منوعات

شموخ أنثى بقلم ندى

خرجت هدى من الغرفة تبكي .. سارع اليها جوزيف “هل هي بخير؟” .. بانكليزيتها الضعيفة أخبرته “نائمة الآن .. هناك .. ” وحاولت ان تتذكر الكلمة باللغة الانكليزية لكنها فشلت فأستدارت الى زوجها تحدثه بالعربية ليراقب وجهه وقد امتنقع .. سأل جوزيف بتوتر “ماذا بها انجل؟” فرك سامح جبينه بعصبية “هناك آثار اعتداء على طول جسدها .. أصابع وخربشات وأثار اسنان كذلك” تراجع جوزيف الى الوراء “هل .. هل .. ” وخاف حتى ان يكمل السؤال لبشاعة الفكرة .. لم يستطع ان يتخيل كل برائتها تتوسخ بأصابع مجهولة .. هز سامح رأسه “لا نعلم .. تقول هدى انها لم تتكلم .. فقط كانت تبكي وتهذي بأشياء غير مفهومة” جلس جوزيف على المقعد منهكاً .. قلبه يطرق خوفاً .. ماذا حلّ بها؟ كله بسببه .. لو انه لحق بها .. لو انه حاول ان يعيدها .. لكن كبريائه الغبية منعته وها هي تعود اليهم مدنسة بأثار اعتداء من شخص لا يعرفه ولو عرفه لقتله.. غلت دمائه العربية .. لو انه يعلم فقط من فعلها .. لقطعه إرباً .. أنجل المسكينة الا ينتهي عذابها أبداً؟
*
راقبها تلاعب القطة بصمت التزمته طيلة يومين .. منذ ان استيقظت من نومها بعد ليلة عودتها العاصفة .. كلما نظرت اليه شعر بألم يخترق قلبه .. كانت تنظر اليه كأنها تشكوه او تشكو اليه .. تطلب المساعدة لا يعلم منه ام بسببه .. حاول ان يتكلم معها الجميع لكنها بقيت صامتة .. تنظر بخواء لكل من حولها .. لو انها كانت غاضبة كعادتها لكان هذا افضل .. هدوئها القاتل ينبئ بعمق الجرح .. قارب ان يكون مؤمناً ان هناك من سلب عذريتها منها .. كلما فكر بالامر شعر بشئ يحترق داخله .. وبغضب يتصاعد حتى يكاد ينفجر من رأسه .. رفعت رأسها فجأة .. وجهها جامد لكن عيناها كسيرتان ومتألمتان .. بلع ريقه بألم .. وتوسل اليها في قلبه أن تتكلم .. وضعت القطة عن حجرها ونهضت وتقدمت اليه .. الملابس السوداء التي استبدلتها بتلك الممزقة كانت اكبر من حجمها .. مما جعلها تبدو كطفلة ترتدي ثوب والدتها .. وقفت أمامه .. على وجهها مرت عدة مشاعر متضاربة همست أخيراً “كان جندياً” .. لقد حصل ما كان يخاف حتى ان يفكر فيه .. استدار عنها وضرب بقبضته الحائط بغضب وهو يصيح “اللعنة” ثم عاد يلتفت اليها وهو يتوسلها “هل فعل لكِ شئ .. ارجوكِ قولي .. هل .. هل ؟” هزت رأسها نفياً لسؤاله الغير مكتمل .. ترقرقت دمعة في عينها كسرت فؤاده وهي تكمل .. “كان موجودا اثناء اعتقالي .. أنا أعرفه .. وقد .. طـ .. طعنته في .. في صدره” شعر بأنه يملك الان طاقة غضب قد تدمر العالم بأسره ان اطلقها .. لكنه كبت ذلك الشعور الاحمر.. وهمس “صفيه لي” .. شعر بجسدها يقشعر كم تمنى ان يضمها اليه ويشعرها بالامان لكنه كان يعلم انه ان فعل لن تتذكر سوى ذراعي ذلك السافل بعد تردد قالت بتهدج “شعره اشقر وعيناه سوداوان .. طويل وضخم البنية” صاح جوزيف بغضب “مايسون .. سوف اقتله ذلك الوغد” اتسعت عينا انجل من وحشية مظهره فكبت غضبه امام خوفها وهو يقول “أسف لم اقصد اخافتك” اخفضت رأسها وهي تهمس بتوسل “يوسف” بلع ريقه .. صوتها المنكسر اذاب روحه .. لا يستطيع ان يراها بهذا الضعف وهذا الانكسار لقد تعودها قوية وسليطة .. احتفظ بأفكاره المؤلمة وهو يجيب بلطف “نعم انجل” رفعت رأسها اليه باكية “خذني من هنا” سقط قلبه في مكان بين قدميه .. لم يعد يستطيع ان يتحكم بأفعاله ولا بيديه اللتان امتدتا دون وعي منه لتلتفان حولها .. تصلب جسدها للحظة ثم استرخى ليستقر رأسها على صدره وتتمسك بكلتا يديها بقميصه وتبكي بحرقة وهي تردد “خذني من هنا”
*
يوسف مثل لها الخلاص الوحيد .. الامان الوحيد وسط المخاطر التي تحدق بها .. ماذا ستخسر اكثر؟ كادت ان تخسر شرفها .. ارتعشت عندما تذكرت لمسات المدعو مايسون .. وارتعشت أكثر عندما تذكرت كيف قتلته .. نظرت الى يديها .. واحست بها ملطختاً بالدماء .. لقد ارتكبت جريمة .. اراقت دم انسان .. حتى وان كان يتصرف بأبشع مما يتصرف الحيوان .. لكنه يبقى انسان .. كيف قتلته؟ .. نظرت الى وجهها في المرآة .. لقد صارت قاتلة ! .. همست لنفسها “ملاك انتِ قاتلة” ضربت بيدها على وجهها وهي تردد “قاتلة .. قاتلة” سقطت على ركبيتها وهي وهي تشهق ببكاء مرير .. وتضرب على وجهها بقوة اكبر “قاتلة .. قاتلة” صوت صرخة زينب جائتها من بعيد ثم سمعتها بذهن مشوش تنادي والدتها .. دخلت هدى تصيح “ملاك ماذا تفعلين” لكن ملاك لم تكن تعي شيئاً .. التزمت الصمت ليومين يتفاعل داخلها شعور الخوف والألم .. حاولت ان تقنع نفسها انها فعلت ما كانت مجبرة عليه .. لكنها لا تستطيع ان تنسى حرارة دم مايسون في يدها .. لقد طفح بها الصمت كيلاً فأنفجرت في صدمة متأخرة .. لطمت على وجهها وصوتها يعلو “لقد قتلته .. قتلته” حاولت هدى ان تمسك بيدها وتمنعها من ضرب وجهها الذي تحول الى لون الدم .. دخل بعدها سامح وجوزيف مسرعين لصراخ ملاك .. كلماتهم المطالبة ان تتوقف لم تخترق ضباب الصدمة .. قفزت من مكانها .. وهي تنظر برعب الى يدها ثم الى وجوههم الشاحبة قلقاً ثم ركضت الى الحمام فتحت حنفية المغسلة وراحت تغسل يدها مراراً وتكراراً بالصابون .. ثم رمت الصابونة واخذت من الرف علبة الكلور وافرغت نصفها على يدها وهي تفرك كفيها ببعض .. صاحت هدى برعب باكيه “ملاك ارجوكِ توقفي .. ارجوك” لكن ملاك واصلت عملها وهي تفرك يدها بحقد كأنها تريد ان تؤلم نفسها .. تقدم منها جوزيف وقال بصوت هادئ “توقفي” لكنها لم تستمع اليه مد يده يمسك بيديه ويبعدهما عن بعض فصاحت به “أتركني” لكنه لم يعرها اي اهتمام غسل يدها بالماء وامسك بهما جيدا وابعدها عن المغسلة ووقف امامه يقول بحزم “ستتوقفين حالاً .. لقد كنتي مجبرة .. انتِ لستي قاتلة .. كنتِ تدافعين عن شرفكِ ضد رجل خسيس وهذا لا يعد قتلاً .. هذا يسمى دفاع عن النفس” صاحت به باكيه “سمه ما شئت .. لقد ازهقت روحه” نظر اليها وقال بهدوء “أوليس هذا ما كنتم تفعلونه يوم العملية .. تزهقون الارواح” توقف جسدها عن الحركة .. بملامح جامدة نظرت اليه .. لتدفعه بعدها عن طريقها وترمي بنفسها في حضن هدى وهي تقول “انا لم اخطط لقتل احد .. قلت لمصطفى ان يتوقف .. لم أؤذي أحد” قال من خلفها “أذن أنتِ تعلمين شعوري جيداً .. كلانا وجهان لعملة واحدة” استدارت اليه حانقة “انا لا اشبهك .. انا لا اشبهك” ثم اعادت راسها الى حضن هدى التي اخذت تبكي وتربت عليها .. تجاهل ما قالته “اذهبي الى السرير انجل .. مرتاحة الضمير .. لقد قمتي بما هو صواب”
*
بعد أسبوع سألته على العشاء سؤالاً غير متوقع “متى سنسافر؟” .. رفع نظره اليها متفاجئاً .. وقال وهو يمعن النظر فيها “انتِ تعلمين بأننا لا نستطيع ان نسافر اذا لم نتزوج” .. صححت له “تقصد انا لا استطيع” هز رأسه نافياً “أنا لن أسافر دونكِ .. لقد الزمت نفسي بكِ مذ هربتُ معك” .. صمتت قليلاً وكأنها تفكر “وكيف سـ .. سـ .. ” وفر عليها صعوبة نطق الكلمة “سامح لديه صديق في دائرة العقود .. سيحرر لنا عقد زواج بأسمنا الحقيقي .. فوالدي يظنني تزوجتكِ قبل ان أهرب بكِ .. لذا نحن بحاجة ان يرى عقد زواجنا بأسمينا .. وسنسافر بجوازي سفر مزورين .. والدي سيتكفل بالامر .. سنقوم بزواج بسيط في الكنيسة .. سامح سيساعدنا في هذا ايضاً” إرتجفت ملاك .. ستتزوج من هذا الجندي.. لا حل امامها سوى هذا .. لكنه اصعب الحلول .. كيف يمكنها ان تفعل ذلك؟ هل بذلك هي تخون بلدها؟ يارب ساعدني .. صلّت بقلبها .. هي لا تعلم ما تفعل .. ضائعة ولا مخرج لديها سوى يوسف .. فهل من نجاة؟ نظرت الى سامح .. هذا الرجل المسكين الذي نعتته خائناً .. جزء منها كان لا يزال يعترض على وظيفته فهو مهما كان لا زال يعاون اولئك الوحوش .. لكن ما فعله وما يفعله لأجلها فاق الشهامة بمراحل .. الرجل يخاطر بنفسه وعائلته لحمايتها .. قفزت زينة لتقاطع الجو المتوتر وهي تهمس لملاك كأنها تتفق معها على شئ خطير “انظري ماذا سأفعل” ثم وقبل ان تعلق ملاك وجهت الحديث الى يوسف “يوسف .. ما رأيك بالبزونة الا تراها مزعجة قليلاً” هز رأسه نافياً ” لا البازونة كوليش هلوااا” ارجعت ملاك رأسها الى الوراء ضاحكة بعمق .. تشاركها زينة وبقية افراد العائلة .. لكم يبدو محبباً الى القلب وهو يتحدث بعراقيته المعوّجة .. هذا الرجل الغريب .. الذي سيصير زوجها .. عند هذه الفكرة توقفت عن الضحك ونظرت اليه من طرف خفي .. الى وجهه الحاد الملامح .. شفتاه الحادتي التكوين .. وشعره القصير المائل للشقرة .. عيناه الزرقاوين .. وجسده المنحوت بأتقان .. اجلت حنجرتها .. حسناً هل تنجذبين الان لجوزيف ميلر ؟ اصحي يا فتاة .. اصحي .. وبخت نفسها .. وسارعت بالنهوض من المائدة مدعية انها شبعت.
*
استمع محمد الى صديقه جاسم وهو يثرثر بذهن شارد .. مكالمته الاخيرة مع سوسن لم تطمئنه .. فقد كانت تبدو خائفة جدا على حالة مصطفى النفسية .. موت ملاك جعله ينهار تماماً .. مما ابطئ في شفائه .. انتبه على صوت جاسم وهو يقول” مابك يا رجل” رمش محمد “اعتذر بالي مشغول قليلاً.. ماذا كنت تقول؟” ضحك جاسم “آهٍ من الحب .. لقد كنت أقول ان اليوم مرت علينا اغرب قصة في العمل” .. جاسم يعمل في حراسة دائرة العقود وهو عمل ليس بالصعب .. ليس كعمله الذي سيستقيل منه بعد ايام قليلة ،، حاول محمد ان يجاري صديقه فقال “وما هي؟” اجابه جاسم “فتاة عراقية ستتزوج برجل امريكي” رفع محمد حاجبه بأستنكار “ماذا؟” .. هز جاسم رأسه مؤكداً كلامه .. “فتاة اسمها ملاك .. ستتزوج من رجل يدعى جوزيف .. احمد اخبرني بينما كنا ندردش فقد كلف بكتابة عقد زواجهما .. تحت سرية تامة .. لقد دفعوا له مبلغاً خيالياً ليبقي الأمر سراً لكن بما انني اقرب اصدقائه فقد اخبرني” شعر محمد بصدمة فاقت الوصف .. ملاك ، جوزيف .. أسمان يعرفهما جيداً .. لكن هل يمكن ؟ كيف؟ لقد ماتا .. لقد ماتا فكيف .. كيف؟ سارع يسأل “ما اسمهما الكامل؟” صمت جاسم محاولاً أن يتذكر ثم قال أخيراً “آآآه تذكرت .. اسمها ملاك رعد وهو جوزيف ميلر” هبّ محمد واقفاً كأن أفعى لدغته .. لايمكن ان يكون.. كيف يمكن ان يكون؟ سأله جاسم بأستغراب “ما الامر” اعتذر محمد “تذكرت علي اجراء مكالمة مستعجلة .. عن اذنك دقائق” ابتعد وهو يخرج هاتفه وسط ذهول صديقه .. رن الهاتف ومحمد يطرق بقدمه الارض نافذ الصبر حتى اتاه صوت سوسن “ألو” .. سألها فوراً “ما أسم ملاك الكامل؟” بأستغراب ردت عليه بسؤال “لماذا؟” .. قال بنفاذ صبر “سوسن اجيبي” قالت بذات الصوت المستغرب “ملاك رعد”.

 

الفصل التاسع
وقفت ملاك مع جوزيف أمام مذبح كنيسة مار يوسف .. كلها كان يرتعش .. بدءاً بقلبها انتهاءاً بأطرافها .. بجانبها وقف يوسف مهيباً وواثقاً .. بينما هي كانت خائفة وعلى وشك ان تهرب في أي دقيقة .. اختلست نظرة الى وجهه .. بدا كأنه غائب عن الحدث .. في مكان ما بعيد عن هنا .. ملامح غريبة ارتسمت على وجهه الذي تقلصت ملامحه بشكل يدل على ألمه .. هل يكره الزواج بها كما تكرهه هي؟ .. هل يراها واجباً عليه القيام به كما تراه واجباً مجبرة هي للقيام به؟ اخفضت رأسها .. لقد تمنت هذا اليوم .. اليوم الذي ستقترن فيه برجل يمنحها الحب والامان وقد تحققت امنيتها مع تغيير بسيط في التفاصيل .. قد يعطيها هذا الرجل الامان لكنه ابداً لن يعيطها الحب .. بينهما وقف الوطن حاجزاً شاسعاً لا مجال لعبوره او تجاوزه .. وقفت الآف الجثث تسد الطريق أمام اي سعادة محتملة قد تلوح في الأفق .. ارتعشت وقالت بصوت منخفض “أقسم لي مرةً أخرى انك لم تقتل أحداً” انتفض كأنه صحى من حلم ما .. نظر اليها بوجه غائم “أقسم برب العباد انني لم اقتل او اعذب او امس بسوء اي عراقي او غير عراقي” تنهدت وعادت تخفض رأسها .. ستتزوج هذا الرجل بعد دقائق وهي لا تعلم ابسط المعلومات عنه .. ولا تنوي ان تعلم .. سيفكان رباط زواجهما ما ان يصلا الى امريكا .. ابتلعت غصة .. ونهت دمعة من السقوط بقسوة .. هذا حلها الوحيد .. هذا حلها الوحيد .. ظلت تردد لنفسها هذا الكلام ..
*
تأملها جوزيف لدقيقة .. متشحة بالسواد كانها تذهب لمأتمها لا لعرسها الذي بالكاد يكون عرساً.. ليلةُ زفاف أسود .. فكر بتهكم مؤلم وهو ينظر اليها .. ملامحها متوترة وشاردة .. كان يعرف انها تمنع نفسها بالقوة من الهروب .. منظرها وهي ترتدي السواد تضارب بقسوة مع منظر فتاة اخرى وقفت يوماً على المذبح بكامل ارادتها تهديه اجمل ابتساماتها وترتدي له ثوباً أبيض يضاهي نقائها .. اغمض عينيه بألم وفكر بلويسا .. بشعرها الذهبي الذي تجمع فوق رأسها على شكل كعكة بسيطة والطرحة الشفافة التي انسدت على كتفيها .. بزينتها الخفيفة وقرطي اللؤلؤ الذي اهداه لها قبل زفافهما بيوم .. لويسا بدت يومها كأنها الخيال بعينه .. توترت ملامحه ألماً .. لويسا الجميلة التي كانت متلهفة لزواجها منه لا تشبه أنجل التي تقف بجانبه كأنها شاة تساق الى المذبحة.. تنهد كم يشتاق الى نظرات اللهفة التي كانت تمطره بها لويسا اثناء زواجهما .. كم يشتاق للويسا .. عرسهما الابيض لا يشابه في شئ زفافه الأسود هذا
*
رفع الأب صليبه ليبدأ بقداس الأكليل وهو القداس المخصص للزواج .. اخفضت ملاك رأسها كما فعل جوزيف خشوعاً .. واستمعا معا الى صوت الأب الهادئ وهو يردد دعواته لهما بالبركة والسعادة .. صوته انساب في أذنها “اطّلع على عبديك .. ثبت اتصالهما.. أحرس مضجعهما نقيا.. استرهما مع بيتهما بيمينك غير المغلوبة.. نجهما من كل حسد.. احفظهما باتفاق واحد وسلام.. هب لهما فرحا وسرورا” .. شعرت ملاك بوخز في صدرها .. هذا الكلام لا ينطبق عليهما .. هذه الدعوات لا يجب ان تكون لهما .. فهما لن يكونا في مضجع واحد ولن يكونا على اتفاق يوماً .. اما الفرح والسرور فقد بدتا كلمتين مردافتين لكلمة المستحيل .. دمعة يتيمة وجدت طريقها الى خدها .. كم تمنت هذه اللحظة .. مع مصطفى .. عضت على شفتيها تمنع نفسها من الشهيق .. آهٍ يا مصطفى .. كم حلمت بكْ .. كم حلمت بزيارة المسجد اتمم معك زواجي على دينك .. وزيارة الكنيسة اتمم بها زواجي على ديني .. كم تمنيت ان ننجمع بدينين مختلفين و دوما متحدين بحب الوطن وحبنا .. استمعت ملاك بذهن غائب الى الاكاليل التي يتلوها الاب .. اكاليل مقدسة وروحانية مما جعلها تشعر انها تخدع الرب بزواجها هذا .. فهو لا يتعدى زواج مصلحة .. ماذا بقي هناك يا ملاك لم تستبيحيه؟ لقد استبحتي حبكِ لوطنكِ وربطتي مصيركِ بمصير جندي محتل .. استبحتي حرمة الدم وقتلتي نفساً بشرية .. ثم ها انتي تستبيحين حرمة الرب وتهزأين بقدسية الزواج لتتزوجي لأجل مصلحة .. اهتز جسدها يهدد بالبكاء .. فشعرت بيد يوسف تضغط فوق يدها كأنه يحذرها من البكاء .. سحبت يدها بشئ من العنف وتنفست بعمق .. سينتهي كل شئ قريباً .. يجب ان ينتهي .. قبل ان تتمالك نفسها وجدت يد الأب تأخذ يدها برفق ليدس في اصبعها خاتم زواج .. لم تعلم متى اشتراه يوسف .. خمنت لربما سامح من فعل .. شعرت بمعدن الخاتم الذهبي البسيط كأنه قيد من الحديد يلتف حول رقبتها لا حول اصبعها .. اهتزت يدها بشكل ملحوظ .. لكن الأب عزاه الى خجلها .. وتحول ليضع خاتم يوسف في اصبعه ليعود فيمسك يدها اليمنى ويضعها بيد يوسف .. كادت ان تهرب .. اقسم جوزيف على ذلك .. أستطاع ان يشعر بقدمها ترتفع كأنها تريد ان تؤتي حركة ما .. لكنها في اخر لحظة تراجعت .. يدها باردة جدا في يده .. وبينما كان الاب يلف يدهما معا بلفاف ابيض دليل ارتباطهما .. كان جوزيف ينظر الى وجه ملاك الشاحب شحوب الاموات .. شفتاها ترتجف بخوف وانفاسها تعلو وتهبط كأنها في سباق .. ورآها كيف جفلت حين نظر اليهما الاب بإبتسامة وهو يردد على مسامع جوزيف “يجب عليك أيها الابن المبارك المؤيد بنعمة الروح القدس أن تتسلم زوجتك في هذه الساعة المباركة بنية خالصة ونفس طاهرة وقلب سليم، وتجتهد فيما يعود لصالحها وتكون حنون عليها وتسرع إلى ما يسر قلبها” .. علم لماذا جفلت .. فهي تؤمن انه لن يكون يوماً الرجل الذي سيحقق كل هذا .. الرجل الذي يعطيها الحنان ويدخل السرور الى قلبها .. وقد تكون على حق .. كل ما يفكر به هو ان يخلصها من هنا .. ان ينقذ اخر بقايا انسانيته من خلالها .. وأن يأخذها بعيداً عن الخطر .. لعل الاصوات التي تصيح في مسامعه كل ليلة عندما يغفو تخفت قليلاً أو لعل الم ضميره يهدأ لمرة .. ثم أشفق عليها عندما استدار اليها الاب يوصيها بطاعة زوجها وحبه اتسعت عيناها عندما ذكرت كلمة الحب .. كأن الاب كان يتكلم عن شئ خيالي .. عندما حان وقت ركوعهما ليباركهما الأب معا اضطر ان يشد على يدها منبهاً اياها لتركع معه .. ركعت ذاهلة .. بوجه مصفر وجسد مرتعش .. بعد قليل كان الاب ينهي مراسم زواجهما بقوله وهو يبتسم بحنو “امضوا بسلام ، سلام الرب ليكن معكم” .. ما ان انهى جملته واستدار ليتحدث مع سامح حتى هجمت وهي الكلمة الأكثر قرباً لعنف تصرف ملاك على الرباط الأبيض الذي يجمع يديهما وراحت تحاول ان تفلته بشراسة .. ابعد يدها اليسرى وبحركة سهلة فك الرباط فتحررت يدها .. ضمت يدها الى صدرها تفركها .. دون ان تنظر اليه .. رأى دموعها تتلألأ في عينيها .. واشفق عليها .. لقد تزوجت دون أرادتها .. لا بد انها كانت تحلم بعرس خيالي ككل البنات .. وعوضاً عن هذا ماذا نالت؟ عرسا لا يحضره سوى سامح وهدى وترتدي فيه ثوباً اسود كالليل لترتبط بآخر رجل على وجه الارض قد تفكر في حبه .. هل ستتفهمه ان ضمها الآن محاولاً بث الامان في روحها المرتشعة؟ أبداً لن تفعل .. بل ستفتعل مشهداً قد يجعل الاب الطيب يفغر فمه صدمة متسائلاً عن صدق هذا الارتباط .. نهضت من مكانها .. ومشت نحو الخارج بخطوات سريعه كادت توازي الركض .. تبعها بخطوات أبطأ .. هو يعلم تماماً أنها في حالة صدمة .. لقد وصلت الى الطريق الذي لا مفر منه .. بعد قليل سيذهب سامح لأخذ عقد الزواج الرسمي بتاريخ اقدم .. وهكذا فهي زوجته امام الله والقانون .. ولا بد انها تكاد تنفجر من كثرة الضغوط حولها .. يا الهي يا ملاك .. ألا يمكن ان افعل شيئاً لآمحو نظرة التعاسة التي تعتلي وجهكِ البرئ .. تنهد جوزيف ووقف بعيداً عنها ينظر اليها وهي تحاول ان تجمع شتات نفسها .. غير قادر على فعل شئ .
*
وقف محمد ينتظر مع صديق جاسم ، أحمد، الشخص الذي سيأتي لأخذ عقد زواج ملاك .. لم يخبر سوسن بالأمر .. لم يخبر أحداً .. عليه ان يتأكد أولاً فأمر كهذا سيحدث صدمة كبيرة خصوصاً لمصطفى .. من بعيد جاء رجل يعرج قليلاً .. قال أحمد “ها قد أتى”.. تقدم الرجل الثلاثيني وحياهم .. نظر الى محمد بأستغراب فأوضح أحمد “صديق .. لا تقلق منه” رمقه الرجل الذي يدعى سامح بنظرة غير ودية الا انه اشاح بصره ليسلم كيساً بلاستيكياً لأحمد .. خمن محمد أنه ثمن العقد .. سلمه احمد العقد .. شكره سامح وابتعد .. قال احمد “هل ارتحت؟ لا اعلم حقاً لماذا اردت ان تأتي” هز محمد كتفيه “قلت لك شعرت بالفضول” نظر احمد اليه بتشكك “لا اصدقك” ربت محمد على كتفه وادعى الضحك “صدقني والله” ثم استأذن ليذهب … ركب سيارته ولحق بسامح الذي كان يسير ببطئ ليلحق بالباص .. وعندما وصل ركبه سامح بينما تبعه محمد بسيارته .. وصل الباص الى حي فقير من احياء بغداد .. ترجل سامح ومشى نحو زقاق صغير .. اوقف محمد سيارته على الرصيف واحكم اغلاقها ثم مشى بحذر خلف سامح الذي دخل بيتاً متداعياً .. وقف محمد للحظات لا يعلم ماذا يفعل .. لكنه في النهاية قرر ان المواجهة خير وسيلة .. طرق باب البيت الحديدي فلم يجبه للحظات سوى الصمت .. خرقه بعد ذلك وقع اقدام وصوت نسائي يقول “من؟” ارتفع صوته “انا محمد” .. انفتح الباب عن سيدة شابة ترتدي الحجاب كيفما اتفق .. قالت له “تفضل اخي” فقال دون مواربة “اريد ان اتحدث الى ملاك” امتعق وجه المرأة وكان الحياة سحبت منه .. قالت بتلعثم “ليس لدينا احد بهذا الاسم ” من بعيد لمح في حديقة البيت فتاة تجلس منحنية الرأس تلاعب قطة وقد بدا عليها الشرود .. خمن بسرعة انها ملاك .. فإرتفع صوته منادياً “ملاك” رفعت الفتاة رأسها تلقائياً واتسعت عيناها دهشة وصاحت “يوسف” لحظة فقط وخرج رجل يجري اليها من المطبخ .. استوعب محمد المنظر ذاهلاً .. الرجل لم يكن عراقياً كتفه كانت محاطة بلفافات بيضاء لكنه كان يحرك يده بأريحية .. اذ يبدو ان اصابته بسيطة .. شقرة شعره تحت ضوء الشمس اعطت شرحاً وافياً لمن يكون .. صاح قبل ان يأتي احدهم بفعل “أنا محمد خطيب سوسن أخت مصطفى” الجميع نظر اليه مذهولاً حتى سامح الذي خرج مسرعاً ليرى ما الامر .. تقدمت ملاك بخطوة مترددة حاول الجندي منعها لكنها ابعدته وهي تتقدم كالمنومة مغناطيسياً وهمست “انت محمد؟” .. نظر الى جوزيف الذي هب يقف قرب ملاك كأنه يحميها بحدة واعاد نظره اليها “هل يمكن ان ادخل؟” .. توسلت ملاك بعينيها لسامح الذي قال بهدوء “تفضل” اخلت السيدة التي خمن انها زوجة سامح الطريق له ليدخل .. مشى محمد الى الداخل تتبعه اربعة اجساد في حالة صدمة

انت في الصفحة 7 من 24 صفحات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
20

أنت تستخدم إضافة Adblock

انت تستخدم اضافة حجب الاعلانات من فضلك تصفح الموقع من متصفح اخر من موبايلك حتي تقوم بتصفح الموقع بشكل كامل