منوعات

شموخ أنثى بقلم ندى

استقلت ملاك سيارة الاجرة لاهثة .. عندما سألها السائق الى اين وجدت نفسها تعطيه عنوان بيت الخالة عالية .. قلبها كان يطرق بشدة وانفاسها تصعد وتهبط بجنون داخل صدرها .. مشاعر كثيرة كانت تعتمل في داخلها لكن الغضب كان اقواها .. كيف يريدها ان تهرب؟ ومع من ؟ معه هو .. والى اين؟ الى امريكا .. لقد جنّ يوسف بالتأكيد .. كيف لها ان تترك العراق .. ان تترك ذكرياتها عن والديها وماريا ومصطفى وترحل بكل بساطة .. جزء صغير من عقلها اخبرها انه الحل الوحيد .. لكنها أخمدته قبل ان تستمع اليه .. انها ميتة بنظر الجميع فلماذا تهرب؟ .. عليها ان تعود الى بيت الخالة عالية .. عليها ان تقول لهم انها على قيد الحياة .. عليها ان ترى مصطفى .. بعينيه تخترقان قلبها وتشعرانها بالراحة .. راجعت شجارها مع يوسف عالمة انها بالغت في التطرف في رأيها حوله ،، فهو بالتأكيد لا يشبه الآخرين .. لكنه منهم أليس كذلك؟ وهذا ما يجعله مجرم بقدرهم .. الا يجعله؟ كما انها لم تكن تعني حقيقة ما قالته عن الوجه الاخر للحقيقة فقد ردد هو ما قالته لمصطفى يوم تقدم محمد لخطبة سوسن .. لكنها لن تضعف .. لن تستلم .. لن تستمع اليه ابداً .. هذا الامريكي البارد العينين .. جزء صغير جدا منها سخر منها “صاحب اجمل عينين مرّا أمام ناظريك” صاحت بتأفف “اوه هيا الان” نظر اليها صاحب التكسي بشئ من الريبة ثم هز كتفيه فلا بد انه ظنها “نموذج” من النماذج التي تمر عليه كل يوم .. تنهدت ملاك .. ترى كيف ستتقبل الخالة عالية خبر “عودتها” للحياة؟ تأملت ان يكون قلبها قوياً بما فيه الكفاية لترى شبحاً ينهض من قبره .. توقفت سيارة الاجرة عند اول الشارع الذي يقع فيه بيت الخالة عالية .. استدار اليها السائق وقال “عشرة الآف لو سمحتي”* نظرت اليه مذهولة وهو يطالبها بحق سيارة الاجرة .. فهي لم تفكر في غمرة هروبها من يوسف .. زاغت نظراتها بينما قال السائق متأففاً “يا انسة ادفعي الان” قالت له بتلعثم “لـ .. ليس .. معي ..” قبل ان تكمل عاجلها بنبرة غاضبة “ماذا؟” وقبل ان يزداد غضبه استلت اسوارة ذهب رفيعه من معصمها وقدمتها اليه وهي تتوسل “أرجوك أقبلها بدل الاجرة” نظر السائق اليها كأنه ينظر الى مشهد في فلم أبيض وأسود .. اخذ منها الاسورة التي تساوي اكثر من ثمن اجرته بكثير وفكر انها هدية مناسبة لحبيبته .. نظر اليها وقال “حسناً .. يبدو هذا مناسباً لكن في المرة القادمة عليكِ ان تحمل نقوداً يا انسة” بذهن شارد اجابته “بالطبع .. شكراً” ونزلت من السيارة التي انطلقت فوراً .. نظرت الى الشارع الفارغ تماماً في وقت الظهيرة .. فالكل اما نائم او يتناول غدائه بعد يوم عمل طويل.. مشت ببطئ .. تحصي البيوت بيتاً بيتاً .. قلبها يدق خوفاً وترقب وهي تصلي ان لا يحدث شئ لأحد اذا ما رأوها تنهض من تربتها ! .. وصلت أكثر ان يساعدوها .. رغم انها كانت تضع احتمال ان يطردها ابو حوراء شر طردة بعد حادثة اعتقالها .. فهو لن يصدق ابداً انها لم تُمس .. حتى وان بقيت هناك لليلة واحدة فقط.. وصلت امام باب وبيد مرتعشة طرقت الباب .. للحظات طويلة ظنت ان لا احد سيفتح .. بدأت تتلفت حولها خوفاً ان يلمحها أحد فيتعرف عليها .. دقيقة اخرى مرت ببطئ سمعت بعدها وقع اقدام متثاقلة .. وانفتح الباب عن حوراء ترتدي السواد وعيناها متورمتان من البكاء .. طرق قلب ملاك بخوف .. ما الذي حصل يا ترى؟ .. عندما رفعت حوراء نظرها لتجد امامها شبح ملاك .. تراجعت صائحة “بسم الله الرحمن الرحيم” .. تقدمت ملاك خطوة وهي تقول “حوراء هذه انا ملاك .. لم أمت ..” تراجعت حوراء الى الخلف اكثر ثم جثت على ركبتها تنظر برعب لملاك الخارجة من قبرها .. انحنت عليها ملاك تحاول تهدئتها فصاحت بها “ابتعدي ابتعدي .. اعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. انصرفي” ابتعدت ملاك خطوة وهي تقول “حوراء انا لم امت ما بكِ انا لست عفريتاً .. والله لم امت .. لقد قفزت قبل ان تنفجر السيارة” رمشت حوراء بعينها تحاول ان تستوعب ما يقوله شبح ملاك .. لكن ملاك عاجلتها بأن مدت يدها وامسكت ذراعها فأنتفضت وابتعدت برعب بينما قالت ملاك “انا حية الا ترين” نهضت حوراء اخيرا وهي تهمس “مـ .. ملاك” .. ابتسمت ملاك بوهن “نعم انا هي” .. اختفى اللون من وجه حوراء تماماً وبدت كالاشباح .. وتلفتت حولها وقالت “لايجب ان تكوني هنا .. فلا بد ان المكان مراقب” ابتلعت ملاك ريقها وهي تقول “كيف هو مصطفى؟” تراجعت حوراء خطوتين .. اتسعت عيناها بشئ غريب .. على وجهها تفاعلت عدة مشاعر غريبة .. فركت اصابعها بعصبية ثم اخفضت رأسها وهمست باكية “لقد مات” .. ظلمة غريبة لفت وجه السماء .. ووجه كل شئ حولها .. صمت مطبق سمعت صداه في قلبها الذي توقف عن النبض للحظات ليعود فيضج بدقات مؤلمة قاسية .. صرخة معذبة خرجت من بين شفتيها .. هبطت على الارض بعد ان خذلتها رجليها .. مصطفى مات.. شمس حياتها .. الرجل الوحيد الذي أحبته .. الذي ضحت لأجله بكل شئ .. الذي ساقت نفسها الى معكسر الاعداء خوفاً عليه والذي علقت مصيرها بمصير جندي لأجله .. لأجله أكلت مع محتل بلدها في طبق واحد .. لأجله داوت جراح الرجل الذي يقتل أبناء شعبها .. لأجله كادت ان تضحي بحياتها وشرفها وكل شئ .. فكيف يموت؟ كيف يتركها؟ كيف يتجرأ على ان يرحل عنها .. ويخلفها لظلمة الحياة الكئيبة دون اشراقة وجهه الطيب .. قبل ان تستوعب كاملاً ما قالته حوراء .. صاحت حوراء بصوت منخفض “عليكي ان تهربي الان يا ملاك .. قبل ان يعلموا انكِ على قيد الحياة ويأتوا اليكِ .. فهم لا زالوا يحومون في الأجواء .. أهربي ولا تعودي هنا أبداً .. الجواسيس يملأون المكان .. لقد اكتشفنا ان جارنا ابو لمياء جاسوس .. وهو من راقب مصطفى” .. تلعثمت قليلاً .. وقالت “رحمه الله” امسكتها بكلتا يديها ورفعتها وهي تقول “اهربي ملاك .. اهربي الان” .. نهضت ملاك تترنح وبذهن مشوش وقلبِ فاقد لكل اسباب الحياة خرجت من البيت وصوت حوراء خلفها “اهربي .. اهربي” .. صور مرت بشكل سريع .. رأت نفسها في ثياب المدرسة تمشي بسرعة حتى لا يفوتها منظره خارجاً من باب بيته في زيه الجامعي الجميل .. انهمرت دموعها اخيراً .. لقد مات مصطفى .. ومات قلبها معه .. ركضت وركضت وركضت .. على آخر الشارع مرت دورية جيش .. خبأت نفسها دون وعي خلف شجرة .. وما ان مرت الدورية بسلام .. حتى خرجت تركض مرة اخرى لتوقف اول سيارة اجرة .. وتذهب الى المكان الوحيد الذي تجد فيه راحتها
*
لمحها من بعيد تركض وتستقل سيارة أجرة .. طرق قلبه .. كان يعرف انها ستأتي الى هنا .. لترى مصطفى .. لكن لماذا تركض وكأن شياطين العالم تجري خلفها .. ناداها لكنها لم تستمع اليه .. عندما رآها تهرب من امامه في وسط الشارع ضرب بتحذيرات سامح الذي جاء خلفه بأن يتخذ حذره عرض الحائط .. وجرى يستقل سيارة اجرة وهو يحاول ان يتذكر اسم الحي الذي تعيش فيه .. كما انه لم يهتم لنظرات السائق حين قال له اسم الحي بلهجة ركيكة .. ولا لنظراته التي تتساءل عن شكله الغير عربي .. فليفكر ما يشاء والى الجحيم بكل الحذر .. فمنذ عرف انجل وهو يرمي نفسه من مخاطرة الى اخرى .. تلك المرأة ستقوده الجنون ولا شك .. هو جوزيف ميلر العظيم .. رجل الاعمال المشهور الذي يحسب له الف حساب .. هو حداد وولفمان الكاتب الذي تحقق كتبه اعلى المبيعات .. تجرجره هذه الصغيرة التي لم تتجاوز العشرين بعد من حي الى آخر خلفها .. لعن وهو يقف محاولاً ان يجد سيارة اجرة واحدة في هذه الظهيرة .. السيارة الوحيدة التي مرت استولت عليها ملاك الهاربة .. “رائع” تمتم بحنق .. وبعد عشر دقائق وبعد ان كانت ملاك قد اختفت وابتعدت بعدة أميال .. رأفت به الحياة بأن رمت في طريقه سيارة اجرة قديمة متهالكة .. أوقفها وفكر ترى الى اين ذهبت .. ودون وعي اجاب “الى كنيسة يوحنا المعمدان” عندما سأله السائق عن وجهته، فهذا المكان الوحيد الذي استطاع ان يفكر فيه .. بعد نصف ساعة كان يقف على عتبة الكنيسة الهادئة .. دخل بخطى صامتة يبحث عنها آملاً أن يجدها .. وقد تحققت آماله .. جلست محنية الرأس تمسك بيد الأب زكريا وتبكي بحرقة .. والاب يحاول طمئنتها بكلمات لطيفة .. تأمل شكلها البائس فشعر بضيق في صدره .. لماذا تبكي؟ تقدم ببطئ وهو يقول “أنجل” رفعت رأسها بحدة .. لكن عينا الغزال لم تكونا باردتان .. بل منكسرتان وخانعتان وضائعتان .. تهدج شئ ما في قلبه .. سأل بقلق “ماذا حصل” .. اهتز جسدها في رعشة بكاء وهي تقول بصوت منكسر “لقد مات مصطفى.. لقد مات” قسّت ملامح وجهه .. هذا الانكسار والألم كان موجهاً نحو رجل كاد ان يكون سبب موته .. هو بالتأكيد يعطيها العذر فقد قالت له انها تحبه .. فلماذا أذن ضاق صدره بهذا الشكل؟ تأملته لدقيقة بعيون باكية ثم رأى الشمسين يشرقان على وجنتيها بلون أحمر قاني .. وعلم انها غاضبة .. سحبت يدها من يدي الاب زكريا ونهضت اليه وجهها غاضب عاصف وعيناها مجروحتان لكن ضاجتان بالفوضى والحنق .. وصاحت بوجهه “هل انت سعيد الان؟ هل انت راضٍ؟ لقد مات الرجل الوحيد في هذا الكون الذي أحبني بصدق .. لقد مات بسببكم .. بسببكم” وصلت اليه بخطوات سريعة بينما وقف جامداً يراقب ثورتها اقتربت منه ومدت يدها بحركة سريعة وصفعته .. رغم انه علم ان الصفعة قادمة وكان بأمكانه تجنبها الا انه وقف مكانه يتلقى ثورتها بعينين باردة .. مع صفعتها جاءت شهقة الأب زكريا وهو يقول “ملاك .. ماذا تفعلين” لكن كلاهما لم يلتفت اليه .. تحجرت ملامح جوزيف وبدا كأنه قُدّ من صخر .. بينما وقفت تلهث امامه وعندما لم ترَ منه اي ردة فعل .. ثارت ثائرتها اكثر فكورت يدها على شكل قبضتين وانهالت بهما على صدره الذي لم يهتز بمقدار شعرة او يتحرك .. ودون سابق انذار وجدت ذراعها مكبلة بيديه وهو يمسكها جيداً ويقول بصوت ببرودة الثلج “لقد اختار طريقه .. وكان عالماً بمخاطره .. ليرحمه الرب .. انا لم أؤذه في شئ فلماذا تثورين عليّ؟ لقد جئت اساعدكِ .. أن لم تريدي مساعدة نفسكِ فلماذا علي ان أحفل بكِ” .. دفعها بشئ من الانزعاج عنه ومشى مبتعدا وهو يقول ” اذا لم تكوني تريدين الهرب والنجاة بشرفكِ وحياتكِ.. فهذا عائد لكِ” وضع يديه في جيبه واختفى بهدوء كما جاء بهدوء .. راقبت ملاك ظله يختفي خلف باب الكنيسة بعدها جثت على الارض تبكي تقدم الاب زكريا ووضع يده على كتفها وهو يقول “يا ابنتي تحلي ببعض الايمان .. هذا قدره .. وهو في مكان أفضل .. حيث لا احد يظلمه ولا أحد يؤذيه” همست “كيف تركني؟ حتى قبل ان ينطق الكلمة التي كتبها .. لقد كان أملي بلقاءه يصبرني على مصيبتي .. فكيف يرحل؟ كيف يذهب الى مكان أفضل ويتركني في الجحيم استعر”
*
قالت ميراندا غاضبة “كيف لم تجدوهما بعد؟ كيف يمكن هذا .. اين ذهبا؟” اجابها مايسون وهو يشاركها حنقها ” لاتقولي لي كيف فأنا نفسي لا أعلم .. كأنهما اختفيا من على وجه الارض” .. ضربت ميراندا قبضتها حافة الطاولة وهي تغلي غضباً .. منذ ان اطلق عليها جوزيف الرصاص عندما كان يهرب تلك الملعونة الصغيرة وهي تغلي بحقد يتفاعل مع مشاعر الرفض السابقة التي وجهها نحوها جوزيف .. لم تتخيل يوما انه سيفضل عليها فتاة عراقية ابعد ما تكون عن التحضر والجمال .. جيدها ضئيل وعيناها باردة .. كيف يفضلها عليها هي ميراندا الجميلة التي يتوهج شعرها بحمرة شقراء جميلة وتذوب عيونها اعتى الرجال واكثرهم صلابة.. ليس يفضلها فقط بل ويطلق عليها النار لاجلها .. ذلك السافل لسوف تجعله يدفع الثمن ما ان يلقى القبض عليه .. فاضت ملامح وجهها بحقد دفين وغضب لا حدود له وهي تصيح من بين اسنانها “يجب ان نجدهما نحن لم ندعي امام الجميع موتهما ليذهبا ويهنئا بحياتهما .. بل لنلقي القبض عليهما ونحاسبهما بطريقتنا .. علينا ان نجدهما .. لا خيار اخر لدينا” تنهد مايسون “معكِ حق .. معكِ حق لكن الان عليكي ان تدخلي وترتاحي جرحك ما يزال طرياً” نظرت ميراندا الى ساقها المصابة بقرف وهي تتذكر كيف اطلق عليها جوزيف الرصاص بدم بارد .. ونهضت بصعوبة تتكأ على ذراع صديقها .. وهي تقول “السافل كاد ان يصيبني بعرج دائم” شد مايسون على يدها وهو يعدها “سأجعله يدفع الثمن” .. غاب الظلان الطويلان لميراندا ومايسون ليخرج سامح مذهولا مصعوقاً من الغرفة الداخلية لمكتب الضابط المسؤول .. لقد دخل ليضع تقريراً ترجمه قبل قليل ليقرأه الضابط .. وتفاجأ بميراندا ومايسون يدخلان ومن خلف الباب المغلق سمع حوارهما .. فتوقف قلبه رعباً .. اذن فهم يعلمون بان ملاك وجوزيف على قيد الحياة وهم يبحثون عنهما .. يا الهي .. ملاك في الكنيسة منذ يومين عليه ان يأخذها فالخطر كبير الان .. عليها ان تهرب مع جوزيف .. عليها ذلكْ
*
فتحت عيناها ببطئ وهي تشعر بأشعة الشمس تداعب جفنيها .. اغمضتهما ثانية تريد للنوم ان يجرفها .. لا تريد ان تصحو حتى لا يصحو الألم .. تأوهت “مصطفى”وانقلبت على جنبها تحتضن الوسادة الاضافية .. لقد كانت شاكرة لان الاب زكريا سمح لها ان تبيت في الكنيسة منذ ليلتين .. كما انه تنازل عن فراشه الوحيد لأجلها ونام على الارض غرفة بهو الكنيسة .. شعرت بالذنب لانها جعلته يقاسي معها بهذا الشكل .. لكن لا خيار اخر لديها .. لا مكان تذهب اليه .. هذا هو ملجأها الوحيد .. لم تفكر فيما ستفعله لاحقاً .. كل ما تريده الان ان تنام .. وأن تنسى ان مصطفى لم يعد يتنفس الهواء الذي تتنفسه .. كادت ان تسمح لنفسها بالبكاء لولا ان سمعت ضجة في الخارج .. قفزت بسرعة تختبئ لكن بعد لحظات طرق الاب زكريا الباب وهو يقول “ملاك .. هل انتي مستيقظة؟” .. استرخت ملاك وهي تجيب “نعم ابتي” طلب منها “أرجو ان تخرجي .. هناك موضوع عليكِ ان تعرفيه” عندما خرجت طالعتها زوجين من العيون الاولى للاب زكريا العطوف والثانية لسامح .. همست “سامح” نظر اليها بتأمل .. يستوعب شكلها المرهق الحزين ونظرة تعاطف تعلو وجهه وهو يقول بلطف “لم أشأ ازعاجكِ يا ملاك .. لكنني سمعتهم اليوم يتكلمون عنكما انتي وجوزيف .. يبدو ان بعض الجنود يعلمون بامر نجاتكما .. وهم يبحثون عنكم لينتقموا منكم .. لقد اشاعوا حكاية موتكم ليتسنى لهم ان يفعلوا بكم ما يشاؤون عندما يمسكون بكم” أمتلأ قلب ملاك بالرعب وعقلها بصور تعذيب بشعة قد يتبعها اولئك الوحوش .. صاحت بخوف “يا الهي ماذا سأفعل” اقترب منها سامح وقال بصوت هادئ “لا حل الا الهروب يا ملاك .. لا حل”
*
كان يجلس امام زينة وهو يردد خلفها “باااازونة” هزت رأسها بنزق وهي تقول “كلا كلا يا يوسف .. بزّونة وليس بازونة .. بزّونة يعني قطة لكن بازونة لا تعني شيئاً” عبس بتصنع “صاعبا كتيررر” تأففت زينة “صعبة وليس صاعبا ” نهضت من امامه وهي تقول “لا فائدة منك” ابتسم جوزيف .. لقد كانت تحاول بشدة ان تعلمه كيف يلفظ الأشياء بشكل صحيح لكن ينتهي بها الامر ان تفشل وتنهض حانقة على لسانه “المعوّج” كما تقول .. تنهد .. لقد قام بكل ما في وسعه من فعاليات حتى لا يفكر بأنجل وبعينيها المجروحتين الغاضبتين .. لكنه ما ان يخلو الى نفسه حتى تحل ضيفة ثقيلة على تفكيره المتعب .. حتى انها صارت تأتيه بشكل دائم في كوابيسه مع لويسا .. دائما مع لويسا .. ترى هل هذا يعني انه دمر حياتها كما دمر حياة لويسا؟ .. قبل ان يجيب على السؤال الذي طرحه على نفسه .. انفتح باب المطبخ ليدخل منه سامح تتبعه أنجل مطأطاة الرأس .. تزحلق اسمها من بين شفتيه دون وعي “انجل” .. ودون أن ترفع رأسها اليه .. مشت من جانبه وهي تقول “سأهرب معك” ثم تركته مذهولاً سائرة الى الداخل ..
*
نظرت حوراء الى نفسها في المرآة الموضوعة في غرفة مصطفى .. وجهها شاحب جداً كالموتى .. ما حدث من ثلاث ايام لا يفارقها .. لقد عادت ملاك .. بلحمها وشحمها .. عادت تغزو حياتها وتهددها بسلب كل شئ منها .. شكرت الله انها هي من فتح الباب وتداركت الموقف .. لو ان احداً آخر فتحه لكانت الان ملاك تقف مكانها .. تأخذ موقعها في حياة مصطفى .. لقد فعلت ما يجب ان تفعله لتحمي حبها الوحيد .. لتحمي حياتها وسعادتها .. فكل شئ مباح في الحب والحرب .. اليس كذلك؟ تنهدت .. الان تستطيع ان ترتاح منها .. فهي تظن ان مصطفى ميت .. كما انه يظن انها ميتة .. هكذا لن يكون هناك امل لكليهما باللقاء .. لن يبحثا عن بعضهما .. ولن يلتقيا أبداً .. من خلفها سمعت صوت مصطفى يتأوه أقتربت منه فميزت من بين هذيانه اسم ملاك .. بعدها تمتم “ملاك حبيبتي .. اين انتي” .. وخزة ما آلمت قلبها .. لكنها بلا تردد امسكت بيده وهي تهمس “انا هنا حبيبي”.

 

الفصل السابع- حرب مع الراء
اغلق جوزيف سماعة الهاتف .. ما زال صوت والده يدوي في مسامعه .. يعنّفه ويتهمه بأنه جالب المشاكل .. وهو بالفعل جالبها .. لكنه ليس بنادم .. على والده الآن أن يجد تسوية ما .. أن يخرج بحل .. ابتسم جوزيف .. فجزء منه كان سعيداً أن يرى والده الجبار مختل الاتزان .. بالتأكيد هو لا يسعى لتخلصيه لأجل جمال طلعته البهية بل لآنه يخاف على سمعة آل ميلر .. على سنوات تاريخهم المشرف في خدمة الوطن على حد قول والده .. يخاف على أعماله التي يسيرها جوزيف بكل يسر وسهولة مستخدماً ذكاءه ورجاحة عقله .. عاوده الشعور ذاته بأنه لا يملك عائلة .. ليس سوى تينا التي قفزت تحاول ان تحدثه على الهاتف لكن والده نهرها .. ليس سواها من تحبه حقاً .. دون ان تطالبه بشئ ودون ان تحاول ان تفرض عليه شئ .. حبها مطلق وغير خاضع للشروط .. لا ارادياً التفت نحو الباب المغلق الذي تنام خلفه انجل بعد يومين من البكاء المستمر .. لا زال يذكر منظرها المفزع وهي تدخل من باب المطبخ محنية الرأس .. تمشي كأنها آلة .. لقد اخافته حقاً عليها .. هو لا يعلم لماذا يشعر بتلك الحماية ناحيتها .. ويشعر بأنه عليه أن يرعاها ويخلصها من ورطتها .. ربما لأنه يشعر بالذنب لأنه بشكل ما كان طرفاً في ظروف اعتقالها .. خرجت زينة وزينب من غرفتها تمشيان على طرف اصابعهما .. سألهما “كيفهاااا ؟ منيهااااا؟” قلبت زينة عينيها بينما اطلقت اختها ضحكة ساخرة .. قالت له زينة بتأفف “وما الذي يفترض بهذا ان يعني؟” حاول ان يعصر مخه ليتذكر الكلمة المرادفة لكلمة “منيحا” ولمع الادراك في عقله فقال “ياعني هيااا زينااا؟” ضحكت زينب ملئ فمها بينما عبس ينتظر اجابة لسؤاله القلق .. ضربت زينة كفاً بكف وقالت كمن تكلم طفلاً “يا يوسف يا عزيزي اسمها “يعني هي زينة” .. لا تمد الجمل كأنك فتاة مراهقة” اتسعت عينا جوزيف .. هل حقاً يبدو هكذا عندما يتكلم؟ عار على رجولته ان كان كذلك !.. ضحكات زينب قاطعت افكاره وهي تعلق “أجل انظري زينة سيكون اجمل مراهقة وسيلاحقه كل شباب الحي” شاركتها زينة الضحك بينما تجهم وجهه ازاء سخريتهما على لهجته فوضع يديه على خصره وقال بطريقة حاول ان يراعي فيها عدم مَطّ الكلام “زينة؟” هزت رأسها زينة بالايجاب “نعم وتنام بعمق .. زينة كلش .. لا تقلق” .. عبس متسائلاً “كوليش؟” ضحكت زينب وهي تقترب منه وتتعلق بذراعه “يعني كتير ام انك تقولها كاتير؟” رفع رأسه الى السماء يشكو تلاعب الطفلتين بأعصابه بينما واصلتا الضحك وانطلقتا الى الحديقة .. المنزل كان هادئاً .. سامح وهدى يتسوقان في الخارج .. زينة وزينب تلعبان في الحديقة بعد ان اخذتا نصيبهما من السخرية منه .. تلفت حوله .. ولكن عيناه بين لحظة واخرى تعود الى الباب المغلق .. فقط يريد ان يتأكد انها بخير .. نظرة صغيرة لا أكثر .. لن يضر هذا احداً اليس كذلك؟.. تقدم نحو الباب غير قادر على منع نفسه .. ادار المقبض بحذر .. لينفتح الباب بسهولة .. امامه مباشرة احتل سرير صغير وسط الغرفة .. اقترب من جسدها المتكور تحت الغطاء ليتفحصها ويتأكد انها بخير .. وقف مذهولاً على بعد خطوتين من سريرها .. ملامحها الغافية كانت ملائكية بكل ما في الكلمة من معنى .. جفناها انسدلا بسلام .. وجنتيها محمرتان قليلاً من حرارة النوم.. شفتيها منفرجتين تخرج من بينهما انفاسها المنتظمة .. وشعرها يغطي صفحة وجهها .. بينما تعلقت بكلتا يديها بالغطاء كأنها تحمي نفسها من خطر محدق .. رقّ قلبه لمنظرها النائم .. صغيرة جداً لتعيش هذه المأساة .. لتفقد ملجأها الامين وحبيبها كذلك .. ارتعش جسدها فأقترب بشكل لا ارادي لكنه منع نفسه في اللحظة الأخيرة من لمسها .. فأرتدت يده كأنها ترتد عن شئ مقدس ومحرم .. نعم فأنجل تبدو مقدسة بطهرها وبرائتها .. وهو لن يدنسها ابداً .. ولن يسمح لأحد ان يفعل .. تنهدت في نومها وانقلبت لتنام على ظهرها .. سحب نفسه بصعوبة ليخرج من غرفتها قبل ان تستيقظ وتفزع به يتأملها فتظن به السوء كعادتها .. القى عليها نظرة اخيرة .. ثم خرج واغلق الباب خلفه بهدوء
*
جلس مصطفى قرب نافذته المفضلة التي تطل على الشجرة الكبيرة في الشارع .. راقب المطر ينهمر بوقع رتيب على الشارع المتصدع .. اسند جبهته الى الزجاج البارد .. تأمل الظلال القليلة التي كانت تمر .. وعاودته ذكرى ملاك .. كان قبل سنة تقريباً ان رآها تركض تحت المطر بينما كان يجلس في ذات المكان .. كانت تركض دون ان تعلم ان قلبه كان يركض خلفها ويلهث حباً .. ملاك .. افلت اسمها من بين شفتيه كسكين تجرح حنجرته .. لقد ماتت بسببه .. ماتت لتحميه .. هل احبته لهذه الدرجة؟ يا ليتها علمت كم يحبها .. يا ليته مات دوناً عنها .. نظر بقرف الى اللفافات البيضاء التي تغطي ذراعه .. وكاد ان يبكي .. بسبب هذا الجرح .. خسر ملاك .. فقط لو انه سمع كلامها .. لو انه قاوم بطريقة اخرى .. لما كان جسدها الان قد تحول الى اشلاء .. انتقل بنظره الى الطاولة بجانبه .. عليها استلقى كتاب مختارات نزار قباني .. ذاته الكتاب الذي قرأ منه قصيدة “الصليب الذهبي” التي ذكرته بملاك .. امسك الكتاب بيده السليمة وقلبه .. وعاد يقرأ كلمات القصيدة بتمعن .. ملاك التي دُقت الى صليب حبه وماتت دون ان تقول له وداعاً .. دون ان يقول لها وداعاً .. دون ان يخبرها كم يحبها .. او ان يثبت لها .. كيف رحلت؟ كيف؟.. قلّب الكتاب قليلاً واستقرت عيناه على قصيدة تقول

كنت أعرف أنّها سوف تقتل..
وكانت تعرف أنّني سوف أقتل..
وقد تحقّقت النبوءتان…
سقطت هي، كفراشة، تحت أنقاض الجاهليّة
وسقطت أنا.. بين أنياب عصرٍ عربي
يفترس القصائد..
وعيون النساء..
ووردة الحرّية..

\

كنت أعرف أنّها سوف تقتل..
وأنّ أنوثتها لن تشفع لها..
فالأنوثة في هذا الوطن الممتدّ جغرافياً
من البشاعة إلى البشاعة..
ومن القذيفة إلى القذيفة
ليست سبباً تخفيفياً
يحمي الحمائم من الذبح..
ولا تعطي امتيازاً اللأمّهات
لكي يكملن ارضاع أطفالهن..

\

كنت أعرف أنّها سوف تقتل..
فقد كانت جميلة ً في عصر ٍ عربيٍّ قبيح..
وكانت نقيّة ً في عصر ٍ عربيٍّ ملوّث
وكانت نبيلة ً في عصر الصعاليك.
وكانت لؤلؤة ً نادرة ً
بين أكداس اللؤلؤ الصناعي
وكانت امرأة ً متفرّدة..
بين أرتال النساء المتشابهات…

\

كنت أعرف أنّها سوف تقتل..
ففيها تجسّدت حضارة ما بين النهرين
ونحن متخلـِّفون..
هي مقامٌ بغدادي رائع..
ونحن لا نسمع..
هي قصيدة ٌ عباسية..
ونحن لا نقرأ..
هي فصلٌ من ملحمة (جلجامش)
ونحن أميون..
هي أجمل ما كُتب من شعر..
ونحن أردأ ما كتب من نثر..

\

كنت أعرف أنّها سوف تقتل..
لأنّ عينيها كانتا صافيتين كنهرين من الزمرّد..
وشعرها كان طويلاً كموالٍ بغدادي
فأعصاب هذا الوطن،
لا تتحمّل كثافة اللون الأخضر
ولا تتحمل رؤية مليون شجرة نخل
تتجمع في عينيها..

\
كنت أعرف أنّها سوف تقتل..
فقد كانت مساحة كبريائها
أكبر من مساحة شبه جزيرة العرب
وكانت حضارتها لا تسمح لها
أن تعيش في عصر الإنحطاط..
وكانت تركيبها الضوئي..
لا يسمح لها أن تعيش في العتمة…

انت في الصفحة 4 من 24 صفحات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
20

أنت تستخدم إضافة Adblock

انت تستخدم اضافة حجب الاعلانات من فضلك تصفح الموقع من متصفح اخر من موبايلك حتي تقوم بتصفح الموقع بشكل كامل