منوعات

رواية بقلم آية محمد رفعت

الفصل العاشر.

أنسام المساء كانت ثقيلة، تبحر مع النسيان وتلك الليلة الطويلة حالكة السواد، فى محراب البوح تسقط كل الأقنعة، تنادي لا تحرك أشواقك الراكدة ، غادر أيها الطيف ، لا توقظ الحلم وتغفو بين الغيوم ثم تبحر لأعلى نقطة سكون

هل أخبرتك عن ذاك الشق الذي يناجي همسة اللقاء، خفق قلبها ألماً وهي تنتظر خارج غرفة العمليات باكية لساعاتٍ طويلة، تأكدت فيها من المشاعر التي تكنها إليه، نعم لم تكن محبة له بل عاشقة حد الجنون، رفعت “لوجين” يدها أمام وجهها فرأت الدماء مازالت تلطخها، فوخز صدرها لمجرد تذكرها لجسده الغارق بدمائه حينها انقبض فؤادها حينما صاحت به بأن ينهض ولكنه تلك المرة كان متخشباً كمن فقد الحياة، فحاولت أن تسانده بمعاونة البواب لتتحرك به للمشفى، انسدلت دمعاتها ويدها تتشبث بحافةٍ الأريكة المعدنية من خلفها وهي تردد من بين نشيجها الباكي:

_يا رب أنا مش هستحمل لو جراله حاجة بسببي، أنا مش هقدر أتحمل.

_أنا بحبه أكتر من نفسي.

مازالت تمتم وهي مغمضة العينين، فكيف ستحتمل العيش بذنبه طوال عمرها؟

ليته آذها هي وتركه، ليتها لم تعرفه يوماً ولم يعرفها..

أفاقت “لوجين” من جلدات السواط القاسي الذي يجلد روحها على صوت “غيث” اللاهث وهو يتساءل بلهفةٍ:

_أيه اللي حصل وفين عاصي؟

رفعت عينيها الباكية تجاهه، فوجدت “عمر” يلحقه فور أن علم بما حدث، ليقترب منها هو الأخر، وهو يتفحص ضوء غرفة العمليات :

_هو خرج ولا لسه؟

أتاه صوتها الشاحب يجيبه:

_لسه محدش خرج من جوه.

مرر يديه على خصلات شعره وهو يهمس بتوترٍ:

_ربنا يستر.

اشتعلت حدقتي عين “غيث” غضباً، فردد بنبرةٍ جافة بعد أن خمن من الفاعل :

_أكيد قاسم الكلب اللي ورا اللي حصل ده وكله بسببك وبسبب مساعدته ليكي.

صدم “عمر” مما تفوه به “غيث”، يعلم بأنه حينما يسيطر عليه غضبه يجعله كفيفاً، متبلد المشاعر، فسلط نظراته عليها ووجدها تشتد بالبكاء، فاقترب منه وهو يشير إليه بصوتٍ منخفض:

_مالوش لزمة الكلام في الموضوع ده دلوقتي يا “غيث”، لما نتطمن عليه الأول نبقى نتكلم.

طبقت شفتيها على صرخة كادت أن تغادرهما، وأنياب الحقيقة تنتزعها من جنة خيال عشقها إليه، فهي تعلم جيداً بأن قاسم هو من فعل ذلك، لم تكن بحاجة لسماع غيث يخبرها بذلك، نهضت “لوجين” وإتبعت قدميها التي ساقتها لنهاية الرواق، فوجدت مكان مخصص للصلاة، في تلك اللحظة وضعت أمامها مرآة عكست لها ما ترتديه، فرفعت يدها تتحسس خصلات شعرها المتمردة من خلفها بحرجٍ تشعر به للمرة الأولى، كانت تود اللجوء إلى الله حتى يحمي من أحبه قلبها بصدقٍ، فهوت دمعات حملت قهراً وخذلان لما وضعت نفسها به، تمنت لو تمتلك أي حجاباً بحقيبتها لتتمكن من الدخول لمكانٍ عظيم هكذا، باتت حائرة، مترددة بالعودة، تشعر بأنها على مقربة من لقاء ربها، لتطالبه بإنقاذ حياة محبوبها، فشعرت بربكتها إحدى الفتيات التي خرجن من المسجد بتلك اللحظة، فوقفت بإحدى الغرف المستقلة ثم خلعت حجاباً من الحجابين التي ترتديه، لتقدمه لها بإبتسامةٍ صافية، منحتها “لوجين” بسمة صغيرة رسمتها بصعوبةٍ، ولكنها كانت كتفية لتخرج ما بداخلها من صفاء ومحبة لما فعلته، فحاولت ارتدائه ثم ولجت للداخل بخطواتٍ مترددة، شردت بتأمل المسجد من الداخل، فعلى الرغم من صغر مساحته الا أنها شعرت بسكينةٍ يصعب وصفها، استقرت أخيراً بأحد الصفوف حينما وجدت نفسها آمنة بين أربع جدران، لتستحضر تعليم جدتها ووالدتها لها بتلك اللحظة، إنتهت من صلاتها ودعواتها التي لم تكن لأحداً سواه، وحينما انتهت جلست تحتضن ذاتها بيديها المرتعشة، وحينما أصبحت وحيدة بالمسجد تفجرت كل دموعها التي حبستها، لتغرق وجهها كالطوفان، خاضت بتلك الساعات حرب قادها عقلها وهو يستحضر خبراً قد لا تود سماعه أبداً، وقد إتخذت قراراً هام سيتوقف على إفاقته، فلن تسمح لما حدث بأن يتكرر مرة أخرى، وخاصة بأنها سبب العداء بينهما، إتكأت “لوجين” بمعصمها على السجاد المفروش من أسفلها، ثم خرجت لتطمئن عليه، فوجدت الممرضة تدفع السرير المتحرك به، و”غيث” يساعدها في نقله لأحد الغرف المستقلة، خطفت نظرة تعمقت بملامح وجهه، وكأنها تختمها بداخلها، ثم أسرعت تجاه “عمر” بعدما أنهى حديثه القصير مع الطبيب، فقالت بلهفةٍ لم تستطيع إخفائها:

_طمني يا عمر، الدكتور قالك أيه؟

حيرة جعلته يلمس الحب بعينيها هي الأخرى تجاه صديقه، فصمت للحظات قبل أن يصلها صوته:

_الحمد لله الإصابة كانت في كتفه وسطحية، شوية وهيفوق.

ثم رفع الروشتة أمامها وهو يردف:

_هنزل أجيب الأدوية دي وراجع.

أومأت برأسها بإيماءة خفيفة، ثم جلست على المقعد القريب منها ويدها تتحسس نبض قلبها المذبذب، كانت تخشى أن تستمع ما لا يعجبها، فإنقلب حزنها لسعادةٍ وهي تهمس بصوتها الخافت:

_الحمد لله.

شعرت وكأنها عادت مجدداً للحياة، فوصل إليها صوت “غيث” الهادئ بعض الشيء:

_أنا مقصدتش أضايقك بكلامي، بس اللي عمله الكلب ده مش هيعدي بالساهل.

التفتت إليه وأنفاسها تتلاحق رغماً عنها، فوجدته على بعدٍ قريب منها ونظراته تقصفها بقصف غير رحيم، حتى وإن كانت نبرته لطيفة، فنهضت لتقف مقابله، ثم قالت بلهجةٍ أتبعتها دمعتها قصراً:

_بس كلامك صح، اللي حصل لعاصي كان بسببي.

ضغط بحدة أسنانه على شفتيه، وكأنه يعنف نفسه على طريقته بالحديث معها، فاقترب منها قليلاً ثم قال باتزانٍ:

_لا مش بسببك، اللي حصل ده كان مقدر ومكتوب.

وتابع دون أن يغير وضعه:

_وبعدين أي حد كان مكان عاصي كان هيعمل كده، مهو مش رجولة تشوف بنت بتتجوز غصب عنها لحقير زي ده وتقف مكانك كده.

انت في الصفحة 6 من 32 صفحات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
350

أنت تستخدم إضافة Adblock

انت تستخدم اضافة حجب الاعلانات من فضلك تصفح الموقع من متصفح اخر من موبايلك حتي تقوم بتصفح الموقع بشكل كامل