منوعات

شموخ أنثى بقلم ندى

استيقظت ملاك على صوت الخالة غنية وهي تسأل زوجها بقلق “ما الامر يا حاج” ، وسمعته يجيبها بتوتر “انهم يفتشون المنطقة” قفزت ملاك من مكانها وهي تقول بفزع “ماذا؟ تفتيش” التفت اليها الزوجان بأستغراب .. وقبل ان يجيبا ركضت الى غرفة جو الذي كان ينام بعمق تحت تأثير الحمى وصاحت به “استيقظ لقد جاءووا .. انهم يفتشون البيوت” فتح جوزيف عينيه بصعوبة وقال بتعب “ماذا” .. صاحت به “سيمسكون بنا انهض علينا ان نهرب” وقف العم حسين على عتبة الباب وهو يقول “يمسكون بكم لماذا يا ملاك؟” التفتت ملاك بفزع للعم حسين واطل الذنب من قسمات وجهها الجميلة ونطقت نصف الحقيقة “نحن ملاحقون يا عم” اعتدل العم حسين بوقفته بينما شهقت الخالة غنية وجاءها صوته رزيناً يسأل “لماذا؟” توسلت اليه بعينين دامعتين “لا يوجد وقت يا عم يجب ان نهرب لكن والله اننا لم نرتكب جرماً” الصدق الخالص في وجهها جعل العم حسين يلجم فضوله ويتقدم ليساعد جو الذي كان يصارع ألمه لينهض .. قادهما العم حسين نحو باب البيت الخلفي المفضي الى شارع ضيق جداً .. عند الباب قال لها العم “اتجهي حتى اخر الشارع .. ستجدين قطعة ارض فارغة اعبريها وبعدها ستكونين في الطريق العام” انهمرت دموع ملاك وهي تشكر العم وتعانق الخالة لتستدير نحو جو الذي يقف مترنحاً وتحثه “هيا بنا” لكنه ما ان مشى خطوتين حتى مال الى الأمام كأنه يسقط فهرعت اليه تمسكه دون تفكير .. ثم اسندت ذراعه حول كتفها وجرته معها وهو يتأوه .. قالت له بغضب “كفّ عن التأوه ستسمع الأصم” حاول جو جهده ان يكتم المه ويسير معها بأقصى ما استطاع من سرعة .. عبرا الشارع الضيق وقطعة الأرض لكنها ما ان وصلت الى الشارع العام حتى لمحت سيارة عسكرية فلعنت وهي تقول “لا نستطيع ان نسلك الطريق العام .. انهم يجوبونه” لكن جو لم يجبها فهو بالكاد كان يلتقط انفاسه .. تلفتت حولها فوجدت بيتاً قيد البناء.. مجرد هيكل ليس له معالم واضحة .. دفعته بأتجاه البيت وهي تقول “حرك قدمك .. ليس لدينا الليل بطوله” .. ترنح جو وهو يتذمر “لويسا لقد صرتي نزقة” رفعت رأسها الى السماء وهي تقول “رائع الان يتخيلني أمرأة اخرى” قرب المنزل وجدت اثار اقدام وعجلات فعلمت ان الجنود فتشوا هذا المكان .. وهذا ما اشعرها بشئ من الامان .. على الاقل هما بامان هذه الليلة .. وغدا لكل حادث حديث .. وضعت جو على الأرض تحت السلم الأسمنتي .. وجلست على بعد منه .. راقبته يرجع رأسه الى الخلف ويتأوه .. خمنت انه يتألم جدا نصفها اشفق عليه والنصف الآخر غضب من شفقتها عليه .. لا يجب ان تشفق عليه .. فهو كأياهم .. مهما فعل ومهما سيفعل .. حتى لو لم يأخذ رصاصة عنها وفقط حتى لو مات في سبيلها .. سيبقى عدوها .. في داخلها كانت تعرف انها تتطرف وتتعصب في رأيها .. فما فعله كان شجاعة نادرة خصوصاً انها بدرت من رجل ليس من بلدها ولا يحمل اي واجب او مسؤولية تجاهها .. تأملت وجهه .. قطرات العرق التمعت على جبينه تحت ضوء القمر .. عيناه الزرقاء الشاحبة كانت مغمضة بتعب .. وشعره الأشقر الغامق كان قصيراً ومحلوق بطريقة عملية .. كتفه المصاب التف بضمادات كثيرة لم تخفي او تقلل من كمال شكله الجسدي .. اشاحت بوجهها غاضبة من نفسها .. كيف تفكر به بهذه الطريقة؟ كيف؟ امسكت بعصا صغيرة وراحت ترسم دوائر ودوائر على الآرضية الترابية التي ما تزال قيد البناء .. تنهدت وهي تفكر في مصطفى .. شعورها ينبأها انه بخير .. لطالما كانت تشعر به .. هناك رابط روحي خفي يجمع بين روحها وروحه تستطيع ان تعرف ان كان بخير ام لا .. وهي تعرف بشكل ما انه بخير .. لكنها تريد ان تتأكد .. ان تسمع صوته .. ان تخبره انها تحبه ايضاً .. تنهدت .. ترى لو لم يحدث ما حدث ماذا كان سيكون مصيرهما؟ هل كان سيمضي قدماً في زواجه من حوراء ام انه كان سينهي هذا الارتباط ليرتبط بها .. لكن ان كان ينوي ان يرتبط بها فلماذا لم يفعل من قبل؟ ام انه وقع في حبها بعد ان خطب حوراء؟ وان كان فعلا ينوي الارتباط بها فهل يا ترى ستوافق؟ برغم اختلاف الاديان؟ هل يكون حبهما قوياً ليعبر هذا الحاجز الشاسع الارتفاع؟ افكارها اتجهت نحو المستقبل .. التساؤلات حول مستقبلها قضت مضجعها منذ ان هربت مع جو .. هل ستبقى هاربة طوال حياتها؟ فكرت كثيراً ان تتصل بخالها لكن ماذا عساه يفعل؟ كيف ستخرج من العراق وهي مطالبة وملاحقة من قبل القوات الأمريكية؟ وماذا سيحل بجو؟ قفز السؤال الى عقلها فجأة فألتفتت اليه فجأة حانقة من دخوله افكارها واتسعت عيناها حين رأته يغلق عينيه ولا يصدر عنه اي حركة .. قفزت خائفة وهي تقول بقلق “جو .. جو” لمست كتفه السليم لتهزه ففاجئتها الحرارة التي انبعثت من جسده حتى عبر بلوزته الرقيقة .. يا الهي الرجل يحترق تحت تأثير الحمى .. ماذا عليها ان تفعل ماذا؟ تلفتت حولها بعجز .. وقعت عينيها على حنفية ماء قيد التأسيس وبجانبها كأس بلاستيكي .. ودعت الله ان تكون الحنفية صالحة للأستعمال .. تنفست براحة عندما جرى الماء من الحنفية حالما ادارت الصنبور .. ملأت كأس الماء بعد ان غسلته جيداً وركضت الى جو .. جلست الى جانبه وهو غائب تقريباً عن الوعي يصارع الحمى .. ورفعته بيدها بصعوبة لتسنده على صدرها وتسقيه الماء .. خفق قلبها بشكل مزعج .. حرارته انتقلت الى جسدها .. خلعت الجاكيتة الصوفية التي اعطتها اياها الخالة غنية ووضعتها على صدره وعادت لتمدده لكنه تأوه عندما خدش حصى جانب رقبته وسال خيط دم رفيع منها .. لعنت ملاك حظها وهي ترفع رأسه عن الأرض وتضعه في حجرها مجبرة…. ما تبقى من الماء كانت تبلل به يدها وتمسح وجهه واصابع يده أملاً ان تنخفض حرارته فهي لا تريده ان يموت .. انها ليست سيئة لهذا الحد لتتمنى له الموت او تتركه لانيابه خصوصاً انه انقذها من مصير اسوأ منه .. جبينه تغضن بألم ودون وعي مدت اصابعها المبللة لتحاول محو التغضن .. فمه الصارم الشفتين تأوه فهمست له عاجزة “لا بأس” .. مدت يدها لتبلل اصابعه فتشبث بيدها وهمس “لا تتركيني” .. اتسعت عيناها دهشة لكنه عندما اكمل بصوت متهدج “لويسا” علمت انه يتخيلها أمرأة اخرى فركض لسانها قبل ان تفكر ناطقاً “لن أفعل” عندها ابتسم فمه بأجمل أبتسامة رأتها في حياتها .. إذ ارتفعت احدا زوايا شفتيه أكثر قليلاً من الأخرى لتظهر خطوط على كلتا الجانبين اعطته منظراً خلاباً .. انحبس نفس ملاك وهي تنظر للتغيير الكبير الذي احدثته ابتسامته الغير واعية .. ثم انتبهت لمسار تفكيرها فسحبت يدها واجلت حنجرتها ونظرت الى البعيد .. تتأمل الليل يغتاله ضوء القمر .. محاولة ان تتجاهل الرجل الذي ينام على حجرها.
*
ضوء ساطع ازعج عينيه فرمش وفتحهما على مضض .. كانت الشمس تداعب وجهه وتحرق خديه .. حرك رأسه قليلاً ليرى نفسه ليس في بيت العم حسين ثم أدرك الكتلة اللينة التي ينام عليها .. رفع رأسه ببطئ حتى لا يشعر بالدوار .. ليتفاجأ ان الشئ الناعم الذي كان ينام عليه ما هو الا حجر أنجل رفع نظره ليجدها تسند رأسها الى الحائط وتنام وبجانبها استقر كأس ماء بلاستيكي احمر .. ضوء الشمس جعل خصلات شعرها المعقودة بأحكام تضئ بشقرة خفيفة وصفحة وجهها تتوهج احمراراً .. تنفسها البطئ المنتظم جعله يخمن انها تنام بعمق .. لقد بدت خلابة .. وصغيرة كذلك .. استوعب الموقف ووسوست له نفسه ان يعيد رأسه الى حجرها ويتظاهر بالنوم لكنه لم يفعل .. بل رفع نفسه ببطئ ليجلس .. تأمل البناء الغير مكتمل وتذكر بضع ومضات عن وجه أنجل المرتعب وكلمة “تفتيش” .. وتذكر نفسه مستنداً اليها .. ثم لم يعي سوى اللمسات الباردة التي كانت تخفف الآمه طوال الليل .. عندما استقام جالساً انزلق جاكيتها عن صدره واستقر على فخذه .. نظر الى الجاكيت وابتسم .. حتى وهي تدعي قسوة القلب والصرامة لم تتحمل رؤيته مريضاً .. امسك بالجاكيت وفرده ووضعه فوق صدرها ليغطيها لكنها استيقظت مذعورة وهي تنظر اليه برعب وتصيح “ماذا تفعل؟” رفع يديه بالجاكيت وهو يطمئنها “أغطيكِ بالجاكيت” اطلقت عينيها البنية شرراً وهي تقول بغضب “لا تقترب مني ثانية” تأفف جو “وكأنني سأفعل .. قلت لكِ كنتُ أغطيكِ” فكر وهو يقف ببطئ بانها ما ان فتحت عيني الغزال حتى اختفى السحر وحلت سلاطة اللسان .. فركت عينيها وهي تقول “هل اختفت الحمى” نظر اليها وقال بلا اهتمام “اشعر بتحسن” اعتدلت في جلستها وهي تقول “حسناً ماذا سنفعل؟” مشى جوزيف قليلاً وهو يفكر واخيراً قال “لا نستطيع ان نتصل بأحد من اقاربكِ لا بد ان الهواتف مراقبة لذا سأتصل بصديق قد يساعدنا لكنني بحاجة الى هاتف” نظرت اليه بتشكك “وماذا لو ان صديقك بلغ عنا” هز رأسه “سامح لن يفعلها” صاحت وهي تنهض “المترجم الخائن؟” قلب عينيه “بالله عليكِ .. لا تحكمي على الناس بضيق أفق” سخرت منه “اوه حقاً .. سأسعى لتوسيع افقي حضرة الجندي” نظر اليها بحنق وتنفس ليهدأ نفسه “توقفي عن الجدال نحتاج اليه ويجب ان نهاتفه” .. كادت ان تجادل لكنها عدلت عن الأمر .. ففي كل الأحوال هذا الحل الوحيد على ما يبدو .. قالت له “اعطني الرقم سوف اخرج لأطلب من اي احد اجراء مكالمة” بان القلق على وجهه “ربما سيكون خطراً عليكِ .. سأخرج انا” رفعت حاجبها “بكتفك المصاب؟ وشكلك الاجنبي؟ ستكون كمن يخرج لينتحر .. اعطني الرقم” نظراً لمنطقية جوابها اعطاها الرقم على مضض دون ان يستطيع منع نفسه من القلق .. قال لها وهي تهم بالخروج “ان لم تاتي خلال نصف ساعه سأخرج للبحث عنكِ” نظرت اليه وقالت ساخرة “متى عينت نفسك والدي؟” وخرجت دون ان تسمعه يتمتم “منذ رأيتك وعليّ اللعنة” .. جلس جو يفكر في ما عليه ان يفعله .. لعن تهوره .. لقد هرب بها دون ادنى تفكير بالعواقب .. في الحقيقة هو لم يستطع ان يراها حبيسة الجدران الباردة تنتظر مصيرها الاسود على ايدي الجنود .. صحيح ان في معسكرهم لم يتم اعتقال او احتجاز اي امرأة وان انجل هي الاولى التي تحتجز فيه .. لكنه سمع مئات القصص عن جرائم الاغتصاب التي تتعرض لها النساء في السجون والمعتقلات .. لم يستطع ان يتحمل فكرة ان ينتهك احد جسدها البرئ الغض .. حتى لو كانت إمرأة اخرى لكان فعل نفس الشئ .. لمجرد ان يتخيل ان اخته تينا قد تكون محل اي واحدة من تلك الفتيات فهذا كافٍ ليجعله يفعل اي شئ حتى لا يقع مثل هذا الفعل .. تنهد، الأمر فقط ان مشاعره وهو ينقذها ليست مشاعر انسانية بحتة .. لقد كانت مشاعر شخصية كذلك .. وهذا ما يقلقه .. ما الذي في هذه الفتاة الصغيرة العمر لينجذب اليها ويقلق عليها ويرمي مستقبله لأجلها .. ليكون صريحاً مع نفسه هو يعلم ان هناك مخرج من كل هذا فوالده جوبيتر ميلر الذي تنحني له اعتى الرؤوس .. بكلمة منه وببضع ملايين ربما .. سيخرج من الوضع سالماً .. لكن ماذا سيحل بملاك؟ عليه ان يجد حلاً .. عليه ان ينقذها معه .. فعلى ما يبدو فأنه قد افسد عليها حياتها حتى وان انقذ شرفها .. مرت ربع ساعة تقريباً .. نهض جوزيف من مكانه .. وهو يتسائل اين هي؟ مرت عشر دقائق اخرى ولم تظهر بعد .. حتى انتابه القلق وقرر ان يخرج للبحث عنها لكنه ما ان همّ بالخروج حتى دخلت تلهث .. سألها “انتِ بخير؟” اخذت نفساً عميقا وقالت “نعم لقد اتصلت به .. سيأتي بعد قليل” ارتاحت اساريره وهو يقول “حمدا للرب” .. قالت له “ظننا ميتين .. يبدو ان الجميع يظننا كذلك .. علي ان اخبر الخالة عالية” تقدم نحوها يقاطعها ” كلا كلا هكذا افضل .. لقد سهلّ علينا الامر كثيراً .. اذا ظنونا ميتين فهم لن يلاحقوننا .. وهذا سيكون جيداً لنا لنهرب” اعترضت “لكن علي ان اخبرها” هز رأسه رافضاً “بالتأكيد هاتفها مراقب .. لا تنسي انهم أمسكوا بالرجل في بيتها” غامت عيناها بتعبير غريب وهي تقول بحنان “مصطفى” انزعج للنظرة الباردة التي تحولت فجأة الى نظرة رقيقة فقال بصوت خشن “لم يجلب لكِ سوى المصائب” رفعت رأسها بحدة اليه وقالت “لا تتكلم عنه هكذا هل تفهم .. مصطفى اشجع رجل في العالم” هز كتفيه دون ان يعلق .. لجم لسانه بأعجوبة حتى لا يقول لها انه هو سبب اعتقالها وحالها .. لكنه علم انها ستدافع عنه فألتزم الصمت حتى لا يشعر بذلك الوخز المزعج في صدره كلما تحدثت عنه بتلك النبرة الحالمة ..
جلست ملاك بعد اسبوع حول مائدة الطعام وهي تشارك سامح وعائلته وجوزيف الطعام .. أذهلها تغير موقفها من كره سامح لأستلطافه هو وعائلته الطيبة .. لقد بدأ هذا الكره يتحول الى عطف عندما رأته يمشي في بيته دون رجله الاصطناعية .. وعندما قصت عليها زوجته معاناته في تحصيل المعيشة والرزق وكيف ان جميع الابواب انغلقت في وجهه حتى كاد ان يعمل شحاذاً ليطعم اهله وهو صاحب الشهادة المتعلم .. فلم يجد بداً من ان يعمل مترجماً .. احبت كذلك عائلته المكونة من امه العجوز الهرمة التي تنسى كل شئ ما ان تتفوه به وطفلتيه الصغيرتين التؤام زينة وزينب .. العائلة استقبلتها بترحاب وسامح نفسه كان طيباً معها حتى عندما كانت تهاجمه بشراسة وتنعته بالخائن رغم انها ضيفته وفي بيته .. لقد صبر عليها اول يومين لقسوة معاملتها مما جعلها تشعر بالخجل من نفسها .. لقد حكمت عليه بناءاً على ما تظنه لا على ما تعرفه .. ترى هل كل شئ مختلف عندما ننظر اليه عن قرب وبشكل شخصي اكثر؟ قاطعها صوت جوزيف الذي قال بلهجته اللبنانية الغير سليمة “كاسة الماااي انجل” كادت ان تضحك لطريقة لفظه الكلمات متأثراً بلغته الأم لكن منادتها انجل جعلتها تتمتم بضيق وهي تناوله الكأس “أسمي ملاك .. ميم لام الف كاف .. ملاك” كشر في وجهها “صعب .. انجل سهل” تأففت وهي تنظر اليه بضيق وقالت تضايقه “يوسف .. ي و س ف” ابتسم بخبث “جميل يذكرني بوالدتي” قلبت عينيها وهي تقول “هفففففففف” بعد ان فشلت في اثارة حنقه .. راقبته يتناول الماء وفكرت ايضاً كم من الاشياء عرفت عن جوزيف ميلر في هذا الأسبوع .. أذهلها ان تعرف ان أمه لبنانية .. في الحقيقة هم لم يقل لها لكن زوجة سامح نقلاً عن سامح اخبرتها بكل المعلومات المتوفرة عنه .. اسمه جوزيف ميلر من ام لبنانية واب مشهور هناك في امريكا .. رجل اعمال قدير لكنه اجبر على الالتحاق بالجيش بموجب اتفاقية البلد التي تنص على استدعاء كافة الطاقات الشابة للالتحاق بالجيش في حالة الحرب .. كما انه في الثلاثين من العمر وغير متزوج .. تأملت من طرف خفي حركاته الأنيقة في تناول الطعام رغم انه يجلس على الارض حول صينية يتشارك فيها ستة اشخاص غيره بصحن الرز الكبير ومرق الفاصوليا .. لكنه يبدو مرتاحاً وعلى طبيعته .. ابتلعت ريقها.. ها هي تفكر به مرة اخرى .. دست الملعقة الممتلئة بالرز في فهما وهي تحول نظرها عنه مركزة انتباهها على الطريقة الفوضوية التي يأكل بها بالتؤام ..
بعد الغداء بينما كانت تحتسي الشاي مع هدى زوجة سامح دخل جوزيف وهو يقول لها بالانكليزية “لقد كلمت ابي .. بدا مصعوقاً لأنني لم أمت” قالها بسخرية تقريبا ثم اكمل “سيجد لنا حلاً عن قريب” نظرت اليه وهي تسأل “أي نوع من الحلول؟” اجابها ببساطة “الهروب خارج العراق” اهتز قدح الشاي في يدها وسال على اصابعها دون ان تشعر بحرارته الحارقة ورددت ببلاهة “الهروب؟” !!

 

الفصل السادس :
نظر جوزيف الى وجهها الممتقع … شحبت فجأة كأن هناك من سحب الحياة منها .. ترى بماذا كانت تفكر غير الهروب؟ نهضت من مكانها ووضعت قدح الشاي بيد مرتعشة فوق الطاولة وقالت “الى أين نهرب؟” .. أجابها ببساطة “الى أين تظنين؟ الى أمريكا” .. وقفت للحظة جامدة كأنها صنم .. تفاعلت على وجهها عدة مشاعر بالكاد استطاع ان يفرق منها الذهول ثم الغضب .. عادت الحياة الى وجهها على شكل بقعتين حمراوتين التصقتا كشمسين فوق وجنتيها .. بدت جميلة وهي غاضبة .. جميلة لدرجة انه حبس أنفاسه لجمالها .. لم تعطه الفرصة ليعجب بجمالها أكثر فقد جاءه صوتها يهز جدران البيت المتواضع “أهرب؟ والى أين؟ الى امريكا؟ انت تحلم يا هذا .. أتظن أنني أن سايرت وضعي هذا وقبلت ان اعيش معك تحت سقف واحد واكل معك من طبق واحد وان احدثك فهذا يعني انني اتقبلك؟ يا رجل نحن نتقبل الذباب في الجو كذلك لاننا لا نملك بدا من التخلص منه !! ان كنت تظن انني سأعلق نفسي بأذيال قاتل فأنت تحلم .. انت تحلم .. أهرب لوحدك فلا أحب علي من رؤية جندي يرحل عن بلدي .. ” احتقن وجهه .. نضحت كل كلمة قالتها بالكره والاهانة والاحتقار .. وقف سامح ومعه زوجته هدى ينظران الى كلا الطرفين المتخاصمين بتعاطف .. لا يعلمان الى اي الفريقين ينحازان .. الى جوزيف الرجل الطيب رغم جنسيته ومهنته ام الى ملاك الواقعة تحت صدمة فكرة هروبها .. كان جوزيف يقف جامداً أمامها وهي تهينه بهذه الطريقة .. وحدها دواخله من كانت تحترق لكل كلمة قالتها .. لكل مشاعر كره سالت من بين حروفها فوخزت قلبه .. لقد ظن أنها تقبلته قليلاً .. قليلاً فقط .. لكنها لم تفعل .. وهو ساخط عليها لأنها لا تقدر وضعه ومأساته .. لا تقدر كم كان يعاني وهو بين الوحوش في المعسكر .. كم كان يقاوم مغريات مهنته وصلاحياته .. لماذا لا تفهمه ؟ لماذا لا تعذره؟ لماذا؟ ظل السؤال يتردد في باله حتى انفجر يسأله بصوت عالي “لماذا لا تفهمين؟ لماذا لا تعذرين أحد؟ كل شئ لديكِ ابيض أو أسود .. لا مناطق رمادية.. الكل عندكِ واقع تحت مسميات غير خاضعة للمساومة او للتبديل .. اتظنين ان كوني مجبر ان اكون جندياً فهذا يعني انني وحش؟ لماذا لا ترين الوجه الآخر من الحقيقة .. الوجه الضيق المظلم الذي لا يلتفت اليه احد … ” قبل ان يكمل صرخت به تقاطعه ” لا وجه آخر للحقيقة .. انت مثلهم .. حتى ولو كنت ملاكاً منزلاً من السماء فيكفي ان ترتدي بدلة الجيش لتصير ابليس ! .. وانا لن اذهب مع ابليس فالمكان الوحيد الذي يذهب اليه هو الجحيم” .. قالت كلماتها بذات الحقد ثم تحركت مسرعة نحو باب المطبخ لتفتحه وتجتاز الكراج الصغير الى الباب الرئيسي .. ركض خلفها جوزيف ومن ورائه سامح وهدى وحتى التؤامين .. صاح بها جوزيف “الى اين انتي ذاهبة؟” صرخت في وجهه “الى اي مكان لا تكون فيه يا مجنون” ثم انطلقت تفتح الباب وتركض .. وجوزيف يلاحقها .. قلبه كان يطرق بشدة صحيح انهما ميتان في نظر الجميع لكن ماذا لو لمحمها احد.. ألن يشكوا؟ هو لن يخاطر بالتأكيد.. ركض ورائها طويلاً .. لكنها كانت كالغزال .. تركض بخفة وتتقافز من حي الى آخر .. حتى انتهى الامر بها اخيراً تعبر الشارع العام بين السيارات .. عبر خلفها لكن سيارة كادت ان تصدمه فتوقف فجأة عندما دوى صوت الفرامل لتتوقف السيارة بأعجوبة على بعد سنتمترات منه .. أنجل استغلت الموقف خير استغلال .. فقد استقلت تكسي وانطلق بها .. شتم جوزيف بصوت عالي … كيف سيجدها الان؟ هل ضاعت أنجل منه؟

انت في الصفحة 3 من 24 صفحات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
20

أنت تستخدم إضافة Adblock

انت تستخدم اضافة حجب الاعلانات من فضلك تصفح الموقع من متصفح اخر من موبايلك حتي تقوم بتصفح الموقع بشكل كامل