
صاحت بها “بخيتة” و هي تإساءة بعكازها على الأرض بانفعال..
” أني هقولك يا أمه و متعشمة فيكِ تساعديني لخاطر البنته الصغيرين المعلقين بأبوهم و إني خابرة زين إنك تطيقي العما و لا تطقيني”.. قالتها “خضرا” التي هبطت الدرج للتو، و وقفت أمامها تحاول السيطرة على حدة بكائها مكملة بغصة مريرة يملؤها الأسى..
” عبد الچبار طلقني”..
زادت حدة بكاء الصغيرتان، و تمسكوا بثياب والدهما بكل قوتهما، شعر” عبد الجبار ” بالندم الشديد حين رأي مدى القلق الظاهر بأعينهما..
“متهملناش يا عبد الچبار و إني أوعدك هنفذ اللي قولت لي عليه قبل سابق.. هعيش لبناتي بس سيبني على ذمتك عشان خاطرهم”..
أردفت بها “خضرا” بجمود مفاجيء ظهر على ملامحها المتإزعاجة، بعدما توقفت عن البكاء بشق الأنفس..
“كلامها صُح ياولدي.. ردها على ذمتك لخاطر لحمنا يتربوا في حماك”.. قالتها” بخيتة ” رغم نظرات الغيظ و العدم قبوله التي ترمق بها” خضرا “..
رفع” عبد الجبار ” يده و مسد على جبهته صعودًا لخصلات شعره الفاحم كاد أن يإيذاءعه من جذوره بسبب انفعاله الخذلانم ود لو أنفجر في “خضرا” و والدته بأنهما سبب أساسي لما وصل إليه الآن ، نظرته لهما كانت كفيله بأن يتفهموا ما يريد أخبارهما به، لكنه تمالك أعصابه لخاطر أبنتيه حتى لا يزيد قلقهما أكثر..
“بكفياكم بكى عاد.. أني عندي شغل مهم هخلصه و هعاود طوالي”.. قالها و هو يزيح دموعهم بأنامله، و مال عليهما طبع قبله على وجنتهما مكملاً..
“أني مقدرش استغني عنك يا فاطمة و لا أقدر أعيش يوم واحد من غيرك يا حياة”..
ضمهما لصدره من جديد، لتهمس ابنته “فاطمة” داخل أذنه بتقطع من بين شهقاتها..
” يعني هتخلص شغل و تعاود طوالي صُح يا بوي؟ “..
ربت على ظهرهما بحنان و هو يقول..
“هعاود.. أطمني هعاود يا فاطمة”..
ظل محتويهما بين ذراعيه حتى هدأت نوبة بكائهما تمامًا، و من ثم بعدهما عنه برفق، و رمق” خضرا ” و بخيتة” بنظرة أخيرة قبل أن يغادر المنزل بأكمله بخطي واسعة.
هرول إحدي حراسه بفتح باب السيارة الخلفي له، لكنه صعد بمقعد السائق مغمغمًا بأمر..
“معوزش حد معايا.. خليكم أهنه و فتحوا عنيكم زين، لو حُصل أي حاچة حدتني طوالي”..
لم ينتظر سماع رد على حديثه هذا، انفجر هدير محرك السيارة عاكسًا انفعاله عليها، ليطير الغبار من الخلف بقوة لحظة إنانفصالها..
يسير بلا هوادة لا يعلم أين يذهب، يشعر لأول مرة بحياته بمعني كلمة الضياع، عاجز عن إتخاذ قرار صحيح منذ ابتعاد” سلسبيل ” عنه، حياته بأكملها انقلبت رأسًا على عقب، لم و لن يستطع التأقلم مع غيابها..
يقر و يعترف أنه الآن أصبح ظالم، ظلم الجميع و أولهم نفسه..
و مع كل ما يمر به إلا أنه يشعر بالاشتياق الشديد لها، مهوس بها و بعشقها الذي استحوذ على قلبه، مال على ياقته و أخذ نفس عميق يمليء رئتيه بعبقها، فجلبابه مازالت معبأة بعطرها، المرأة الوحيدة التي حاكت من انفعاله هدوء، ومن صخب أذىقيته عزفت لحنًا حنون..
شوقه لها كالشمعة تذوب حتي تحولت لجمر شظاياه تجن كل مساء، بقي حديثها القليل معه عالقًا بروحه، أنفاسها تقيد نبضه، أما هو حزنه المهذب خلف ابتسامته يخجله، كم كان رجلًا يتباهى ولا يبالي، بذاك المساء الكئيب سكب الماء براحتيَّها، ضممته هي بقوة كي لا يضيع، و حين رفعت رأسها كانت كل أحلامها التي لم تقبض عليها يومًا ظنًا منها أنها لن تغيب …تسربت، اختفت بعدما اتهامها بأن مشاعرها تجاهه لم تكن حُب من الأساس ، و أنه لن يردها لعصمته حتى بعد علمه بحملها، فعلته هذه كانت القشة التي قسمت ظهر البعير..
لن ينسى نظرتها له التي كانت تملؤها الخيبة، خيبة أملها فيه، تركته هذه المرة يواجه غروره بيدين خاويتين، يا متاهته لم تتركه هنا رجلًا يملك العالم كما كان معاها، بل تركته فأرًا يقضم الحيرة بمتاهة الشوق اللعين، يعاد بذهنه سؤال واحد يتردد بلا توقف، كيف يمضى الى حال سبيله و قدميه عالقة بأرضها؟..
فهو على يقين أنّ حتى لو اعتذرت الرياح، الغصن سيبقى مكسوراً..