لم يستطع الرد عليها بشيء، فوالدتُه لا تعلم أو ربما ترتدي قِناع التجاهُل.. أنهم انتقلوا منذُ أيام إلى هُنا دون قرشًا واحد، لا يملكون سوى نقود عمله وقدرًا ضئيل من المُتبقي، وهي لا تتنازل عن رغد العيش.. القى نظرة تائهة قبل أن يرجع خطوة للخلف ويغلق الباب خلفُه، مُتحركًا نحو الخارج، مُجريًا في عقله الكثير من العمليات الحِسابية للحصول على ما يكفي من النقود، فقبل يومان استجاب لقول بركتي العسل أنهُ يُمكنهُ العمل بجانب المجلة من خلال خدمات الانترنت والاعطال البسيطة للمُقربين، حينها سخر ليس منها ولكن مما أل إليهِ حالُه، أيام كان لا يحمل لقوت اليوم هم والأن يُجري مُعادلات صعبة للحصول على ما يكفي.. أغلق الباب الرئيسي خلفهُ، وعيناهُ تطوف على درج البناية بتمهُل شديد.. بناية في أحدي المناطق التي كانت راقية في زمن ولى قبل الثورة، ليُكمل نزول الدرج مُتشبثًا بالدوران الحديدي، ومع كُل درجه يخطوها يبحث عن حل أخر.. مرت دقائق كالسنوات قبل أن يتوقف أمام درجات البناية الفاصلة بينها وبين الشارع العام، لتقع عيناهُ على محل كُتِبَ عليهِ للإيجار.. لتومض تلك الومضة برأسه فيُسارع بإخراج هاتفُه طالبًا رقمًا بعينه، مُنتظرًا الجواب.. ولكن بعد دقيقة كان صوت الهاتف يعلوا أن الهاتف قد تم غلقهُ، ليزفُر بسخط، ويدور على عقبة راكبًا سيارتهِ قاصدًا المجلة..
**
انهت “صابرين” غسل يديها على عجل مع ارتفع رنين هاتفها، لتُسرع بالخروج من الحمام، والوصول لغُرفتها، لتجد أن الرنين قد توقف بفعل نفاذ شحنه، احتل العبو,,س وجهها، وهي تحملهُ من فوق الوسادة لتوصيلُه بما يُغذيه، وها هي تمُر الدقيقة ببُطء مُمل قبل أن يُصدر الهاتف نغمة فتح الجِهاز با,,سم الشركة الصانعة لهُ، لتبحث بسرعة البرق في سجل المُكالمات عن صاح,,ب الرنين، لتبرق عينها ويخفق قلبها بنغمتهُ الشاذة في الاونه الأخيرة، لتضع الهاتف من يدها مع صوت العقل “وماذا بعد يا ابنة عبدالله؟.. هل هذا يصح أم جنون عقلك سول لكِ هذا؟..”.. لتضع كُل هذا جانبًا، وتبدأ بإخراج ما استطاعت انهائُه من الأقمشة؛ لتذهب بها إلى المجلة.. مرت نصف ساعة أو أكثر، وقد انتهت من التغليف وارتداء ملابسها، أدارت مقبض الباب ببطء كأن هذا لن يُساعد عقلها من الثبات الجُزئي، ولكن هيهات فقد أصدر الباب صريرًا مُزعجًا؛ بفعل احتكاك المفصلات خاصتُه وكأنها تُعاند عقلها بكُل سفور، لتخرج زفرة ساخطة من شفتيها على ذاك الوضع، قبل أن تعود لطبيعتها مع احمرار وجنتيها الزائدة في الأونة الأخيرة قبل ذِهابها إلى العمل وعلى وجه التحديد الذِهاب إلى المجلة .. لتُفارق شفتيها تمتمه خافتة بالحمد أن والدتها قد غفت بعد تناول الإفطار مُباشرة، وتهرول قاطعة الردهة ويدها تغلق الباب ولكن ..
**
قبل ساعة كانت “جميلة” تتحرك في أرجاء البيت حاملة بيدها المبخرة وبيدها الآخرة ذرات الملح، لتبدأ في الوقوف بكُل ركن وتمتمة بعض الهمسات الغريبة التي اخذتها من الشيخ، وبعدما تُنهيها تبدأ في رش ذرات الملح في ذاك الرُكن، قبل أن تتحرك من جديد لتعود إلى المائدة وتغترف من طبق الملح بيدها وتعود لنفس الكرة.. وبعدما انهت جميع أركان البيت هرولت لإحدى الإدراج وأخرجت تلك الورقة التي تُشبه العروسة، ويدها الأخرى تحمل دبوسًا وشفتها تبدأ بتلك الهمسات من جديد بالإضافة بقولها.. “من عين نعيمة وبناتها، ومن كل عين مدورة شافتك ولا صلتش على النبي، ومن عين حمدي، ومن جابر، ومن عين جميلة، ومن عين نعيمة يشفيكِ يا رضوى قادر يا كريم”… وظلت على تلك الحالة حتى انهت الورقة بأكملها وتحركت لتُقطعها ثم تضعها في المبخرة، وتدور بها في ارجاء البيت، ولكنها توقفت مع…
خروج” جابر “من غُرفتها ويداهُ تبدأ في هندمة جلبابهُ عن طريق المسد عليه من مُقدمة العُنق حتى نهاية القفص الصدري، وبلهجة ممُتعِضة لم تجعلهُ يتوقف عن تحريك يده :ايه الهبل دا يا “جميلة” علي الصبح..
-اسكت يا اخويا دي عين البومة وبناتها، رشقت في بنتي يا ح,,بة عيني..
ضر,,ب كفًا بالآخر مُضيفًا : يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، هي جت جنبك ولا هو جنان نسوان على الصُبح..
-اه يا اخويا ومين يشهد للحلمبوحة غيرك، ومقام السيدة عينها رشقت في البت، عشان تبقى زي العزبة بنتها..
حرك رأسهُ بصمت وكأن تلك الهمسات السابقة من فم زوجتُه لم تُهين ما تبقى من صلة رحم الراحلين، ولكن هذا هو الوضع القائم في الكثير من البيوت التي فقدت معالم الرحمة، ليُغلق الباب خلفهُ، ولكن..
بتعابير النوم التي لم تُفارق رسومه إلى الأن؛ فقد استيقظ قبل قليل مع رنين اخته، ليترك نومة ويذهب إليها، ليجد زوجها مُتهجم الوجه، وبنبرة طبيعية :صباح الخير يا ابو نسب..
بامتعاض :صباح النور، وأكمل نزول الدرج قاصدًا عمله، وحديث زوجته يعود لعقله من جديد.. لتنبثق ومضة في حنايا عقله توحي إليه ربما “نعيمة” سحرتهُ ذات يوم…
أغلق “حمدي” الباب خلفه، وتحرك ليتمدد على الاريكة، وبنعاس :خير علي الصبح يا “جميلة”؟..
-خير يا اخويا، خد الكيس دا وارميه في النيل…
وبتساؤل صريح :كيس ايه دا؟..
بهمس خافت :دي من الأسياد..
هب واقفًا من جنونها، وتحرك للخروج من البيت مُردفًا : أنتِ أتجننتِ رسمي..
-استنى بس يا “حمدي”..
توقف عن فتح الباب، وبنفاذ صبر : خير..
-ارمي دا في سكتك الله يخليك..
– يا “جميلة” افهمي، شغل الدجل والشعوذة دا كلام نسوان وحرام ..
وبقلة حيلة : والبت يا “حمدي” لا بتصد ولا بترد حتى اللقمة يدوب بتأكلها بالغصب..
-وأنتِ رحتي لواحد بتاع تلات ورقات يعالجها؟.. ولم يكُن سؤلًا بقدر ما كان تقريع لها..
-ايه يا “حمدي” أنت معايا ولا مع “جابر”؟..
بنفاذ صبر أكمل : لا معاكِ ولا معاه، دا جنان يا “جميلة” بتك عيانه روحي لدكتور مش دجال وعفاريت..
-ايوه، قول بقا أنك عاوز تتقرب من الصفرة..
-يادي النيلة.. وهي مالها دلوقتي..
-مالها ونص تلاقيها هي السبب، عشان هتبور من العزبة اختها، قالت تسحرلك…
-لا أنتِ أتجننتِ رسمي..
-لا يا اخويا دا العقل بعينو.. وحده بتبات برة قال ايه في المستشفى، وترجع في شقشة الصبح، هو الكبارية برضو مبيقفلش الصبح..
-بس يا “جميلة” أنتِ دماغك فوتت، وبنتك هشوفلها دكتور، وصفع الباب خلفهُ، مُحاربًا شياطين الإنس والجن التي تقفز أمام عيناهُ، لينزل الدرج، مع خروج “صابرين” من بيتهم، وبنداء : “صابرين”..
توقفت عن الحركة، وبتساؤل : ايوه؟..
لم يعرف ماذا يقول؟.. ولكن حسم الأمر، وبدأ بشرح ما أصاب “رضوي” منذُ أسبوع وتلك الحالة التي أصبحت عليها من صمت ونوم دائم، لينهي قوله قائلًا : مفيش غير “رحمة” هتعرف تتصرف..
-ايوه بس “رحمة “مش هنا دلوقتي، بليل هبلغها..
-هي فين؟..
-في الشغل..
-طيب، عن اذنك، وتحرك عاقدًا العزم على الذهاب للمُستشفي ليس فقط للوصول لحل لابنة اخته، ولكن لإسكات ذاك الوحش التهم بعقلة يقتات على ما زُرِع بقلبه قبل دقائق، ليُعاود سريعًا السؤال : عنوان المستشفى يا” صابرين”..
-شارع ** بجوار **..
حرك رأسهُ بنعم، ورحل إلى عربته النصف تقل قاصدًا الوصول لذاك العنوان..
**
جنون مُح,,بب لمن ارتشف رشفة من حروف اللعنة، زادت ابتسامة “رحمة” اتساع، وهي تصعد الدرج، وتتمتم بلحن التقطتُ أُذنها في المواصلات الصباحية، لتتوقف أمام الباب، وتطرق ثلاث طرقات، وبعد تضغط على الجرس ثلاث، ثم تفتح الباب بما تملُك من مُفتاح اخذتهُ منذُ بداية عملها لتفتح الباب، وبنداء : كابتن “حازم”… كابتن “حازم”.. ولكن صمت بدون جواب، ليدب الذُعر في أوصالها، وتهرول للبحث عنه داخل البيت لتتوقف أمام باب غُرفته وتطرق : كابتن “حازم”.. ولكن صمت جديد.. لتدلف الغُرفة وتدور مقلتيها على محتويات الغُرفة فتجدُها مُبعثرة، لتقف دقيقة عاجزة عن التصرُف قبل أن يستعيد عقلها نشاطُه وتهرول للخارج طالبة البواب فباب الحمام مُغلق، وتهاتف أخيه ولكن قبل أن تتحرك خطوة واحدة كان باب الحمام يُفتح، و
أنفاسه تخرُج مُتمهلة بــ..
فوضى عارمة احتلت أجزاء جسده قبل غُرفته، وتصارع دائما بين وحوش عقله، ليُقرر أطاحه كُل شيء بالغُرفة غير مُبالية بوضع قدماهُ، أمس كان عسيرًا عليه فطبيب العِلاج الطبيعي اخبرهُ أن يبتعد عن الخيل حتى لا يفقد قدماهُ، ولكن كيف؟.. كيف لمن يتنفس أن ينقطع لأجل جُرحٌ غائرٌ في رئتيه، يتألم ولكن لا يستطيع التوقف فالتوقف هو الموت.. وأن رضي بالموت للمرة الثالثة بعدما فقد والدهُ، وعجز عن روح حياتُه، فسيموت جوعًا، فهو يعلم جيدًا أن لا معيل له سوى الخيول.. ليتحرك بانفعال غير
مُبالي بألم الذي ينخرُ العِظام، ليقف عليها ويجبر جسدهُ المُتألم على الحركة، بل والأسوء أخذ حماما دون ارتداء واقي الجبيرة، والجلوس على الكُرسي الخاص، والآن يخرُج للعنته لا يراها سوى لعنة أُغلقت على عقله في نومة، ليستحضرها كُل حين في سفور بالغ لهُ، والأن لم يستحضرها فحسب بل عندما تألم جسدهُ وعجز عن التحمُل انفرجت شفتاهُ بالنداء عليها في مُحاولة واهنة لإنقاذ، ولكن كان القدر لهُ بالمرصاد ليعترف أنها ليست مُنقذ فحسب أو طيف يُثير به ذوبعة لم يعرفها قط بل أتت إليه وهلع قلبها يتسرب إلى أُذنيهُ كلحنٌ شجي يُبهج الروح فتُغرد في لعنة الحُب… وعندها تحامل على جسده وفتح باب الحمام، وملابسهُ تقطُر ماء، وبنبرة واهنة من شدة الألم : “رحمة”.
ظلت أنفاسها تخرُج مُتمهلة لجُزء من الثانية قبل أن تُصاب بالذُعر من هيئته، وبلهجة خائفة عجزت عن ها : أنت عملت ايه؟..
ليُجيب بألم أكثر، فالماء قد وصل الجر,,ح : نادي البواب يساعدني…
-بواب ايه لازم نروح المُستشفى حالًا… وقرنت هذا بجلبها الكُرسي المُتحرك، وأمرتهُ بحزم :ارتاح.. لتهرع لهاتفها وتُكلم “مُعاذ” ليُحضر العمليات، فرُبما يحتاج إليه، بعدما اخبرتهُ بما فعل…
راقب هلعها وخوفها بيقين ثابت رُسِخَ لديه أنها صارت تحتل الكثير بداخلُه، ليُغمض عيناهُ بألم قابضًا على حنجرتيه؛ كي لا تخونهُ ويصرُخ…
**
شمسٌ.. يا لها من نيران مُتوهجة تُصيب القلب برجفة ومع هذا لا يستطيع الابتعاد، فنورها الذهبي يجذب أعتى القلوب.. وهي ليست سوى قلبٌ لم يحتاج سوى شُعاع خافت من نورها الأخاذ.. توقفت “صابرين” أمام البناية، وألقت نظرة لم تُفهم بعد أهي راضية عن مظهرها أم خائفة من تهورها أم تعبير أخر لم يُخلق بعد.. لتنفرج رئتيها مُطالبه بقدر لا بأس بهِ من الهواء، قبل أن تتحرك للأعلى، ولكن…
وصل “ثروت” إلى عمله مُتأخرًا وقبل أن يتُمتم بسخط، التقطت عيناهُ قدها ليهرول ليلحق بها، وبنداء :”صابرين”..
توقفت عن السير، وبجمود فهي تعلمهُ جيدًا، ولكن لن تخسر مصدرًا لها، رُبما يراها البعض تُريد هذه النظرات، وربما يرها البعض سلبيه لقبولها بهذا لأجل المال، ولكن ما خُفي في النفس وتجرع مرارة العيش دون معيل سيعرف جيدًا كيف يُكمل دون النظر لرفاهية الاختيار فهي أن تركت العمل فمن سيقبلُ بها دون شهادة أو على قول صحيح سيقبل بمن حصلت على الشهادة الثانوية، ومُطلقة وليس لها حامي… أغمضت عينها قبل أن تُكمل : أيوه يا أستاذ “” ثروت”..
-عاملة ايه؟.
-الحمد لله.. وصمت تام.. تخللهُ نبرة” خالد” الحانقة :” صابرين “..