
انخرطت فجأة ببكاءٍ هيستري وهي ترد عليه بنبرتها الساخرة:
_وأخد جزاته على اللي عمله معايا.
وأزاحت بأطراف أصابعها العالق بأهدابها قبل أن تستطرد بوجعٍ:
_كنت فاكرة إن هيجي وقت وقاسم يمل من هروبي، بس للأسف الانسان ده مريض وهيفضل يطاردني طول العمر.
همس إليها عاتباً بهذة النبرة الخبيرة كأخ صارت حقاً تفتقده وسط تلك الحرب التي تخوضها:
_مش هيقدر يعمل كده تاني يا لوجين، لانك بقيتي مسؤولة مننا من اللحظة اللي عاصي قرر فيها إنه يساعدك.
نجح في أن يرسم إبتسامة ممتنة على وجهها الحزين، فمنحها بسمة صغيرة قبل أن يعود لغرفة عاصي مجددًا، اسندت لوجين رأسها للخلف وهي تحاول الإنتصار على إحساسها بالذنب الذي يهاجمها، فنهضت لتلحق بغيث حتى تطمئن عليه بنفسها، فانقبضت أنفاسها حينما شعرت بأن هناك من يلاحقها، حتى أنها تعمدت التباطئ بمشيتها علها تبالغ بظنونها، فخاب أملها حينما وجدت من بتبعها يبطئ من خطاه عن عمدٍ، استجمعت لوجين شجاعتها ثم استدارت بعدما كانت المواجهة هي إختيارها، فوجدت رجلاً من رجاله يتبعها، وقبل أن تصرخ للاستغاثة، ضغط بيديه على زر هاتفه، فانطلق مكبر الصوت ينقل لأذنيها صوت المتصل:
_كنتي فاكرة إن الموضوع خلص يا لوجين! قولتلك ألف مرة وهرجع أقولهالك تاني أي حد هيفكر يقرب من حاجة تخص قاسم خلدون هتبقى دي نهايته، ومتفكريش إن عاصي نجا من الموت، زي ما قدرت أوصلك أقدر أخلي راجل من رجالتي يخلص عليه وهو في المستشفى بمنتهى السهولة..
تمزق فؤادها، فكانت تظن أنها ستحظى أخيراً بحياةٍ طبيعية مثل باقي الفتيات، ظنت بأنها إمتلكت الحق في أن تختار شريك حياتها، ظنت بأن قلبها تحرر من القيود وصار حرًا طليقًا لن يعيقه أي شيء حتى قاسم خلدون بنفسه.
ربما لم يتغير شيئاً بالنهاية المتوقعة سوى إنها باتت امراءة ناضجة، يضخ قلبها بالعشق لذاك الأربعيني، لذا ستحارب ذلك الشيطان بكل قوتها حتى لا تعرض حياته للخطر، تود أن يظل قلبه يخفق حتى وإن لم يكن لها، وإن لم يقدر القدر أن يجمعها به يكفيها ذكرياتها الضئيلة التي احتفظت بها بداخل جوارحها، فلم تتردد باتخاذ قرارها الأخير، وجذبت الهاتف من يديه لتقربه منها وهي تخبره بكرهٍ وحقد زرع بداخلها تجاه شخصه البغيض:
_أنت بني آدم حقير..
بترت كلماتها في محاولةٍ مستميتة منها بأن تسيطر على إنفعالاتها الثائرة، فقالت بهدوءٍ بدى زائف ومصطنع:
_مش مضطر إنك تقتله أو تأذي أي حد ، لإني هرجع البيت وحالا.
وأغلقت الهاتف ثم ناولته لمن يقف أمامها، وهي تحاول حبس دمعاتها خلف ذاك الحاجز القاسي الذي صنعته لنفسها، فأجبرت قدميها على التحرك للأسفل، ولكنها خذلتها مثلما خذلها قلبها، خذلها بوجعٍ جعل صدرها يتمزق كلما بعدت خطوة عن محبوبها، فصعدت الخطوات التي نزلتها وهي تشير إليه بحدةٍ:
_انزل أنت وأنا شوية وهحصلك.
بدى حائراً بتركها، فخشى أن يتعرض للتوبيخ من رب عمله، فأخبره برسالة نصية بما قالته، فوجده يطالبه بأن يتركها تفعل ما تشاء، وكأنه كان يريد عودتها أن تكون بإرداتها هي حتى لا تختار الهروب مجدداً.
وقفت تراقبه من خلف تلك النافذة الصغيرة، عينيها غائرتين بالدموع، وقلبها ينازع، ليته لم يقرب مدائنها ولم يقتحم سياجها العالية، ليته تركها طفلة تداعب فراشتها في مروج عالمها البعيد،فحينها لم يكن جرحاً يمسها ولما باتت تخبئ تدوبها خلف قناع الإبتسامة المزيفة، فرغماً عنها وجدت قلبها يهديه غراماً وتركها تعاني سكرات الحنين في دروبها المنسية، وها هي تجبره على نسيان ما عاشه لأجله هو، تدفقت دمعاتها الساخنة على وجهها لتكويه بنيران الفراق الذي كُتب عليها، فرفعت يدها لتضعها على اللوح الزجاجي الذي يفصلهما، وهي تهمس بحروفٍ متقطعة:
_غصب عني، لازم أبعد عشان بحبك.
وقبل أن تضعف وتتراجع عن قرارها ابتعدت عن النافذة لتتبع خطواتها السريعة، حتى وصلت لأسفل المشفى، ومن ثم صعدت في السيارة التي كانت بانتظارها، لتتحرك بها لجحيمٍ فرض عليها واختارته بتلك اللحظة بكامل ارادتها!