” انتِ عارفة انوا صعب يرجع معايا ، فملوش لزمة تطلبي مني شيء مستحيل زي ده ..”
قالت الأم برقة مصطنعة :
” معلش حاول معاه … عشان خاطري … نفسي أشوف ولادي حواليا قبل ما أمـ,ـوت ..”
” ايه الجو القديم ده ..؟! ومين دي اللي تمـ,ـوت …؟! ده انتِ صحتك أحسن من صحتي أنا شخصيا …”
قالها بتهكم لترد بعصبية :
” خليكوا كده ، فاكرين إني كويسة وسعيدة لحد متخسروني ، ساعتها بس هتحسوا بقيمتي …”
” طيب … عايزة حاجة تانية مني ، عشان هروح افطر …”
أجابته :
” لا خلاص قلت اللي عندي …. بس خد بالك من نفسك …سلام يا حبيبي …”
” سلام …”
قالها وأغلق الهاتف ثم رماه على الكنبه بجانبه ، نهض من مكانه متجها الى المطبخ ليجد تالة قد أعدت الأومليت ووضعته في أحد المواعين ليقترب منها ويقول :
” عملتيه بالسرعة دي …؟!”
أومأت برأسها وهي تجيبه :
” هو سهل اصلا ومش بياخذ وقت …”
ابتسم لها وقال :
” ميرسي يا تالا … ”
تنحنت تالا قائلة بأحراج :
” العفو…”
ثم إتجهت خارج المطبخ لتبدأ بتنظيف الشقة ..
………………………………………………………
في مكان أخر وتحديدا في شركة صغيرة بعض الشيء نجد شابة جميلة ذات قوام ممشوق تقف أمام مديرها تدون في دفترها ما يلقيه على مسامعها …
توقف مديرها أخيرا عما يقوله لتهتف متسائلة :
” فيه حاجة تانية تحب أكتبها يا أمير بيه …؟!”
أجابها أمير وهو يقلب في أحد الملفات :
” لا كده تمام … رتبي الكلام ده وابعتي النهاردة ليهم …”
” حاضر …”
قالتها وهي تتجه خارج غرفة مكتبه لينظر أمير الى الباب الذي أغلقته ثم يغلق الملف الذي كان يقلب فيه ويتراجع الى الخلف مستندا بجسده على ظهر الكرسي مغمضا عينيه لثواني …
ما إن أغمض عينيه حتى ظهرت صورتها أمامه ، صورتها التي إعتاد أن يراها في أحلامه قبل واقعه ، صورتها التي احتفظ بها في قلبه وعقله عن ظهر قلب …
فتح عينيه أخيرا كمن مسه شيء وهو يحاول أن يبعد صورتها عنه ، فهو لا يريد أن يتذكرها على الأقل الأن …
فذكراها تعني ضعفه وهو بحاجة لأن يكون قويا…قويا للغاية …
عند هذه النقطة شعر بحقد كبير على والديه اللذان تسببا له بكل هذا الوجع والحيرة …
لو لم يفعلا ما فعلاه لكان الأن شخصا ثانيا ، سعيد وقوي بما فيه الكفاية …
نهض من فوق كرسيه وسار بخطوات رتيبه نحو النافذة التي تطل على الحديقة الخارجية ذات التصميم الهندسي الراقي ..
ثلاث أعوام مرت على انفصاله التام عن والديه بل عن عائلته بأكملها …
ثلاث اعوام لم يتجرأ أحدًا منهم ويتحدث معه او يقترب منه …
ثلاث أعوام مرت على تركه لهم وبنائه لمستقبله بعيدا عنهم …
ثلاث أعوام لم ينسَ بها ربى التي ما زالت تسيطر على قلبه وعقله ، وكأنها تأبى أن تتركهما ولو لثانيه واحدة خوفا من أن يعتادا على نسيانها …
أفاق من أفكاره المظلمة على صوت باب مكتبه يفتح يتبعه دخول صديقه المقرب فراس الى الداخل ..
اقترب فراس منه وغمغم بلهجة هادئة :
” صباح الخير …”
التفت أمير نحوه رادا عليه :
” صباح النور … كنت فين …؟!”
أجابه فراس وهو يجلس على أحد الكراسي الموضوعة على جانب مكتبه :
” كنت بجهز لسفرية بكرة …”
” يعني نويت خلاص …؟!”
قالها أمير وهو يتجه نحو مكتبه ليجلس على كرسيه فيومأ فراس برأسه ويقول :
” كلها أسبوعين أغير فيهم جو … متيجي معايا …؟!”
قال أمير بإقتضاب :
” مليش نفس …”
أومأ فراس برأسه متفهما وقد إعتاد على برود صديقه ليقول محاولا تغير الأجواء قليلا :
” أخبار كرم إيه ….؟! لسه بايت عندك ..؟!”
تذكر أمير أخيه كرم أخيرا والذي يحاول أن يفرض نفسه عليه مرارا ويخرجه من عزلته ليومأ برأسه ويقول مجيبا على سؤال فراس :
” للأسف لسه …”
تنهد فراس وقال بجدية :
” كرم ملوش علاقة بأخطاء أهلك … متحملهوش ذنب حاجة معملهاش …”
” ومين قالك إني بحمله الذنب …؟! انا بس مش عارف أتأقلم معاه … انت عارفه انوا طبعه غير طبعي … انا بحب الهدوء وهو بيحب الزيطة …”
ابتسم فراس وقال مؤكدا كلامه :
” فدي معاك حق ….”
ثم نهض من مكانه وقال :
” اروح انا بقى … يادوب الحق أودع عيلتي قبل السفر … عايز حاجة من هناك ….؟!”
” ربنا معاك … تروح وترجع بالسلامه …”
أشار فراس له مودعا ثم خرج وتركه لوحده ليغرق في دوامة أفكاره من جديد …
……………………………………………………..
كانت تقوم بعملها على أبلغ وجه ، تنظف غرفة تليها الأخرى بإجتهاد …
انتهت من تنظيف جميع الغرف ولم يتبق سوى صالة الجلوس والمطبخ …
توجهت نحو صالة الجلوس لتجد كرم جالسا يتابع أحد الأفلام الأجنبية وبيده زجاجة خمرة …
أبعدت بصرها عنه بسرعة وهي تستغفر ربها قبل أن تبدأ بعملية التنظيف …
أخذ كرم يتابعها بتمعن متأملًا جسدها النحيل للغاية والذي يشبه جسد فتاة لم تتعد المرحلة الإعدادية ، وجهها الشاحب للغاية والذي تبرز عظامه بوضوح ، بالتأكيد هي تعاني من سوء التغذية …
راقبها رغما عنه ولم يخفَ عنه جمالها الهادئ ببشرتها البيضاء وشعرها البني الحريري وعينيها البنيتين…
تناول ما تبقى من زجاجة الخمرة على دفعة واحدة وقد شعر برغبة كبيرة بإكتشاف ما تخبئه تلك النحيلة داخل ثوبها البالي …
وقفت تالا أمام الطاولة الموضوعة في احد أركان الصالة تنظف احدى الفازات الثمنية حينما شعرت بأحدهم يحملها بين ذراعيه …
صرخت بأعلى صوتها وهي تهز قدميها للأمام والخلف ليهتف كرم بها بينما يده تضغط على فمها :
” هش اخرسي … هتفضحينا ….”
ثم ركض بها نحو غرفة نومه ورماها على السرير لتقفز من فوقه فورا وتسير بخطوات متراجعة نحو الحائط خلفها وترجوه بصوتها الذي خرج مرتعش :
” ارجوك سيبني …متقربش مني ..”
أشار لها بصوت منخفض :
” يا بنتي اهدي ، مش هأذيكي والله …”
أدمعت عيناها بقوة وهي تردد :
” انا عايزة أروح … سيبني أروح من فضلك …”
إلا أنه لم يبال بما قالته حيث قال بلهجة خافتة :
” تؤ … مقدرش أسيبك… ”
ثم أردف بوداعة :
” انتي اسمعي الكلام ونفذي اللي هقولهولك وانا هديكي المبلغ اللي تعوزيه … مش أحسن من الخدامة فالبيوت …”
هزت رأسها نفيا وقالت ببكاء :
” لا أنا بحب الخدمة فالبيوت ….”
زفر أنفاسه بقوة وملل ثم ما لبث أن انقض عليها محيطا جسدها بذراعيه محاولا السيطرة على صراخها ومحاولاتها لدفعه …
في نفس الوقت دلف أمير الى الشقة ليتفاجئ بأصوات بكاء وصراخ تأتي من غرفة كرم فسارع بالذهاب الى هناك وولج الى الداخل ليجد كرم أمامه وهو يحاول الإعتداء على الفتاة …
انطلق بسرعة نحويهما وأبعد كرم عن الفتاة ولكمه على وجهه بقوة بينما قفزت تالا من فوق السرير وتراجعت الى الخلف قبل أن تنهار باكية …
عاد أمير وضرب كرم على وجهه بقوة ليسقط الأخير أرضا بينما لم تستطع تالا أن تتحمل ما يحدث أكثر ففقدت وعيها تماما تحت أنظار أمير المصدومة …
اتجه أمير نحوها وحملها ثم وضعها على السرير ، عاد ببصره نحو أخيه ليجده يحاول النهوض من فوق الأرض وأنامله تمسح الدماء التي تنزف من فمه …