانية عشر ظُهرًا وعليها تجهيز العقود مترجمة والإستعداد.
عندما اِقتربت عقارب الساعة على موعد الإجتماع شعرت “خديجة” بأن معدل تنفسها يزداد.
حاولت نفض توترها جانبًا ثُمّ أَخذت تُجمّع الأوراق من فوق طاولة مكتبها واتجهت بعدها للطابق الذي أَخبرها السيد “سامر” بالتوجه إليه.
– كل حاجه مظبوطة؟!
تساءَلت “عايدة” وكما علمت منها “خديجة” بعدما عرفتها على حالها أنها سكرتيرة الرئيس التنفيذي.
وحتى الآن لم تنتبه “خديجة” على أمر ما وقد تغافلت عنه، هو ذلك اليوم الذي أخبرتها فيه “ريناد” عن هوية من ذهبت لمصافحتهم بالمطعم الذي عزمتها بِه .
– دكتور “خالد” وصل.
قالتها “عايدة” وقد تركتها واتجهت نحو “خالد” الذي كان يسير بجوار الشُركاء الروس ومعه “كريم” ابن عمه.
لم تتجه “خديجة” بنظراتها نحوهم بل أَشاحت عيناها عن الجهة التي اتجهت إليها “عايدة” واستدارت بجسدها لتتمكن من إخفاء ربكتها وإلتقاط أنفاسها.
دخل “خالد” غُرفة الإجتماعات ومعه من يُرافقونه واتجهت “عايدة” بخطوات سريعة نحو “خديجة” تهتف بضيق:
– مدخلتيش ليه ،يلا بسرعة.
– أصل أنا…
رمقتها “عايدة” بنظرة ممتقعة، ففي عملهم لا يوجد حجج وأعذار واهية.
أسرعت “خديجة” بالدخول للغرفة وعند دخولها رفع “خالد” عيناه ليقوم بتوبيخ “عايدة” بسبب عدم وجود المترجم الذي سيحضر معهم الإجتماع لكن الغضب غادر نظراته وهو يجدها أمامه.
ضَاقت عيناه وهو ينظر إليها وهي تحمل بعض الأوراق في يدها وتتحرك نحو طاولة الإجتماعات بتوتر لاحظه في حركتها.
اِتجه “كريم” إليها وعلى وجهه ارتسمت اِبتسامة ودودة دائمًا يستطيع رسمها وسَلب قلوب النساء.
على الفور تعرفت عليه وأدركت الأمر الذي تغافلت عنه…؛ هي بالمكان الذي رُبما ترى بِه الشخص الذي عركلتها “ليالي” نحوه واصطدمت به.
– حاولي تداري ربكتك أحسن الريّس يِسَمّعك كلام جميل بعد الإجتماع.
كان يُشير بكلماته نحو “خالد” الذي عندما اتجهت أنظارها إليه شحبت ملامحها..؛ إنها لا تحب التصادف مرة أخرى مع الأشخاص الذين يجمعها معهم موافق مُحرجة.
التقط “كريم” اسمها من البطاقة المعلقة حول رقبتها.
– يلا يا “خديجة”، الإجتماع هيبدأ.
قالها “كريم” بنبرة لطيفة ومع إسترخاء ملامحه وبساطته بالحديث شعرت بأن توترها يزول شيئًا فشىء.
أشاح “خالد” عيناه عنهم ثُمّ جلس على المِقْعَد ليبدأ الإجتماع.
لم يَكُن الأمر بالصعب كما ظنت، فالشركاء كانوا يدمجون اللغة الإنجليزية أثناء حديثهم مع اللغة الروسية مما جعل “خالد” و “كريم” يسهل عليهم الأمر بالتحاور معهم بجانب مترجمهم الخاص.
إنتهى الإجتماع بعدما تم الإتفاق على البنود ولم يبقى إلا التوقيع الذي تم تأجيله لـ الأسبوع المقبل.
نهض الشُركاء وقاموا بمصافحة “خالد” و “كريم” ثُمّ قاموا بتحريك رؤوسهم كتحية لـ “خديجة” التي حركت رأسها على الفور لهم.
تلاقت عيناها بعينيّ “خالد” الذي أشار لها بحركة من رأسه أن تتحرك معهم لمرافقة الشُركاء.
اِختفت ابتسامة “خديجة” فور أن استدارت بجسدها بعدما أنغلق باب المصعد بالشُركاء.
تلاقت عيناها بعينيّ “ريناد” التي كانت تقف مع أحدهم يتناقشون في أمر ما.
إِذْدَرَدَتٔ لُعَابها عندما رمقتها “ريناد” بنظرة قاتمة.
– آنسة “خديجة” من فضلك ورايا على مكتبي.
قَالها “خالد” ثُمّ اِتجه نحو المصعد الآخر ليتوجه إلى الطابق الذي به غُرفة مكتبه واتبعته سكرتيرته.
تعلقت أعيُن “كريم” بها مُنْدهشًا من تلك الحالة التي أصبحت عليها ولكن سُرعان ما ضاقت عيناه وهو يراها تنظر نحو “ريناد” التي أعطت الملف الذي تحمله للسيد “هشام” زَميلها.
– هو أنتِ تعرفي البشمهندسه “ريناد” ؟؟
أماءت “خديجة” برأسها وقد تقدمت “ريناد” منهما.
– دكتور “كريم”.
قالتها “ريناد” بإبتسامة سمجة.
فهي مُنْذُ ذلك اليوم الذي حضرت معه حفل الزفاف -وعلمت أن سبب اِصطاحبه لها من أجل قهر تلك الحبيبة التي فَضّلت عليه رَجُل آخر- وهي لا تطيق رؤيته.
– بتعملي إيه هنا يا “خديجة” ؟؟
قالتها “ريناد” في تساؤل رغم أن الإجابة كانت واضحة.
عند تلك اللحظة تذكر “كريم” رؤيته لـ “خديجة” من قبل.
– هي دي أختك يا بشمهندسه، أنا إزاي نسيت إننا شوفناها معاكِ في المطعم.
شعرت “خديجة” باِنَزِعَاج شقيقتها، لكن ضِيق “ريناد” قد إزداد وتجهمت ملامحها عندما أردف “كريم”.
– من موقعي هذا أقدر أقول إنك متعرفيش بتوظيفها في الشركة… الموضوع ده كويس لأن “خالد” هيسأل في النقطة دي لأنك عارفه يا بشمهندسه مافيش اتنين اخوات بيتعينوا في الشركة إلاّ إذا كانت خبرتهم ومؤهلاتهم نقطة قوية.
سحبت “ريناد” ذراع “خديجة” بعدما نظرت نحو “كريم” وقالت بنبرة معتذرة.
– بعد إذنك يا دكتور.
…
– أنتِ إزاي تشتغلي هنا من غير ما تقوليلي، شوفتي دلوقتي هتّسببي ليا مشاكل إزاي في شغلي.
هتفت بها “ريناد” بنبرة حَادة وهي تَنظُر إليها بنظرة تحمل الضيق.
شعرت “خديجة” بالإختناق من ردة فعل شقيقتها؛ فهي كانت تتمنى رؤية سعادتها لأنها توظفت في مكان كهذا.
– حاولت أقولك لكن أنتِ مهتمتيش.
– كنت فاكرة إنك اشتغلتي في شركة عادية مش شركة مش بيتوظف فيها أي حد.
أخفضت “خديجة” رأسها حتى لا ترى “ريناد” تلك الدموع التي اِلتمعت داخل مقلتيها بسبب قساوة كلماتها.
– قوليلي دلوقتي هنحل المشكله دي إزاي، أنا مش هخسر وظيفتي بسببك.
– متخافيش يا “ريناد” لو أتسألت اتعينت هنا إزاي هقولهم إنك مالكيش دخل في ده، غير إن أنا لفترة وهمشي، مجرد ست شهور وتعيني هينتهي.
– ست شهور بس؟؟
تساءَلت بها “ريناد” وقد ارتسمت على ملامحها الراحة لأن وجودها لأشهر قليلة لا غير.
آتى أحد المهندسين الكيميائيّن لشقيقتها وقد أخبرها بضروره التوجه إلى المصنع.
بمجرد أن دلفت لدورة المياة انفجرت باكية لا تُصدق أن شقيقتها لا ترغب بوجودها معها في مكان واحد.
لقد حولتها والدتها لشخصية أنانية لا تحب إلا نفسها.
مسحت وجهها من أثر الدموع ثُمّ نظرت لذاتها بالمرآة.
اِتسعت عيناها ذُعرًا ؛فهي نسيّت ما أمرها به صاحب العمل.
– أنا إزاي نسيت إنه قالي أروح وراه مكتبه، أعمل إيه أنا دلوقتي… شكلي هطرد من الشركة وكده “ريناد” هترتاح من عدم وجودي خالص.
أسرعت “خديجة” في تجفيف يداها ثُمّ غادرت دورة المياة واتجهت نحو الطابق الذي يوجد به مكتب الرئيس التنفيذي.
عندما رفعت “عايدة” عيناها عن الملف الذي أمامها رأتها تدلف الحجرة.
– أكتر من نص ساعة تأخير على دكتور “خالد”.
– أنا أسفة.
رمقتها “عايدة” بنظرة فاحصة وقد اندهشت من إحمرار عينيها.
– دكتور “خالد” مستنيكي في مكتبه.
أشارت إليها “عايدة” بالتوجه إلى مكتبه ثُمّ عادت تنظر للملف الذي أمامها.
– هو أنا كده ممكن اتطرد من الشركة ؟؟
تفاجأت “عايدة” من اِقتراب “خديجة” منها وتساؤلها.
ابتسمت “عايدة” وهي ترى نظرة “خديجة” لها وسُرعان ما اختفت ابتسامتها وارتسمت الجدية على ملامحها.
– أتفضلي يا أستاذة “خديجة”.
لا مفر من مواجهة صاحب العمل..
هكذا أَخبرت “خديجة” حالها وهي تتجه نحو غُرفة المكتب.
بخطوات متوترة دلفت الغرفة وقد كان “خالد” ينظر إلى السيرة الذاتية الخاصة بها.
– حضرتك كنت عايزني، أنا عارفه إني اتأخرت يا فندم… أنا آسفة على التأخير.
قالت “خديجة” كلامها دفعة واحدة، رفع “خالد” عيناه عن الملف الخاص بها ونظر إليها بنظرة كانت تحمل الجمود لكن سُرعان ما تبخرت وتحولت لنظرة تحمل لهفة وفضول صاحبها عندما رأي عيناها الذابلة التي إن دلت فستدل على بكائها.
سيطر “خالد” على ذلك الشعور الغريب الذي يُغرس داخله منذ حفل الزفاف الذي كان مدعو إليه وكانت قريبة منه بعدما وضع ذراعه حول خصرها ليمنعها من السقوط بعد فعلت صديقتها الواضحة للأعين.
– هحاول أتجاوز عن تأخيرك المرادي يا أستاذة “خديجة” ده أولاً.
تمتم بها “خالد” بعملية ثُمّ نهض من فوق مِقْعَده واقترب من مكان وقوفها.
– ثانيًا: توترك في غرفة الإجتماعات قدام العملاء مش عايز أشوفه تاني…
موظفين شركتي لازم يكونوا واثقين من نفسهم.
أسرعت في تحريك رأسها له دلالة على إستيعابها لما يُخبرها به.
اِتجه نحو طاولة مكتبه ليلتقط ذلك الملف الذي يُريد منها مراجعة بنوده بعد ترجمتها له بدقة.
– بكرة عايز نسخة من الملف ده مترجم.
– تمام.
قالتها “خديجة” وهي تلتقط الملف منه بِعُجَالة، مما جعله يُطالع فعلتها بدهشة.
شعرت بأنها فَعلت شىء خاطئ، فأسرعت في إعادة الملف له.
طالع الملف الذي تَمُده إليه ثُمّ طالعها وفي داخله كان يرغب بالضحك على فعلتها لكنه كالعادة تحكم في تعبيرات وجهه.
ارتبكت من نظراته إليها ثُمّ أسرعت في سحب الملف نحوها.
ولكي يُنهي هذا الموقف الذي يدعوه للضحك ابتعد عنها وعاد لمِقْعَده.
– اتفضلي على قسمك يا أستاذة “خديجة”.
تحركت “خديجة” لتُغادر الغرفة وقد شعرت أن أنفاسها الحبيسة ستصبح حرة أخيرًا لكنها توقفت ثُمّ استدارت بتوتر إليه.
– أنا شوفت إعلان الوظيفة من صفحة وظايف.
البشمهندسة “ريناد” متعرفش إني كنت هقدم على الوظيفة… هي اتفاجأت من وجودي.
عندما تعلقت عينيّ “خالد” بها… أخفضت عيناها وواصلت بتوتر.
– أنا عرفت إن من سياسة الشركة عدم توظيف الأقارب إلاّ إذا كان الشخص اللي هيتوظف مؤهل لكدة.
لم ينتظر “خالد” أن تواصل كلامها وعاد ينظر إلى سيرتها الذاتية التي عليها صورتها وقال:
– وأنتِ اتوظفتي هنا لأنك مؤهلة لكده يا أستاذة “خديجة”.
••••••••••••••
الفصل السابع
أَلْقَت “خديجة” نظرة سريعة نحو الملف الذي قامت بترجمته ڪَمَا ڪُلِّفَت.
برضى أغلقت الملف ثُمّ أغمضت عيناها قليلاً لعلها تستطيع طرد ذلك النُعاس الذي يُداعب جفونها فهي قضت الليل بأكمله مُنكبة على ترجمة الأوراق.
– آنسة “خديجة”.
قالتها “عايدة” التي أصبحت أمام مكتبها.
فتحت “خديجة” عيناها وسُرعان ما كانت تنهض من فوق مِقْعَدها.
– مدام “عايدة” ، أنا كنت لسا هطلعلك بالملف.
طالعتها “عايدة” بنظرة خاطفة ثُمّ ابتسمت.
– كنتِ هتطلعي بعد ما تاخدي غفوة سريعة ؟؟
شعرت “خديجة” بالحَرج ثُمّ تعلقت عيناها بالسيد “سامر” الذي طالعها بنظرة ثاقبة.
– أهم حاجة خلصتي الملف يا “خديجة”؟؟
دكتور “خالد” عايزه حالًا.
أسرعت “خديجة” بتحريك رأسها ثُمّ اِلتقطت الملف لتعطيه لها.
تناولت “عايدة” منها الملف ثُمّ فتحته لتتفحص الأوراق المترجمة بنظرة سَريعة.
نظرة راضية اِحتلت عينيّ “عايدة” بعدما وجدت عملها منسق و دقيق.
ابتسمت “عايدة” لها ثُمّ ناولتها الملف قائلة قبل أن تلتف بجسدها وتتحرك من أمامها.
– خمس دقايق وتكوني بالملف في مكتب دكتور “خالد”.
ثُمّ استطردت بنبرة تحمل التحذير.
– خمس دقايق وبس يا “خديجة”.
انصرفت “عايدة” عائدة إلى مكتبها.
نظرت “خديجة” إلى الملف الذي ظنت أنها ستعطيه لسكرتيرة مكتبه ثُمّ تتولى سكرتيرته أمر تسليمه وليست هي.
تحركت بالملف بعدما طردت هاجس الخوف الذي يحتلها من الإختلاط بالغُرباء.
لكن سُرعان ما ضاقت عيناها في حيرة وهي ترى نظرات البعض مُحدقه بها.
لم يكن زملائها بالعمل معتادين على وجود سكرتيرة مكتب الرئيس التنفيذي في قسمهم إلا للضرورة.
لكن أن تأتي من أجل موظفة لم يمر على وجودها سوا عِدة أيام بل وتطلب منها الصعود إلى مكتب الرئيس لأمر يثير إنتباههم.
ارتبكت “خديجة” من نظراتهم التي لم تفهمها ثُمّ أصابها الفزع وهي تسمع صراخ السيد “سامر” بهم.
-كل واحد يشوف شغله بدل ما أبدأ أخصم.
تحركت “خديجة” بخطوات تُشبه الركض نحو الطابق الذي يقبع به غُرفة الرئيس التنفيذي.
حركت السيدة “عايدة” رأسها بيأس من تأخرها.
– كده سبع دقايق يا “خديجة”
أرادت “خديجة” الإعتذار منها لكن “عايدة” أشارت لها بالتحرك نحو غرفة السيد “خالد”.
بتوتر دلفت “خديجة” الغرفة وفور أن إنتبه على وجودها نظر لساعة معصمه بملامح جامدة ثُمّ عاد لمطالعة الأوراق التي أمامه.
دقيقة وراء أخرى حتى مضت عشر دقائق وهي تقف مكانها.
نظرت لساعة معصمها ثُمّ إليه.
كادت أن تصدر نحنحة لعله نسِيَ وجودها فينتبه عليها لكن وجدته أخيرًا يرفع رأسه عن الأوراق التي أمامه قائلًا:
– دي تاني مرة أطلبك فيها وتتأخري، تأخيرك إن دل فهيدل إنكِ شخص مش ملتزم يا أستاذة “خديجة”.
ارتبكت “خديجة” من حديثه ثُمّ أخفضت رأسها.
– أسفه يا فندم مش هتتكرر تاني.
– أتمنى.
قالها بنبرة باردة شعرت بها “خديجة” ثُمّ رفعت رأسها وحاولت تفادي نظراته المترصدة.
إقتربت منه لتعطيه الأوراق التي أمر بترجمتها والنسخة الأخرى المترجمة.
تعلقت نظراته بها بعدما التقط منها الأوراق، فوجدها تتراجع للوراء قليلاً بارتباك.
انتقلت عيناه نحو الورق المترجم الذي نال إستحسانه بسبب تنسيقها للسطور وتوضيح البنود التي وضعها الشُركاء.
رفع “خالد” عيناه عن الأوراق وقبل أن يسلط عيناه عليها وجد “نورسين” تدخل الغرفة.
– “خالد” ، المعمل متأخر في تركيب العينة…
استمرت “نورسين” بالحديث بأمور العمل وعن الإهمال الذي يحدث بالمعمل الذي يُصنع فيه تركيبات الدواء.
شعرت “خديجة” بأن وجودها لا داعي له، فتحركت لتُغادر لكن صوت “خالد” أوقفها وقد أصاب جسدها رجفة من نبرة صوته.
– أنا أمرت إنك تتحركي.
ببطئ وحرج استدارت “خديجة” بجسدها تنظر إليه ثُمّ إلى “نورسين” التي قطبت حاجبيها وهي تُحاول تذكر أين رأتها من قبل.
…
قضمت “خديجة” قطعة من شريحة البيتزا ثُمّ أخرجت تنهيدة مرهقة.
– كنت فاكرة إن الشغل في شركة كبيرة هيكون مريح.
قالتها “خديجة” ثُمّ قضمت قطعة أخرى من شريحة البيتزا.
– كل الشغل متعب، أمتى نكون أصحاب بيزنس.
تمتمت بها “سارة” ثُمّ أسندت خدها على باطن كفها وتساءَلت:
– هو مالك الشركة عمره في التلاتينات؟؟
حركت “خديجة” رأسها دون إهتمام لكن “سارة” كانت مهتمة بالأمر.
– متجوز ولا مش متجوز ؟؟
نظرت إليها “خديجة” ثُمّ أجابت دون أن تنتبه إلى ما ترمي إليه.
– مش عارفه.
– إزاي مش عارفه يا “خديجة” يعني مشوفتيش دبله في ايده.
قطبت “خديجة” حاجبيها في حيرة من أسئله “سارة”.
– وأنا ليه أهتم إذا كان لابس دبلة ولا لاء.. هو أنا رايحة أشتغل ولا أهتم بالكلام الفارغ ده يا “سارة”.
تنهيدة قوية خرجت من “سارة” ثُمّ نظرت إليها بنظرة يائسة.
– يا “خديجة” التفاصيل دي مهمه… ما هو ما دام سنه صغير وأعزب ففي فرصة إنك تلفتي نظره ليكِ.
اتسعت حدقتي “خديجة” في صدمة من آراء “سارة”.
– متبصليش كده.
قالتها “سارة” عندما وجدت “خديجة” تنظر إليها بغرابة.
– ما إحنا مش هنفضل سناجل كده كتير… بقى عمرنا 26 سنه ومافيش حد قالنا كلمة بحبك..
قالت “سارة” كلامها بملامح ممتعضة يتخللها المرح.
– لا اتغيرتي يا “سارة”.
تمتمت بها “خديجة” بمِزاح ارتسم على ملامحها، فرمقتها “سارة” بنظرة شرسة.
– “سارة” يا حبيبتي نظرات صاحب كافية “Soul.Smell” فضحاه يعني ليكِ معجبين.
قطعت “سارة” كلام “خديجة” وبنبرة حانقة تمتمت.
– أهو قولتي نظرات مش أكتر ويمكن أكون أنا اللي بفسر تصرفاته غلط.
شعرت “خديجة” بحزن صدقتها.
فالتقطت يدها تسألها بعدما أدركت أن “سارة” تخفي شىء عليها.
– إيه اللي حصل وضايقك يا “سارة” …
هذه المرة زفرت “سارة” أنفاسها بحزن.
– حماة “نورهان” أختي كانت جيبالي عريس من يومين… رفضني عشان وشي فيه حبوب وإني مافيش فيا أي حاجة تجذب.
اِحتل الغضب ملامح “خديجة” وهي تنظر إليها.
– مين اللي وصلك رد العريس؟؟.
بنبرة حملت الضيق تمتمت “سارة”.
– حماة “نورهان”.
– ست قليلة الذوق لأنها لو كانت تعرف الذوق أو شمت ريحته حتى مكنتش قالتلك الكلام بالنص …
كانت على الأقل قالت مافيش نصيب ده لو كان العريس اللي جابته قال كده فعلاً.
رمقتها “سارة” بشبه ابتسامة، ورغم أن “سارة” تتسم بالروح القتالية التي لا يؤثر بها شىء إلا أنها أحيانًا تتأثر بالكلام الذي تُطعن به أُنوثتها.
– هو إحنا ليه قلبناها دراما تراجيديا يا “خديجة”.
مطت “خديجة” شفتيها بيأس من صديقتها صاحبة المزاج المتقلب.
…
بعد مرور عدة أيام..
آتى اليوم المقرر فيه إمضاء عقود صفقة الأدوية.
توجهت “خديجة” إلى الطابق الذي صعدت إليه من قبل في الوقت المحدد كما تم إبلاغها.
كان متبقي على قدوم الشُركاء الروس خمس دقائق لذلك وجدت غرفة الإجتماعات فارغة إلا من العامل الذي يضع زجاجات المياة ويرتب ما قام بوضعه على الطاولة و إحدى موظفات قسم السكرتارية التي تولت مهمه وضع الأوراق أمام كل مِقْعَد.
اعتدلت الموظفة في وقفتها وفعل العامل مثلها عندما دخل “خالد” الغرفة وجواره “عايدة” سكرتيرته.
اِستدارت بجسدها ناحيتهم لتقوم بتحيتهم لكن وجدت “عايدة” تُركز إهتمامها نحو ما يُخبرها به السيد “خالد” ويُشير عليه بتلك الأوراق التي تمسكها “عايدة”.
رَجُل عملي لڪنه وسيم وصَغير…
كيف وصل لتلك المكانه وهو بهذا العمر ليكون الرئيس التنفيذي لأكبر شَركة أدوية بالوطن العربي.
سؤال لا تعرف لما طرء بعقلها لكن سُرعان ما وجدت الإجابه فهو ابن رجل الأعمال الراحل “رأفت العزيزي” فكيف لا يحصل على هذه المكانة.
غادر هذا الأمر رأسها ثُمّ وجدت عيناها تنصب بتركيز نحو يديه الخالية من دبلة زواج.
اتسعت عيناها بصدمة من وقاحة تفكيرها.
فهل صارت تفكر بتلك الحماقات !!
وفي داخلها أخذت تتمتم.
” أنا إيه اللي بفكر فيه دا ، الله يسامحك يا “سارة” أنتِ السبب…”
نظراته هذه اللحظة كانت منصبه عليها، رؤيته لتلك الإمتعاضات التي اِحتلت وجهها فجأة بعدما كانت تنظر إليه ثُمّ هزها لرأسها وكأنها تُريد طرد شىء من رأسها.
لأول مرة يكون شديد الملاحظة نحو امرأة، شعور جديد عليه لا يُريد أن يعرف له تفسير.
انتبه على ما تخبره به “عايدة” ، فأسرع بإشاحة عيناه عنها.
– الشُركاء في الأسانسير دلوقتي يا فندم.
اليوم لم تشعر بالتوتر مثل المرة الأولى، شعرت بالراحة بعدما انتهى الإجتماع بإمضاء العقود والمُبَاركة من أجل إتمام صفقة الشراكة.
اندهشت “خديجة” بعدما وجدت أحد الشُركاء -وهو المدير التنفيذي للشركة الروسية- يدعوها لتناول العشاء معهم.
كادت أن تتمتم “خديجة” بالإعتذار وإخباره بأن هذا لُطف منه لكن وجدت “خالد” يتولى الأمر ويتحدث مع الشَريك بالإنجليزية -التي يفهمها الشريك الروسى-.
– نحن نقبل دعوتكم وسنكون بالمطعم في تمام الساعة التاسعة.
“التاسعة” !!
هكذا تمتمت “خديجة” بصوت خفيض…
فكيف ستسطيع حضور هذا العشاء وهي لا تملك ثوب أنيق تستطيع الحضور به.
…
اِلتقطت عينيّ “خالد” مكان وقوفها بعدما اتجه نحو المِصعد ليصعد إلى الطابق الذي به مكتبه.
استمر بالنظر إليها وهي تتحدث بالهاتف ومن حركة جسدها أدرك أنها حائرة.
ضاقت عيناه بحيرة وفضول وتحرك نحوها.
الشُرفة الداخلية التي يتمتع بها هذا الطابق كانت بعيدة بعض الشىء عن غرفة الإجتماعات…
هذا الطابق متسم بالهدوء لذلك استطاعت الإختلاء بنفسها.
توقف عن متابعة خُطواته بعدما استمع لنداء أحد الموظفين له.
– مش عارفه هعمل إيه يا “سارة” ، حاولت أعتذر لكن معرفتش.
تنهدت “سارة” ثُمّ استأذنت من إحدى زميلاتها بالعمل أن تهتم بعملها إلى أن تنتهي من مكالمتها.
– أنا هخلص شغلي على 6 إيه رأيك نتقابل ونشتري حاجة تحضري بيها.
– بقولك ميعاد العشاء الساعه 9 ولازم على الأقل أكون موجوده قبلها بربع ساعة.. مش مشكله يا “سارة” أنا هحاول اتصرف.
– تتصرفي إزاي يا “خديجة”، أنتِ هدومك كلها متنسبش عشاء عمل.. لازم تكوني أنيقة يا “خديجة”.
قالتها “سارة” بصوت خفيض وهي تُحاول التفكير معها في حل.
– أنا لو كان مقاسي قريب من مقاسك…
– أنا عارفه يا “سارة”.
تمتمت بها “خديجة” وهي تعلم أن صديقتها لم تكن لتتخلى عنها بإعطائها شىء من ثيابها إذا كانوا متقاربتين في الوزن والطول لكن “سارة” أنحف وأطول منها.
– أنا هشوف “ريناد” يمكن ألاقي حاجه عندها تناسبني… أو أحاول أعتذر من مستر “خالد”.
…..
عادت “خديجة” من عملها في تمام الساعة الخامسة.
بعُجَالة اتجهت لغرفتها تبحث عن شىء يناسبها لترتديه.
بعدما بحثت بين ثيابها التي جميعها قمصان نسائية طويلة وبناطيل واسعة من الچينز وجدت بلوزة من الستان باللون الأزرق.
خرجت أنفاسها بارتياح وهي تحتضن البلوزة.
– فاضل الچيبة والجزمة والشنطة…مش مشكله الشنطة يا “خديجة”… فكري دلوقتي في الچيبة.
استمعت لصوت شقيقتها بعدما عادت هي الأخرى من العمل تهتف بنفاذ صبر.
– في أكل هناكله ولا هنقضيها نواشف… ما “خديجة” هانم خلاص بقت موظفة في شركة وليها مواعيد عمل.
كالعادة لم تهتم السيدة “ثريا” بالرد على صياح ابنتها وأكملت مطالعة شاشة التلفاز.
أسرعت “خديجة” بالخروج من غرفتها، فلم يتبقى الكثير على موعد دعوة العشاء.
رمقتها “ريناد” بنظرة خاطفة ثُمّ اتجهت لخزانة ملابسها لتعليق سترتها.
خزانة “ريناد” كانت ممتلئة بالأثواب الأنيقة التي تناسب كل وقت عكسها.
ليتها تتعلم من هذا الأمر وتهتم بإنتقاء ملابسها لكن من أين تحصل على الثياب ووالدتها تضع على كاهلها قسط البنك -الذي عليها سداده شهريًا- وشراء ما يحتاجه المنزل من أغراض عندما تنتهي والدتها من صرف إيجار شقتهم القديمة والمعاش الشهري البسيط على أغراضها الشخصية …
عكس “ريناد” التي تتفضل عليهم بإعطائهم مبلغ بسيط من راتبها.
انتبهت “خديجة” من شرودها في أفكارها -التي لا تجني شىء- على صوت “ريناد”.
– في حاجه يا “خديجة”.
شعرت “خديجة” بالإرتباك ثُمّ فركت يديها بتوتر.
– “ريناد” ممكن تديني الچيبة السودة اللي جبتيها من فترة ومعجبتكيش لأنها طويلة.
طالعتها “ريناد” بنظرة فاحصة ثُمّ أكملت ﺣـَلّ أزرار قميصها وتساءَلت:
– عايزاها ليه ؟
لم تكن تُدرك أنها عندما تُخبر “ريناد” أنها مدعوة على عشاء عمل -برفقة رئيسهم السيد “خالد”- ستندلع ثورة “ريناد” عليها هڪذا.
– هحضر عشاء عمل مع الشُركاء الروس و دكتور “خالد”.
– بتقولي إيه.
صاحت بها “ريناد” بملامح احتلتها الصدمة والحقد معًا، هي التي تعمل بالشركة منذ ثلاث سنوات لم تسنح لها الفرصه لتكون بقرب رئيسها.
– أكيد أنتِ سمعتي غلط… عشا إيه اللي تحضريه مع دكتور “خالد”.
اِزْدَرَدت “خديجة” لُعابها من هجوم “ريناد” عليها ، فهي كانت تتمنى أن لا يتم دعوتها.
– مدام “عايدة” أكدت عليا مرتين في التليفون.
– كمان سكرتيره دكتور “خالد” بتتواصل معاكِ.
قالتها “ريناد” بتجهم وضيق فهي لا تستوعب ما تسمعه من “خديجة”.
– “ريناد” لازم أكون في المطعم الساعه 9 وأنا مش معايا غير البلوزة…
أرجوكِ يا “ريناد” سلفيني الچيبة وصدقيني مش هعمل فيها زي ما عملت في الفستان.
ومجرد ما أخد مرتبي هنزل اشتري ليا كام طقم شيك.
– وهتنزلي تشتري ليه وأنتِ مجرد شهور وهتنتهي مدة توظيفك في الشركة.
كانت تعلم أن شقيقتها تحب التقليل من أي إنجاز أو خُطوة تحصل عليها.
ابتسمت “خديجة” ابتسامة مصطعنه أخفت خلفها حزنها ولكي تجعلها تشعر أنها لا شىء مقارنةً بها -كما تفعل والدتهم دائماً-.
– عندك حق يا “ريناد” مجرد شهور وينتهي توظيفي بالشركة…
أنا عايزة بس أثبت نفسي في الكام شهر دول عشان شهادة الخبرة.
ده غير إني محبتش الشغل في الشركة وعايزه الأيام تعدي بسرعه.
شعرت “ريناد” بالرضى التام عندما وجدت “خديجة” تعرف مقدارها أمامها وحاجتها إليها.
اتجهت “ريناد” لخزانتها وأخرجت لها التنورة السوداء بل وأعطتها حذاء وحقيبة دون أن تطلبهم “خديجة” منها.
– خليكِ واثقة من نفسك قدامهم.
ابتسمت “خديجة” من قلبها وهي تستمع إلي نصيحة شقيقتها لكن سُرعان ما اختفت ابتسامتها عندما واصلت “ريناد” كلامها.
– وبلاش تاكلي قدامهم لأحسن أنا عارفاكي مبتعرفيش تاكلي بإتيكيت.
……
نظرت إلى الوقت بهاتفها ثُمّ نظرت للطريق، إنها تخشى التأخر كعادتها…
فهذه المرة سيتأكد رئيسها أنها لا تحترم مواعيدها.
– من فضلك ممكن تزود السرعه شويه.
تمتمت بها “خديجة” ؛ فاستجاب السائق لها.
نظرت مرة أخرى للطريق ليبدأ هاتفها بالرنين.
نظرت للرقم الذي يظهر على شاشة هاتفها، فهو ليس من ضمن قائمة جهات الإتصال لديها.
أجابت على الفور ظنًا منها أنه رقم آخر لمدام “عايدة”.
– مساء الخير، أستاذة “خديجة”.
ضاقت عيناها وهي تستمع للصوت الرجولي الخشن.
– أستاذه “خديجة” أنتِ سمعاني… أنا “خالد العزيزي”.
إنه صوته، هي لا تستوعب أن صاحب العمل يُهاتفها بنفسه.
ردت على الفور لكن نبرة صوتها خرجت متعلثمة..
– دكتور “خالد”، هو في حاجة حصلت… العشا إتلغى.
ابتسم “خالد” وهو ينظر للطريق أمامه.
فهو يعلم أن أكثر شىء كانت تتمناه اليوم أن يتم إلغاء عشاء العمل أو إعفائها منه.
– لا يا أستاذة “خديجة” مافيش حاجة اتلغت..
ثُمّ تمتم بلطف لا يستخدمه بالعمل أو مع موظفينه.
– أنا عارف إن كان نفسك يتلغي.
ارتبكت “خديجة” من كلامه ثُمّ أخفضت عيناها بخجل وكأنه يراها.
– أنا كنت عايز اتأكد هل أنتِ على الطريق… مش عايز تأخير المرادي.
ظنت أن كلامه هذه المرة يقوله بجديه لكنه كان يتحدث وابتسامته تشق ثغره.
– لا يا فندم أنا على الطريق، خمس دقايق وأكون بالمطعم.
بعد خمس دقائق
وقفت سيارة الأجرة التي تستقلها أمام المطعم .
ترجلت “خديجة” منها بعدما أعطت السائق أجرته.
نظرت لواجهة المطعم الذي تعلم موقعه تمامًا لكنها لم تُفكر بالدخول إليه يومًا، فالطعام لديهم مُكلف للغاية وفاتورتهم مرتفعة.
توقف “خالد” بسيارته ثم صفها بمكان خالي.
ترجل من سيارته ثُمّ قام بهندمت لياقة قميصه وجاكت بذلته.
عيناه تعلقت بها بعدما تعرف عليها، إقترب منها وقد عاد الشعور الذي يشعر به كُلما وقعت عيناه عليها…
بها شىء يجذبه لها لكن لا يستطيع معرفته.
– “خـديـجـة”.
خرجت أحرف اسمها من بين شفتيه دون أن ينتبه أنه تلاشي الرسميات في نطقه لاسمها.
بابتسامة لطيفة استدارت له وفي داخله تمنى ألاّ تبتسم له.
يتبع…