
إزدادت شكوك “غيث” بأن هناك خطب ما يسيطر على زوجته، وخاصة حينما وضعت الطعام وجلست تعبث بملعقتها بطبقها الفارغ، فشق رداء الصمت حينما قال بهدوءٍ يحتضنها حتى تفيض بما تخفيه:
_بتحاولي تداري عليا أيه يا عائشة، أنتي من ساعة ما رجعنا من المستشفى وإنتي مش طبيعية.
لعقت شفتيها بارتباكٍ ملحوظ، فخمن من توترها المبالغ به زيارة والدته الشبه منطقية بوقتٍ هكذا، لذا سألها بشكلٍ مباشر:
_ماما جيت لإيمان المستشفى؟
ازدردت ريقها بتوترٍ، فارتجفت شفتيها بتمتمة أقرب للهذيان:
_لا…آآ..أقصد أه جيت شافتها ومشت على طول.
ألف كلمة وكلمة تزحم عينيها، ولكن الخوف كان يكتسحها فيجعلها لا ترغب بالحديث، تود فقط الاستسلام لهذا الأمان المؤقت المكمن بوجوده لجوارها، زفر زفرة قصيرة وهو يشيح بوجهه ليستقيم بجسده واقفاً مع قوله:
_وأكيد سمت بدنك بالكلام كعادتها.
بالرغم من هدوء نبرته الا أنها كانت تقطر غضباً جعلها ترتجف خوفاً من أن تزداد الأمور سوءاً بينه وبين والدته مجدداً، فنهضت عن مقعدها لتقف على بعد مسافةٍ آمنة منه، في محاولةٍ منها لردع ما ستقوله، ولكنها لم تستطيع واستسلمت لزلة لسانها:
_”غيث” أنا عايزة أعمل التحليل ده، يمكن وقتها الكراهية اللي جواها تنتهي.
تمتم بها مصعوقاً من بين أسنانه بانفعالٍ مكتوم:
_أنتي بتقولي أيه؟!
ناظرته بعينين خائفتين، فضغطت بكفيها على يديه لتخبره نظراتها برجاءٍ وتوسل بأنها لا تحتمل مواجهة غضبه في ذلك الوقت بالتحديدٍ:
_عشان خاطري يا “غيث” ، أنا تعبت من كل المشاكل دي، وجايز ده يكون الحل الوحيد حتى لو كان مهين.
أزاح كفها عنه ببعض العنف، ليحتكر نظراتها المتوسلة بعينيه النافذتين مردفاً بحزمٍ:
_متتكلميش عن الموضوع ده تاني لإنك بكده هتكوني بتهدي كل اللي بينا يا عائشة.
مجرد سماعها لتهديده الصريح بانتهاء علاقتهما، حاوطها الرعب ليهدم قلعتها التي تحاول الدفاع عنها باستماتةٍ، فتمسكت به وهي تردد بدموعٍ حارقة:
_لو حاولت تبعد عني تاني يا غيث أنا هموت نفسي، أنا مش هقدر أعيش نفس التجربة القاسية دي تاني.
قبض قلبه بعنفٍ فعاد ليكور يديه أمام وجهها مجدداً ليهمس أمام عينيها بصرامةٍ دافئة:
_أنتي ليه مصممة توجعيني بكلامك، قولتلك ألف مرة متتكلميش عن الموت والبعد تاني، سامعة!
منحته نظرة مشتتة، وكأنها طفلة صغيرة فقدت ضوئها الشارد وسط عتمة الليل الكحيل، فكان هو ضوءها وحياة كاملة بالنسبة إليها، أخفت وجهها بين أحضانه، فتقبل تهربها بترحابٍ حينما طوفها بذراعيه المفتولة ليقربها منه، فرفع يديه ليمررها على خصلات شعرها مرة تلو الأخرى وهو يهمس لها بصوته الرجولي الرخيم:
_محدش هيقدر يفرقني عنك حتى لو كان الحد ده والدتي.
وبندمٍ أتبعه كالظل استطرد:
_اللي عملته قبل كده مستحيل هقرره تاني.
شعرت بقوةٍ تمدها بالطاقة التي نفذت بلقائها، وكأنها باتت على يقين بأن معشوقها قد عاد إليها ليعشقها مثل سابق بل وطيب جرح فؤادها الغائر.