
غادر بهدوء بصحبة الصغير ، بينما هتفت عواطف بحب :- تعالي يا مريم افطري مع إسلام .
هزت رأسها بنفي قائلة :- تسلمي يا مرات عمي أنا فطرت مع أحمد بالهنا كلوا أنتوا .
توجهت و جلست على الأريكة بالقرب منهم ، تقضم أظافرها بتوتر ، شُلّت حواسها ، و جحظت عيناها بصدمة ، و توقفت ضربات قلبها حينما سمعت زوجة عمها تقول :- بقولك إيه يا إسلام يا ابني أنت أهو ما شاء الله خلصت كليتك ليك سبع سنين و شقتك بقت جاهزة من مجاميعه ، ها فاضل إيه تاني يا حبيبي مستني إيه ؟! نفسي أفرح بيك يا ضنايا بعد ما أخوك الغالي فارقنا مبقاش ليا إلا أنت و أختك .
زفر بضيق قائلاً بشبح ابتسامة :- حاضر يا أما أديني وقت أظبط أموري و هبقى أشوف .
أردفت بلهفة :- ما تقلقش أنا عندي ليك حتة عروسة إنما إيه جمال و أدب و ….
قاطعها قائلاً بضجر :- خلاص يا أما هبقى أشوف أنا نازل الوكالة عند أبويا ..
أنهى كلماته و نزل مسرعاً و تلقائياً وجد عينيه تقع على منزل تلك التي نقضت العهد ، عندما عاهدته بأنها ستكمل معه الطريق ، و لكنها تركته في بدايته حينما أتتها الفرصة للعيش في منطقة أكثر رقياً من هذه المنطقة مع هذا الثرى الذي تشبثت به بقوة لينتشلها من هذه المنطقة الشعبية .
ابتسم بسخرية ، و هز رأسه بندم على ما كنّه من مشاعر لها ، و نزل للأسفل ليتابع عمله بالوكالة ، حيث أنه يدير قسم الحسابات و يشرف على البضاعة بعملهم الخاص .
شعرت بالصقيع يسري في أوصالها فارتجفت بقوة وكأنها في الشتاء رغم حرارة الجو .
دمار تام خيم على مدينة قلبها فأصبحت عبارة عن كوم تراب . ماذا تنتظر ؟! أستظل توهم نفسها بالمزيد من الأحلام التي من المستحيل تحقيقها الآن !
شحب وجهها كالموتى ، و تأكدت اليوم أنه لن يكون لها مثل كل مرة كانت تُمني حالها فيها . تحجرت الدموع بعينيها ، و هدأت وتيرة أنفاسها ، و كم تمنت الموت في هذه اللحظة لتنال الراحة بدلاً من دوامة العذاب التي تغرق فيها .
اقتربت منها عواطف قائلة بابتسامة عذبة :- إيه رأيك يا مريم في بنت عم صالح أسماء ؟
هزت رأسها بضياع قائلة :- ها …بتقولي إيه ؟
لاحظت حالتها فأردفت بقلق :- مريم مالك يا بنتي ؟ وشك أصفر كدة ليه ؟
نهضت تتحامل على ذاتها قائلة بنفس الحالة :- أنا طالعة فوق ماما عاوزة تغسل السجاد وهساعدها ..
و بالفعل تركت المكان بسرعة حتى لا تنهار أمامها ، لم تجد غيرها صديقتها الوحيدة بالشقة المقابلة لهم فطرقت الباب سريعاً ففتحته والدة بثينة التي هتفت بقلق هي الأخرى :- في إيه يا مريم يا بنتي ، حد جرالوا حاجة ؟
هزت رأسها بنفي قائلة بضعف وهي على وشك الصراخ :- لا مفيش …مفيش ..عاوزة بثينة بس..
أومأت بتعجب قائلة :- طيب تعالي هي قاعدة جوة في أوضتها كويس أنها مارحتش الشغل النهاردة .
توجهت بسرعة لغرفتها ، بينما أخذت تتطلع لها الأخرى بدهشة ، و لكن هزت رأسها بهدوء فلتعرف ما بها من ابنتها لاحقاً .
فتحت الباب على حين غرة ، فقفزت الأخرى في مكانها على أثره و ما إن رأتها هتفت بذعر :- مريم مالك يا حبيبتي ؟
احتضنتها بقوة ، وهنا سمحت لنفسها بالانهيار ، إذ سقطت جميع حصونها التي تتظاهر بالقوة ، و انخرطت في موجة بكاء غير معهودة منها .
أتت والدتها على صوت البكاء قائلة بقلق :- في إيه يا بثينة مالها مريم ؟
هتفت بقلق :- والله ما أنا عارفة يا أما ، سيبينا دلوقتي لحد ما تهدى و هعرف مالها .
أومأت بموافقة قائلة :- ماشي وأنا هروح اعملها حاجة تشربها تهديها .
بعد فترة هدأت وتيرة بكائها فأردفت بثينة بهدوء :- ها يا مريومة مش هتقوليلي مالك بقى ؟
أردفت بصوت متحشرج و قد خيم الحزن على كل خلية بداخلها :- تعبت أوي يا بثينة مبقتش قادرة استحمل خلاص جبت آخري .
أردفت بقلق :- ليه بس فيه إيه ؟
ضحكت بمرار قائلة :- أقولك إيه ولا إيه خليني كاتمة أحسن يمكن روحي تطلع و ارتاح بدل الغلب اللي أنا فيه .
شهقت بصوت عال و أردفت باستنكار :- بقى هي دي مريم اللي أنا أعرفها ! لا لا مش هي أبداً فين مريم القوية اللي بمية راجل .
أردفت بتعب :- خلاص مريم معادتش قادرة تمثل دور مش دورها أنا بقف قدامهم ساكتة و جوايا خراب .
ربتت على ظهرها بحنو قائلة :- أهدي بس و قوليلي في إيه ؟
مسحت عبراتها بعنف قائلة بكذب :- بابا مش راضي يخليني أشتغل ، هو أنا واخدة الشهادة عياقة يعني !
أردفت بحذر :- طيب بس أهدي كدة الأول ، يعني إنتي مش عارفاه هي أول مرة ! لا لا مش دة السبب أنا عارفاكي كويس ، ها في ايه تاني ؟
هتفت بخزي من حالها و وجع :- مرات عمي جابت لإسلام عروسة و شكله هيوافق عليها المرة دي .
أردفت بصدمة :- بتقولي إيه؟ طب طب وإنتي؟! إزاي ؟
أجابتها بحرقة :- زي الناس يا بثينة هو من حقه يتجوز ولا هيفضل كدة يعني !
هزت رأسها بنفي قائلة:- لا مش قصدي كدة بس …بس وإنتي ؟
أغلقت عينيها بعنف قائلة بقلب ذبيح تلطخت اعماقها بدمائه :- عادي يا بثينة و إيه الجديد ؟! قلبي أتعود على كدة فمبقتش فارقة خلاص ، أنا هعيش لأحمد وبس كفاية الأنانية اللي أنا فيها دي .
أردفت بشفقة :- خلاص يا حبيبتي متعمليش في نفسك كدة أدي الله و أدي حكمته .
هزت رأسها بحزن قائلة :- و نعم بالله خلاص يا بثينة أنا مش هفكر فيه تاني ، أنا كل مرة بيجي في بالي بحس قد إيه إني واحدة خاينة لجوزها اللي ما صدقت يم.وت علشان تلوف على أخوه .
زفرت بثينة بحزن قائلة :- خلاص بقى يا مريم كفاية تحملي نفسك فوق طاقتها ما إحنا كلنا عارفين انك اتجوزتيه غصب عنك .
ابتسمت بمرار قائلة :- انتوا مين اللي عارفين يا بثينة ؟! هو إحنا هنضحك على بعض ! محدش يعرف حاجة عن الموضوع دة غيرك بس فمتعمميش و تقولي احنا ، على العموم يلا مجاتش عليه و لا جديد عليا إني أتوجع ، معلش يا بثينة تعباكي معايا علطول.
قطبت جبينها بعبوس قائلة :- عيب عليكي إنتي صاحبتي متقوليش كدة .
أردفت بود :- ربنا يخليكي يا بسبس والله من غيرك مكنتش هعرف اعمل ايه ، طيب أنا همشي دلوقتي علشان محدش يحس بغيابي أصل ما قولتش لحد .
هتفت بسرعة :- طيب استني أمي بتعمل العصير .
– لا معلش أبقي سلميلي عليها أنا مروحة أشوفك بعدين .
وما إن همت لترحل عاجلتها بسؤال أعاد الحزن لها مجدداً و كأنها والدته و هو لا يريد تركها :- هي صحيح مين دي اللي أم إسلام عاوزة تجوزهاله؟
ابتسمت بوجع قائلة :- أسماء بنت عم صالح .
اتسعت عينيها بدهشة قائلة :- أسماء !
أومأت بموافقة قائلة بتهكم :- أيوة أسماء صغيرة و متجوزتش قبل كدة يعني مناسبة له كتير ، بالإذن يا بثينة .
قالت ذلك ثم غادرت بخطوات أشبه بالسلحفاة عائدة أدراجها بعد أن جففت دموعها ، و جاهدت في رسم إبتسامة باهتة سرقتها خلسة من الزمن ، و طرقت الباب لتفتحه توحيدة ، فدلفت لغرفتها مباشرة بينما وقفت والدتها تطالع أثرها بقلب جريح على حال ابنتها التي تراها كالشاه المذبوحة وهي تقف تشاهدها دون أن تمد لها يد العون .
رفعت انظارها للسماء تتضرع إلى الله بأن يخفف عن ابنتها و يرزقها كل الخير .
دلفت لغرفتها بخطوات بطيئة، و ألقت بنفسها بعنف على الفراش ، و أخذت تحدق في سقف الغرفة التي شهدت على الكثير من معاناتها طوال تلك السنوات .
بهتت ملامحها كعجوز في الثمانين تحمل من الهموم مما يفوق الجبال ، و زادت هالاتها السوداء حول عينيها البندقية الواسعة ، و نقص وزنها كثيراً عما كانت عليه سابقاً .
تحملت الكثير دون أن تشكو ، لا تحب أن تشارك غيرها أوجاعها لأنها تخصها وحدها ، ولن يشعر أحد بالحزن لذا لم تتحدث .
ابتسمت بسخرية ، لمن ستتحدث ؟ لوالدها كي يقتلها إن علم أنها تحب شقيق زوجها الراحل ! ، ام لوالدتها التي تتبع والدها في كل شئ تجنباً لغضبه ! ، واما لشقيقها الذي ورث الطباع الحادة من والده !
أخذت تبحر بذاكرتها للخلف ، تمر عند كل مرسى به حدث أو ذكرى ، زادت من وتيرة بكائها المكتوم الذي لا يدري به أحد من الأساس ، تود أن تصرخ و تثور ولكن إن فعلت ستصبح عاقة لهما ، وهي لا تريد ذلك أبداً ، لا تريد أن تقطع أي حبل يوصلها بطريق الله ، لذلك توافق والدها على أي قرار يتخذه حتى وإن كان هذا سيضر بمصلحتها ، أو يعارض رغبتها .
أخذت تنتحب بصمت لتفرغ شحنتها السلبية ، و لتنهار الآن لكي تستطيع أن تقف على قدميها قوية في الأيام المقبلة التي ستشهد على مقتلها بالبطيئ .
___________________________________
صعد للأعلى بوجه متجهم للغاية ، و اغلق الباب خلفه بقوة ، و جلس بإهمال على أحد المقاعد المتهالكة ، و أخذ يهز قدمه بعصبية شديدة.
تحاملت والدته على نفسها و أخذت تسير حتى وصلت لعنده ، و جلست بتعب قبالته قائلة بوهن :- بردو دي عمايل تعملها يا ابني بتقطع عيشك بأيدك !
هتف بانفعال :- يعني كنتي عاوزاني أعمل إيه يا أما ! دا ابن **** عاوز الحرق .
هزت رأسها بأسى قائلة :- يعني من كتر الشغل دا الواحد بيتعلق في قشاية في زمان ما يعلم بيه إلا ربنا.
أردف بغضب :- كله من بت أختك لو رضيت تتجوزني مكانش دة حصل .
جعّدت أنفها بغرابة قائلة باستنكار :- و إيه دخل دة بدة ؟! انت بتخلط الأمور ببعضها ليه؟ و يعني هي وافقت وأنا قلت لا ، البت مش راضية وأنا مش هغصبها على حاجة يا ابن بطني .
نظر لها بخبث قائلاً :- ماشي يا أما براحتها .
تأوهت بألم قائلة :- آه ألحقني يا حاتم هموت مش قادرة جنبي واجعني ..
قالت ذلك ثم فقدت وعيها على الفور …
______________________________________
نزل من طيارته الخاصة ، يحاوطونه الحراس الخاصين به كالحصون الفولاذية المنيعة ، يمشي بخطوات سريعة عندما أتى له اتصالاً أثناء رحلته إلى بلجيكا في صفقة عمل بمرض عمه الشديد الذي يرقد في الفراش لا حول له ولا قوة .
صعد للسيارة بسرعة ، و جلس في المقعد الخلفي، بينما أنطلق السائق حيث مكان عمه بالمشفى الضخم الخاص بهم .
بعد وقت توقفت السيارة أمام المشفى ، و نزل السائق يسرع بفتح الباب الخلفي ، فنزل ببرود كحالته ، و مشي بخطوات للداخل حتى ابتلعه المبنى .
استقل المصعد متوجهاً للطابق المتواجد به عمه و البقية وما إن رآهم هتف بجمود و هو يقف بثباته المعتاد :- عمي حالته إيه دلوقتي ؟
هتفت ناريمان زوجة عمه ببكاء :- حالته متأخرة أوي يا مراد مفيش أمل أنه يمشي تاني .
قوس حاجبيه بغضب مكبوت قائلاً بحدة :- و البهايم اللي هنا وظيفتهم إيه ؟ لو مش عارفين يعملوا حاجة حالاً نسفره برة .
هتف والده بحزن :-يعني هيعملوا إيه اللي برة ؟! المستشفى هنا فيها أحسن الدكاترة كلهم قالوا إن حالته متأخرة .
زفر بضيق و استعاد ثباته قائلاً بجمود :- و جدي فين ؟
ثم نظر لجدته التي ورث منها الغطرسة قائلاً :- جدي فين يا نانا ؟
هتفت بهدوء :- تعبان شوية يا مراد ، قاعد جوة في الأوضة اللي جنب عمك .
أردف بهدوء :- طب أنا عاوز أشوفهم .
اقتربت ابنة عمه التي تغرق الدموع عينيها ، و هي تقدم على احتضانه، إلا أنه أوقفها بإشارة من يده بأن لا تقترب من تلك المنطقة المحظورة التي لم تقترب منها أي أنثى من قبل .
جزت على أسنانها بغيظ منه ، ودت لو تلكمه ، و لكن هيهات أن تعبث مع ذلك الجامد كالثلج . هتفت بدموع في محاولة منها لكسب عطفه نحوها :- بابا يا مراد خلاص مفيش أمل أنه يمشي تاني .
لم يتحدث بكلمة فهو غير جيد في تلك الأمور العاطفية، فهو كالآلة يتحرك بوقت ، و يعمل بوقت ، أو بالأحرى يقدس العمل و الوقت .
نظر لوالده قائلاً :- أنا هدخل أشوف جدي على ما يطلع الدكتور و نطمن على عمي .
استدار مولياً إياهم ظهره بينما هتف شادي بخفوت :- يخربيت برودك يا أخي إيه دة ؟!
بعد دقائق أتى الطبيب للإطمئنان على صحة مجدي و بعد أن فحص مؤشراته خرج و على وجهه إمارات الأسى فهتف عمران بلهفة :- طمني يا دكتور أخويا حالته إيه ؟
هز رأسه بحزن قائلاً :- للأسف العملية فشلت و فرصة أنه يمشي من تاني ضئيلة دة إن مكانتش مستحيلة مش قدامنا حاجة نعملها دلوقتي.
أتاه صوته الحاد قائلاً :- يعني إيه مش قدامك حاجة تعملها أنت بتهزر !
زفر الطبيب بضيق قائلاً :- يا باشمهندس مراد حالة عمك مفهاش أمل ، إحنا عملنا اللي علينا و زيادة ولو عاوز تاخده تسفره برة براحتك .
رُسم الأسى على الجميع فأردف الطبيب بهدوء :- هو فايق دلوقتي و طلب مني إنك تدخله لوحدك .
حالة من الدهشة و التعجب خيمت عليهم بما فيهم هو . أومأ بهدوء ثم دلف لغرفة عمه .
قطبت ميس جبينها بتعجب قائلة :- غريبة ! يا ترى عاوزه في إيه ؟
هز عمران كتفه بعدم معرفة قائلاً :- ما أعرفش يا ميس علمي علمك .
كانت تقف و بداخلها فضول قاتل لمعرفة سبب طلبه له بالداخل بمفرده ، و تمنت أن تقرأ الأفكار الآن لتعلم السبب و ترضي فضولها .
بعد وقت قضاه بالداخل ، خرج و وقف بعيداً عنهم قليلاً ، بينما أخذ البقية يتفرسونه بعمق لعلهم يستشفون أي شئ ، و لكن ملامح وجهه الجامدة حالت دون ذلك .
تقدمت منه زوجة عمه التي يقتلها الفضول و هتفت بحذر :- هو …هو مجدي قالك إيه جوة ؟ يعني …يعني طمنا عليه هو كويس ؟
أردف بجمود :- اطمني يا مرات عمي هو كويس ، وهو وصاني عليكم وإني أخد بالي منكم .
هزت رأسها بهدوء ، و بداخلها غير مقتنع بما أملاه عليها ، و اشتعلت نيران غاضبة بداخلها نستها منذ زمن بعيد ، و جزت على أسنانها بغل إن كانت ما تفكر به صحيح .
______________________________________
تعبت قدميهما و صرخت باستغاثة كي يكفوا عن السير و ينالوا قسطاً من الراحة .