
صعد “عاصي” لسيارته التي صمم على قيادتها بنفسه تلك المرة، فلم يعلم إلى أي وجهة يسلكها، وربما شعر في ذلك الوقت بحاجته للحديث، فلم يجد أفضل من رفيق دربه، إتجه إليه متناسياً الموعد المنسق بينهما، كل ما همه بتلك اللحظة أن يتحدث إليه فيما يقلقه، وبالفعل صعد إليه وفضل الانتظار بالخارج لحين أن ينتهي من كشوفاته، حتى أنه شدد على الممرضة بالا تخبره بأنه بالخارج، وبعد ما يقرب الساعتين من الانتظار أخيرًا أتاه وقت رآه مناسب للبوح عما يضيق صدره، فطرق عدة مرات على بابه قبل أن يدلف، فوجد “عمر” منشغل بحاسوبه، حتى أنه لم يتمكن من معرفة المريض الواقف على مسافة قريبة منه، فقال دون النظر إليه ويديه تشير على الفراش الطبي الصغير:
_استريح على الشازلونج وأنا شوية وهكون معاك..
لم يشاكسه بحديثه الصارم تلك المرة، بل فضل التمدد على الشازلونج، وكأنه يجلس على مقعد يحتمه على قول الحقيقة ولا شيء سواها، وكأنه يواجه نفسه بمرآة تشع بالصدق فقط، ترك “عمر” مكتبه ثم نهض ليجلس على المقعد القريب منه، فاندهش حينما وجده، فردد بذهولٍ:
_إنت بتعمل أيه هنا يا “عاصي”، تعالى نقعد في المكتب.
تجاهل حديثه عن اختياره لمكان جلوسه، ثم قال وعينيه شاردة بتأمل الضوء الهادئ الذي منحه نوعاً من السكينة:
_مش عارف بالظبط أنا أيه اللي حصلي، بس الأكيد إني حاسس إن في حاجة غريبة بتحصل معايا!
والتقط نفساً مطولاً قبل أن يضيف:
_حاسس بحيرة معرفش سببها ، أحيانًا بسأل نفسي هو أيه اللي إتغير؟ أنا لسه زي ما أنا ولسه قلبي بيعشق”هند” بس ازاي وأنا بفكر في”لوجين” في نفس الوقت، أنا معترف أن في رغبة جوايا بتطالبني دايمًا إني أقرب منها، رغبة بتدفعني إن عيني تفضل متعلقة بيها، وفي نفس الوقت خايف إني أواجه مشاعر أنا طول عمري خايف أعيشها، وحاسس إني بحارب في صراع قوي بين حنين الماضي المرتبط بهند وبين المجنونة اللي قيدتني وخلتني زي الغبي اللي مش عارف يأخد أي قرار.
تألم لأجله “عمر”، فلأول مرة يهتز الجبل الذي صمد لسنواتٍ شامخاً، محتفظاً بوجعه وبما يضرب قلبه بمفرده، وها هو الآن يبوح أخيرًا بما يشعر به، فسأله بحذرٍ:
_أنت بتحبها يا “عاصي”؟
أجابه بعد فترة طويلة من الصمت وكأنه يبحث عن اجابة تحسم الأمر، فقال بضيقٍ :
_مش عارف إذا كانت الفترة الجاية كافية إنها تخليني أحبها ولا لا، بس وجودها جنبي بيسعدني وبيرسم البهجة في حياتي.
ابتسم”عمر” لما يستمع إليه، ثم تساءل باستغرابٍ:
_طيب ومستني أيه؟ أنت بنفسك جاوبت على سؤالك، اتجوزها وعيش حياتك يا “عاصي”.
انكمشت تعابير وجهه وهو يرد عليه بحزنٍ:
_الموضوع مش بالبساطة دي يا “عمر”، قرار الجواز أمر سهل ولكن اللي جاي هو الأصعب .
إحتار في فهم ما يعنيه فقال باستياءٍ:
_مش قادر أفهمك” عاصي”، ولا أفهم قصدك ؟
نفث عما بداخله من هواء يزحم رئتيه ثم قال بوضوحٍ:
_لأني متأكد إني مش هقدر أنسى “هند” بعد الجواز، ومش هقدر أديها الحب اللي بتتمناه أي زوجة من زوجها، وبالنهاية هكون ظالم وغير منصف بحقها..
تطلع له”عمر” بهدوءٍ ثم قال بابتسامةٍ رزينة:
_أنا شايف عكس كده، أنا صديقك وقادر أفهمك كويس، خليك متأكد إن هيجي اليوم اللي هينبض قلبك بحبها… وإنها هتكون الخلاص لك من اللي أنت بتعيشه يا “عاصي”، اتمسك بيها وخليها تمسك أيدك وتطلعك من كل ده..
حديثه أينع في نفسه الراحة والأمان، حمسه لخوض تلك الخطوة الهامة في حياته، فتركه وتوجه للعودة للقصر وهو على يقين بأنه على صواب، وحينما توقفت سيارته أمام قصره وجدها تهرع لشرفتها لتراقبه بابتسامةٍ مبهجة، حتى أنها رفعت يدها لتشير إليه عدة مرات، أغلق”عاصي” باب سيارته وهو يراقبها بنظرةٍ خبيثة، ثم كاد بالتوجه للداخل، ولكن سرعان ما تخشبت قدميه المتصلبة حينما دوى صوت طلق ناري المكان بأكمله، لتستقر إحدى طلقاته المصاحبة للموت في صدره، انعقد حاجبيها وهي تتابع توقف حركته بذهولٍ، إنقلب لصدماتٍ لا حصر لها حينما وجدت قدميه تتنحى حتى استقامت بالأرض ليسقط من بعدها “عاصي” بإهمالٍ، تاركاً بضعة قطرات من الدماء تحتل الأرض وقيمصه الأبيض بات متسخاً بدمائه، انكمشت تعابيرها في صدمةٍ بدأت باستيعابها تدريجيًا، ليتحرر صوتها المكبوت صارخاً:
_عـــاصــــي!