منوعات

شموخ أنثى بقلم ندى

كانت تعتقد من شدّة عنفوانها
أنّ الكرة الأرضية صغيرة عليها..
ولهذا حزمت حقائبها،
وانسحبت على أطراف أصابعها،
دون أن تخبر أحداً..

\

لم تكن خائفة أن يقتلها الوطن
ولكنّها كانت خائفة على الوطن
أن يقتل نفسه..

\

كسحابةٍ حبلى بالشِعر..
نقّطت فوق دفاتري
نبيذاً.. وعسلا.. وعصافير..
وياقوتاً أحمر..
ونقّطت فوق مشاعري
قلوعاً.. وطيوراً بحريةً
وأقمار ياسمين
بعد رحيلها،
بدأت عصور العطش
وانتهى زمن الماء..

\

كان حبّها العراقيّ
له طعم الورد.. وطعم الجمر..
وكان إذا فاض في موسم الربيع
كسر جميع السدود..
وكسرني عشرين ألف قطعة..

\
قبل أن يتركني شعرها الذهبي
ويسافر..
لم أكن أعرف أبداً
أنّ من بعض هوايات العصافير..
تجميع سبائك الذهب..

\
عندما تموت امرأة جميلة..
تفقد الكرة الأرضيّة توازنها
ويعلن القمر الحداد لمئة عام
ويصبح الشعر عاطلاً عن العمل
\

لم تكن تعترف بأوساط الحلول
حضورها كان استثنائياً..
وحديثها كان استثنائياً..
وشعرها الذي كان يسافر في كلّ الدنيا..
كان حادثاً استثنائياً..
لذلك..
كان موتها استثنائياً مثلها…..
\

ما كان لهذه المرأة أن تعيش أكثر..
ولا كانت تتمنّى أن تعيش أكثر
فهي من فصيلة الشموع والقناديل
وهي كاللّحظة الشعرية
لا بدّ لها أن تنفجر قبل آخر السطر
إنفجر مصطفى باكياً .. لقد كتب نزار رحيل ملاك كأنه كان يعرفها .. نعم لقد كانت كثيرة على هذه الحياة وكثيرة عليه وكثيرة على هذا الوطن المتهالك .. الذي تنهش به الضباع من كل جزء في جسده حتى صار نزفه اكبر من المساحة المُراق عليها دمه .. وصار جرحه اكبر من حجم الطعنة .. لقد ماتت ملاك لانها ارادت ان تكون حرة .. ماتت وتركته سجين عذاب فراقها وعذاب ضميره .. وقع اقدام راكضة اتبعها ذراعين حنونتين احاطتاه جعلته يجهش بالبكاء أكثر .. صوت سوسن الباكي توسله “لا تبكِ يا حبيبي لا تبكِ” سقط الكتاب من يده وامسك بكتفي اخته وبكى على صدرها وهو يردد “لقد قتلتها .. قتلتها”
*
جلست ملاك في فراشها .. تفكر في ما آل اليه حالها .. “مصطفى” تردد اسمه في قلبها .. فأوجعها .. نظرت الى ملابس الحداد التي ترتديها .. وقد اقسمت لنفسها انها أبداً لن تخلعها .. ابداً لن ترتدي في حياتها غير السواد .. فاللون يتماشى تماماً مع عتمة روحها دون شمس وجوده .. غطت كفها بوجهها وانتحبت .. ها قد خسرت كل شئ .. خسرت مصطفى حاميها وليثها الهمام .. وعما قريب ستخسر وطنها .. لكم حلمت مع مصطفى بوطنٍ حر.. بعراق مزهر ومشرق .. بأطفال يذهبون الى المدرسة دون خوف .. بأمهات يودعن أولادهن وهنّ على اتم الاطمئنان انهم عائدون في الظهيرة الى احضانهنّ .. لقد حلمت بعراق واحد .. كبير ودافئ وخالي من الاحقاد.. فهل كانت احلامها مع مصطفى اكبر من طاقة هذا الوطن المجروح واكبر من طاقتهما؟ هل اخطأت حين ارادت الحرية لنفسها .. لجيرانها ولجيران جيرانها ولمدينتها ولبلدها وللعالم بأسره .. هل اخطأت حين آمنت ان تحقيق المستحيل يبدأ بعدم رؤيته مستحيلاً؟ ارجعت رأسها الى الخلف تستند الى الوسادة .. ماذا عليها ان تفعل؟ هي حتى لم تسأل يوسف عن كيفية هروبهما .. هي لا تهتم أبداً .. أبداً لا تهتم .. حالما تذهب الى المكان الموبوء الذي اتى منه صاحب العيون الباردة ستتصل بخالها .. وستجد وسيلة لتصل اليه .. وتتخلص من كل هذا الكابوس المرعب ..
نهضت من مكانها بتثاقل.. البيت هادئ على غير العادة .. عدلت ثيابها ولم تحفل بشكلها المرهق وشعرها المشعث فهي لا تنوي جذب اهتمام احد .. خرجت من الغرفة تمشي على مهل .. في الخارج كانت اصوات التؤامين تملأ المكان صخباً .. ابتسمت لا ارادياً .. كم تحسدهما لخلو بالهما .. لا شئ يهمهما سوى اكمال الواجب المدرسي لتخرجا الى الحديقة .. نظرت اليهما عبر النافذة وتهيأ لها انها ترى نفسها واختها ماريا .. شعرت بغصة .. ماريا .. كم تفتقدها .. لماذا يرحل كل احبائها بتلك الفجائية والقسوة .. كيف لها ان تحتمل فراقهم الواحد تلو الاخر .. كيف؟ .. اهتز كتفاها برعشة بكاء خفيفة .. شهقت تحاول ان تسيطر على نفسها .. من خلفها جاء صوت يوسف يسألها بتردد “انجل انتي زينااا؟ا” استدارت اليه ، هذا ما كان ينقصها .. اجنبي بلسان اعوج يتكلم لهجتها بشكل مضحك .. وهي الان ابعد ما يكون عن الرغبة في الضحك .. قالت بضجر “تكلم بالانكليزية فأنا افهمها” عبس قليلاً لكنه كرر سؤاله بالانكليزية “هل انتي بخير؟” ابتسمت له بسخرية “وماذا ترى؟ فقدت للتو الملجأ الذي أواني وبت ملاحقة من عصبة وحوش كما وان حبيبي قد توفي منذ ايام .. ماذا تظن؟” رأت عضلة فكه تنفر .. هذا الشئ الوحيد الذي دل على انفعاله .. غير ذلك فأنه وقف جامدا يستمع اليها بوجه بارد ليقول بصوت أبرد “كنت فقط اتسائل .. فلماذا تهجمين كالـ بازونة؟” قال كلمة “قطة” بالعربية وبلهجتها كذلك .. لم تتمالك ملاك نفسها .. فضحكت بصوتٍ عالي جعله يجمد مكانه وكأنه يرى أمرأة ممسوسة قالت من بين ضحكتها “بازونة؟ ماهذا ؟ سلاح جديد؟ يوسف انت مضحك حقاً” نظر اليها بتفكير وكأن يحاول ان يقرر على ماذا سيأخذ كلماتها بالضبط .. على انها مدح ام ذمّ؟ ويبدو انه في النهاية قرر ان يأخذها مدحاً إذ كشر بطريقة طفولية وهو يقول “انا احاول ان اتعلم” اختفت ملامح المرح من وجهها فجأة كما حلت فجأة فعاد وجهها شاحباً خالياً من المشاعر .. اجلت حنجرتها وهي تستدير نحو النافذة “لا داعي ان تتعلم فأننا مغادرون قريباً” شعرت بغصه هددت بنوبة بكاء جديدة لولا انه انقذها بقوله “لقد حضرت الطعام هل تأكلين؟” نظرت اليه بأستغراب “وهل تطبخ؟” رفع ابهامه في علامة “أوكي” وهو يقول بفخر “ولن تتذوقي الذ من طبيخي” رفعت حاجبها “حسناً انت تفاجئني بمهاراتك” رفع يده ونفخ عضلاته وهو يقول “انا رجل متعدد المواهب” مشت امامه متجاهلة رائحة النظافة التي تصدر عنه طبيعياً وهي تقول “سنرى” ..
بعد نصف ساعه ارجعت ملاك ظهرها الى الوراء لتستند الى المقعد الخشبي في المطبخ وهي تقول “حسناً .. اعطيك تسعه من عشرة” .. عبس متظاهراً بعدم الرضى “لكنني استحق عشرة .. هيا اعترفي” هزت رأسها نفياً “ينقص الرز بعض الملح .. اذن تسعه” ساومها “تسعة ونصف” هزت رأسها مصرة على موقفها “لا” .. نهض يجمع الاطباق وهو يقول “تغارين لأنني ماهر” تهكمت “ماهر لدرجة انك نسيت الملح” .. قبل ان يجيبها .. دخلت زينب تركض نحو ملاك وهي تقول “انجل انجل .. تعالي وانظري لقد وجدنا قطة جميلة” نظرت ملاك الى جوزيف بحنق وهي تقول “لقد علمتهم على انجل .. سأرش الملح فوق رأسك” اخرج لها لسانه مغيظا أياها .. امسكت المملحة وهي تقول “أخرجي قبلي زينب سأحضر حالاً” وما ان خرجت زينب راكضة حتى وقفت بجانبه ترفع نفسها على اطراف اصابع قدمها لترج المملحة فوق رأسه فيتساقط الملح بين خصلات شعره .. رغم انه كان يستطيع منعها الا انه حقيقة استمتع بعقابها .. للحظات بدت على قيد الحياة مرة اخرى .. رغم الثوب الأسود الذي ترتديه .. بدت بريئة ونضرة وتناسب سنها الصغير .. لذا تركها تستمتع برش الملح فوق شعره وهي تبتسم بأنتصار ثم تضع المملحة على الطاولة وتهرب الى الحديقة .. بعد دقائق كانت هناك صيحات ابتهاج مختلفة .. لكنه ميز صوت انجل بسرعة .. أنجل تصرخ مرحاً؟ منذ ساعات كانت تذرف دموعها دماً .. يا لتلك الفتاة المتقلبة المزاج التي تسعد بأصغر الاشياء وتحزن لذات السبب .. خطى نحو الحديقة دون ان تلاحظه الفتيات الثلاث .. كانت انجل تجلس على العشب تداعب قطة صغيرة لونها ابيض ورمادي .. والقطة تحرك يديها مع اصابع انجل التي كانت تضحك بمرح بينما تصفق التؤمتان بأبتهاج .. انجل مجرد طفلة .. حرمت من ابسط اسباب الفرح والطفولة .. وكم تمنى ان يكون له القدرة ان يعوضها عن كل ما مرت به في حياتها .. ترى هل ستسمح له؟ وعرف ان الاجابة “لا” قبل ان يجرب حتى .. تنهد وراقبها للحظات اخرى قبل ان ينسل الى الداخل لينظف بقايا الملح عن خصلات شعره.
قبل ان يدخل الحمام رن جرس الهاتف النقال الذي اشتراه له سامح خصيصاً ليتصل بوالده .. نظر الى الرقم ضغط زر الاجابة وهو يقول “ما الأمر أبي؟” .. بعد عشرين دقيقة اغلق الخط وهو يشتم .. لقد حصل ما كان يخافه .. والده يرفض تهريب ملاك .. تباً له .. لكنه رد عليه بما الجمه تماماً .. لم يكن أمامه حلٌ آخر .. ترى هل ستقتله ملاك بيديها العاريتين ام ستستخدم آلة حادة .. فهو على علم تام بأنها ستقتله !
*
انتظر حتى عودة سامح وهدى ليفجر قنبلته .. شكل ملاك لم يكن خاضعاً للوصف في تلك اللحظة .. كان غاضبة جداً وشاحبة جداً وتتصرف كأن الجنّ قد ركبها وهو لا يلومها لذا وقف كعادته جامداً يتلقى ثورتها وهي تصيح به “ايها الحثالة كيف تفكر لمجرد تفكير اني قد أقبل الزواج بك؟”
أعاد عليها الكلام مرة اخرى “قلت لكِ والدي يرفض تهريبكِ .. اضطررت ان أقول له اننا متزوجان حتى يكون مجبراً على انقاذكِ .. فهو لن يدع احداً من آل ميلر يتعرض لشئ ما حفاظاً على سمعة العائلة”
ضربت برجلها الارض حنقاً وهي تصيح “لتذهب انت وميلر الى الجحيم .. من قال اني اريد ان اهرب؟ افضل ان اقتل نفسي على ان اتزوج بك .. هل انت مجنون .. انت مجنون بالتأكيد مجنون” .. تكلم بهدوء اغاظها “يا انجل أبي لن يقتنع بزواجنا حتى يرى ما يثبته .. عقد مثلا .. مجرد ورقة اخلصكِ منها ما ان نصل الى امريكا .. وهذا وعد مني” تقدمت منه بخطى اجرامية وهي تقول “لن اتزوجك حتى لو قيل لي انه السبيل الوحيد لدخول الجنة .. اضرب رأسك انت ووالدك في الحائط .. لن اتزوج منك ولو على جثتي” .. حاول سامح ان يتدخل ليقنعها بأنه الحل الوحيد لكنها صرخت “هل تقنعونني ان اتزوج جندياً يقتل ابناء بلدي .. لماذا لا احد يفهمني .. كيف اتزوج من رجل قتل مصطفى ودمه لم يبرد بعد؟ كيف كيف؟ ” ثم حولت نظرها الى جوزيف وهي تقول “اقسم بالرب لا أحب الى قلبي الان من قتلك .. اقتلك مئة مرة ولن اشفي منك غليلي يا وغد .. اذهب انت وهروبك وعائلتك الى الدرك الاسفل من جهنم ..” تقدمت نحو باب المطبخ وهي تقول “ساخرج منها وأقسم انني لن اتوانى عن قتل من يلحق بي.. اخر زمن .. انا اتزوج من وحش .. والله الموت احب الي..” بصقت على الارض وعينيها مثبتتان بقرف على وجه جوزيف تهينه .. وقبل ان يتخذ احدهم اي خطوة خرجت تركض كأن الشياطين تلاحقها ..
*
استقبلها الاب زكريا بأبتسامة ودودة كانت في أمس الحاجة اليها .. دموعها لم تتوقف عن الانهمار طيلة الطريق الى الكنيسة.. هذا المجنون المختل الوغد السافل .. بحثت في عقلها عن كلمات اردأ فلم تجد .. كيف يمكنه ان يفكر انها قد تتزوجه حتى لو كان مجرد حبر على ورق .. كيف امكنه ان يفكر انها قد تنتمي اليه حتى ولو ليوم واحد .. الموت سيكون احب اليها من هذا .. المريض .. هل يظنها ستقبل الزواج بمحتل؟ على جثتها ! ..
*
بعد ثلاثة ايام ، سمع سامح طرق خفيف على الباب الخارجي .. من يأتي في هذا الوقت من الليل؟ قفزت هدى رعباً وضمت طفلتيها .. فتقدم جوزيف ليسير خلف سامح .. مستعداً لتقديم المساعدة ان احتاجها .. صاح سامح “من هناك؟” لكن لا احد اجابه .. مجرد طرق خفيف آخر أنبأ الرجلين ان الواقف خلف الباب ما يزال هناك منتظراً .. تقدم سامح ببطئ .. وفتح الباب ليشهق “ملاك .. ماذا حل بكِ؟” من خلفه وقف جوزيف يستوعب منظر ملاك بدءاً من جسدها المرتعش الى ملابسها الممزقة الى الدماء التي لطخت يدها .. تقدم مرعوباً من المشاهد المحتملة الكثيرة التي قد تكون سبباً في حالها والتي دارت في عقله بلا رحمة .. صاح “انجل ماذا حدث؟” ارتجفت وهي تنظر اليه نظرة تائهة وتهمس من بين اسنانها المصطكة “لقد قتلت رجلاً” ما ان اتمت جملتها حتى تهاوت الى الآرض غائبة عن الوعي لتتلقفها ذراعي يوسف وتحملانها الى صدره.

انت في الصفحة 5 من 24 صفحات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
20

أنت تستخدم إضافة Adblock

انت تستخدم اضافة حجب الاعلانات من فضلك تصفح الموقع من متصفح اخر من موبايلك حتي تقوم بتصفح الموقع بشكل كامل