
الفصل الخامس- حرب مع الراء
تأوه جو وهو يخرج من دوامة العتمة التي كانت تغلفه الى ادراك الصحو الذي جلب معه الألم .. إنتظر ان تنجلي الغمامة عن عينيه المشوشة وتلفت ببطئ حوله .. كان ينام على سرير بالكاد يتسع لجسده مغطى ببطانيات صوفيه لا يعرف عددها .. جدران الغرفة البالية دلّت على حال ساكنيه .. إسترجع أحداث ما حصل .. وبشكل لا ارادي ادار رأسه بقلق يبحث عن ملاك .. تأوه من بين اسنانه “أنجل” .. لكن لا أحد أجابه .. حاول النهوض لكن جسده كان متعب جدا لدرجة انه يشعر بالالم اذا ما تنفس لذا اعاد رأسه الى الوسادة مجبراً.. بعد بضع دقائق .. شعر بأحدهم يفتح باب الغرفة الذي أصدر صريراً مزعجاً .. و بخطوات هادئة تتقدم نحوه.. عرفها دون أن يراها ولا يعلم كيف عرف لكنه عرف .. ربما لأن الهواء المحيط به تحول فجأة الى مجال مغناطيسي .. وقفت أمامه تنظر بفضول .. عيناها باردتان كالعادة لكنهما فضوليتان .. عندما انتبهت انه مستيقظ اجفلت قليلاً .. لكن سرعان ما اعتدل كتفاها وهي تقول بصوتها الهامس “هل أنتَ بخير؟” .. تمتم من بين شفتيه البيضاوين بفعل المرض “نعم” ثم سأل “كم من الوقت وأنا غائب عن الوعي؟” قالت بجمود “ثلاثة أيام” .. ثلاثة أيام! .. ترى ما الذي آلت اليه قضية هروبهما وما الذي يحصل في المعكسر؟ لا بدّ انهم يبحثون عنهما في كل مكان .. اخرجه صوتها الهادئ من أفكاره “لقد قلت لأصحاب البيت انك صحفي من كندا .. وانني مترجمة وقد علقنا في اشتباك عندما كنا في مهمة صحفية لتغطية الاوضاع الامنية .. وحدث اطلاق نار وبالكاد نجونا .. هنا لا يتحدثون الأنكليزية والحمد لله ولكن الاحتياط واجب .. فتذكر هذه القصة جيداً” كان صوتها عملياً ، هادئاً ومتضايقاً قليلاً .. حتى انها لم تقل له شكراً لأنه أنقذها من مصير أسوأ من الموت .. لقد كانت تنظر اليه بذات النظرة المشمئزة وكأنه لم يكن سبباً في نجاتها .. تصاعد الإنزعاج في نفسه وقال “لماذا تنظرين الي هكذا كأني عدوكِ .. لقد أنقذتكِ وورطتُ نفسي معكِ” رفعت حاجبها دليل استغراب ساخر وقالت بلهجة متهكمة “وما الذي تريدني ان افعل؟ ان اقبلك يديك امتنانا؟ انت تحلم! .. بالطبع أنت عدوي .. وانت لست متفضلاً عليّ بإنقاذك لأنه لم يكن عليكم أخذي في المقام الأول” .. نظر اليها بحنق .. هذه المراة الباردة النظرات ، الشرسة الطباع لا تشعر بهول التضحية التي قدمها لأجلها .. تقف بكل صفاقة أمامه لترمي بوجهه كلماتها بكل برود وتعلن انه عدوها .. قطّب حاجبيه وقال “حسناً .. لم أنقذكِ لجمال طلتكِ .. أنقذتكِ لأن ضميري لا يسمح بالظلم” ضحكة متهكمة أطلقتها في وجهه وقالت “انسانيتك مؤثرة” انحنت قليلاً عليه فتساقطت خصلات شعرها على وجهها لتجعلها اكثر جمالاً وقالت بذات السخرية “هل صحى ضميركَ قبل أم بعد ان حاول مصطفى تفجيرك؟” نظرته المنزعجة بدأت تتحول الى غضب فقال بصوت غاضب بقدر ما سمح له ألمه “إذن تعرفيه” إبتسمت إبتسامة صفراء وهي تجيب “جيداً .. وأحبه” ثم استقامت .. كلماتها جعلت قلبه يتوقف لدقيقة كاملة عن النبض .. فراغ وصمت حلّا في أركان الغرفة الضيقة وقتلا المجال المغناطيسي الذي أمتد بين جسده العاجز الممدد على السرير وبين جسدها النحيف الواقف أمامه .. قال بعدها ببرود “وكأنني أهتم .. قلتُ لكِ لماذا أنقذتك” ثم اكمل بالعربية “ليس لسواد عينيكِ” راقب عينيها تتسع دهشة لأنه تكلم بالعربية لكنها سرعان ما تمالكت نفسها وارتدت برودها القارص وهي تهز كتفيها قائلة “ليسا سوداوان على كل حال .. بل بنيتان” .. وكأنه لا يعلم ! فكر بسخرية وهي يراقبها تخرج من الغرفة لتنادي اهل البيت وتخبرهم بأمر استيقاظه ..
*
راقبته لثلاث أيام غائبا عن الوعي .. كانت تجلس لساعات تتأمل وجهه الأشقر وهي تفكر بالسبب الذي دعاه لأنقاذها .. لم تستطع ان تفكر بما كان يمكن ان يحل بها اذا ما بقيت هناك تحت رحمة اولئك الوحوش .. في داخلها كانت ممتنة جدا لوجوده .. فهو لسبب لا يعلمه الا الله انقذها من مصير احلك من ظلام الليل .. ومع هذا عندما فتح عينيه اخيراً لم تستطع شكره .. لم تستطع ان تكون لطيفة او ممتنة .. بل بالعكس كانت حانقة ومنزعجة .. عليها ان تعترف انها منزعجة لأنه يهدد تلك الصورة السيئة التي رسمتها عن جنود الاحتلال .. لقد اعتبرهم جميعاً دون استثناء الآت قتل باردة لا روح فيها ولا ضمير .. لذا عندما انقدها بهذا الشكل مخاطراً بحياته وبمستقبله فأنه أعطاها احتمالية صغيرة في ان هذا التعميم لم يكن صحيحا او منطقياً .. وهذا ما يضايقها كثيراً .. يجب ان تبقى على قناعتها انهم كلهم سواء .. مجرد قتلة ومغتصبي حق .. عندما كان غائباً عن الوعي كان يهذي كثيراً بأسم “لويسا” .. خمنت انها ربما تكون زوجته لكنه لا يرتدي خاتم زواج .. لذا كان الإحتمال الآخر ان تكون حبيبته .. استثار شفقتها عندما سمعته يأن ويبكي وينادي بأسمها .. هذا المظهر الانساني الذي طغى على مظهر الجندي الصارم هدد كل ثوابتها .. وهي لا تنوي ان تغيرها .. لذا عليها ان لا تلين .. فهو مجرد قاتل اخر ذبح ابناء بلدها .. عند هذه الفكرة اختفت كل شفقة في قلبها وعاملته ببرود حتى انها استفزته .. ولا تعرف كيف انطلق منها تصريحها بحب مصطفى وهي التي لم تقل هذه الكلمة حتى لمصطفى نفسه .. لا تعرف لماذا يشحذ هذا الجندي الشيطاني القلب حب الاستفزاز في داخلها بهذا الشكل .. لكن كل ما تعرف انها تكرهه .. حتى وان انقذ حياتها فهي تكرهه..
تحولت افكارها نحو مصطفى ,, حبيبها الغالي ترى كيف هو الان؟ فكرت في الايام السابقة كثيراً في ان تتصل وتسال عنه لكنها خافت ان تكون كل الهواتف مراقبة وهي لا تريد ان تقع في قبضة عديمي الشرف مرة اخرى .. لذا ابتلعت جمر قلقها وصمتت واكتفت ان تدعو له .. لم تكن قلقة فقط على مصطفى انما على خالة عالية كذلك .. فهي تعرف كم تحبها الخالة واكيد انها ستجن من القلق .. شعرت برغبة ماسة للبكاء.. لكنها لم تكن تريد ان تنهار .. عليها ان تبقى قوية حتى تنتهي من هذه المصيبة وتجد حلاً لها .. لم ترد ان تفكر في انها لن تستطيع بعد الان العودة الى بيت الخالة عالية وان لا بد ان خالها قد علم بما حصل لها ويكاد يموت قلقاً .. لم ترد ان تفكر ان حياتها القادمة ورقة بيضاء تماما تجهل ما سيكتب فيها .. ابتلعت غصة تجمعت في حلقها تهدد ببداية بكاء ان انحدرت اليه فأنها لن ينتهي منه في وقت قريب.. رفعت راسها على صوت الخالة غنية وهي تقول “ملاك ابنتي هل لكِ ان تأتي معي . سأقدم العشاء لجوزيف ولكنني لا افهم ما يقول لذا اريدك معي في حال يحتاج لشئ ويريد ان يطلبه”.. نظرت ملاك بحنان الى خالة غنية فطيبتها وحسن ضيافتها لا حدود لهما .. كم هي طيبة كحال كل الناس في هذا البلد .. الشهامة والكرم صفتين متأصلتين في اهلها وناسها وقد جبلوا عليها .. انحدرت دمعة على خدها .. احساسها بأنها تكذب على هذه المرأة بينما هي تتعامل معهم بهذا اللطف يمزقها ويتعسها .. فهي لم تتعود على الكذب .. لكن تباً للظروف التي تجعل الانسان يفعل ما لا يرغب.. مسحت دمعتها سريعاً وقالت بابتسامة “حسناً يا خالة” ونهضت تمشي الى الغرفة التي يستلقي فيها جو ..
*
دخلت حوراء بيت اهلها باكية بعد ان كانت في زيارة لمصطفى الذي كان لا يزال فاقداً الوعي .. حبيبها الغالي متألم .. مراقبته وهو معلق بشعرة رفيعة بهذه الحياة كانت ألماً لا يفوقه شئ .. تمنت ان تكون هي من تستلقي دون حراكِ مكانه .. ان تكون الرصاصة اخترقت جسدها هي لا جسده .. كانت تشك سراً بأن خطيبها له يد في المقاومة .. لكنها لم تظن أبداً انه دخل عميقاً في الأمر .. عيناها المحمرتان بكاءاً التقطتا منظر والدتها الحزين الذاوي .. والدتها التي تكاد لا تتوقف عن البكاء هي الاخرى ليس لأجل مصطفى بل لأجل ملاك .. اطلقت نفساً مرتجفاً .. نعم هي تكره ملاك لكنها لا تتمنى لها المصير الذي آلت اليه .. عندما علمت بموتها لم تتمالك نفسها من البكاء .. قد لا يتكون ملاك من الأشخاص المفضلين لديها لكنها أيضاً لم تكن سيئة بل على العكس كانت طيبة وحسنة المعشر والخلق مع الجميع .. ثقل ما استقر فوق صدر حوراء .. ستفتقد وجودها بلا شك .. ملاك الصغيرة العمر .. هادئة الطبع .. كم يخلو البيت من وقع اقدامها الصامتة .. تسلقت حوراء السلم واتجهت لا شعورياً الى غرفة ملاك .. دموع جديدة انطلقت من عيونها عندما فتحت الباب وتذكرت كم مرة وقفت هنا على العتبة تتشاجر من طرف واحد مع صاحبة الغرفة .. جالت بنظرها في ارجاء الغرفة ثم جلست على السرير .. تأملت صورة ماريا الموضوعة جانب السرير .. هي الان مع أختها .. اختنقت بعبراتها مرة أخرى .. فمدت يدها الى الوسادة تسحبها اليها وتضمها الى صدرها وتبكي .. بعد دقائق .. حاولت ان تتمالك نفسها وهمت باعادة الوسادة مكانها ولكنها انتبهت الى دفتر صغير يستقر تحت الوسادة .. لم تنتبه اليه عندما جرتها لأنها كانت ساهمة في البعيد .. شعرت بفضول ينتابها .. ترى ماذا كتبت ملاك؟ هل كتبت عنها؟ هل قالت انها تكرهها او شئ من هذا القبيل؟.. فتحت صفحات الدفتر ولم تتفاجئ بكونه مفكرة دونت فيها مذكراتها .. لم تذكرها بشئ .. كان اكثر الكلام عن ماريا .. عن فقدها لها .. عن حزنها لفراقها .. سالت دموع حوراء غزيرة .. حتى وصلت الى الصفحة التي كتبت فيها ملاك عن شخص ما قابلته ووصفته بأنه “تفاحة محرمة” انتاب حوراء الفضول .. ترى من هذا الشخص الذي وقعت ملاك في حبه؟ ولم تكمل تسائلها حتى قرأت “عرفت اسمه اليوم .. اسمه مصطفى .. هل هناك اجمل من هذا الاسم” هبت حوراء واقفة كمن لدغتها افعى ورمت الدفتر كأنه مرض .. لقد كانت تحب خطيبها .. لقد كانت تحب حبيبها .. لقد كانت تخون العشرة وترد الجميل بالاساءة .. كيف جرأت على حبه .. كيف؟ بحركة عصبية التقطت الدفتر وواصلت القراءة .. وكلما قرأت سطراً كلما ذهب عنها شعور الحزن لفراق ملاك .. حتى وصل حقدها مداه عندما قرات أخر ما كتبته “وأخيراً قالها لي .. قال يحبني .. مصطفى يحبني .. يحبني .. لا شئ أكتبه سوى “أحبه، أحبه أحبه” .. وقلبي ممتلئ به” ضربت حوراء بحقد الدفتر بالحائط وهي تلعن ملاك وتشتمها .. ثم تنهار باكية .. مصطفى لا يحبها .. بل يحب ملاك .. وملاك مرة اخرى تفوقت عليها!
*
كانت ملاك تضحك لطرفة حكاها لها العم حسين بينما كانوا تتناول العشاء معه ومع الخالة غنية .. نظرت الى الخطوط التي حفرها الزمن بقسوة على وجهه واشفقت عليه .. فهو رجل “على قد حاله” لا يملك سوى قوت يومه .. لا أولاد لديه ولا بنات .. يعيش خريف عمره وحيداً مع الخالة غنية.. كرر عليها العم حسين بعد ذلك عرضه بأن تتصل باهلها .. فقد اخبرته نصف الحقيقة بأن أهلها متوفين وان خالها الوحيد في كندا .. وانها هنا لوحدها لكنها اضافت انها طردت من السكن الذي كانت تعيش فيه لأنها لم تدفع الايجار .. وشعرت بالذنب مرة اخرى لنظرة الحزن والتعاطف التي ارتسمت على الوجهين الطاعنين في السن .. في الليل كانت تنام على الكنبة بعد ان رفضت في اول يوم ان تشارك الخالة غنية غرفة النوم الوحيدة المتبقية بعد ان احتل جو الغرفة الشاغرة ولم تسمح للعم حسين ان ينام في الصالون .. لذا فقد اصبحت هذه الكنبة الغير مريحة سريرها المؤقت .. كانت تفكر في مصطفى عندما سمعت صوتاً مكتوماً يأتي من غرفة جو .. نهضت بلا تفكير لترى ما الذي يحصل له .. طرقت الباب ثم دخلت فرأت ملامحه في الظلام تتقلص ألماً .. تقدمت اليه بسرعه وهي تقول “هل انت بخير” لكنه اكتفى بان يتأوه كرد على سؤالها .. يبدو ان جرحه يؤلمه .. أشفقت عليه ودون تردد وضعت يدها على جبينه لترى حرارته .. جبينه كان يستعر وقبل ان تسحب يدها امسك بيدها وقال بصوت باكي “لويسا سامحيني” سرت رجفة خفيفة في اوصال ملاك وسحبت يدها وخرجت لتعود بوعاء ماء واستخدمت قطناً بدل قطعة القماش لتبللها وتضعها فوق جبينه المستعر .. فكرت انه من الافضل ان تعطيه خافض حرارة .. امسكت بكيس الاودية قرب سريره وبحثت عن خافض حرارة حتى وجدته .. سكبت له الماء ولكنها لكي تجعله يشرب عليها ان تنهضه اولا .. تأففت ملاك ،، كم يجلب المتاعب هذا الجندي الأحمق .. لم تجد بداً من ان تضع ذراعها خلف ظهره وتحاول ان تنهضه وهي تقول “هيا عليك ان تنهض لتشرب الدواء” لكن جسده الثقيل لم يستجب .. احتاجت لكلتا يديها لتجعله يجلس مترنحاً .. لم تستطع يدها الا ان تدرك مدى قسوة صدره وبروز عضلاته .. ابتلعت ريقها وهي تعنف نفسها على مسار افكارها السخيف .. وضعت الحبة بين شفتيه المشتعلتين ثم قربت كأس الماء الى فمه فأرتشف قليلا وبلل الباقي قميصه .. غضبت ملاك .. ها هي تحاول ان تساعده وها هو يزيد الوضع سوءاً .. الآن عليها ان تغير له قميصه قبل لن يبرد .. ما هذه المصيبة يا رب السماء.. بالتأكيد هي لن تغير القميص .. ابداً لن تفعل .. وليذهب الى الجحيم .. اعادت رأسه الى الوسادة برفق يتعارض مع عنف افكارها .. نظرت الى قميصه المبلل وكادت ان تشفق على مرضه وتضعف لكنها في النهاية كورت يديها على شكل قبضتين صغيرتين وخرجت من الغرفة لتعود بعد دقيقة غير قادرة على تجاهل نداء فطرتها وضميرها بوجوب مساعدة رجل مريض على الشفاء .. نظرت حولها تستجدي حلاً لهذه المشكلة فوقع نظرها على منشفة صغيرة .. اختطفتها باصابع مرتعشة ثم طوتها ودستها في قميص جو تحت مكان البلل .. هكذا لن يصل الماء الى صدره كما انها لن تضطر ان تغير له ملابسه .. خرجت وهي تمتم غاضبة “آخر زمن يا ملاك .. تشفقين على جندي”