الفصل الأول
“الهوى”
-وصل إلينا الكثير من حكايات الهوى، البعضُ منها حُكِما عليهِ ال ، والبعض الأخر لم يتحمل والبعض قرر الخنوع والسير، ولكن البعضُ منها ما زال عالقًا بين ذرات الهواء يصل لمن يصل بسلام، أو هُجران، أو فراق واجب، أو نصلٌ غادر، أو ضحكات طفل كان الهوي صاحب اليد في إكماله، ويبقي الهوى حلمُ الطفولة والصبا لنا…
تناثرت شمسُ الصباح هُنا وهُناك، تُداعب هذا برفق، وأخر بإنهاك ومع هذا تبقى شمسُ الصباح ونسيمُها بيتُ الحياة، كما هو حال جميع البيوت، وهنا بداخل إحدى المناطق الشعبية بتلك العاصمة كانت شمسُ الصباح تطرُق الأبواب برفق، فيهرع الجميع لجلب قوت يومه، وهي كانت مثلهم بل أكثرُ جُبنًا إن تغفو وقد تسربت خيوط الضوء بعد انتهاء الإمام من صلاة الفجر، لتعقد العزيمة أن النوم قد ولى وعليها إنهاء ما عليها، فسارعت بوضع الغسيل في ذاك الصندوق الكهربي
“الغسالة العادية” ، ذاك الصندوق هو ما لديهم أو على صحيح القول ما استطاعت جلبهُ بعد ما حل بها، ليعلوا صوت هاتفها بتلك النغمة التقليدية، فتهرع للجواب عابرة تلك الردهة الصالة الفاصلة بين مطبخهم وغرفتها، تلك الغرفة التي اقتسمتها مع اختها، بعد عودتها بلقب رائع لا يتوانى الجميع عن إخبارها به من حين لأخر، أن لم يكُن بصريح القول، فبتلك النظرات السافرة من عين الرجال فيرونها لُقمة سائغة وجب أن تمضُغها الضروس ، وناهيك عن تلك النظرات الخائفة من بعض النساء، أن تسلب منها زوجها وتُشرد أطفالها، وأخرى شامتة لم ولن تظهر سوى من عين زوجة عمها “جميلة” وحقًا هي جميلة بكُل ما تحملهُ الكلمة من معني، رغم اقترابها من نهاية العِقد الرابع بترحاب شديد، تُخبرها أن هذا جزأها؛ بعدما رفضت أبنها البكري والوحيد… تعثرت في خُفها المنزلي فكادت أن تسقُط أرضًا لولا تشبُث يديها بمقبض الباب، لتنفرج شفتها بسخط قبل أن تُجيب :
-حاضر، نص ساعة وأكون عندك…لتضع الهاتف على تلك الطاولة التي تُشاطرُها مع أختها، فتستخدمُها لقص القُماش، ورسم بعض الرسوم الكرتونية للمجلة التي تعمل بها بدوام جُزئي، وتركض إلى المطبخ، وخلال أقل من دقيقة كانت تُفرغ مُحتويات الزجاجة البلاستيكية في براد الشاي؛ لتسخين كوب اللبن لولدتُها، وتبدأ في جلي المتبقي من الأطباق قبل خروجها، مرت ثلاث دقائق أنهت بهم تنظيف تلك الأطباق ووضعها في المكان المُخصص لها، لتسكُب كوب اللبن وتضعُه فوق تلك الصينية بجوار تلك البيضات المسلوقة، فترفعها وبسمة صادقة تُعانق شفتيها بود لا مثيل لهُ، لتطرق باب غرفتها قبل استماعها لأذن الدخول، لتُدير المقبض ….
بتلك الغُرفة قبل دقائق كانت “نعيمة” لتو انهت من صلاة الضحى، وبدأت بالاستغفار على أصابع يدها، وبين كُل استغفار تختص أحدي بناتها بالدعاء لهم، لتتوقف عن الاستغفار مع تلك الطرقة على باب غرفتها، فلم يفعلها سوي ابنتها “صابرين” تلك التي نالت أكبر قدر من الصبر بفعل أسمها، صدق من قال أن لكُل شخصٍ نصيبًا من اسمه، وهي كانت نصيبها كُل الصبر…
ببشاشة لا تخلو من وجهها الخمري، وشفتيها المُكتنزة، انفرجت شفتي “صابرين” بهدوء رزين :
-صباح الخير يا ست الكُل..
ببشاشة مُماثلة، تبعتها عينها بالطوفان على وجه ابنتها المُنهك، وبعتاب :
-صباح النور، كدة منمتيش يا “صابرين”.
جلست على السرير بجوار والدتها، لتضع تلك الصينية على رجلها، وبعتاب أكثر من ذِي قبل :
-كدة يا ست الكُل، متخلصيش أكلك امبارح..
-اكلي مين، دا منابك…
استمعت ببشاشة لتلك الجُملة التي تُلقي على أذنها من والدتها عندما تُعاتبها برفق عن ترك طعامها، لتُسارع يديها لقطع رغيف الخُبز لتحمل بهِ قطعة من البيض؛ لتدسها في فم والدتها، وتُكمل قولها :
-مناب مين دا أكلك يا ست الكُل، وأنتِ بتضحكي على “رحمة” ومتكمليش أكلك…
-ايوة كلي بعقلي حلاوة، وتوهي عن سهرانك من امبارح، كدة يا حبيبتي هتتعبي..
-تعب ايه بس يا ماما، أنا مجليش نوم، فُقلت أخلص حتة القُماش الي في إيدي..
-صحتك يا حبيبتي..
انحنت لتُقبل يد والدتها، وبهمس :
-دعواتك بس، والصحة هتبقى بومب..
قهقهت ببشاشة :
-اه منك، مش هاخد منك لا حق ولا باطل، أنا لازم اخلي “رحمة” تخاصمك، البت هتعلمك المناهدة..
وبتعبير مسرحي :
-لا وعلى أيه، اسكت أحسن ، وأقوم الحق شغلي..
تلكأت الكلِمات بجوفها قبل أن تُضيف :
-“صابرين”، بلاش نروح تاني لدكتور، كدة كدة الحال زي ما أنتِ شايفه، ورجلي مش هتخف..
بعتاب حقيقي :
-وإحنا قصرنا معاكي يا ماما، الحال ربك هيدبرها، لكن نوقف علاجك لا، دا أحنا مصدقنا ايدك تتحرك من تاني، يلا أنا يدوب الحق أوصل.. وسارعت بالخروج من الغرفة لتضع الصينية بالمطبخ، وتركض لارتداء ملابسها…
**
امتلاء المنزل بعبق رائحة طعام الإفطار، لتتسلل الرائحة في مداعبة غير ناصفة للبطون، فتجعل من تُداعبهُ يُصيح بانفعال، ليُخبر من حولة عن زقزقة الطيور ببطنه، وهو لم يختلف كثيرًا، بل خرج من غرفة نومة سريعًا، ويداهُ ترتفع لوضع تلك العبائة السوداء على كتفه، وبصياح غا,,ضب.. – فين الأكل يا “جميلة..
زفرة ساخطة، تليها تحريك شفتيها يمينًا ويسارًا، قبل أن تمتد يديها لغلق الموقد، لتحمل طبق الفول الناضج بيد، وبالأخرى تحمل أكواب الشاي، لتتحرك ببطء مُعتاد ومع كُل خطوة تخطوها تصدر الحلقات الذهبية حول يديها أصواتًا، لتمر دقيقتان وتضع أكواب على المائدة، وبلهجة سا,,خطة :
-في إيه يا “جابر” من صبحية ربنا بتز,,عق..
دس عدة لُقم دفعة واحدة لفمه، لتبدأ أسنانهُ بمضغ الطعام، و شفتاهُ تنفرج بالجواب :
-ساعة عشان تخلصي الفطار، دا مكنش طبق فول وشوية بطاطس..
امتعض وجهها من نبرتهُ، وبلهجة حانقة :
-طب كُل يا أخويا، أهو دا الي باخدوا منك..
وبتساؤل :
-فين البت “رضوى”؟..
-نايمه، هتكون فين يعني..
بسخط عجز عن كتمة :
-هو أنتِ لو رديتي عدل هتتعبي يا ولية..
يبدوا أنها لما تسمع سخطها منهُ عدا كلمة ولية التي نطقها، لتنفرج شفتيها ب و ، يعلوهما الاستنكار :
-مين دي الي ولية يا “جابر”، فشر دا أنا ست الستات.
تجرع ما بالكوب دفعة واحدة، وهم بالانصراف مع كلمات حانقه :
-نسوان تجيب الفقر… وصفع الباب خلفه، ولسانهُ لا ينفك عن إلقاء الشتائم..
زاد مُعدل ال لديها حتى وصل لذروته، لترتفع يدها في عُنف لتجمع الأطباق من فوق المائدة، وتتحرك ب نحو المطبخ، ليصل لاذانها طرقات على باب البيت، لتتحرك صوب الباب دون السؤال عن الهوية؛ فليس هُناك من يطرق باب بيتها سواه، لتفتح الباب بترحاب، يسودهُ العِتاب :
-كدة يا “حمدي” الغيبة دي كلها..
أغلق “حمدي” باب الشقة خلفة، وتحرك للجلوس على الاريكة، ويداهُ تخلع الحِذاء :
-معلش يا “جميلة”، ما أنتِ عارفة الشغل وهمو..
جلست على الكُرسي المُجاور، وبسخط :
-شغل إيه يا أخويا، إلي يغيبك الغيبة دي كلها، إن مكنش حال إنك قافل الدُكانة الي حيلتك وبتتسرمح بالتاكسي..
-أنتِ هتقطميني ولا أيه يا بنت أبويا..
-ولا هقطمك ولا نيله ..
-طب قومي جهزيلي لقمة، وأنا هريح شوية.
-طيب، روح ريح في أوضه مصطفى.. وهمت بالانصراف لتحضير طعام الغداء، وعقلها يُبحر في حال ابنها الهارب من ع,,شق تلك البومة، وأخيها الأحمق المُتعلق بأختها، وكأن الدينا ليس بها نساء سوى بنات “نعيمة”.
**
داعبت شمس الصباح عينها بإزعاج، لتنتهي من ركضها على تلك الألة الرياضية، وتتحرك بخيلاء أنثى لم تتجاوز الثامنة عشر رغم دلوفها لمنتصف العِقد الخامس، ولكن إن لم تتحرك بخيلاء فمن ستتحرك!..
فهي ليست شخصًا عاديًا فحسب، بل هي “صفية الجيار” إحدى إبناء الطبقة الراقية، وإحدى،، المُذيعات اللامعات في فترة التسعينات، أكملت طريقها إلى المطبخ؛ لتُلقي التعليمات على الخادمة بتجهيز طعام الإفطار، لتُسارع بالخروج والذهاب لغرفتها، لتُلقي تحية الصباح على الجالس على كُرسيه المُتحرك بهدوء :
-صباح الخير يا “توفيق”.. ولم تنتظر الجواب بل سارعت لأخذ حمام دافئ يُعيد لها حيويتها من جديد، ويزيل حبات العرق من جسدها..
حرك “توفيق” رأسهُ بلا فائدة، فزوجته لم ولن تتغير، لا تُقدس سوى روتينها الصباحي، وكأن لا وجود لهُ، لترتفع يداهُ السليمة ببطء شديد لتضغط على زر الكُرسي؛ ليتحرك في أرجاء البيت، تلك الشقة التي استطاع الحِفاظ عليها بعدما خسر جميع أمواله في الثورة، ليُكمل الضغط على الزر ليتوقف في الشُرفة، وعيناهُ تُسافر في صفحات النيل، بشجن يُصيب وتينهُ في م ، لتخرج أنفاسُه حارة كالجمر رغم مرور ” خمس وعشرون عام” لم ولن ينساها، فأن أصاب عقلهُ الجنون، فقلبهُ العاشق حد الثمالة لن يطاوعهُ، لتعصف بهِ الذكريات لقبل سنوات….