عندما كان في ريعان شبابه، عندما خا,,نهُ القلب وأحب من جديد، تلك الفتاة التي لا يعرف عنها سوى عينها التي تُرافقهُ في صباحُه ومساءهُ دون رحمة، لتمر الأيام ويراها بشكل يومي تعمل بجوار مبني شركة والدهُ، ليقُرر نيل ودها بجنون لا يعرف إلى الأن إن كان جنون الحب، أم افتقارهُ الشديد لمن يُشاطرهُ الحياة بصدق وليس مظهر اجتماعي، لتمر الأيام ويختفي طيفيها، ليظُن أن هذا أفضل وأيام وينسي ملامحها ولكن هيهات فقد استوطنت العقل بكُل حنايا، ليُقرر البحث عنها ليجد الطامة أنها ستزوج صباح الغد بإحدى الرجال من بلدتها بعد وفاة والدها، ولم تمر الليلة إلا وهي زوجته بدلًا من ذاك الكهل الذي كان سيشتريها بنقودُه من زوجة والدها، لتمر الأيام، تلحقها شهور، تليها سنة وكانت تضع وليدها وترحل بسلام كطيف حان وقت زواله..
ليفق من شروده على صوت الخادمة ، وهي تُخبرهُ بموعد الطعام، ليُسارع بإزالة دمعة عالقة بجفنيهِ، ويخبرها بنبرة خاوية :
-طيب.. وقبل أن يعود لشروده كان صوت…
خروج “خالد” من غرفته، ويداهُ تعبث بخصلات شعره الفحمية، وشفتاهُ لا تنفك عن الدندنة بإحدى النغمات الشهيرة من فئة المهرجانات، ليتوقف عن الدندنة؛ لرؤية والدهُ في الشرفة ، فيُصيح بانفعال مُحبب:
-باشا..
تلاشي الشجن سريعًا، وحلت البسمة المُسترخية لتُزين وجههُ البشوش، وبنبرة رجولية أقرب للمُشاكسة وتشبعت بالكثير من الاستنكار :
-“خالد” صاحي بدري!..
أكمل هندمة ملابسهُ، وبنبرة مُشاغبة :
-أوبس الباشا بيتريق…
-على فين العزم بدري كده؟..
كاد “خالد” أن يُجيب، ولكنهُ توقف عن الجواب؛ بفعل صوت والدتهُ…
ارتفع صوت “صفية” في استنكار :
-في ايه يا “توفيق” مش كنت عاوزة يشتغل، أهو نازل الشغل…
ظهر عدم الرضا على قسمات وجههُ، فبرزت خطوط الزمان بتهكم، يُماثل تلك النبرة التي سيتحدث بها :
-شغل إيه بقا يا “صفية”؟.. هو ابنك أصلًا نافع في التعليم لما يلاقي وظيفة تقبلوا..
تصاعد ها، وانف,,جر كبركان خامل :
-مالوا أبني يا “توفيق”، ما أنت الي رفضت يدخل جامعة خاصة، وعاوز تقارنوا بابن الشغالة…
غموض احتل وجهه، وبلهجة شديدة التحذير :
-لأخر مرة يا “صفية” تجيبي سيرتها على لسانك… وبنبرة هادرة… مفهوم…. ليُكمل بتقريع لاذع :أنتِ الي خيبتيه، وكأن مفيش غيرك في الدنيا خلف ولد، وبقا زي ما أنتِ شايفه صايع…ودلوقتي عاوزه تاخدي وظيفة حد تعب عشان تعيني فيها المحروس بتاعك…
تحول وجهها إلى الأحمر القاني، وأظلمت عينها من فرط الانفع,,ال :
-وخدنا ايه بقا من شِعاراتك الفارغة دي… وباستنكار صريح… خسرنا كُل حاجة وعايشين في حتة شقة…
-محدش جبرك يا “صفية”، متنسيش أنك رفضتي عشان “صفية هانم الجيار” متاخدش لقب مُطلقة…
عجز “خالد” عن كتم ة من ذاك الحديث السقيم كُل يوم، ليرتفع صوته بلهجة مُنفعلة بعض الشيء :
-كفايا، خلاص يا باشا كده كده أنا هشتغل في مجلة يعني مش هاخد حق حد، وهشتغل في الكمبيوتر وأنت عارف كويس خبرتي فيهم، ورحل وال يأكُل صدرهُ بنهم…
انفرجت شفتيها بانفع,,ال :
-عاجبك كدة…
-“صفية” روحي النادي وشوفي الهوانم بتوعك، وسبيلي “خالد” مفهوم، وارتفعت يداهُ لتضغط على زر الكرسي ليتحرك من أمامها غير مُبالي ب ها، يكفيهِ فُقدان ابنهُ البكري رغم وجوده على قيد الحياة، ليهمس بشجن مرير “سامحيني يا حور”..
**
تلألأت شمسُ الظهير، وبات الجو كُتلة من النيران المُشتعلة، ورغم هذا لم يشفع لها مدير المجلة “ثروت” بتركها للذهاب بل أصر على أن تُنتهي من رسم بعض الرسومات؛ من أجل توعية الأطفال بذاك الفيروس المُنتشر “كرونا”، وكيفية الوقاية منهُ، لتتحرك بهدوء، وتجلس على تلك الطاولة بمنتصف تلك الشقة المُخصصة للمجلة، ويسارع عقلها في خلق نموذج يجذب أنظار الصِغار، لتبدأ رحلة لا تعلم متى ستنتهي، ولكن الأكيد إنها ستنتهي بنهاية الوصول للفكرة وطبعها على الورقة بأناملها، وقبل أن تُغمض عينها من جديد في مُحاولة للوصول إلى شكل بطل تلك الرسمة كان صوت ما يجذب أنتباهها….
أنهى العم “صابر” صُنع القهوة، وتوجه ليضعها أمامها، وبحنان لا يُفارق نبرتهُ، ربما ذا طبع خُلق به أو صفة اكتسبها بصبرُه على رحيل زوجته وابنه قبل سنوات عدة :
-القهوة يا آنسة “صابرين”..
تناثرت البسمة على وجهها، وبمشاكسة :
-برضو يا عم “صابر”، دا أنت الي ماضي على ورقة طلاقي..
قابل بسمتها بأخرى أكثر اتساعًا، وبنفس اللهجة الحانية :
-برضو هتفضلي آنسة لحد ما تلاقي واد ابن حلال..
-لا حلال ولا حرام يا عم “صابر”، أنا خدت نصيبي من الدنيا والحمد لله على كدة.
-بكرة تلاقي الي يراضي قلبك، وهتقولي عم
” صابر” قال..
-طيب يا عم “صابر”..
-يلا يا بنتي اشربي قهوتك..
حركة رأسها بإيماء خافت، قبل أن تعود للورقة من جديد، وعقلها يُبحر في ملامح الطفل….
ترجل “خالد” من سيارتهُ، وعيناهُ تبحث عن لافتة المجلة أين تقبع، لتقع عيناهُ عليها بالدور الثالث، فيُسارع بالتهام الدرج ، لتمر دقيقتان وكان يقف أمام الباب يبحث عن أحدًا يُخبرُه؛ بمكتب مدير المجلة، لتقع عيناهُ عليها ليُسارع بالقول :
-لو سمحتي فين مكتب أنكل “ثروت”.
تعجبت من وجود شخصًا كهذا هُنا، ربما لأنها تعرف وجوه العاملين، وقبل أن تبدأ بتفسير الأمر كان صوتهُ، بتلك الكلمة يزيد من تعجُبها، لتضع تعجبها جانبًا قبل أن تُجيب:
-آخرة الطرقة يمين..
شكرها بهدوء، وتحرك لوجهتهُ، لتعود لأوراقها من جديد…
**
ضجيج مُحبب ينتشر بين جُدران البيت، فتلك هي عادتها التي لن تتخلى عنها، أكملت “رحمة” صياحها مُرتفعة، وتُلقي حذائها بجوار الباب، ويداهُ تُحرر شعرها من عِقاله، لتُسارع لغُرفة والدتها، يمرح :
-نونا، يا نونا…
اغلقت “نعيمة” مُصحفها، وبتلك النبرة الحانية المُشبعة بقليل من الحزم :
-كنتِ فين يا “رحمة” لدلوقتي…
سارعت يداها برفع الغِطاء؛ لتُلقي جسدها بجوار والدتها، وبنبرة مُنهكة للغاية؛ فقد قضت ليلتها في التنقل بين الغُرف :
-يا لهوي يا نونا كانت نبطشية فل، طبلت على دماغي في الأخر..
-النبطشية بتخلص على 8الصبح، والساعة داخلة على 2بعد الظهر كنتِ فين؟..
اعتدلت في نومها، ويداها تُسارع برفع كتف والدتها لتندس بداخله، لتُكمل بمرح :
-رغم أني حاسة بإهانة لكن مش مهم، بصي يا ستي، النهاردة كام في الشهر..
-بطلي لف ودوران يا “رحمة” كنتِ فين؟..
-لا لف ولا دوران كنت بجيب جدول الامتحان، هبدا على أول الشهر..
-طيب وشغلك..
أغمضت عينيها بإرهاق شديد، وبهمس نائم :
-ولا أي حاجة، الشفت بتاعي هينزل مساء بعد الامتحان، تصبحي على خير، لتسقُط في ثبات عميق دون أن تُبدل ملابسها، لتبقى عيني “نعيمة” تطوف على وجهها بأسي فهي لم تخطوا العِقد الثاني بعد وتتكفل بدراستها دون أن تزيد من أعباء ابنتها الكُبرى، لتنفرج شفتيها بدعاء دون كلل أو ملل بالصلاح لهم…
**
دقت الساعة الجدارية تمام الرابعة عصرًا، لترفع “صابرين” عينها عن الورقة، وبسمة راضية تُزين ثغرها، فقد قضت ما يُقارب من ثلاث ساعات للوصول لذلك الشكل النهائي، لتهب واقفة؛ لتتجه لغُرفة مدير المجلة، طرقة، اثنتان، وكان الجواب بالدخول، لتفتح الباب بإستحياء لا يُفارق وجهها، وبنبرتها الهادئة :
-أستاذ “ثروت” خلصت..
انفرجت شفتاهُ عن بسمة لزجة أظهرت اصفرار أسنانُه، وبعين سافرة تطوف على سائر جسدها، رغم حشمة ملابسها وحجابها، ولكن هُناك البعض لا يُبالي سوي بكلمة أنثى أو ما لُحِقَ بتاء التأنيث، ليمد يداهُ في طلب الورقة التي بحوزتها مُتعمدًا لمس أصابعها يدها، ولكن…
كان “خالد” يُراقب الوضع، وتعجب من نظرات “ثروت” لها، وقبل أن تصل يدي ” ثروت” لها كانت أصابعهُ تلتقط الورقة من يدها، ليستطيع رسم ملامح مُنهكة في التدقيق في تلك الرسومات، ولكن زال إنهاكهُ المُفتعل في ثوان، ليحتل إنهاك حقيقي بفعل تلك الرسمة، ربما تقليدية ولكن بها نكهة ما لا يعرفها، فقد كانت رسمة كرتونية لطفل يرتدي إحدى ملابس القِتال من كرتون الأطفال، وبيدهُ يحمل سيفًا من نهايتهُ أو على حد صحيح مقبض اليد الذي يُمسك بهِ السيف كان بشكل الصابون، وعيني الطفل تشتعل بال ليُ ذاك الشكل المُقيت للفيروس… ليبتسم بصدق، وعِبارات الثناء تهرب من حلقه :
-حلو أوي…
أصابها التوتر لبضع ثوان؛ فلا تعرف ماذا تفعل، وتخشي أن يرفض المُدير التصميم فتعود من جديد للبحث بين حنايا عقلها عن شكلًا أخر….
رحم “ثروت” توترها الجلي، وأخذ الورقة من “خالد”؛ ليُقيمها، وبلهجة عملية :
-كويس يا “صابرين”، عدي على الحِسابات، وأنا هبلغهم…
حركت رأسها بنعم، وهمست بخفوت :
-شكرًا، عن إذنك، وفرت هاربة من أمامهم فقد شعرت بتسلط الأنظار عليها، لتُسارع بالوصول لغرفة الحِسابات لأخذ ثمن رسمها، فهي لا تعمل بأجر ثابت طوال الشهر، بل تعمل بعدد الرسوم التي تُقدمها….
وعلى الجانب الأخر، كان مدح “خالد” ما زال قائماً، ليُضيف بتساؤل :
-خريجة أيه؟..
قهقه خافتة تميل ل سخ,,رية، ويُغلفها العبث :
-خدت اهتمامك ولا أيه؟…
بنفي قاطع :
-خالص، لكن الرسمة رائعة، موهبة بجد مش مجرد خطوط…
تحرك من كرسيه؛ ليعد كوب قهوة على تلك المكينة ، ليُجيب :
-مش خريجة حاجة، مؤهل بسيط..
بذهول، يعلوه عدم التصديق :
-مستحيل…
-ولا مستحيل ولا حاجة، هتنزل الشغل من أمتي؟..
-بكرة، عن إذنك، ورحل سريعًا فُهناك وحشًا بداخله يطلُب المعرفة، لتك التي أشعلت فتيل الفضول…
**
أنهت “جميلة” ” وضع أطباق الطعام على المائدة، وسارعت لتُنادي ابنتها، التي قررت الاعتكاف في غرفتها تلعب بما لديها من ألعاب ، لتُصيح بانفعال :
-” رضوى ” أنتِ يا مقصوفة الرقبة…
توقفت” رضوى “عن اللعب بالدمى، وبجواب :
-ايوه يا ماما…
بحنق شديد :
-يلا سيبك من المساخيط دول، وتعالي كلي، قبل ما تروحي الدرس..
افتعلت بطنها، وبنبرة طفولية :
-بطني يا ماما بت ني أه..
-بطلي تمثيل، يلا هتاكلي وتروحي الدرس مش ناقصة دوشة… لتتوقف عن الاكمال .
قبل دقائق استيقظ “حمدي” من نومة بفعل صوت اختهُ الهادرة، ليفرك عيناهُ بنوم، ويتحرك بكسل، وبنبرة ناعسة :
-في ايه يا “جميلة”؟..
-مفيش يا “حمدي”…
اكملت “رضوى” بُكائها وركضت صوب خالها :
-مش عاوزه أروح يا خالي..
ربت على رأسها، وبنوم :
-خلاص، ما خلاص يا “جميلة” متحبكيهاش..
زفرت بسخط:
-طيب.
-تعالي كُل، واحكيلك الموضوع الي عاوزك فيه.