منوعات

شموخ أنثى بقلم ندى

ج1

الفصل الأول

2007
وقفت تضيء شمعة في كنيسة يوحنا المعمدان .. الكنيسة كانت هادئة .. مع هذه الأوضاع الخ@طرة لم يكن هناك من يريد ان يخاطر بنفسه للخروج .. خصوصاً بعد ان تم اغلاق ابواب الكنيسة بسبب الظروف الأمنية في آيار الماضي .. لم تمضِ أيام قليلة على افتتاحها .. لكنها كانت بحاجة الى السلام في وسط هذا الصخب العس@كريّ ، بحاجة للقليل من الحب وسط هذه الحر,,ب .. هنا فقط .. في هذا المكان الروحاني البحت تستطيع ان تحذ,,ف حرف الـ”راء” من كلمة الحرْ@ب لتستبقِ الحب خالصاً لروحها المُعذبة… ملاكْ وقفت بشالها الابيض تثبت الشمعة على القاعدة الصخرية لطاولة الكنيسة .. وتبتعد لتجثو أمام تمثال السيدة العذراء .. تمتمت صلا@تها بصمت .. هنا فقط تشعر بالسلام .. بشيء روحاني يبلسم جرا@ح قلبها .. يملئ الفر@اغ الشاسع الذي يتركه المو@ت في روحها .. تمتمت “يا ربنا الرحيم ارحم ماريا” .. من الصعب جداً حتى بعد مرور سنتين ان تقرن اسم اختها بالمو,,ت .. أحياناً تكاد تسمع صوت ماريا يناديها في الليل .. وتنهض هي من سر,,يرها البارد لتدور في ارجاء البيت الأكثر برودة تبحث عن طيف اختها .. نهضت ملاك على قدميها .. وغادرت الكنيسة ببطء .. في الخارج كانت شمس تشرين الباهتة غير حارة .. الشتاء آتٍ .. منذ عامين وهي تشعر بألفة غريبة مع الشتاء .. ربما لانهما يتشاركان ذات البرد والرجفة والخواء .. هذا الخواء الذي يخلفه رحيل عائلتها .. حينما تو،،في والداها في حادث سير عندما كانت في العاشرة لم تشعر بالفقد لمدة طويلة فقد كانت هناك دوماً ماريا التي اتخذت دور الأم بسرعة واحت@ضنتها غياب والديهما، كما انها تأقلمت مع حياتها الجديدة في بيت خالها واصف .. وحتى عندما رحل الخال واصف وعائلته الى كندا بعد ان صحى ذات صباح ليجد ورقة تهد،،يد تستقر على عتبة باب بيته .. لم تشعر بالخو،،اء لان ماريا ثانية كانت معها .. والان من الذي سيسد الفراغ الروحي الذي تشعر به بعد رحيل ماريا؟ سنتان مرتا .. كل يوم تكبر الفجوة الفارغة في صدرها اكبر .. وينقبض قلبها في احساس مؤ،،لم بالوحدة وبالحز،،ن .. ماريا كانت شريكتها في كل شيء .. ورفيقة دربها … الوالدة والاخت والصديقة في ذات الوقت .. لم تحتج يوماً الى صديقات بوجود ماريا .. لم تشعر بحاجة لحنان الأم لأن حنان أختها كان يكفيها ويزيد .. ماريا التي رحلت فجأة وبدون ذنب .. ذنبها الوحيد انها تواجدت في مكان حدث فيه اطلا@ق نار بين الجنود والمقا@ومة .. رصا@صة ضالة .. لا تعرف من البريء من المت@هم وجدت طريقها لع@نق اختها .. فس@قطت فاقدةً الحياةَ مِنْ فوْرِها .. ومن يومها سقطت ملاك في هوة الوحدة السحيقة .. في الحقيقة هي ليست لوحدها من يشعر بالوحدة .. كل تلك الوجوه التي تمر بها في الشارع وحيدة مثلها تماماً .. حتى هذا الوطن وحيد جدا .. بما يكفي لينزف دون ان يضمد جراحه احد .. نظرت حولها بألـ,,ــم .. كم تغير العراق .. كما تغيرت هي تماماً ،، الشوارع المغبرة .. لافتات النعي المنتش$رة على الحيطان .. شكل البيوت المه@دمة الكئيبة .. كل تلك الأشياء رسمت صورة لحفرة كبيرة خالية إلا من الالـ,,ــم والجرا,,ح التي لن تندمل .. ببطء بدأت تعبر الشارع .. السيارات القليلة التي كانت تمر .. كانت تمر من الجانب الاخر للشارع .. خطواتها الثقيلة بحذائها الخفيف لم تحدث صوتاً على أسفلت الشارع المتصد@ع .. رفعت يدها لتعيد خصلة از@عجت وجهها خلف اذنها .. وفي تلك اللحظة التقطت صوت شيء قادم بسرعة .. رفعت وجهها بذ,,عر .. سيارة عسكرية تقترب بسرعة كبيرة .. حاولت جاهدة ان تحرك نفسها لتعبر لكنها تجمدت خوفاً .. لا تعرف اي ش@يطان ملعو,,ن امسك بقدميها وسمرها في مكانها .. اغمضت ملاك عينيها .. قد تموت الان لكن الموت لم يكن يبدو كنهاية سيئة لهذه الحياة الخاوية .. صوت خشن اصدرته عجلات السيارة العسكرية من نوع الـ “همر” عندما احتكت بقوة بأسفلت الشارع لتتوقف بعدها على بعد خطوة من جسدها .. ارتجفت ركبتا ملاك ولم تستطيعا حملها اكثر .. فركعت على الارض .. وقعُ أقدام سريعة اتجه نحوها .. ثم لمحت حذاءً (عسكرياً يستقر على بعد قدم منها وصوت رجل يقول بلهجة امريكية “هل أنتِ بخير؟” رفعت رأسها .. التقت بعينين زرقاوين باردتين لكنهما قلقتين .. ابتلعت ريقها .. على وجهها ارتسمت ملامح الاشمئزاز من الجندي الواقف قربها ينحني بجسده يسألها عن حالها كأنه حقاً يهتم .. يا لوقاحة هؤلاء الناس يقتلون اهل بلدها وثم يظهرون انسانيتهم المزيفة امام وقوعها في الشارع فقط! .. قالت له بحدة بنفس لهجته “نعم” ونهضت من مكانها واسرعت تعبر الشارع .. كم تشعر بالانقباض عندما ترى تلك السيارات العسكـ,,ــرية واولئك الرجال المدججين بكل انواع السلا,,ح والحماية .. اليس لهذا الكا،،بوس نهاية .. الى متى ستدنس اقدامهم القـ,,ــذرة ارض العراق؟ على الجانب الاخر من الشارع وقفت تنتظر سيارة اجرة .. لمحت الـ”همر” تتقدم من جديد نحوها بعد ان قامت بالاستدارة من التقاطع في اخر الشارع .. هذه المرة كانت تقف بأمان على رصيف الشارع .. مرت الهمر من جانبها .. وعينان زرقاوان كانتا تراقبانها باهتمام بينما ارتسمت نظرة مشمـ,,ــئزة ومتضايقة على وجهها .. تمنت لو تفقأ عيناه الوقحتان .. ذلك الجندي القاتل عديم الضمير .. بعد دقائق استطاعت ان توقف سيارة اجرة .. رجل في خمسيناته يتحدث بلا انقطاع .. لم يوقفه صمتها عن مواصلة دفع الكلام من فمه كله مرة واحد .. يشتكي كالعادة مما يشتكي منه الجميع .. الكهرباء التي تأتي كهلال العيد مرة في السنة والبنزين والمعيشة .. تنهدت ملاك .. ونظرت الى الخارج عبر النافذة .. عقلها سجل الشكل البائس للطرق .. كل شئ حولها مؤلم .. احياناً تتمنى لو انها تخرج من البلد .. تسافر الى مكان اخضر .. ترى وجوهًا فرحة .. لكنها تعلم بداخلها ان غبار العراق ووجوه اهله الكئيبة ستظل دوما تلاحقها.. دوماً ستعيش في قلبها .. توقفت سيارة الاجرة عند اول الشارع الذي تقطن فيه .. دفعت للسائق الثرثار اجرته .. ونزلت من السيارة .. مشت على مهل في الشارع الهادئ وهي تفكر في البيت العائدة اليه .. هي حتى لا تستطيع ان تسمي المكان بيتها فهي بالكاد تملك غرفة مستقلة فيه تعيش فيها وهي تشعر كم انها ثقيلة على اصحاب البيت … اصحاب البيت هم اصدقاء زوجة الخال واصف .. الخالة عالية طيبة تقريباً معها اما زوجها وبناتها فهم بالتأكيد لا يحبذون وجودها في دارهم ولم يتوانوا يوماً عن اظهار رأيهم .. تنهدت .. متى ستتخلص من هذا الضغط المؤلم لأعصابها المتعبة .. لقد كاد ان يطفح كيلها بهذه العيشة الكئيبة ،، هل سترتاح يوماً؟ هل ستجد السلام الذي تدفن رأسها بين الكتب لتبحث عنه .. دخلت الى البيت وصوت حوراء الثاقب صمّ أذنها .. حوراء البنت البكر في هذه العائلة المكونة من ثلاث بنات فقط .. كانت تصيح على اختها الصغيرة مريم لسبب تافه كالعادة .. تجاهلت ملاك الصرا,,خ فقد تعودت عليه .. ومشت الى غرفة الجلوس حيث كانت الخالة عالية تتابع برنامجاً عن الطبخ .. عندما لمحت ملاك تقف عند الباب سارعت برسم ابتسامة حانية وهي تقول “ملاك مرحباً بعودتكِ .. ما رأيك ان اطبخ اليوم الفوتشيني؟ لقد اخذت الوصفة من البرنامج” اقتربت ملاك منها وقبلت رأسها وهي تقول “بالتأكيد .. كل شئ من يدك يكون لذيذاً .. دعيني اغتسل واغير ملابسي وسآتي لمساعدتكِ حالاً” ربتت الخالة عالية على كف ملاك وهي تفكر انها تبدو متعبة قليلاً .. كما ان جسدها يأخذ بالنحول شيئاً فشيئاً .. وهي ترى نظرة الحزن السوداء تزداد قتامة في عينيها الشهلاء .. تألم قلبها لهذه الصبية التي لم تبلغ عشرينها بعد .. لقد عانت كثيراً خلال السنتين الماضيتين برحيل اختها ماريا رحمها الله .. وهي تعلم تماماً انها ليست مرتاحة هنا فزوجها وبناتها سامحهم الله لا يخفون امتعاضهم منها ابداً ، ودوماً يتهمونها بأنها تدلل تلك “المشردة” كما يطلقون عليها أكثر من اللازم .. لو ان احدهم سمع صوت بكائها الذي يقطع القلب اثناء الليل .. او صوت صراخها عندما تهاجمها الكو@ابيس لعلموا انها لا تبالغ ابداً في الاعتناء بها .. فملاك ليست سوى صبية مكسورة الجناح .. كتب عليها القدر ان تعيش حياة وحيدة وهي في سن الصبا .. تنهدت وهي تقول “لا حول ولا قوة الا بالله” ثم اعادت عينيها الى شاشة التلفاز وفكرها سارح بحال ملاك.
دخلت ملاك الى غرفتها المتواضعة، أغلقت الباب خلفها لتتخلص من صراخ البنات في الاسفل .. الا يتعبن؟ ابتسمت لصورة اختها الموضوعه على التسريحة وقالت بلهجة ساخرة “اراهن لو انكِ هنا لكنتِ عرفتي كيف تخرسيهن” اخذت ملابسها واتجهت على\ إلى الحمام الملحق وبعد حمام سريع هبطت لتساعد الخالة عالية ،، دخلت مريم تفتح باب الثلاجة تبحث عن شئ “يصبرها” حتى موعد الغداء وهي تتذمر من تباطئ والدتها وملاك في تحضيره .. تنهدت ملاك .. فهي تشعر انها خادمة في هذا البيت اكثر من ضيفة او مقيمة ،، الكل هنا يأمرها ويطلب منها ان تفعل هذا وذاك وهي لآنها تشعر بالخجل ل\من رد احسان توفير مأوى لها بالإساءة اذا ما رفضت ، تقوم بعمل كل ما يطلب منها .. حتى ولو رأته اجحافاً ان تجلس الفتيات الثلاث كالأميرات وهي تخدمهن .. لقد بدا الامر كأنه نسخة رديئة لقصة سندريلا .. حتى الأمير في هذه القصة كان نسخة سيئة عن امير سندريلا .. فأميرها في الحقيقة خطيب فتاة اخرى وصادف ان تكون هذه الفتاة حوراء الانانية .. عندما انتقلت للعيش هنا اعتادت ان ترى مصطفى كل يوم صباحاً في طريقها عندما كانت تذهب الى المدرسة .. قلبها كان يدق وهي تراقبه بزيه الجامعي الجميل يسير الهوينا ذاهباً الى اول الشارع لينتظر باص الجامعه .. لقد احبته منذ المرة الأولى التي رأته فيها .. ورغم انها تعرف استحالة حدوث معجزة حتى لو كان يبادلها مشاعرها فينجمعان معاً لأنه ليس من دينها لكنها لم تستطع ان تمنع قلبها من حبه .. لذا فقط كانت صدمة كبيرة لها وجر@ح اكبر لقلبها عندما تقدم لخطبة حوراء .. يومها انتحبت طوال الليل .. فالقدر لم يكفِهِ ان يجعل حبها له محرماً بل ايضاً جعله موجعاً ومعذباً .. فقد صار يأتي الى البيت مرارا .. والاسوأ انه كان يتكلم معها بلطف ويشاركها اهتمامها بالقارءة حتى انه وعدها مرة ان يلعبا الشطرنج معاً .. هذا اللطف الذي اسبغه عليها جعلها تحبه اكثر وبالتالي تتعذب اكثر لانها تعلم ان حوراء الانانية التي تنقلب الى ملاك منزل امامه لا تستحقه ابداً .. كم ان الحياة غير عادلة .. فكرت ملاك بحنق .. وهي تقف صامتة تقطع البطاطس في المطبخ وعندما سمعت صوت الذي كان يحتل افكارها يأتي من خارج المطبخ قائلاً “مرحباً حبيبتي” سقطت السكين من يدها .. لقد اتى مصطفى .. ابتلعت ريقها وامسكت بالسكين مرة اخرى وواصلت تقطيع البطاطا بهدوء .. لقد تعودت بعد ستة اشهر ان تتحكم بأعصابها جيداً وان ترسم ابتسامة مهذبة وان تدعي البرود في حضوره كما عودت نفسها ان تستمع لكلماته المغازلة لحوراء محتفظة بالالم في نطاق قلبها فقط دون ان يظهر على وجهها اي من افكارها او مشاعرها .. لقد كانت دوماً جيدة في اخفاء مشاعرها .. ماريا هي الوحيدة التي كانت تقف امامها مكشوفة المشاعر والافكار بشكل تام .. وعندما رحلت .. انغلقت تعابيرها على البرود التام والتهذ,,يب اللطيف فلا يبدو عليها غضب او فرح .. وجه جامد لا حياة فيه .. كقلبها تماماً ..@
دخل مصطفى المطبخ مع حوراء .. التي كانت تضحك بغنج لشيء ما يقوله .. التفت ملاك بابتسامة مهذبة ترحب به “مرحبا مصطفى .. كيف حالك؟” ابتسم لها ابتسامته اللطيفة التي تجعل قلبها يذوب واجاب بصوته الذي يهز كيانها “بخير ملاك وانتي؟” ردت عليه انها بخير ثم التفت تكمل عملها لانها ان اطالت الحديث معه فإنها ستسمع محاضرة طويلة من حوراء بعد ان يرحل وهي لا تحتاج لصداع في الرأس ..
سمعت صوت الخالة عالية تنادي على حوراء .. استجابت حوراء بتأفف لوالدتها .. وبقي مصطفى في المطبخ مع ملاك .. قرع قلبها بشدة في صدرها .. لقد كان حضوره يأسرها .. ودعت الله ان تتمسك بعقلها وان لا يسقط قناع برودها .. تقدم منها وقال “لقد اقترب الوقت” وعرفت فوراً على ماذا يتكلم .. التفتت بسرعه الى الخلف خوفأ ان يسمعها احد وهمست “الامر خطر يا مصطفى ، ارجوك تعقل” هز رأسه وابتسم “العملية ليست صعبة .. عبوة صغيرة في طريق المطار .. نعرف انهم سيمرون من الطريق كل يوم لقد راقبناهم ” سألته “متى بالضبط؟” همس “بعد اسبوعين” تنفست ملاك بصعوبة .. الخوف تجسد بارتعاشة عبرت كل جسدها .. اقترب منها مصطفى أكثر وسأل بقلق “هل انتي بخير؟” نظرت اليه والتقت عيناهما لثوانٍ معدودة اخفضت بعدها بصرها وهي تشعر ان وجنتاها اشتعلتا وهمست “فقط كن حذرا .. ليحفظك الرب” .. ابتسم في وجهها فغاص قلبها ، سمعا وقع اقدام تقترب فأسرع مصطفى يبتعد عنها ليضع كوب الماء في حوض المغسلة .. ويسألها بطريقة عادية “وكيف حال العمل؟” .. تابعت تقطيع البطاطا وتكلمت بصوت ثابت “جيد .. لقد بدأت اجيده .. لقد قالت السيدة ميساء انني قد أكون مع قليل من التمرين خياطة ماهرة” هنا تدخلت حوراء قائلة بأستهزاء “وهل تفسد الخياطة الماهرة تصميم تنورة بسيطة؟” .. كتمت ملاك غضبها .. دوماً ما تشير حوراء الى تلك الحادثة مته@مة اياها بافساد موديل تنورتها متغاضية عن القول انها امسكت بها بطريقة خاطئة عندما كانت هي تقص القماش .. قابلت سخريتها بالصمت وغيّر مصطفى الموضوع .. تناول الجميع الغداء و التزمت ملاك كالعادة الصمت لكنها هذه المرة استمتعت بالغداء .. صوت مصطفى كان كالموسيقى التي تنساب الى اذنها بكل شفايفة .. بعد الغداء صعدت الى غرفتها وتناولت مفكرتها التي تبث فيها كل مشاعرها وكتبت:
“صوت مصطفى جميل جداً
عندما أسمعه يتحدث .. أشعر ان هناك ملائكة من السماء تهمس لي
أضيف صوته الى قائمة الأشياء التي أحبها .. رغم أنني قد ضفته سابقاً
لكنني اسجل حبي لصوته مرة اخرى
صوته موسيقى ،، يترنح قلبي ثملاً بالحب على ايقاعها
كم أحبك يا مصطفى .. كم احبكْ!” .

 

الفصل الثاني – حرب مع الرّاء
عينانِ بنيتانِ باهِتتانِ حدّقتا به باشمئزازٍ .. قرأ الكُره في أعماقِهما .. جسدُها الصغيرُ كان راكعاً على رصيف الشارع .. كاد مايسون الأحمق أنْ يدهسها بقيادته الجنونيّة .. عندما سألها إن كانت بخير .. ازدادت عيونها قتامة وأطلقت سهامَ كرهٍ ونفورٍ تعود على ان توجه اليه مؤخراً لكنها هذه المرة أثرت به بشكل أكبر .. ضاق صدره .. وتمنى لو يستطيع أن يمحي نظرة الاشمئزاز من وجهها .. لكنه لا يستطيع .. هو نفسه يشمئِز من بدلته العسكرية .. صوتها جاء ناعماً ولكنه كان حادًا .. شعرها البني الذي أحالته الشمس إلى الاشقرار تراقصَ حول وجهها .. بينما قفزت واقفة تهرب منه إلى الجهة الأخرى من الشارع .. بعد نظرة مطولة لقامتها الصغيرة والنحيلة عاد إلى السيارة وهو يقول “مايسون أيها الأحمق كدت أن تقتلها ” هز مايسون كتفه وهو يقول “ومن يهتم” وعاد يقود السيارة بذات السرعة .. شعر جوزيف بالحنق وكاد أن يضرب مايسون .. مع ماذا يفكر انه يتعامل؟ مع بشر أم دجاج؟ عندما استدارت الهمر من التقاطع مرت السيارة بجانب الفتاة نفسها التي كادت أن تدهسها سيارتهم.. كانت تقف على الرصيف تتشبث بحقيبتها بِكلتيْ يديها .. تنظر بتقطيب إلى الشارع عندما مروا من جانبها رمقته للمرة الأخيرة بذات النظرة المحتقرة .. ورغم أن تلك النظرة آلمتْهُ وعلمَ أنها ستلاحقه في كوابيسه إلا أنه بقي يحدق في العينين الواسعتين .. عينا غزال .. واسعتان و لوزيتان وبنيتان .. لها عينان جميلتان.. في الحقيقة كلها جميلة .. ملامحها دقيقة ورقيقة ولكنها باردة في نفس الوقت .. ونظرة الكره زادتهما بروداً ،، تنهد .. وهو يتحسس ثقل السلاح على كتفه .. كأن جبلاً يج@ثم عليه .. لكم يكره هذا الزي وهذا السلاح وهذا العمل الذي جاءه مجبوراً .. حتى والده صاحب النفوذ الذي لا يضاهى .. لم يستطع أن يحول دون ذهاب ابنه في الخدمة العسكرية بعد أن تم استدعاؤه .. عندما علم أول الأمر جن جنونه .. هو جوزيف ميلر .. الرجل الذي كان ينظم التظاهرات المعارضة للحرب على العراق .. يصير الآن جندياً مكلفاً في الجيش الأمريكي .. لكم هو مشين هذا الأمر .. حرك أصابعه داخل حذائه العسكري .. كم يشتاق لملمس الرمل … ويشتاق لمنزله الصيفي على البحر و لأوراقه و أقلامه .. يشتاق أن يرجع هو جوزيف نفسه .. لكنه قد تغير .. لقد رأى من المو@ت ما يكفي ليشوه معنى الحياة في عينيه .. رأى كيف يتحول أبناء جلدته إلى وحوش .. كيف يتعاملون بلا إنسانية مع الناس هنا .. رغم أنه لم يسئ إلى عراقي أبداً .. لم يقتل ولم يعتقل ولم يرفع صوته حتى على أحد منهم لكنه يعلم أنهم يكرهونه .. نظراتهم إليه كانت كالخناجر تطعن روحه .. وتلاحقه في كوابيسه كل ليلة .. عيونهم المتهمة إياه بالقتل والتوحش .. وأصوات صراخهم وبكائهم ودعائهم تلاحقه أيضاً .. حتى لو لم يكن يفهم لهج@تهم لكنه كان يعلم أنهم يدعون عليه .. وهو خائف جدا أن يستجيب الرب لهم فيهلك .. نظر إلى الشوارع المغبرة .. وصلت الهمر إلى ساحة أبو جعفر المنصور في حي المنصور .. في السابق كان هناك تمثال لحاكم عربي قديم اسمه أبو جعفر مثبت على القاعدة الصخرية الخالية الآن .. لقد قرأ عن هذا البلد كثيراً .. ولقد أحب عراقته .. وقد آلمه أن يكون هو جزءًا من الجيش الذي دمر جماليات هذا الوطن .. وسلبه ضحكات أطفاله .. أطفالُهُ الواقفون الآن على إشارات المرور يبيعون المحارم والألعاب البلاستيكيه بحثاً عن مورد رزق لعائلاتهم الفقيرة .. كان هذا المنظر بحد ذاته جريمة .. شعر بألم في قلبه .. وعذاب الضمير لا ينفك يقض مضجعه .. لقد صار رجلاً ملعوناً بزيه .. بجنسيته .. لقد صار قاتلاً .. في نظر الجميع حتى نفسه !
وصلوا إلى المقر أخيراً ،، في غرفته خلع جوزيف عن نفسه السلاح والدرع بقرف .. اخذ حماماً سريعاً وجلس أمام حاسوبه الشخصي .. لا بد أن أخته الصغيرة تينا تنتظربريده الإلكترونيّ .. تينا هي الشخص الوحيد الذي يحبه بصدق من بين كل أفراد عائلته .. ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجهه .. عائلته؟ وهل لديه فعلا عائلة؟ هو يراهم في معظم الأحيان على شكل عصابة أو منظمة لا تتمتع بأي شرف! .. لقد انضم إلى ركب هذه العائلة في سن متأخر من مراهقته .. كان يعيش في كنف أمه اللبنانية .. الخادمة البسيطة التي أغواها ابن صاحب القصر الذي كانت تعمل فيه .. القصص التي لطالما يظنها الناس مجرد “أفلام” كان هو احد أبطالها .. لكنْ هذه المرة كان الابن المدلل يتحلى ببعض المروءة فلم يدع الفتاة الحامل تواجه مصيرها .. بل اشترى لها بيتاً متواضعاً .. والتزم بصرف راتب شهري لها .. منذ أن وعى هو على هذه الحياة تقبل فكرة انه ابن غير شرعي لرجل غني وانه لا يحق له أن يطالب ببعض حقوق الأبوة من والده لأن السيدة العريقة التي كان والده متزوجاً منها رفضتْ تماما أن يختلط أبناؤها بابن “خادمة” .. ولذا لم يكن يوماً على وفاق مع والده وحتى أنه لم يقابل يوماً أخوته من أبيه .. لقد كانت والدته لمدة طويلة هي كل ما يملك في الحياة .. وعندما فقدها شعر بالخواء .. بأنه يقع في براثن الوحدة .. صبي في الخامسة عشر لا يعرف ماذا يفعل في حياته .. ترك المدرسة وبدأ بالعمل .. رغم أن والده استمر في دعمه لكنه كان يريد أن يعتمد على نفسه .. حتى جاء اليوم الذي زاره والده بكامل غطرسته وبذلته الأنيقة وطلب منه أن يحزم حقائبه لأنه سيأتي ليعيش معه .. عندما استوضح الأمر علم أن زوجة والده قد هجرته وهكذا فقد صار بالإمكان أن يعود الحَمَل الضائع إلى بقية القطيع .. يومها رفض بشدة .. لكن والده العنيدَ وصعوباتِ الحياة أجبرته أخيراً على التزام جانب العقل والذهاب معه .. لم يفاجأ بأنه قوبل بموجات كبيرة من الحنق والنفور من أخويه اللذيْن يكبرانه ببضعة أعوام لكنه في الحقيقة تفاجأ من ترحيب تينا الطفلة الصغيرة به .. فقد تعلقت به وهي تقول له “لماذا انت عابس هكذا؟” الطفلة ذات السبع سنوات حفرت حبها في قلبه حفراً .. هو لا يزال يتذكر ضفائر تينا الشقراء و التي كانت تتذمر لأنها تكره أن تقوم الخادمةُ بضفرِها لها لأنها تربطها بقسوة فأجبرته هو جوزيف المتحجر على تعلم ضفر الشعر ليضفره لها .. هي الوحيدة التي كانت تجعله طوع بنانها وللأمانة فهي ما زالت تفعل ! .. عندما انضم إلى أعمال العائلة توقع الجميع منه الفشل .. لكن دماءه العربية العنيدة رفضت فكرة الفشل وهكذا فقد سهر الليل مع النهار .. درس كل مبادئ المحاسبة بنفسه واطّلع على الاقتصاد واخذ فكرة عن عمل البورصات ثم دخل مضمار العمل بثقله .. وقد أُدهش والده و كذا الجميع بكفاءته .. بعد خمس سنوات كان جوزيف ميلر الذراع الأيمن لوالده في العمل .. مما أثار أحقاد أخويه وفخر تينا .. ورغم نجاحه هذا لم يشعر يوماً انه يجد نفسه في هذا النوع من العمل .. برغم الوجه القاسي الذي يحمله وعيْنيْه الباردتيْن .. إلا انه كان يحمل خيالاً خصباً وأحلاماً يخجل حتى أن يسميها رومانسية .. ربما ورث هذا الجانب عن أمه .. التي كانت دوما مفعمة بالعاطفة .. أغانيها العربية بصوتها الدافئ كانت ترنيمات سماوية أزهرت في قلبه مشاعر جميلة خبأها بمهارة ليطلقها على الورق .. كانت تجربته الأولى في كتابة الروايات تجربة احتفظ لنفسه بها .. لكنه في المرة الثانية شارك صديقه الصحفي المشهور جارد تايلر بالفصل الاول من الرواية الجديدة فانبهر تايلر وألحّ عليه بوجوب إكمالها ونشرها .. وإزاء هذا التشجيع مصحوباً بالرغبة الدفينة لجوزيف بان يطلق أفكاره وأحاسيسه أمام الناس دون أن يعرفوه .. أكمل روايته الأولى ونشرها تحت الاسم المستعار حداد وولفمان .. لقد اختار حداد لأنه اسم عائلة والدته أما وولفمان (أي الرجل الذئب) فقد اختاره لأن قصة ليلى والذئب التي كانت تقصها عليه أمه عندما كان صغيراً كانت من مفضلاته .. بعد النجاح غيرِ المتوقع لروايته الأولى ، توالت أعماله .. ست سنوات تقريباً منذ بدأ النشر وكتبه دوماً تحتل المركز الأول في المبيعات .. لم يخبر أحداً عن حقيقة انه هو حداد وولفمان نفسه حتى عندما رأى تينا تقرأ روايته بشغف معلقة على إبداع الكاتب .. شعر بالفخر لكنه التزم جانب الصمت .. هذا الجانب سري جداً في روحه .. لا يريد لأحد أن يكتشفه .. انه جانبه الأضعف والأرق وهو نقطة قد يضربه فيها أعداؤه وأولهم أخويه .. تنهد وهو يطفئ حاسوبه بعد أن أرسل الايميل لتينا .. الحياة صعبة .. وهذا الوضع العسكري يشعره بالضيق .. ونظرات الكره من حوله تكاد تفتك به .. لكم يتمنى أن تنتهي هذه السنة على خير .. فقد اشتاق جداً لحياته السابقة .. لكنه علم في قرارة نفسه انه لن يعود كما كان في السابق .. لقد واجه الحياة من أصعب زواياها .. وعاشر الناس في أقسى محنهم وبدل أن يكون إلى جانبهم كان في صف من يعتبرهم مدانين .. التقارير التي أكدت عدم وجود أي أسلحة كيماوية في العراق جعلته يشعر بغضب مرير .. كان يعرف منذ البداية انه لا شيء هنا لكنه لم يستطع إلا أن يشعر بالغضب بعد أن تأكد من كل شيء .. ها هم يقتلون ويدمرون بذريعة واهية .. هل هذا ما يجنيه الإنسان عندما يسعى وراء الثروة؟ وراء السلطة والقوة؟ لكم تبدو تلك المفاهيم دنيئة أمام روح الإنسان الغالية التي تهدر بالمئات في هذا المكان المشبع بالموت .. موت قد لا يكون شريكاً فيه فعلياً لكنه جزء منه وهو وصمة عار ستبقى في جبينه وهو كذلك حِمل سيرهق ضميره حتى آخر العمر .. استلقى على سريره وأغمض عينيه .. لم يكن بذلك يدعو النومَ ليطرُق أجفانه لكنه فاجأه بالزيارة بدون استئذان .. بعد لحظات وجد نفسه يقف وحيداً في الظلام على حافة هوة سحيقة تصدر منها صيحات يعرفها تماماً .. تلك الصيحات البريئة والدعوات المظلومة التي تطالب الرب أن يقتص منه كانت تتعالى من الهوة … خطى خطوة إلى الوراءِ ليبتعد عن حافة الرعب تلك ، لكنه سمع صوتاً من خلفه “الى أين جوزيف؟” استدار بفزع .. عينا غزال طالعتاه .. شعرٌ بني مشقَرّ .. وفم مزموم بقوة .. كان شكلَ وجه يعرفه جيداً .. وجهٌ نظرت إليه صاحبته باشمئزاز منذ ساعات توسل إليها “أنا لا ذنب لي” .. تقدمت نحوه ببطء “أنت قاتل” تراجع “كلا كلا .. لم اقتل” .. وضعت يدها على صدره “بل فعلت .. أنت مجرم” ثم دفعته في صدره ليتراجع إلى الخلف ساقطاً في الهوة السحيقة لتتلقفه صيحات الأبرياء.. هب من نومه فزعاً .. جبينه متعرق وصدره يعلو ويهبط باضطراب .. لقد حلم بها .. بعيونها الناطقة بالكره .. جرت يداه في شعره وهو يقول “يا ربنا الرحيم” … ها هي ضحية أخرى تنضم الى زواره الليليين .. تغضن جبينه بألم .. ونهض غاضباً من سريره عندما وقعت عيناه على السلاح .. امسك بالسلاح ورماه أرضا ألحقه بالبذلة العسكرية .. ثم تناول علبه سجائره وأشعل واحدة وراح ينفث دخانها بنهم .. ثم سحق عقبها المتبقي في المنفضة كأنه يسحق روحه المحطمة.
سمع طرقا على الباب تلاه دخول المجندة ميراندا دون أن يأذن لها .. “ااااه يارب هذا ما كان ينقصني” فكر جوزيف بانزعاج .. بينما تمايلت ميراندا في مشيتها بمجون .. هذه الفتاة الحمراء الشعر لا تكف عن التزلف إليه ومحاولة استدراجه وهو قد تعب منها ومن ملاحقتها .. لقد بين لها بأكثر من صورة انه غير مهتم لكنها كما يبدو بطيئة الفهم .. “مرحبا جو عزيزي” ،، قالتها بنبرة عابثة أثارت اشمئزازه أجابها بصوت ضجر” أهلا ميراندا .. ما الأمر؟” أجابته بغنج “لا شيء عزيزي فقط جئت اطمئن عليكَ واراك .. لقد اشتقت اليك” ،، كاد جوزيف أن يتقيأ من طريقتها المقرفة في إثارة اهتمامه .. فأكثر ما يكره فحياته هو ترخيص الإنسان لنفسه لأي غرض .. لقد علمته أمه أن أهم شيء يملكه الإنسان هو عزة نفسه وكرامته و إن أهدرهما فقد إنسانيته تماماً وميراندا بالتأكيد تهدرهما معاً على أعتاب دعوتها الصريحة له .. فهي تعرف أنها جميلة جداً وان جميع من في المعسكر يجري وراءها كما يعلم تماما أنها لا تهتم به كشخص إنما فقط تريده انتصاراً صغيراً في مجموعة انتصاراتها .. لتتباهى أنها أوقعت “رجل الثلج” كما يسمونه هنا في شباكها في حين فشلت في الأمر باقي المجندات.. لكن ميراندا ستفهم عاجلاً أم آجلاً أن هذا الهوى الرخيص لا يهمه أبداً لذا قال لها بلهجة صارمة “لكنني لم اشتق إليك .. أرجوكِ انصرفي فأنا بحاجة للنوم” ابتسمت بخبث وكأن إهانته لها لم تزعجها “هل تريدني أن أساعدك في تدفئة فراشك” أغمض عينيه بانزعاج .. لماذا لا تتركه في حال سبيله فيكفيه ما لديه .. نهض من مكانه وفتح لها باب الغرفة في إشارة واضحة لرغبته في انصرافها وهو يقول “لا شكراً” تحول الدلال في عينيها إلى حنق فرفعت رأسها عالياً وهي تقول باشمئزاز “مغرور” وتركت الغرفة حتى حينٍ ، فهو يعلم أنها ستعاود الكرة كما تفعل كل مرة .. اخرج سيجارة أخرى من علبة سجائره .. ودخنها بعصبية .. لقد طفح كيله بهذه الحياة وهذا الوضع .. فعلا لقد طفح كيله !
*
اتجهت ميراندا إلى غرفتها وهي ترغي وتزبد .. هذا المغرور المتعالي من يظن نفسه؟ بطريقته الباردة تلك يجعلها تشعر أنها امرأة لا قيمة لها .. هي ميراندا سامرز الفاتنة التي يجري خلفها كل من في المعسكر على اختلاف رتبهم ووظائفهم .. يقهرها هذا الجندي المكلف برفضه؟ نظراته الباردة المتعالية تذبح كبريائها الأنثوي .. هي لم تتعود على كلمة “لا” .. فالرجال يأتون إليها حتى دون أن تطلب .. مجرد نظرة عابثة لاهية في عينيها تجعلهم يلهثون خلفها .. لكن مع رجل الثلج هذا تتجمد كل ألعابها وحيلها في صقيعِ لا مبالاته .. أكثر ما يزعجها فيه أنها لا تستطيع أن تمسك عليه زلة .. فهي لم تره يبالغ في مجونه كباقي الموجودين .. لم يرقص يوماً على إيقاع صاخب .. لم يحتسِ الخمر بكثرة لدرجة الترنح .. لم يقترب من امرأة يوماً .. حتى ظنته غير مهتم بجنس النساء بل بجنس الرجال .. لكنها عادت لتنفي هذه الفكرة من عقلها فشخص برجولة ميلر لا يمكن أن يكون شاذاً .. رجل مهذب وبارد لم تسمعه يشتم يوماً .. يزعجها جدا هذا الكمال في شخصيته الأرستقراطية.. وتلك الخطوات الهادئة الخفيفة كخطوات النمر تثير جوعها إليه .. الجوع الذي لا ينفك يزداد قوة وقسوة فيجعلها تعيد الكرة معه مرة ومرتين وثلاثة دون أن تمل من رفضه لها .. عليها أن تعترف لنفسها أنها تهيم بجوزيف كما أن عليها أن تعترف انه لا يعيرها أي اهتمام .. تنهدت بحسرة .. لو انه فقط يقبلها … لو انه فقط يقربها .. لكن المغرور لا يفعل أبدا .. أليست له رغبات؟ أليس من البشر؟ ألا تنتابه الكآبة والضجر من هذه الاستقامة .. استقامة وجدتها شاذة في ظل مفاهيم مجتمعها المنفتح .. لم تفهم أبداً ولن تفهم أن جوزيف ميلر رجل تربى على قيم المجتمع الشرقي أكثر من المجتمع الغربي .. لقد تربى على يد آمه التي كانت تضع الحب سبباً وحيداً لا يشاركه أي سبب آخر للامساك بيد من تحب .. كيف لميرندا أن تفهم عذرية المشاعر النقية وهي الغارقة في وحل التحضر الزائف لمجتمعها المنحرف؟!
*
أستعد جوزيف للخروج .. ملابسه لم تكن عسكرية .. شعر بالراحة .. اليوم موعد القداس الباسيلي في كنيسة يوحنا المعمدان .. ستمتلئ روحه بنقاء الإيمان أخيراً.. سيخلص جسده من الآثام وعقله من الذنوب .. وسيشعر بالسلام الداخلي الذي توفره الصلوات الطيبة .. سيذهب برفقة بعض من رفاقه .. لقد كان أكثر من سعيد عندما أذن له الأب زكريا أن يحضر القداس برفقة أصدقائه قائلاً أن الكنيسة بيت الرب وليس لأحد حق أن يمنع الناس من زيارتها .. حتى لو كان هؤلاء الناس جنود أمريكيون .. فهم قبل كل شيء رعايا الرب ولا حق لأحدٍ في منعهم.. كان يعرف أن الأب زكريا غير راضٍ تماماً لمجيئهم فهو كغيره من العراقيين يرفض وجودهم كما هو جوزيف نفسه يرفض هذا الوجود .. لكن الفرق أن عينيْ الأب زكريا كانتا مليئتين بالسلام الذي حمله إليه الإيمان بالقضاء والقدر ولم تمتلئا بالكره والحقد .. نظرة غير راضية كانت الإشارة الوحيدة في وجه الأب السمح تدل على رأيه الحقيقي في حضورهم .. لكن جوزيف لم يستطع أن يقاوم الحاجة إلى حضور القداس .. كانت روحه معذبة .. أليس من حقه أن يصبو إلى قليل من السلام .. قليل من المحبة الإلهية ؟ ام انه قد تمادى في ذنبه حتى استنفذ كل حظه في طلب المغفرة؟ انه يريد من الله أن يغفر له سكوته هذا ووجوده هذا وعمله هذا .. يريد من الله أن يخلصه من هذا الوضع المزري الذي وصلت إليه سكينة نفسه المضطربة.. طرقة على باب غرفته أخرجته من أفكاره.. اطل وجه صديقه مارك يخبره انه قد حان موعد الذهاب .. سيذهبون كمجموعة مكونةٍ من خمسة شُّـبانٍ وفتاتين في سيارتين عاديتيْن .. هذا الظهور قد يكون أفضل بكثير من الظهور بسيارة عسكرية وبملابس الجيش .. على الأقل ربما يخفف من نظرات الاحتقار التي سيرميهم بها المصلون هناك..
*
“طف هينا إنتي إفنوتي ناي نان
إنتيف شينهيت خارون إنتيف سويتم
إيرون إنتيف إيرفويثين إيرون
إنتيف تشي أن ني تيهو نيم ني طفه إنتي
ني إثؤواب إنتاف إنطوطو إي
إهري إيجون إبي آغاثون إنسيو نيفين
إنتيف كانين نوفي نان إيفول”

الكلمات المنسابة من فم الشماس .. كانت تخرج بهدوء لتبلسم روحه الملتاعة .. وقف في آخر الصف .. أخفض رأسه .. تجنب نظرات الاستنكار التي نطقت بها عيون الناس من حوله .. شعر بأنهم يتهمونه بإفساد روحانية المكان .. كأنه مرض أو شيء ملوث .. أليس هو كذلك؟ .. أليس هذا ما يشعره تماماً فلماذا يلوم الآخرين إذا شعروا بنفس الشيء ؟ .. لكنه لم يستطع أن لا يشعر بالألم .. الألم الذي يشبه سابقه عندما هاجمه حين دخل الكنيسة .. الكنيسة التي لم يهتم احد بها .. على جدرانها الخارجية كتبت شعارات كثيرة بالعربية لم يفهمها .. لكنه لم يستسغها فقد شوهت روحانية المكان بالخطوط السوداء المزعجة .. بساطة التجهيزات وفقرها جعله يقارن بين كنائس امريكا المرتبة وكنائس العراق المهدمة تقريباً .. شعر بالحنق .. كلها مساكن الله فلماذا هذا التفريق .. لماذا يكون عند البعض الحق في أن يقيموا صلاتهم آمنين مطمئنين في مكان مريح بينما آخرون يقيمون صلاتهم على عجل كأنهم يخافون الموت المختبئ وراء الجدران العتيقة لكنائس لا يهتم بتجهيزها أحد.. هناك ظلم .. كل شيء هنا ظلم .. أغمض عينيه .. ثم فتحهما وقد رفع رأسه قليلاً .. لم يعرف حقاً ما الذي اجتذب نظره إلى الصف الأمامي على يساره .. لكنه لمح صفحة وجهها .. الفتاة بعيني الغزال التي رمته في الهوة السحيقة في كابوسه قبل أسبوع .. كانت تضع شالاً خفيفاً بلون ابيض .. أعطاها مظهراً نقياً عززه خشوع عينيها وانحراف شفيتها للأسفل بحركة حزينة متضرعة .. وجهها شعّ بنور جميل .. لم يستطع أن يرفع عينيه عنه .. بدت قطعة من السماء .. وكمن أحس بأن هناك من يحدق به .. التفتت إليه بحركة سريعة فضبطته متلبساً بتهمة النظر إليها .. عيناها الخاشعتان تحولتا إلى حجرين قاسيين باردين .. نظرت إليه ذات النظرة المحتقرة لكنها هذه المرة كانت واضحة أكثر إذ جالت على شكله من رأسه إلى قدمه بنظرة مهينة شعر معها انه مجرد حشرة تدهسه صغيرة الحجم تلك بقدميها .. عيناه عكستا بروداً مماثل ورد لها النظرة .. لم تكن مهينة كنظرتها لكنها كانت قاسية جعلت شفتيها ترتعشان بشكل لا يكاد يلحظ قبل أن ترمقه بنظرة كره أخيرة وتستدير لتردد مع الناس الصلاة .. إزاء مقتها له تبخر جو السلام حوله وفيه .. اضطرب نبضه .. وشعر برغبة لا مبرر لها في محو نظرة الازدراء تلك … عيناها صريحتان جداً .. مرآتان لروحها الممتلئة بكرهه هو وكل بني جلدته على ما يبدو .. ضاق صدره .. انه محاط بالكره .. لماذا جاء؟ من الغباء أن يفكر بأنه يمكنه أن يكسب نظرة ود واحدة أو نصف نظرة حتى من تلك الوجوه السمراء التي كدّها التعب .. همس في داخله “يا ربنا الرحيم” وحاول بكل قوته وإرادته أن يركز على ما يقوله الشماس ليستعيد صفاء روحه ولو للحظات .. لكن عينان كعيني الغزال أبت أن تتركه .. لقد ظلت في خياله تنظر إليه بكره مهين كأنها تود أن تقتله .. ولو سنحت لها الفرصة لربما فعلت !

 

الفصل الثالث – ح،رب مع الراء

حدق مصطفى في النافذة المطلة على الخارج .. بعينين هادئتين راقب اوراق الاشجار تتمايل مع النسيم .. فكره سرح في العملية المفترض ان ينفذها بعد أسبوع .. كان مؤمناً بصحة ما يفعله .. برد الضربة لمن يضربه .. بأزهاق روح من يزهق روح الأبرياء من أبناء وطنه .. كل شئ كان معداً وفق خطة .. فهو ومجموعته لم يكونوا من النوع العبثي .. لم ينفذوا حركة يوماً دون ان يحسبوا حسابها خمسين مرة كما انهم لم يستهدفوا يوماً عراقياً .. كانوا يعملون فقط ضد الأمريكان .. ضد المحتلين الحقيقين للبلد .. الآن والبلد كله يجري خلف الطائفيات الدينية .. متناسين العدو الحقيقي .. كان لا بد من أحد يواصل مقاومة المحتل .. مقاومة شريفة لا مصالح فيها ولا اهداف سوى مصلحة الوطن وهدف التحرير .. نعم هو مقتنع بما يفعل .. مقتنع جداً .. لكن ملاك غير مقتنعة .. فهي دوما تردد على مسامعه ضرورة ان يغير تفكيره .. وان لا يفكر بالعنف كحل .. ودوماً ما تجلب غاندي كمثال لها على تحقيق السلام دون اللجوء الى القتال .. ابتسم حين ارتسم وجهها النحيل ذو الخطوط الحادة في مخيلته .. وتذكر اول مرة رآها فيها تمشي الى المدرسة .. صغيرة الحجم وضئيلة البنية ونحيفة بشكل يوحي بانها ليست على ما يرام .. راقبها دوماً .. كان يخرج في الصباح المبكر قبل موعد الباص بنصف ساعة فقط ليلمحها تمشي .. وعندما تمت خطبته على حوراء .. تقرب منها .. سمع صوتها الخافت المهذب الذي لا ينفعل ابدا الا عند ذكر اختها ماريا او ذكر الاحتلال .. مر في باله شريط الذكريات .. تذكرها تجلس امام شاشة التلفاز .. تطوي ساقيها لتعانق ركبتيها صدرها وقد ضمتهما بذراعيها .. وتشاهد التلفاز بتركيز .. ثم تصيح بأنفعال وهي تلعن الأحتلال وقد ترقرقرت الدموع من عينيها .. يومها علم انها روح ثائرة كروحه .. رغم انه يعلم ان نصف الشعب يحملون تلك الروح لكنه لا يعلم ما الذي دعاه ليثق بها هي دون الآخرين فيجلس الى جانبها يتابع معها الآخبار ويستدرج نفسه ليكشف سره لها .. لم يكشفه كله دفعة واحدة لكنها فهمت .. يومها نظرت اليه بفخر وهي تقول “انت رجل شجاع” كانت هذه كلمة المديح الوحيدة التي تلقاها منها قبل ان تصمت قليلاً لتستأنف “لكنني لا اوافق على القتل مهما كانت اسبابه .. كل الطرق تؤدي الى روما .. غاندي حرر الهند من الانكليز بلا قطرة دم” لم يركز على كلامها اكثر مما يركز على جمال وجهها العابس .. تنهد لو ان والدته فقط ! … لم يسترسل بالفكرة لأنه لا يريد ان يؤلم نفسه .. عاد الشريط يدور .. وجهها اطل من ذاكرته وهي تسأل بلهفة “هل يمكنني ان أساعد في شئ؟” ومن يومها وهي تعمل على توزيع المنشورات التي تجعل المجموعة على تواصل مع الشعب .. عملها ليس سهلا .. وهو يخاف عليها جداً .. لكنها اقنعته بطريقتها الخاصة .. وقد فهم اسبابها .. وعلم ان لها حق المقاومة وعلى طريقتها .. وهكذا كان ..
صوت سقوط شئ اخرجه من حالته المتأملة .. التفت فوجد اخته تلتقط كتابها الذي وقع .. ابتسم وسألها “ما الذي تقرأينه سوسن؟” لوحت بالكتاب “اشعار نزار قباني” سلمته الكتاب وهي تقول “خذ أقرأ لعلك تتعرف على الشئ العجيب الذي يسمى رومانسية” ضحك من سخريتها على “قلة” رومانسيته بنظرها .. وقلب في الكتاب والتمعت عيناه حين قرأ
“أذات الصليب تلفتي
ورائكِ ، هذا المؤمن المتطرفُ
فلا تمنعي أجري ، وانت جميلة
ولا تقطعي حبلي .. ودينك ينصفُ
على صدرك المعتز ينتحر الأسى
وتبرأ جراحات المسيح وتنشفُ”
تنفس بصعوبة ورمى الكتاب .. لماذا تطل من كل مكان في حياته؟ .. كم يحاول ان لا يفكر فيها .. هو خطيب أمراة أخرى ويصدف ان تكون من معارفها ! .. لم يرد ان يتذكر تلك الايام .. لكن عقله اجبره .. وجره جراً الى تلك المشاعر التي حملها مرة لملاك .. حتى عندما لمح الصليب معلقاً على جيدها لم يمنعه ذاك من ان ينفجر قلبه بمشاعر لا محدودة كلما نظر اليها .. حتى وصل الى المرحلة التي اقتنع فيها .. ان ما يكنه لها اكبر من كل شئ .. وما دام الله حلل زواجه من مسيحية فلماذا يبخس نفسه هذا الحق .. عندما قال لأمه هذا الكلام تصرفت كأن عالي الأرض انقلب باطنها .. حرب دارت بينه وبين عائلته امام حبه لها .. وانتصرت عائلته .. كسروا ارادته .. ليس لأنهم ارادوا كسرها بل لأنه نظر مرة الى وجهها الحزين وقد علم قصتها .. وفكر انه يحمل روحه على كفه لا يدري متى سيخسرها .. فهل ستتحمل تلك العصفورة الصغيرة عذاب فقد جديد.. واجابه قلبه فوراً بالنفي .. فأنتهى به الامر يدفن مشاعره ويستسلم.. عندما الحت عليه امه بعد سنة ان يتزوج وافق على طلبها لانه لم يعد مهتماً بالامر .. اراد فقط ان يرضي اهله ان لم يستطع ان يرضي ذاته فوافق ان تختار امه عروسه .. وكانت حوراء .. فرحة سرية شعر بها بأنه سيتمكن الان ان يقترب من ملاك .. تلك الفرحة التي احس بأنه يخون بها خطيبته دفعته ان يبالغ بتدليلها والتلاطف معها .. فقط ليسكت تأنيب ضميره بأن قلبه ليس معها .. وبأنه دخل هذا البيت فقط ليملأ عينيه من وجه ملاك .. تنهد .. وهو يتمتم استغفاراً لله ينشد به السلام لنفسه .. واعاد نظره الى النافذة لجلسته المتأملة وافكاره البعيدة ..
تأملت سوسن اخوها ينفض عن يديه الكتاب .. اخذت نفساً عميقاً بينما اكتسى وجهها الجميل بتعبير حزين … اخوها لا يعرف معنى الرومانسية ابداً ولا العاطفة .. حتى عندما احدث ضجة بسبب قصة ملاك استسلم سريعاً وسمع نداء العقل والعائلة .. كيف يمكن لهكذا شخص ان يفهم مشاعرها؟ ان يفهم ما تكاد تقوله له؟ قفزت صورة محمد الى مخيلتها .. بثيابه العسكرية ووقفته الرجولية .. رق قلبها ودق بعنف لمجرد حلول صورته ضيفاً على مخيلتها .. كيف يمكن ان تقنع اخاها ان يوافق على ان يتقدم ضابط في الجيش العراقي الجديد لطلب يدها وهو الذي لطالما نعتهم بالخونة وعملاء الآمريكان .. صحيح انه لا يؤذي احداً منهم لكنه لا يحبهم .. وهذا ما يقطع قلبها فهي أكثر الناس معرفة بمحمد .. بالقلب الطيب الذي يسكن في جنبات صدره والروح السامية النبيلة التي تختلج في جسده .. كيف يمكنها ان تقول له انه هو محمد من ساهم في اخراجه من المعتقل عندما سجن قبل تسعة اشهر؟ تاوهت بصمت تحاول ان تزيل العبئ عن نفسها وعن قلبها … استدارت ناحية السلم وتسلقته الى غرفتها .. تمددت على سريرها وسافر فكرها لسنة مضت .. عندما ذهبت الى المصرف مع والدتها لتصرف راتب والدها التقاعدي .. والدتها كانت مريضة ولم تستطع المشي كثيراً .. وهكذا كان عليها ان تتكفل بكافة الاجراءات .. كانت تتسابق هنا وهناك لتكمل كل شئ عندما ارتطمت في طريقها بجسد ضخم .. ابتعدت بسرعة قبل ان يتسنى لليدين الممدودتين اسنادها .. عيون بعتمة الليل حدقت بها .. وكان الحب ! هكذا بكل بساطة جاء .. دون تخطيط او انتظار .. راقبته يرمش لدقيقة ثم يبتسم فأضاءت الدنيا في عينيها .. بعد أسبوع كان يقف في حرم جامعتها يبحث عنها .. قال لها بصراحة انه تتبع معاملتها وأخذ كافة المعلومات من هناك .. وذهب الى الحي وعرف بيتها وتبعها حتى الجامعة .. مع أحد غير محمد كانت ستعتبر الآمر وقاحة وطريقة رخيصة لأجتذاب اهتمامها .. لكنه محمد وليس شخص اخر .. اخرجت نفساً مضطرباً بالعاطفة .. هل تحب اي أمرأة رجلاً ما كما تحبه؟ في رأيها لم ولن يحصل هذا .. تكورت يدها في قبضة وهي تفكر ان هبوط سقف السماء على وجه الأرض لن يزحزح حبها له ولا تمسكها به .. فبعد كل شئ كم مرة يمكن للأنسان ان يحب بصدق وبهذه القوة؟!
*
راقبت حوراء ملاك بحسد وهي تخفق الكريما لتصنع كعكة وقد انعكس ضوء الشمس الداخل من النافذة على شعرها البني فأستحال الى لون أشقر جذاب .. شفتاها تقوستا بتركيز .. ورموشها الطويلة انسدلت لتخفي لون عينيها البندقي .. خطوط وجهها الحادة تجذب الناظر اليها .. ومنحنيات جسدها النحيف تغري الرجال .. منذ اليوم الأول الذي جاءت به الى هذا البيت مع اختها ماريا وهي تتفوق عليها في كل شئ .. كسبت احترام والدتها وحبها وساعدتها في اعمال البيت وظهر انها بارعة في الطبخ ..كما وانها لا تعترض ابدا ولا تشتكي .. وهذا ما اثار غيظها هي وأخواتها .. فملاك تكاد ان تكون ملاك بشكل يجعلها تشعر انها بجانبها مجرد شيطان قبيح .. خصوصاً بعد ان تمت خطبتها لمصطفى .. ورأت كيف يتناقش مع ملاك بتعمق .. ويخوض حوارات لا يخوضها معها ابداً .. عندما يتصرف بهذا الشكل تشعر هي بالفشل .. وتنتابها غيرة حارقة .. لقد احبت مصطفى طول عمرها .. وقد عملت المستحيل لتجذب اهتمام والدته حتى اذا ما حان الوقت فأن والدته لن تجد خيراً منها عروساً لأبنها .. وهكذا كان .. لكنها تشعر بأن الأمور مع هذا لا تجري لصالحها .. وان ملاك تتقدمها بخطوة .. ما هي هذه الخطوة؟ لا تعلم .. كل ما تعلمه انها متقدمة وهذا ما يحرق قلبها ويشعل الحقد فيه ..
*
همس الصوت الناعم “جو، أحبكْ” ولمس شعرها بشرة وجهه .. أبتسم لها بحب .. واحاطتها ذراعيه وقربها الى صدره .. لكن فجاة بدأ شئ ينمو بينهما ويبعدها .. نظر الى الأسفل برعب .. وراقب بطنها تكبر وتكبر وهي تصيح “ساعدني ، ساعدني” حاول ان يمد يديه اليها ولكنها واصلت بالابتعاد .. عندما فتح فمه ليصرخ منادياً اياها .. لم يخرج صوته .. وفجاة اصابع رفيعه امسكت بكتفه من الخلف وادارته نحو صاحبها .. عينا غزال طالعتاه وصوت حاقد همس له “لقد قتلتها.. انت قاتل ، قاتل ، قاتل” .. استيقظ جوزيف مذعوراً وهو يصيح “لا لا لا” فواجهه ظلام غرفته ، انه يعاني من هذا الكابوس كل ليلة لمدى سبع سنوات .. ولكنه الليلة يختلف .. تلك الفتاة العراقية التي لم ترحمه نظراتها دخلت الى اكثر كوابيسه تأثيراً عليه .. وجه لويسا الهادئ يعذبه بحضوره الدائم .. غطى وجهه بيديه وطالعه وجهها .. تضحك له كالاطفال .. لقد عرفها طوال حياته ،، رسم خطوط وجهها بأصابعه .. راقب طولها يزداد انجاً بعد إنج .. وشعرها يطول شيئاً فشيئاً ويزداد اشقراراً .. جسدها الطفولي تحول الى جسد انثى تحت ناظريه .. لقد احبها منذ ان عرف معنى الحب .. احبها وكان هذا سبب هلاكها .. لو انه فقط لم يكن مخموراً تلك الليلة .. اهتز كتفاه بنحيب صامت .. لويسا .. حبيبته ومعذبته .. كيف يستطيع ان ينسى .. كيف؟
*
كتبت ملاك:
“لقد رأيته اليوم أيضاً .. عيناه الباردتان ذكرتني به .. شعرت بالضيق واردت ان اخرج بسرعة .. نظراته احتجزتني داخل قطعة من الثلج .. شعرت بالقشعريرة الباردة تنتاب جسدي عندما تأمل وجهي .. كأنه يطالبني بشئ ما .. لم يكن شيئاً بذيئاً بل … لا اعرف كيف اصفه.. تلوث المكان بوجوده هو واصحابه .. كم تمنيت ان املك القدرة لطردهم .. لكنه بيت الرب فكيف اطردهم؟ لذا هربت ما ان انتهى القداس دون ان انظر اليه” .. أغلقت ملاك مفكرتها وهي تتنهد.. لقد كان يوماً طويلاً .. اولا خروجها الذي سبقه “زفّة” من سكان البيت حيث لم تضيع حوراء الفرصة لترمي سمومها وتلمح الى كثرة خروجها وذهابها الى الكنيسة الذي لا بد ان يكون وراءه “سرّ” مروراً بالزحام الخانق في بغداد ومروها بالسيطرات المتمركزة في كل تقاطع مهم مكونة من عدد من الجنود وبضع سيارات عسكرية لتكتمل الصورة بالحواجز الكونكريتية التي لا تدع المجال مفتوحاً الا أمام سيارة واحد لتمر .. لقد علقت في الازدحام لساعة كاملة .. لينتهي بها الأمر في كنيسة يشاركها فيها اولئك الـ ملعونوا الأرواح .. لم تستطع الا ان تفكر بذاك البارد العينين الذي كان يحدق بها .. ملابسه العادية أظهرت تفاصيله لكنها لم تنتبه .. لقد كرهت ان تحدق لكمال جسده فتعجب به .. فالفكرة بحد ذاتها تثير الغثيان .. لولا عينيه ربما ما كانت عرفته .. لكنهما العينان الصقيعيتان من عرفتها على هوية المصلي في الصف الأخير واقفاً وسط اصحابٍ يشبهونه .. عيونهم ملونة وبشرتهم بيضاء ناصعة وشعرهم يتمايز بين اشقرار غامق وفاتح .. هذه الوجوه الشقراء كم تزعجها .. باردة وهادئة ولا تشرق الشمس عليها ابداً .. رؤية تلك الوجوه تجعلها تعشق أكثر سمار العرب وعيونهم الفاحمة وشعرهم الحالك .. معالمهم يشع منها الدفئ .. فكيف تقارن دفئ الصيف ببرودة الشتاء .. ارجعت رأسها الى الخلف وابتسمت تفكر في مصطفى .. همست من بين شفتيها بهيام “تفاحتي” .. كانت تسميه هكذا سراً .. فهو الفاكهة المحرمة بالنسبة لها .. حتى انها اشترت سلسالاً تتدلى منه تفاحة صغيرة حمراء .. وهي تفكر في انها تشبهه كثيراً .. مرغوبة الى اقصى حد ومحرمة الى أقصى حد الطرف الاخر من المعادلة الصعبة التي لن تتوازن ابداً لتصنع مركباً صحيحاً ..
*
صاح مصطفى بغضب في وجه سوسن “جندي؟ هل جننتي؟” كانت دموع سوسن تنهال على خديها بغزارة .. النقاش الذي تحول الى معركة استمر لمدة ساعة ولم يزل .. منذ ان نطقت بمهنة الرجل الذي يرغب في التقدم لخطبتها فتحت أبواب الجحيم فوق رأسها .. ولولا والدتها التي وقفت بينها وبين مصطفى لكانت الآن قد تعرضت للضرب ولا شك .. نظرت الى وجه اخيها من خلف الدموع .. الوجه اللطيف الهادئ في العادة تحول الى ثورة مخيفة حملت ملامح الشر .. ارتعشت ركبتاها في خوف لا ارادي .. وفي نفس الوقت ارتفع الغضب الأحمر في داخلها .. لماذا يعطي لنفسه الحق؟ ولا يعطيها… مرارة تجمعت في حلقها لتنطلق بكلمات غاضبة “انت من بين كل الناس يجب ان تفهم موقفي لقد احببت أمراة ليست من ديننا واردت الزواج منها .. محمد مسلم .. كل ذنبه انه جندي؟” صاح بها وقد اشتد غضبه “انت تقولينها .. افضل اليهودي على الجندي!” شهقت بصدمة “كيف تقول هذا على ابن بلدك” رد عليها بذات النبرة “عندما يطعنني ابن بلدي ويذلني لأجل المحتل فهو اسوأ من المحتل ذاته!” انهارت سوسن على الأريكة .. وهي تتوسل “أرجوك .. أرجوك .. فقط حدثه” تقدم خطوة شريرة باتجاهها لكن الدموع في عينيها كسرت قلبه .. تراجع للخلف وهو يشتم وخرج من البيت .. احتضنتها والدتها وهي تبكي لبكاء ابنتها .. ذرفت سوسن الدموع .. هل يعني هذا انها فقدت محمد؟ رفعت رأسها بتصميم لا رجعة فيه .. مشت نحو هاتفها .. ثم اجرت مكالمة بعد اربع رنات اجابها الصوت اللطيف يقول برقة “مرحباً سوسن” .. شهقت سوسن بالبكاء مرة اخرى وقالت بصوت متحشرج “ملاك ساعديني”
*
دخل مصطفى البيت وهو لا يزال غاضباً .. خروجه العاصف ومشيه في الشوارع بلا هدف لساعتين لم يفلحا في تهدأته .. داخله يغلي بقوة .. كيف تجرأت سوسن على ان تحب جندياً عراقياً؟ ألم تفكر في أن أمثاله هم من ساقوه الى المعتقل قبل تسعة أشهر؟ من عذبوه بالكهرباء حتى انه لا يستطيع ان يسجد في صلاته؟ من اغرقوه بملابسه بالماء في عز الشتاء؟ .. منظرها الباكي طالعه مرة اخرى .. لا زالت تجلس على نفس الآريكة التي انهارت عليها عند خروجه .. قلبه رقّ لوجهها المنتحب ولكن ملامحه ارتدت حلة الغضب وصوته اتخذ نبرة قاهرة صاح بها “الا زلتي تذرفين الدموع .. لو ذرفتي مقدار البحر دماً لا دمعاً لن تتزوجيه” رفعت سوسن رأسها مصدومة لكن الشهقة التي سمعها لم تصدر منها التفت واتسعت عيناه في دهشة .. ملاك كانت تقف خلفه تحمل كوب ماء .. وجهها مصدوم ومتألم .. نظراتها اليه ذبحته .. نظرات أتهامية او ربما نظرات تشي بخيبة املها فيه .. تقطع قلبه وهمس في داخله “الا أنتِ يا حبيبة .. أرجوكِ أفهميني” وكأنها سمعت ندائه القلبي فأخفت دهشتها وقالت بهدوء “مصطفى” انساب أسمه من بين شفتيها كبلسم لجراحه ارتعشت شفتاه وهو يجيب “ملاك ما الذي تفعلينه هنا؟” مالت برأسها الى الشمال وهي تقول بشئ من المزح “هل هذه طريقتك للترحيب بي في بيتك؟” ارتبك وجهه وظهر الخجل عليه بسبب قلة ذوقه .. اعتذر منها “آسف ملاك .. يبدو انني اليوم فقدت حسن ضيافتي بشكل رهيب” وضعت الكأس على الطاولة بعد ان ارتشفت منه قليلاً وهي تبتسم بتسامح الملائكة “ولا يهمك .. تعال سأصنع لك فنجان قهوة .. آآه بل شاي فأنت مدمن شاي” .. أستغرب من دعوتها فهي دوماً متحفظة معه في كل شئ خارج حدود عملهما الوطني .. نقل بصره بين اخته الباكية وملاك وهو يفكر في السر الذي يخفيانه وراء وجود ملاك هنا في هذا الوقت.. مع هذا لم يقاوم ضعفه تجاه ملاك فتبعها كالطفل يتبع أمه .. في المطبخ كانت تتحرك بخفة .. رشيقة ونحيفة وشعرها مرفوع بكعكة عملية لم تستطع منع بضع خصلات ان تهرب لتغطي رقبتها .. وضعت ابريق الشاي على النار وهي تجلس امامه مبتسمة “حسناً يبدو انك احدثت ضجة كبيرة في البيت” وأشارت بيدها الى الخارج حيث تجلس سوسن .. هكذا أذن لقد استلت سوسن ورقتها الأخيرة وهي ملاك بكل تأكيد .. نهض على عجل وهو يقول “ارجوكِ ملاك لا تتدخلي” تعبير حزين ارتسم على وجهها قتل مقاومته فعاد يجلس وهو يقول “آسف انا فظ هذا اليوم لا اعرف ما بي” .. نظرت في عينيه تبتسم بتسامح متفهمة موقفه “أعلم أنك متوتر وغاضب كثيراً .. قد تظن اختيار اختك خاطئاً وقد اظنه انا كذلك .. لكننا ننظر لجهة واحد من الحقائق .. ننظر بعمومية شاملة لا خصوصية فردية .. قد يكون الرجل جيداً .. من يدري؟ سوسن لها نظر ثاقب وهي تربيتك .. تحب العراق كما نحبه نحن تماماً .. هل تظن انها كانت ستختار خائناً؟ اذا كنت تظن هذا فأنت مع الأسف لاتعرف ماذا ربيت يا مصطفى” اغمض عينيه .. كلماتها الهادئة العملية والواقعية أثرت به .. ربما لو سمعها من غيرها لما احدثت ذات الوقع .. لكنها ملاك النقية الصادقة حد الشفافية .. هي لن تقول شيئاً لتجامله او تقنعه .. قالت وجهة نظرها وهو يثق بها .. آآآهٍ منكِ يا سوسن .. لقد “لعبتيها” صح! .. ملاك فهمت صمته على انه تردد لذا لم تتردد في وضع كف يدها على يده المتسريحة على الطاولة .. فتح عينيه فجأة بعد ان احس بجناح فراشة يلامس كفه .. نظر الى كفها الموضوعة على يده والتي كانت اصغر بكثير منها .. ثم الى وجهها الذي تحولت ملامحه الى ملامح راجية مطالبة وقد تقوست شفتاها للأسفل بتوسل وهمست “أرجوك” .. بلع ريقه محاولاً ايجاد صوته ثم تدبر ان يهمس “حسناً” تلاقت نظراتهما .. روحها كانت عارية امامه ورأى كل شئ .. دق قلبه .. دق بعنف حتى كاد ان يخرج من صدره .. ملاك .. ملاك تـ .. تحبه .. لقد كان هذا واضحاً في وجهها .. نطقت به كل ملامحها .. سقط عنها قناع هدوئها ونظرت اليه بكل عاطفتها .. يا الهي .. لقد كان ذلك الشعور الخفي الذي ينتابه بوجود صلة روحية بينهما شعوراً حقيقياً .. فصلة الحب تجمعهما .. حب آخر يضاهي حب الوطن رقياً .. طنين صوت الشاي يغلي افاقهما معاً .. قفزت تطفئ الموقد وتصب له الشاي لتقول على عجل “ارجوك تكلم معها .. فهي منهارة” .. بالكاد فهم من تقصد فعقله وقلبه لا زالا يحاولان استيعاب الحقيقية .. استيعاب لحظة الحب القصيرة التي ربطتهما .. ومع هذا فقد مشى كالرجل الآلي نحو أخته وأفاق قليلاً من حالة الهيام التي دخل بها عندما رآى دموعها .. فقال بصوته الهادئ المعتاد “لا تبكِ يا سوسن .. ساقابله .. فليأتِ بعد غد” رفعت سوسن رأسها بدهشة وقد توقفت دموعها فجأة وقفزت تصيح متعلقة بيده “حقاً مصطفى؟ حقاً؟” قبل رأسها وقال “لا تبكِ فقط .. لقد احسنتِ اختيار اوراقكْ لنأمل فقط انكِ احسنتِ اختيار خاطبكِ .. لا أعدكِ بشئ أكثر من مقابلة” عانقته وقد اختفى صوتها الباكي لتحل السعادة محلها “وهذا كل ما اطلب .. شكراً لكَ حبيبي .. شكراً” ثم ابتعدت راكضة نحو ملاك تعانقها وتشكرها قبل ان تتسلق السلم على عجل وهي تنادي فرحة “ماما ماما” ابتسمت ملاك بحب لمنظر سوسن الذي انقلب تماماً الى الفرح .. ثم التقت عيناها بعيني مصطفى .. فأرتبكت وقالت وهي تتجه نحو باب الخروج “لقد تأخرت .. ساعود الآن” قال لها وهو يمشي بجانبها “سأوصلكِ” توقفت تقول بسرعة “لا لا .. انا لا اريد اثارة انزعاج حوراء” ملامح مختلطة ظهرت على وجهه لكنه اخيراً هزّ برأسه وهو يقول “حسناً .. في رعاية الله ملاك .. انتبهي لنفسك” ابتسمت “سأفعل .. وكنّ لطيفاً مع سوسن ارجوك” هز رأسه موافقاً بأبتسامة وودعها على الباب..
في المساء كتبت في مفكرتها ” كانت لحظة سحرية .. التقيت بعينيه ورأيت كل الحب الذي كنت اتمنى يوماً أن أراه .. فشعرت بتدفق الدماء في شراييني .. دماءه هو بدلاً من دمائي .. وان قلبه ينبض في صدري .. وان انفاسه تخرج من رئتي .. أظنه شعر بذات الشئ .. بالطبع قد شعر .. كانت لحظة روحانية .. لم اره فيها محرماً كالتفاحة بل مقدساً كتلاوة خاشعة لصلاة عابد .. آه يا مصطفى عمري .. لقد كانت لحظة بعمري كله .. الآن قد حصلت على كل ما كنت احلم به .. حصلت على نظرة حب منك.. فلتنتهِ ايها العالم .. ما همّني بعد ان تحققت اكبر امنياتي”
*
جلس محمد مرتبكاً على غير عادته الواثقة أمام شقيق سوسن .. نظرات مصطفى لم تعجبه فهي تتهمه وتدينه بلا وجه حق .. لماذا يحكم عليه من مهنته ألم يفكر انه دخلها مجبراً كي يعيل عائلة من اربع بنات ووالدة مقعدة؟ ألم يفكر انه يتحمل الكثير من الأرهاق بوقوفه في الشمس لساعات طويلة يحترق تحت لهيبها .. وهو يتلقى نظرات الكره او اللطف الزائف من البعض .. وهو يستمع الى دعواتهم “الله يساعدك” وهم يمرون من جانبه بينما يعود ليسمع “الله ياخذك” ما ان تبتعد السيارة عنه بقليل .. أنه يعاني بما يكفي في مهنته .. ويُتهم مراراً وتكراراً بخيانة الوطن .. هو محمد كريم يتهم بخيانة الوطن .. سليل عائلة المقاومة والنبلاء والمدافعين عن الوطن من زمن جده عبد الرحمن الذي كان يقاتل الأنكليز توجه اليه اصابع الأتهام الآن؟ يا لسخرية القدر ! ..
أجلى صوته وهو يقول “سيد مصطفى .. اعرف تماما ما تفكر به .. استطيع ان أقرأ بوضوح ما تنطق به عينيك .. تقول في نفسك انني رجل خائن لا دين لي ولا اقل سوءاً عن محتلي بلدي .. طبعاً فانا من يعتقل ويعذب ويفعل الأفاعيل ببني جلدته لكنني أجلس أمامك وأقول بكل ثقتي .. أنا رجل شريف .. لم اعتدِ على أحد .. لم اعتقل أحداً .. لم أؤذي عراقياً بريئاً .. دخلت الجيش لظروف استثنائية .. عائلتي لا معيل لهم سواي والدي أستشهد في حرب ايران ووالدتي ألمّ بها المرض منذ خمسة اعوام وهي مقعدة .. ولي اربع اخوات يصغرنني .. أجبرت على دخول الجيش لأعيلهم .. فراتب الجيش جيد ويفي تقريباً بحاجيات عائلتي ..”.. صمت ليرى تأثير كلامه في مصطفى الذي صارت ملامح وجهه غامضة .. سأله بهدوء “هل تحمل شهادة جامعية؟” هزّ رأسه موافقاً “نعم شهادة ماجستير ادارة واعمال .. وقبل ان تسأل لم اتوظف بشهادتي لأنني لم اجد فرصة عمل .. اوراقي لا تزال قابعة في ملفات عدة أماكن ولم أستلم اي رد” تأمله مصطفى قليلاً وقال “سيد محمد تبدو رجلاً جيداً .. لا أخفيك انني سألت عنك في ظرف اليومين الفائتين ولم اجد شائبة حول سمعتك أو اخلاقكْ .. لكنني أعترض على مهنتك .. اذا غيرتها فأنت مرحب بكَ في هذا البيت .. اذا لم تفعل .. فلا بنات لدينا للزواج” نظر اليه محمد مصدوماً .. ألم يفهم كلمة مما قاله لتوه ؟ لو كان لديه فرص أخرى لما بقي في الجيش وهو حامل شهادة .. فتح فمه ليعترض لكن مصطفى نهض من مكانه ومد يده ليصافحه في اشارة لإنتهاء اللقاء .. كظم غيظه وصافحه وانصرف خارجاً .. يلعن الدنيا لأنها تقف ضده في كل شئ .. هل الارتباط بأمرأة يحبها أمر كثير عليه؟ هو الذي لم يحصل يوماً على شئ أراده لنفسه لِمَ تَبخل الدنيا عليه بالشئ الوحيد الذي يريده من كل قلبه .. ارتسمت ملامح سوسن امامه بشعرها البندقي وعينيها البنية .. واهتز قلبه .. كم يحب هذه الفتاة .. القهر هو الشعور الوحيد الذي أحس به تلك اللحظة .. صاح باعلى صوته في الشارع الفارغ “عليكِ اللعنة ايتها الدنيا الغدّارة .. عليكِ اللعنة”
في بيت مصطفى كانت سوسن تبكي حظها .. لقد ظنت ان مصطفى بدأ يلين أخيراً .. لكن يبدو انها كانت مجرد حركة لأسكاتها .. نظرت الى اخيها بخيبة أمل .. وهو بدوره كان ينظر اليها بغموض ثم استدار خارجاً من غرفتها .. ليجري أتصالاً مهماً !
بعد ثلاثة أيام وقبل موعد العملية بيوم .. دخل الى غرفة اخته التي لم تخرج منها أبداً .. في حضوره على الأقل .. كان وجهها شاحباً كأنها لا تنام جيداً .. أشفق عليها وعلى حالها .. جلس على سريرها وسلمها ورقة وقال بصوت ثابت “اعطي هذهِ لمحمد .. هذا رقم هاتف عميد كلية الأدارة والأقتصاد .. ابنه صديقي .. وقد طلبت منه ان يوظف محمد لديه .. ولأنني أسديت لأبنه خدمة مرة .. فأنه مسرور الآن لردها بتوظيف خطيب اختي” رفعت سوسن رأسها غير مصدقة .. طفرت الدموع من عينيها وهي تحتض اخاها “مصطفى شكراً ، شكراً” لم يذكر لها ان المعروف الذي أسداه هو أنه حماه من الموت انثاء احد عملياتهم .. اكتفى بأحتضان اخته وأمتلئ قلبه سعادة لسعادتها .. الآن يمكن ان يذهب مطمئناً .. بعد ان يسلم الورقة التي تستقر في جيبه لفتاة احلامه.. بعد عدة عناقات وزغرودتين من والدته خرج مصطفى لبيت حوراء ليودعها ليس لانها تعلم بعمليته غداً ولكن لأنها مسافرة مع اخواتها ووالدها الى ديالى لزيارة جدتهم .. استقبلته بغنجها المعتاد واستقبلها هو بلطفه المعتاد .. عيناه راقبتا ملاك تنهض من على الاريكة بعد ان كانت تجلس بأرتياح تتابع مع السيدة عالية برنامجاً كوميدياً .. وسلمت عليه بنفس الطريقة المهذبة التي تلتزمها كل مرة عندما يزورهم .. لكن عيناها لمعتا بشئ غريب خفق له قلبه .. بعد دقائق دخلت المطبخ لتعد الشاي بينما جلس البقية في الصالة يتحدثون ، لحظات واستأذن ليجلب له كأس ماء .. عندما نهضت حوراء لتجلبه وضع يده على يدها يمنعها وهو يبتسم “سأنهض بنفسي .. تابعي الحديث” أبتسمت له بأمتنان وعادت تواصل حديثها .. عند باب المطبخ وقف يراقبها .. كم تبدو جميلة بثوبها المزهر ترتدي فوقه جاكيتة خفيفة .. لم يرها يوماً ترتدي سروالاً .. رغم انه لم يكن ليعيب انوثتها .. لكنها تبدو متألقة في الفساتين فهي تناسب طبيعتها الرقيقة .. اجلى صوته وهو يقول “ملاك” التفت اليه وبان الارتباك على وجهها .. مد يده الى جيبه واخرج ورقة وقال “أفتحيها بعد ان اخرج من المطبخ” سلمها الورقة وقال بعدها “غداً في الخامسة عصراً موعد عمليتنا .. ادعي لنا يا صغيرة” وضعت يدها على الصليب في جيدها وقالت بتضرع “ليحميكم الله .. ليحميكم الله” ابتسم لها وخرج .. عندها فتحت الورقة على عجل وتوقف الزمن .. كلمة واحدة بسيطة ومكتوبة بخط انيق بحبر أسود “أحــبـــــــــــــكِ” تراجعت تستند الى الحوض وقلبها يدق بعنف .. فركت عينها بعدم تصديق .. هل ما تقرأه حقيقة ؟ قرصت خدها .. انها لا تحلم .. مصطفى سلمها ورقة مكتوب فيها أجمل كلمة في الكون يمكن ان تقال من اغلى رجل في العالم على قلبها .. ضمت الورقة الى صدرها .. ثم رفعتها تقبل حروفها .. ثم عادت تضمها وهي تضحك وتبكي في آنٍ واحد .. وقع أقدام تقترب اخرجها من حالة الجنون اللذيذ التي انتباتها فخبأت الورقة على عجل في جيب جاكيتتها واستدارت تمسح دموعها وتخفي ابتساماتها السعيدة وترتدي قناع الهدوء وتكمل عملها .. دخلت هدى الأخت الوسطى وهي تقول “هيا يا ملاك متى سيجهز الشاي؟ عندما يخرج مصطفى” اسم مصطفى وقع على قلبها كالمطر ينزل فوق صحراء عطشى .. ابتسمت ببلاهة دون ان ترى هدى ابتسامتها وهي تقول “حالاً” .. صبت الشاي بيدين ترتعش حباً ومشت الى الصالة بخطواتٍ خفيفة سعيدة وعندما دخلت طالعها مصطفى .. فلمعت عيناها بجوابِ واضح على رسالته .. اخفض عينيه لكن ليس قبل ان تلمح بريق السعادة … قدمت له الشاي كعروس تقدم العصير لزوجها المستقبلي .. بحياء وسعادة ثم وزعت الاقداح على باقي افراد العائلة .. رؤية حوراء كان بمثابة صدمة متأخرة لها .. لقد نسيت أمرها تماماً .. اجتاحت قلبها الكآبة .. وتذكرت “ليس محرماً فقط بل مُعَذِب” ..
*
حاول مصطفى العمل بشكل أسرع .. قال بنفاذ صبر “لا حول ولا قوة الا بالله” ،، كان يحاول ان يربط اسلاك القنبلة بسرعة .. لكنه لا يملك الخبرة الكافية .. سبحان الله إذ قدّر ان تموت والدة صاحبهم خبير ربط القنابل اليوم صباحاً .. مما جعل مصطفى يضطر ان يقوم بهذا العمل بنفسه .. شارفت الساعة على الخامسة .. ستأتي القافلة العسكرية بعد قليل وعليه ان يكمل .. عليه أن يفعل .. وكأن ذكر القافلة في ذهنه كان كل ما يتوجب عليه فعله لإستحضارها على أرض الواقع .. صوت الهمرات تقترب شيئاً فشيئاً جعله يرتبك .. صاح صديقه “أسرع يا رجل” .. يداه ارتبكتا وتصبب وجهه عرقاً .. الهمرات تقترب أكثر .. موته محقق .. أختباً أصحابه على مسافة بعيدة تقريباً تجنباً للأنفجار كما كان متفق عليه .. صاح صديقه “تعال دعك منها .. انجُ بنفسك” لكن مصطفى بروحه العنيدة قرر ان يكمل ما بدأه حتى لو كلفه الأمر حياته .. وطنه ثم وطنه ثم وطنه .. أطل وجهها في خياله .. وطنه الاخر .. وطن قلبه الملتاع شوقاً اليها .. لقد رأى ردها البارحة على كلمته اليتيمة وأقسم انه ان عاد سالماً سيفسخ خطبته بحوراء ليترتبط بملاك مهما كان رفض امه قاطعاً .. الهمر اقتربت أكثر .. صوت جندي ارتفع .. وبعدها لم يشعر بشئ .. سمع صوت اطلاق نار متبادل .. وشعر بشئ ساخن يخترق ذراعه خمن انه رصاصة .. ثم بشخص يسحبه ويركض .. لمح جثة صديقه احسان الذي كان منذ قليل يحذره ويدعوه للتراجع .. صاح بلوعة “إحساااان” لكن صديقه استمر في جره وجره وجره حتى وصلوا الى السيارة تحت وابل من رصاص الجنود .. التفت خلفه .. ثلاثة من اصدقائه وقعوا صرعى فريسة لرصاص المحتلين .. غضب لا حدّ له ضرب كل جسده فصاح بصديقه “أوقف السيارة .. سنعود .. يجب ان نقاتل” صاح صديقه “عد الى عقلك يا مصطفى اذا متنا لن يبقى في مجموعتنا من يقاوم .. توكل على الله .. توكل .. وحدّ الله” تمتم من بين اسنانه بغيظ “لا اله الا الله” .. صوت عجلات الهمرات كانت تلاحقهم .. اسرع حسام صديقه في قيادته .. دخلوا الى الاحياء السكنية أملاً في تضليل الهمرات .. مروحية من فوق انارت الشوارع تبحث عنهم .. اوقف حسام السيارة وقال “علينا ان نفترق .. لننزل ونمشي بمحاذاة المنازل .. السيارة باتت مكشوفة ” ألم قاتل مر على طول ذراع مصطفى لكنه نفذ اوامر صديقه .. فمشى بمحاذاة البيوت وصوت الهمرات يصم اذانه وصوت المروحية يكاد يمزق طبلتيه .. بعد ساعة ونصف من المشي وصل الى حيهم .. نزفه للدماء جعله يترنح .. فلم يعد يستطيع ان يركز على اي شئ .. جاهد ليبقي عينيه مفتوحتين .. وعند مدخل شارعه لمح الهمرات تقف عند باب بيته .. تباً لقد جائوا يبحثون عنه لا بد ان احد الصعاليك تعرف عليه .. فهو زائر دائم لمعتقلاتهم .. هكذا لم يجد سوى بيت حوراء حلاً له بعد ان شارف على فقدان وعيه .. بما تبقى من قوته اتجه الى بيتها وطرق الباب بضعف .. بعد دقائق وقفت ملاك امامه .. ابتسم ظناً منه انه يحلم وهمس “ملاكي” ثم سقط لتتلقفه يداها .. وهي تصيح بذعر “مصطفى” بعد ربع ساعة من جره استيقظت والدة حوراء وبدأت تصيح وتولول لمنظر خطيب ابنتها .. بينما نزعت ملاك عنه سترته وقميصه في محاولة لتضميد جرحه .. جاءت والدة حوراء بالماء والقطن وراحت ملاك تنظف جرح مصطفى وهي تبكي .. ناولته حبوب مسكنة لخبرتها في التمريض بعد ان دخلت دورة تدريبية لمدة ستة أشهر كان هدفها السري منها ان تكون على استعداد في مثل هذه الحالات .. كأنها كانت تعلم ان مصطفى سيحتاجها يوماً .. لكن جرحه بليغ .. وعليه ان يذهب الى المستشفى حالاً .. وعند هذه الفكرة سمعت صوت باب بيتهم يطرق بقوة ثم بشخص ما يركله .. صاحت السيدة عالية “يا ويلتي لقد جاءوا ليأخذوه” قفزت ملاك وهي تقول “مصطفى ارجوك قم .. يجب ان تهرب” أسندته بينما مشى بثقل وهي تجره الى الباب الذي يؤدي الى ممر خلف البيت .. سوره منخفض … صاحت به “تسلقه واهرب .. اهرب ..” نظر اليها وعيناه تدمعان وهمس بترنح “ملاك” صاحت بوجهه “أحبك .. أحبك” عند هذه الكلمة دفعته بيديها برفق نحو السور وقالت “هيا اهرب .. لأجلي أنجُ بحياتك .. اذهب الى بيت العم عبد الله سأكلمه لينتظرك” وهكذا راقبته يتسلق وهو يتأوه الماً .. هربت من المكان وعادت الى البيت .. كان الجنود قد دخلوا الى البيت وهم يصيحون بالسيدة عالية وهي تبكي ولا تفهم شيئاً مما يقولون .. ثم لمحوها فجأة .. تقدم اليها رجل ضخم مدجج وقال بصوت غاضب “اين هو؟ اين مصطفى” اجابته بأنكليزية متقنة “لا اعرف” وجهها البارد جعله يغضب أكثر فصاح بها “وماذا تفعل الملابس الملطخة بالدماء هنا؟” نظرت اليه ببرود مثير للأزعاج “لا أعلم كنت نائمة.. فتش البيت ان شئت” شاهدت الضابط يزداد حنقاً وهو يأمر جنوده بتفتيش البيت .. وجه واحد تعرفت عليه ضمن الوجه المختبئة خلف الخوذات الكبيرة .. وجه بعينين باردتين .. لم تستغرب وجوده .. نظرت اليه بإشمزاز بينهما هو ويا للعجب اخفض رأسه وكانه خجل او مرتبك .. ابتسامة ساخرة تلاعبت على اطراف شفتيها فسرها الضابط انها استهزاء به عندما جاء جنوده ليأكدوا خلو البيت .. نظر اليها ورد لها ما ظنه ابتسامة هازئة به وقال “اذا لم نجده فسنأخذها هي ..” بعدها ارتفع صوته ليقول آمراً “اعتقلوها” عندما رأت السيدة عالية الجنود يمسكون بها صارت تصيح وتولول وتتشبث بالضابط ليترك ملاك التي كانت في حالة مقاومة هي الاخرى تضرب وتركل وتصيح .. لكن الضابط لم يهتم ولا جنوده .. وحده صاحب العين الباردة تقدم خطوة كأنه يحاول منعهم لكنه تراجع .. هكذا جرّها الجنود الى الخارج لكن ليس قبل ان تقول “اتصلي بعم محمد ليستقبل الجريح .. عديني خالة” لم تشأ ان تذكر اسم مصطفى فقالت الجريح بدلاً عنه حتى لا يفهموا من اسمه ان الكلام يدور حوله .. صاحت الخالة تولول “لسنا في حاله” لكن ملاك اصرت “ارجوكِ عديني” هزت الخالة عالية رأسها بالايجاب باكية ..
عندما كان يجرها الجنود الى الخارج لم تشعر بالخوف .. قدماها لم ترتعشا ولا قلبها دق بعنف .. سلام غريب وثقة بالله كانت تسكن روحها .. نظراتها ثابتة لا دموع فيها .. أنها تحب وطنها ومصطفى .. وحياتها بدت ثمناً هيناً لكلا الحُبينْ .. تمتمت بصلاة صامتة ليحفظ الله مصطفى ويسلمه .. بينما استقرت حافية القديمين في السيارة العسكرية يحيطها الجنود من كل جهة .. وعينان باردتان تطالعانها بنظرة غامضة تشبه الأسف !

 

الفصل الرابع – حرب مع الرّاء
ملعونٌ هو بلا شكْ .. فكر جوزيف بسخط صاخب .. لم يكن من المفترض ان يكون في القافلة العسكرية لكن ميراندا الحمقاء ادعت المرض عندما لم يجاريها في لعبتها الجديدة .. كانت هذه طريقتها لمعاقبته .. وقد اجادت اختيار الطريقة .. فها هو يقف في بيت تلك الفتاة العراقية بعيني الغزال .. ينظر اليهم وهم يعتقلونها .. قاومت كنمرة تدافع عن أطفالها .. لكنها كانت كمن يضرب سور الصين بالحصى بغية هدمه .. تقدم خطوة .. شعور بالحماية نحوها جعله يتألم داخلياً لكنه تراجع .. مفكراً انه قد يزيد الطين بلّة بخطوة غير محسوية محاطاً بالجنود الآخرين من كل جانب.. عيناها المشمئزتان منه ومن كل الرجال حولها ضربته كالسياط .. ماذا يمكنه ان يفعل؟ راقبهم يجرونها حافية القدمين مشعثة الشعر .. لا تزال ببجامة نومها الخضراء .. سمعها تقول شيئاً بالعربية .. لهجتها العراقية كانت اثقل بكثير من اللهجة التي تعلمها من والدته لذا لم يفهم سوى كلمة “جريح” وعلم بالضبط عن من تتكلم .. التزم جانب الصمت .. بالتأكيد هي تعرف الرجل الذي حاول ان يفجرهم والذي دعوه الجنود مصطفى .. ترى هل هي مشتركة معه في الأمر؟ وخز ما ازعجه لفكرة انها استهدفته .. ليس شخصياً أنما لو نجحت مع صديقها في تفجير القافلة لكان هو الآن في عداد الميتين ولكانت هي قاتلته .. هذا الخاطر أزعجه .. راقبها بصمت مذنب تجلس بشموخ وقد ربطوا عينيها .. رأسها مرتفع بكبرياء وعناد .. لكن جسدها تكور في تأهب .. وحاولت قدر استطاعتها ان تنأى بجسدها عن الجنديين اللذين يجلسان على كلا جانبيها .. والذي كان هو احدهم .. حيث جلس الى يمينها .. عندما تحركت السيارة بسرعه هب النسيم ليتطاير شعرها بأتجاه وجهه .. رائحة الزهور فاحت منه .. رائحة جميلة وطبيعية .. كاد أن يتأثر بها لولا ان مطباً في الشارع جعلها ترتطم بكتفه فتفزع وتبتعد كمن لسعته أفعى .. وبينما كانت أفكار جوزيف كلها تتمحور حول ملاك .. كانت افكار ملاك تتمحور حول مصطفى .. هي لا تهتم لوضعها الحالي .. فليعذبونها قدر ما يريدون .. لكنها لن تنطق بكلمة وان اقتربوا منها بغية شئ دنئ فستقتل نفسها بكل بساطة .. ابتسمت بسخرية هل حقاً يظنون انها تخافهم؟ او انهم سيوقفونها عن الدفاع عن حقها المشروع في وطن حر؟.. لا شئ يوقفها الآن .. لا تخاف من شئ ولا تنتظر شئ .. فقط سلامة مصطفى .. هذا كل ما تريده .. فليأخذ منها الله كل شئ الا حياته الغالية .. تمتمت بصلاة صامتة .. رائحة من حولها مزعجة .. مزعجة جداً .. عرق مع سجائر مع رائحة ثياب مقرفة .. كادت ان تتقئ .. رائحة واحدة مختلفة جذبت حاسة الشم لديها .. الرائحة تنبعث من على يمينها .. الرائحة لم تكن قوية او نفاذة او حتى عابقة .. كانت رائحة نظافة .. لا شئ أكثر .. منعشة وطيبة .. لا تحمل تكلّف العطور المنتقاة .. رائحة طبيعية .. مالت بوجهها قليلاً ناحية اليمين تستجدي الرائحة النظيفة ليتخلص انفها من باقي الروائح الفاسدة .. لا تعلم لماذا قفزت صورة الرجل ذي العينين الثلجية الى عينيها المعصوبتين .. قدرها ان تلتقيه في كل مكان .. ها هو الرجل المهتم الذي مد يده ليساعدها عندما خذلتها ركبتاها في الشارع يأخذ مكانه بين معتقليها .. يا لسخرية القدر! ويا لسخف اللطف الذي أبداه حينذاك .. تحسست اصابع قدميها ارضية السيارة الباردة .. وانتاب جسدها قشعريرة .. فالشتاء قد حل وهي لا ترتدي سوى بجامتها .. أحدهم لاحظ ارتجافها .. شعرت بسترة ثقيلة تستقر على كتفها فنفضتها بسرعه وهي تصيح “ابعد قذارتك عني” لم يفهم احد عبارتها سوى جوزيف .. الذي بدوره لم يلتقط سوى كلمة “قذارة” سحب سترته عنها بشئ يشبه خيبة الأمل .. بينما ضحك عليه اصحابه ورموه بنظراتٍ ساخرة كأنهم يتهموه بأنه قد “وضع عينه” على تلك الفتاة.. نظرته الباردة المعتادة جعلتهم يعودون الى ماكانوا يتحدثون فيه .. تنهد بصوت مسموع .. ألن ينتهي هذا الكابوس؟ .. بعد فترة لم تعرف ملاك مدتها لكنها قدرتها بأقل من ساعة بقليل توقفت السيارة وهبط الجنود .. ذراع غليظة امسكت بها تدفعها لكن صوتاً بارداً وجه الحديث على ما يبدو لصاحب الذراع “سأتولى الأمر” بعد ثانية تسللت الذراع الغليظة بعيدا عن مرفقها لتحل مكانها ذراع ألطف .. بالكاد امسكت بها .. طلب منها الصوت البارد “تقدمي أرجوكِ” فتمتمت من بين اسنانها “عليكَ اللعنة” تقصلت الأصابع على ذراعيها في رد فعل منزعج من جملتها مما اثار فيها سعادة.. قد لا تملك قوة الجسد لتحارب لكنها بالتأكيد تملك سلاطة اللسان عندما يتعلق الأمر بهؤلاء الوحوش .. عندما هبطت على الأرض لم تتمالك نفسها فأطلقت آهة وجع لملامسة بشرة قدمها العارية للأرض الترابية الخشنة الغير نظيفة .. لكن آهتها تحولت الى صراخ هستيري عندما لفّ الجندي الذي كان يقودها ذراعاً واحد حول خصرها ورفعها قليلاً عن مستوى الأرض .. حركت ساقيها بشكل جنوني وهي ترفسه .. صوت يشبه الأنّة خرج منه هو الشئ الوحيد الذي دلّ على أنها كانت تصيب هدفها .. بينما تعالت ضحكات الجنود الآخرين وهم يرمون بتعليقات بذيئة على الوضع .. بعد لحظات فارقت الذراع خصرها فجأة كما أحاطتها فجأة لتهبط قدميها على أرضية ملساء مرصوفة .. صاحت بغضب “حقير” إحتقن وجه جوزيف .. ها هي تنعته بالحقير وهو الذي كان يحاول مساعدتها .. رؤية ذاك الاحمق مايسون يمسك بذراعها بقسوة جعلته يتقدم لا شعورياً ليأخذ مكانه .. وعندما سمع آهة الوجع لم يتحمل ان يتخيلها تجرح قدميها الصغيرتين .. فلم يتمالك نفسه ورفعها .. بينما انهالت عليه تلك العنيدة بكل انواع الرفس .. تحسس ساقه بأنزعاج وهو يقودها الى داخل غرفة التحقيق .. ناشدها في داخله “أصبري قليلاً وسأخرجكِ من هنا .. أقسم أني سأفعل” وضعها برفق على المقعد بينما جاءت ميراندا مسرعة وهي تسأل بأندهاش “من هذهِ؟ ماذا حدث” .. نظر اليها بإزدراء دون ان يجيب .. تبرع مايسون بالاجابة .. وقف ضابطهم المسؤول بضخامته التي تسد حجم فتحة الباب يضع يديه على خصره وينظر الى ملاك .. نادى يأمر من حوله “أحضروا المترجم” حينما هرع أحد الجنود لأحضار المترجم كانت ملاك تجلس هادئة تماماً على الكرسي الخشبي .. رائحة المكان خانقة .. ورطبة .. ارتفع رأسها لتوصل رسالة واضحة انها ليست خائفة .. ربما هي ترتجف داخلياً فهي رغم كل شئ أنثى ولديها الخوف الفطري على شرفها وهؤلاء عديمي الشرف لن تأخذهم بها رحمة أو رأفة .. لكنها تفضل الموت على ان تظهر ضعفها .. قوّت نفسها بفكرة انها ستقتل نفسها ان إقتربوا منها ولكن ليس قبل ان تقتل منهم واحداً على الأقل .. وقع أقدام قادمة قطع تفكيرها بعدها دخل شخص ما وجه الضابط اليه الكلام بقوله “سامح ترجم ما اقوله لها” شهقة الرجل المدعو سامح دلّت على صدمته برؤيتها … لكن ملاك ابتسمت بسخرية وقالت باللغة التي لا يفهمها احد سوى سامح “ها هو الخائن قد جاء” لم تعلم ان جوزيف قد فهم فحوى جملتها .. نظر الى وجه سامح المصدوم والمتألم .. نعم هو يعلم شعوره بالضبط .. كما يعلم قصته .. المسكين الذي فقد رجله في حرب التسعين .. والذي يحمل عبأ طفلين وأم وزوجة .. نظر اليها وهو يهمس في قلبه مخاطباً أياها “الا تعذرين أحداً يا غزال؟” .. صوت الضابط ارتفع ليقول لسامح “أسألها عن أسمها” .. سمعت ملاك صوت كرسي يسحب خمنت ان الخائن المدعو سامح قد جلس عليه سألها بإرتباك “ما أسمكِ” التفتت بوجهها ناحية مصدر الصوت وبلا أدنى تردد بصقت في وجهه وهي تقول “أذهب الى الحجيم يا كلب الأحتلال” صفعة من مكان ما استقرت على وجهها اتبعتها صيحة “توقف” ومن خلف عينيها المعصوبتين لم تستطع ان ترى من دخل في اشتباك الأيدي الذي تلتقطه أذنيها .. ثم جاء صوت انثوي يتدخل “توقفوا ، توقفوا” .. نظر جوزيف الى ميراندا بقرف والى مايسون الذي وجه الصفعة لوجه ملاك بغضب .. شعر بنفسه يغلي .. يغلي بشدة .. واقسم ثانية انه سيخلصها منهم .. هذه الفتاة التي تدعي الشجاعة لن تصمد لخمس دقائق امام اي من هؤلاء .. جاء صوت الضابط غاضباً وآمراً .. “مايسون ، جوزيف .. اخرجا الان” نظرة واحدة لوجه الضابط اعلمته ان مخالفة اوامره الان لن تكون فكرة سديدة .. لذا فانه فضل ان يسحب نفسه الى حين مطمئناً ان سامح على الأقل معها .. بعد دقائق من الجلبة هدأ المكان مرة أخرى .. صوت المدعو سامح حدثها “أرجوكِ اجيبي .. سيأذونكِ ان لم تجيبي .. لا داعي لتجعليهم يمدوا ايديهم اليكِ ما دمت تستطيعين منع ذلك” رغبتها في ان تبصق في وجهه مرة اخرى عارضها عقلها الذي أقرّ بصحة ما يقول فسمعت نداء العقل وقالت بنبرة تبدي فيها إشمئزازها “ملاك” .. سأله الضابط ان يسأله عن عمرها وقبل ان يفعل اجابت “تسعة عشر .. قل لهذا الوحش انني اجيد لغته ..” عندما ترجم له سامح الكلام سألها الضابط “اين مصطفى؟” هفى قلبها لذكر اسمه الحبيب .. ترى كيف هو؟ هل نجى؟ يارب نجيه يارب.. بينما كانت مسترسلة في دعائها صاح الضابط “أين مصطفى؟” هزت كتفيها بإستخفاف “من مصطفى؟” ..
كان جوزيف يذرع الممر بعصبية .. داخل الغرفة كان يسمع صوت صراخ الضابط وصوت سامح لكنه لم يسمع صوتها أبداً .. بعد ساعة خرجت الفتاة تجرها ميراندا .. نظرت اليه ميراندا نظرتها المستهترة .. لكنها تجاهلها ونظر الى ملاك .. وجهها حمل كدمة زرقاء .. جعل يده تتكور على شكل قبضة كم تمنى ان يوجهها لوجه الضابط .. سامح نظر اليه بأسف .. بينما صوت الضابط هدر “ضعوها في غرفة منفردة” .. بلع جوزيف ريقه ، هذا يعني انه ينوي بها شراً .. عليه ان يخلصها .. جسمها النحيف كان مستقيماً وهي تمشي .. لكن ملامحها كانت متقلصة .. الكدمة تؤلمها بلا شك .. غلى دمه وشعر بالغضب .. نادى سامح وهو يقول “تعال معي سامح” .. عندما جلسا في منأى عن أنظار البقية .. سأله “كم مرة ضربها؟” هز سامح رأسه وكأنه يكاد أن يبكي “مرة فقط .. لكنها تألمت” وضع رأسه بين يديه وهو يقول بحسرة “وانا لم استطع ان افعل شئ .. أشعر بأنني حقير” ربت جوزيف على كتفه “لم تستطع فعل شئ .. لكن لن يطول الأمر” .. رفع سامح رأسه يسأل “ماذا تعني؟” تلفت جوزيف حوله ليتأكد من خلو المكان وعاد يقول “يعني أنني سأهرّبها” شهق سامح “هل بأستطاعتنا ان نهرب ملاك؟” خفقة غريبة ارعشت قلبه وهمس “أسمها ملاك؟ هذا يعني .. ” اكمل عنه سامح “أنجل” .. ابتسم جوزيف رغماً عنه .. “انجل” أسم يناسبها تماماً .. ما كان ليفكر بأسم يليق بها أكثر من ملاك .. صوت سامح اخرجه من أفكاره “كيف؟” أطرق جوزيف قليلاً ثم عاد يقول “لا اعلم سأفكر في شئ ما” استشعر جسده برودة الجو ففكر بأنجل وانها لا ترتدي سوى بجامة خفيفة فهبّ واقفاً وقال “علي أن أذهب الآن” .. إتجه الى غرفته أحضر منها غطاءاً سميكاً .. وتوجه الى غرفة الحجز .. لحسن الحظ ان صديقه جاكسون كان يناوب هذه الليلة للحراسة .. رفع جاكسون نظره الى جوزيف الذي قال “ستموت برداً” لم يستطع جاكسون منع ابتسامته من الظهور على وجهه .. وهي تشي بأفكاره “الشريرة” .. ضربه جوزيف على كتفه “لا تحلم بهذا .. تعرفني جيداً” هز جاكسون رأسه كأنه يصدق صديقه وتقدمه ليفتح له الباب .. قفزت انجل من مكانها عندما رأته يدخل عليها .. صاحت بالانكليزية “أبتعد عني” عيناها كانتا مرعوبتين كعيني غزال وقع في المصيدة .. أثر الدموع لم تجف عن وجهها .. أشفق على خوفها منه وعلى الرعب الذي تعانيه رغم ادعائها القوة رفع يده في حركة مطمئة وهو يقول “لا تخافي أرجوكِ” .. راقب بعض الدهشة على وجهه بينما عاود يقول “لقد أحضرتُ لكِ غطاءاً حتى لا تبردي” صاحت بوجهه “اذهب الى الجحيم مع غطائك” .. التصق جسدها بالجدار البارد .. ابتلع ريقه .. لو انه فقط يستطيع ان يمحو نظرة الرعب من عينيها الجميلة .. تقدم خطوة ليطمئنها لكنها ازدادت التصاقاً بالجدار .. تنهد ووضع الغطاء على الفراش البالي وتراجع خارجاً من المكان و نظرتها المذعورة تلاحقه ..
عادت ملاك الى وضعها السابق تلف ركبتيها المضمومتين الى صدرها بذراعيها وهي تبكي .. لقد اخافها دخول الجندي الثلجي العينين .. لحظتها أدركت انه لو حاول فعل شئ لها فلن تستطيع ان تقتل نفسها .. فلا شئ في هذه الغرفة الفارغة يمكن ان يستخدم كآلة قتل .. وقوفه هكذا أمامها عرّى الحقائق التي كانت تفكر بها قبل لحظات من دخوله وهي ترتعش برداً .. خوفها على حياة مصطفى .. وعلى شرفها .. وعلى حال الخالة عالية .. جعلت البرد أشد قسوة .. نظرت الى الغطاء السميك وتخيلت مدى الدفئ الذي يمكن ان يوفره لها .. لكنها اشاحت عنه بأصرار .. فهي لن تلف نفسها بأغطيتهم القذرة .. فكرت في هذا الجندي الذي يتصرف بغرابة رجل يعاني من شيزوفرينيا .. فمرة يمد لها يده في الشارع ليطمئن عليها ومرة يكون احد معتقليها لينتهي به الامر حاملاً غطاءا لها وكأنه يهتم ان كانت ستشعر بالبرد ام لا .. يا لتناقض طباعه كما ان صوته جعلها تتعرف عليه .. انه ذات الجندي الذي ابعد ذراع الرجل الخشن وامسكها بقبضة لينة وحتى انه قال “أرجوكِ” بكل تهذيب وهو ذاته الذي حملها وعبر بها الشارع الغير معبد الملئ بالأتربة الخشنة .. هذا الرجل لغز .. لغز كبير !.. تحولت افكارها ثانية الى مصطفى .. صلّت لأجله مرة اخرى ولم تستطع منع دموعها من الانهمار .. بعد ساعة اشتد البرد بها فلم تجد بداً من ان تستخدم الغطاء والا ماتت برداً .. عندما وضعته على جسدها شعرت بدفئ يغمرها وفاحت منه رائحة نظافة هي ذاتها الرائحة التي تنشقتها في السيارة .. ارتفع حاجبها بدهشة اذن هو من كان يجلس الى يمينها .. هذا الجندي البارد العينين .. هل قدرها ان يكون أنفه محشوراً في كل تفاصيل هذه الليلة التعيسة؟
تقلّب جو في فراشة كثيراً .. لم يستطع ان يقنع النوم أن يطبق على جفنيه .. صورة أنجل وهي مذعورة لم تفارقه .. عندما كانت تجلس بين الجنود كان ملامحها تنطق شجاعة لكنه عندما رآها وحدها ورآى قناع الشجاعة ساقطاً ليظهر خوفها جلياً .. تقطع قلبه لمرآها .. صغيرة جداً .. هكذا تبدو حجماً وعمراً .. ومن الظلم ان تعاني صبية في اول عمرها من هذا العذاب .. أغمض جفنيه وهو يتنهد .. ودون شعور فاجأه النوم .. ليسمع صوتاً لويسا يهمس “أحبكَ جو” .. ثم يعانقها ليبدأ الشئ في بطنها ينمو بينهما .. عندما رفع رأسه الى وجه لويسا تفاجأ بوجه أنجل يحدق به وهي تهمس بكره “أكرهك جو”.. نهض جو من حلمه مذعوراً .. وانطلق راكضاً الى غرفة الحجز .. كان جاكسون يغط في نومٍ عميق .. ربما كانت هذهِ فرصته .. معظم الجنود نيام .. استل المفاتيح التي كانت تتعلق بحزام يلتف حول خصر صديقه برفق .. وتقدم ببطئ وحذر نحو الباب .. فتحها بهدوء يشابه الصمت .. لكن جسدها الملتف بالغطاء انتفض فجأة وصاحت “ماذا تريد؟” وضع اصبعه على فمه يقول “شششش ارجوكِ انا جئت لأخلصكِ؟” نظرت اليه غير مصدقة وصاحت بصوت أعلى “ابتعد عني ايها الكاذب” صوتها كان كفيلاً بإيقاظ جاكسون الذي جاء راكضاً ودخل الغرفة يقول مندهشاً “ماذا تفعل هنا جوزيف وكـ..” قبل ان يكمل جملته لكمه جوزيف على وجهه وهو يقول “أعتذر صديقي” ثم سحب منه مسدسه وجهاز الاتصال اللاسلكي وسط دهشة أنجل التي نظرت اليه غير مصدقة .. همس لها “تحركي بسرعة” وهو يلوح بيده ليستعجلها .. نظرت اليه للحظة متردد ثم ركضت الى الخارج .. تقدمها وهو يهمس “إبقِ خلفي” دون كلمة أطاعته .. تسلل في ممرات المعكسر بخفة .. المكان مظلم وهادئ .. كاد ان يصل الى بوابة البناية ليخرج منها الى الساحة مع أنجل لولا صوت ميراندا الذي أوقفه “مال الذي تفعله جو؟” وعندما لمحت ملاك صاحت به “وما الذي تفعله هذهِ معك؟!” .. لعن جوزيف حظه .. فقد صادف اليوم ان تكون ميراندا التي تتربص به في كل حين هي الجندي الخفر هذه الليلة .. شعر بانجل تنكمش على نفسها خلفه فتصاعد غضبه .. همس بحنق “أبتعدي عن طريقي يا ميراندا” وضعت يدها على المسدس في حزامها وهي تسأل “أين تأخذها؟” وبلا تفكير أختصر جوزيف على نفسه الحوار الطويل وصوب مسدسه اليها ورماها برصاصة في رجلها تضمن اصابتها لا قتلها .. واقترب منها بسرعة قبل ان تستفيق من وجع الاصابه ولكمها لتفقد الوعي .. اخذ مسدسها وجهاز اللاسلكي وامسك بيد انجل التي تراجعت بشكل لا ارادي لكنه عاد يمسك بيدها وجرها بسرعه خلفه .. صوت اطلاق النار لا بد انه سيجعل كل من المعسكر يفيق خصوصاً بعد احداث اليوم .. ميدان المعسكر كان مظلماً .. عدد من الأضواء الكشافة المتحركة كانت تمسح ارضية الميدان المعتمة .. لم تنطق انجل من خلفه بكلمة .. كانت صامتة وصوت تنفسها السريع ويدها الباردة في يده هما فقط ما دلّا على وجودها .. فجأة غرقت الساحة في الضوء واصبح جسديهما مكشوفين تحت الأنوار .. نادى الصوت من مكبرات الصوت “سلّموا انفسكم” والتقطت اذنية صوت الجنود يركضون اليه وصوت سحب السلاح .. ردة الفعل الوحيدة التي صدرت عن انجل انها اقتربت منه بشكل لا ارادي وضغطت على اصابعه بخوف .. التفت اليها .. عيناها المذعورتان جعلت تصميمه على تخليصها يزداد وليحصل ما يحصل .. ركض الى موقف السيارات العسكرية لكن مايسون اعترضه .. استخدم جوزيف اسرع طريقه للتخلص منه فضربه بين رجليه وسحب من جيبه مفاتيح السيارة فهو احد سائقي المعكسر لكن ليس قبل ان يوجه لكمة له في وجهه رداً على صفعه أنجل .. ركضا معا الى السيارة وفي لحظات كانا ينطلقان بها خارجاً .. وابل من الرصاص تراشق بأتجاههم صاح “أخفضي رأسكِ” وفعلت ما أمرها ..
كانت ملاك في حالة ذهول تام من الاحداث المتسارعة .. كيف حدث ان خلصها الرجل البارد العينين والذي دعته حمراء الشعر بأسم جو؟ كيف ؟ .. صوت الرصاص صم اذنيها .. وبضع سيارات كانت تلاحقهم .. آهة خفيفة صدرت عن الرجل لكنها لم تجرؤ على رفع رأسها لتنظر اليه .. عقلها كان يعمل بسرعة لتستوعب الاسباب التي جعلت هذا الرجل يخاطر بحياته لأجل ان يخلصها من الحجز .. هل ينوي بها شراً؟ لو كان لما خلصها .. فالفرص في المعتقل متاحة ولا شك ! .. إذن لماذا؟ قبل ان تتعمق في تفكيرها اهتزت السيارة ليرتطم رأسها في حجره .. سمعته يلعن بينما هي ابتعدت مذعورة عنه .. صوته يشوبه ألم خفيف قال “لقد اصابوا عجلة السيارة ..” ثم صاح مرة اخرى وهو يوقف السيارة “سيرموننا بقاذفة .. انزلي بسرعه” على الجسر المطل على نهر دجلة اوقف الهمر وصاح بها .. اقفزي الى النهر .. ارتعبت “لا اعرف السباحة” جاء صوتها هامساً مرعوباً .. فما كان منه ان ان امسك بيدها ورفعها على حافة الجسر ثم وتسلق الى جانبها وقفز وهو يجرها معه الى الأسفل لتملأ صرختها سكون الليل ثم تختفي بعدها في صوت إنفجار سيارة الهمر..
*
استلقى مصطفى في بيت العم عبد الله المضمد غائباً تقريباً عن الوعي .. يهذي بكلام غير مفهوم وقد هاجمته الحمّى .. اخته سوسن تمكنت من المجئ ما ان حل الصباح ورحل الجنود ترافقها أمه الباكية .. عندما جاءت الخالة عالية ازداد انهمار دموع سوسن .. ترافقها ولولة الخالة عالية .. خبر اعتقال ملاك كان كارثة حلت فوق رؤوسهم تساوي في حجمها حجم اصابة مصطفى .. فكل فتاة تعتقل لا تخرج سالمة .. لا بد ان يعتدي الجنود على شرفها قبل ان يقتلوها او يخرجوها من المعتقل .. لقد ضاعت حياة ملاك المسكينة .. الصبية الجميلة التي لم ترَ شيئاً في حياتها .. ولولت الخالة عالية “ماذا سنفعل؟ اين سنجدها؟” ربتت سوسن على كتفها وهي تحاول كفكفة دموعها “لقد كلمت شخصاً اعتقد انه يمكن ان يجدها” تعلقت الخالة عالية بها وهي تقول “حقا يا سوسن؟” هزت رأسها “والله يا خالة فقط ادعي لها” راحت الخالة عالية تدعو تشاركها والدتها في الدعاء .. بينما ابتعدت سوسن قليلاً عنهم لتتصل بمحمد وتساله “هل من أخبار؟” تنهد عبر الهاتف “لا زلت ابحث عن المجموعة التي اعتقلتها .. سأجدهم ان شاء الله ..” تهدج صوتها بالدموع “أسرع يا محمد البنت في خطر” اجابها “والله اقوم بما استطيع يا حبيبتي” .. انهت المكالمة وهي تشعر بخيبة امل كبيرة جلبت دموعاً اكثر لعينها .. اخوها مصاب وصديقتها معتقلة بسبب اخوها .. يارب رحمتك ..
*
دخل مايسون الى الضابط وهو يقول “لم يكن لهما أثر في السيارة” ضرب الضابط المنضدة امامه بقوة وهو يصيح “تباً .. الآن ماذا سنقول للأعلام؟” .. أطرق لدقيقة ثم قال “هل يعلم احد بهذا غير فريق البحث؟” هز مايسون رأسه نافياً “كلا سيدي” بان التصميم على وجه الضابط “إذن أحرص ان لا يعرف احد .. سنقول للأعلام انهما ماتا .. ولأي أحد يسأل عليهما .. وسنبحث عنهما بسرية تامة .. لا أريد احدا ان يقول اننا فشلنا في القبض على هاربين .. سيضر هذا سمعة معسكرنا وسنفقد هيبتنا” .. القى مايسون على ضابطه التحية العسكرية وهو يقول “أمرك سيدي” .. ثم أنصرف تاركاً الضابط يتلظى بنار غيظه
*
بعد ساعات .. أفاق مصطفى من هذيانه قليلاً وهو يغمغم “ملاك .. ملاك .. اين ملاك؟” لم تتمالك الخالة عالية من ان تصيح “لقد اعتقلوها بسببك” .. تأوه مصطفى محاولاً ان يتحرك .. غشت غمامه فكره المتبلد .. لكنه حاول ان يجلي تفكيره وجملة السيدة عالية كانت كافية .. حاول ان ينهض متأوها وهو يصيح “ملاك .. علي ان أجدها” في ذات الوقت رن هاتف سوسن .. اجابت على المتصل ليسقط الهاتف منها وهي تصيح .. التفتت كل الوجوه اليها .. قالت باكية “لقد هربت مع جندي وانفجرت بهم السيارة .. لقد ماتت ملاك” .. دارت الدنيا بمصطفى .. وجهها البرئ بعينيها المشعة تحمل كل كلام الحب في داخلها تمثّل أمام عينيه .. ملاك.. ملاك .. هل فقد ملاك؟ لا يمكن .. مستحيل .. ملاكه الحارس لا يجب ان يموت .. صاح بغضب “لايجب .. لا يجب” قبل ان يدخل في حالة هستيرية يشاركه فيها الخالة عالية وسوسن..
*
على الجانب الآخر من بغداد .. وسط مياه دجلة كان النصف الأعلى من جسد ملاك يطفو على ظهر جو الذي كان يسبح بهما نحو الجرف .. الماء البارد حد التجمد جعلها ترتعش بقوة .. وصوت اصطكاك اسنانها وصل الى مسامع جو الذي قال من بين اسنانه “سنصل بعد دقائق” وقد كان محقاً ,, على الجرف استلقت ملاك تتنفس بصعوبة .. التفتت الى جو فوجدته يرتجف هو الاخر وتحت ضوء القمر شاهدت حط الدم الرفيع يسيل من كتفه .. صاحت بفزع “ما هذا؟” وضع يده على مكان الاصابه وقال “أصبت” رجعت بذاكرتها الى صوت آهته الخفيفة التي أطلقها عندما كانا يهربان بالسيارة .. شعرت ببعض الذنب .. قالت “تحتاج الى طبيب” قال ساخراً “هل تجدين عيادة هنا؟” نهضت وهي تقول “سنذهب الى أقرب بيت” نهض هو الاخر لكنه ترنح تقدمت خطوة لتسنده لكنها تراجعت .. هو ما زال عدوها رغم كل شئ .. فليمشِ مترنحاً .. هكذا مشيا مسافة يتم قطعها بنصف ساعه بساعة كاملة لتعثرهما فهي تشعر بالبرد وهو يترنح ألماً .. وصلا الى حي شعبي فقير .. طرقت الباب وهي تقول “ساعدوني” .. فتح لها الباب رجل في اخر الخمسينات قال له بسرعه “ساعدني يا عم ساعدني” بدون تردد قال لها “أدخلي يا ابنتي” لكنه ما ان رأي جو حتى ضاقت عيناه وهو يقول “من هذا؟” انطلقت كذبتها بسهول “هذا صحفي اجنبي .. ارجوك ادخلنا” ارتاحت ملامح العجوز وادخلهما فوراً .. كانت شمس النهار تبزغ ببطئ عندما التفت ملاك ببطانية سميكة وقد غيرت ملابسها وهي تمسك بكوب شاي ساخن .. تنتظر جار العم “حسين” الطبيب ليخرج الرصاصة من كتف “الصحفي” جو.. قبل ان تسأل زوجة العم حسين اي أسئلة اغمضت عينيها ملاك بتعب شديد وراحت في سبات عميق.. اخذت الخالة “غنية” كأس الشاي من يدها ونظرت الى وجه ملاك البرئ وابتسمت بأسى لظروفها التي لا تزال غامضة وهمهمت “طفلة مسكينة”.

السابقانت في الصفحة 1 من 24 صفحات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
20

أنت تستخدم إضافة Adblock

انت تستخدم اضافة حجب الاعلانات من فضلك تصفح الموقع من متصفح اخر من موبايلك حتي تقوم بتصفح الموقع بشكل كامل