
الفصل الاول
————
أنتهت لتوها من هندمة هيئتها استعداد لمجيء ابن العم” ناصر” وخطيبها الذي عقد قرانه عليها منذ شهران وبضعة أيام ، متذكرة كيف نجح بإقناع أبيها بتلك الخطوة رغم عدم جاهزيته لإتمام زواجهما ماديًا، محاولا أدخار كل يتحصل عليه لتوفير مسكن بسيط يضمهما سويًا..أما هي فتعمل بأحدى المصانع القريبة التي تُحيك العباءت السوداء.. لتشارك والديها بمستلزماتها گعروس مرتقبة!
_ أبلة جنة.. أمي بتقولك أعملي شاي لابويا وخطيبك عشان جه برة!
رفرف قلبها بين جنباتها لذكره واستدارت عن المرآة تحدث شقيقتها نجلاء ذات الثمان أعوام:
_ماشي يانوجا.. هعمل الشاي واحصلكم!
تنهدت بشوق: عقبال ما اعملك الشاي واحنا في بيتنا يا نصري!
_______________________
يجاور ناصر العم ” رحيم” وهو يسحب نفسًا عميق كي يملأ رئتيه بدخان الأرجيلة، ثم يزفره لتتراقص سُحب الدخان المتصاعد. يصاحبه صوت فقاعات الماء بتلك القنينة الزجاجية مخدوشة الألوان أسفله
متسائل: لقيت شقة ولا لسه يا ناصر؟
أردف الأخير: ماهو ده اللي جابني انهاردة يا عمي، واحد صاحبي في الورشة ابن حلال، لقى شقة مطرحين وصالة تناسب ظروفي.. هي صحيح على السطوح في الدور السابع، بس مش مُشكِل يعني احنا لسه شباب.. بس عيبها عايزة مصاريف ياما لتوضيبها وتظبيطها من سباكة لنجارة لكهربة ونقاشة.. وبعدها نشوف حتتين عفش على قدنا ونتسهل على الجواز على طول!
العم رحيم بتفهم: كله هيتقضي يا ابني ما تقلقش ربك بيسهل وبيرزق اللي ماشي في الحلال.. وانا عن نفسي داخل كام جمعية عشان اجهز البت جهاز يليق بيها.. بعون الله على اخر السنة تكونوا في بيتكم!
_إن شاء الله، انا بشتغل في الورشة بأيدي وسناني.. عايز اتكن في بيتي انا وجنة بقى!
قهقة رحيم: مستعجل على الهم بدري ليه.. هتتجوز هتتجوز..!
أطلت على مجلسهما بمحياها الباسم وقامتها الفارعة والشوق يُكحل مقلتاها البنية متمتمة برقة أذابته:
_ سلاموا عليكم..!
أغرقتها نظرته المتلهفة بوضوح أخجلها: وعليكم السلام ياست البنات! عاملة إيه يا جنة؟
غمغمت بذات الرقة: الحمد لله ..أمي حضرت الغدا اتفضلوا..!
ناصر بحرج: والله ماله لزوم.. مش كل اما اجي تكلفوا نفسكم كده.. انا جيت بس اقول على خبر الشقة وامشي!
هتفت بلهفة لم تواريها: أنت لقيت شقة يا ناصر؟!
تلقف لهفتها بنظرة حانية أعادت لها الخجل: أيوة يا جنة لقيت شقة مطرحين وصالة فوق السطوح تناسب القرشين اللي معايا.. بس لازمها توضيب كتير عشان نعرف نتجوز فيها
أسرعت تهتفت بحماس : ماتشلش هم اللي تقدر تعمله اعمله انا راضية حتى لو بأوضة واحدة!
ذغر لها ” والدها” بنظرة محذرة، فحمحمت بحرج: قصدي يعني متكلفش نفسك فوق طاقتك.. وضبها كده ع الماشي واللي مايتعملش انهاردة يتعمل بكرة!
” لا وانتي الصادقة.. اللي مايتعملش انهاردة.. مابيتعملش خالص يا عين امك”
استدارت لوالدتها التي انضمت لمجلسهم لتوها، فتمتم ناصر: وأنا مش هتأخر يا مرات عمي.. هعمل كل اللي في جهدي وأكتر عشان اخلي الشقة تليق بجنة!
برطمت بصوت خافت: أما نشوف!
رحيم: يلا عشان ناكل لقمة ونحبس بشوية شاي.. اتفضل يا ابني! ( سبقه العم بخطوات وتبعته زوجته، فتباطأ هو ليظل بالخلف جوارها، ثم دنى منها هامسًا بأذنيها: وحشتيني يا جنتي!
أحمرت وجنتاها: وانت أكتر يا ناصر!
تشربت عيناه حُمرة وجهها بنهم: مبسوطة موضوع الشقة ده!
هتفت بسعادة تلقائية: هطير من الفرحة يا ناصر.. اخير لقينا اربع حيطان يلمونا.. ربنا يرزقك برزقها وتخلص بسرعة!
غمغم بخبث: مستعجلة على الوصال يابت!
اشتعلت وجنتيها متداركة لهفتها الكاشفة لتنفي على الفور: لا بس يعني نفسي ابقى في بيتي وبراحتي معاك!
_ هانت يا جنتي.. انا هنحت في الصخر لحد ما اختصر الوقت، لأني خلاص مبقيتش قادر على بعدك!
ابتسمت برقة: ربنا يقويك ويعينك”
تمتم: ويخليكي ليا ويقرب البعيد!
ثم لثم وجنتها سريعا فهتفت بتحذير:
جرى إيه يا ناصر حد يشوفنا عيب كده.. ”
_ طب ما يشوفنا احنا بنسرق؟ إنتي نسيتي اني عاقد عليكي ولا إيه..
_ لا بس بردو ماتتمداش..مش كل اما تشوفني ت… .
_ كملي؟
تسائل بمكر، فاستطردت بمراوغة: وبعدين معاك بقى، بطل الخبيث ده!
” الأكل هيبرد، هاتي خطيبك ياجنة وتعالوا”
ارتبكت مرددة وهي تجذب كفه:
طب يلا ابويا استعوئنا.. خليك تاكل لقمة وتشرب شاي وترجع ع الورشة عشان الاسطى مايقلبش عليك ويضايقك!
عكر صفوه ذكر الأخير فتمتم: الله يحرقه.. بيوقفلى على الواحدة وقارفني في عيشتي.. ربنا يتوب علينا من ورشته، انا اصلا بدور على شغل مع حد تاني!
هتفت لتُثنيه عن ما نوى: يا ناصر انت ضامن مكان تاني هيكون ازاي.. كل شغل فيه وفيه.. انت اشتغل بما يرضي الله وهو وقتها مالوش عندك حاجة واحمد ربنا غيرك مش لاقي!
تنهد برضوخ: اديني شغال اما نشوف اخرتها..!
_ اخرتها الخير كله يا اسطى!
أردف بحنان مشاكس: عيون قلب الاسطى!
وواصل: بس زعلان منك.. كلمتك بالليل ماردتيش!
هتفت بضيق: لأن تليفوني باظ يا ناصر.. نجلاء اختي وقعته في المية امبارح.. زعلت عليه أوي ومش هعرف اجيب زيه دلوقت..!
_ ولا يهمك يا حبيبتي.. هاتيه يمكن اعرف اصلحه، وان ما اتصلحش هجيبلك غيره!
اعترضت: تجيب إيه يا ناصر.. التليفونات بقيت غالية اوي خليك في الأهم.. انا هستلف تليفون امشي بيه نفسي من البت سامية صحبتي، ماتشغلش بالك!
_ طب هاتيه بس وربنا يسهل!
_______________________
في منزل ناصر وصخب صوت التلفاز العالي يملأ الأجواء.. وفتاة صغيرة مندمجة بكل حواسها مع لقطات فيلم كوميدي قديم!
(ازاي حسن هيكتب كتابه على عزيزة من غير ما يئرا فاتحتها؟!
عبد الفتاح القصري: _أنا قلت يكتب كتاب الأتنين يعني يكتب كتاب الأتنين!
_وأنا قلت يا جواز حميدة وبس يا مافيش جواز
عبد الفتاح القصري: يا وليه اسمعي الكلام.. أنا راجل وعمر كلمتي ماتنزل الأرض أبدا..
_ حنفي.
_ خلااااص ..تنزل المرادي.. بس اعملي حسابك المرة الجاية.. كلمتي مش هتنزل الأرض أبداااا..!)
“وطي التليفزيون وقومي ذاكري يابت انتي”
تجاهلت شهد صياح والدتها، وواصلت متابعة الفيلم الكوميدي ” ابن حميدو”..فهدرت بها الأخيرة:
_ بقولك قومي من قدام التليفزيون خلي يومك يعدي.. ياريتك فالحة في مذاكرتك زي الأفلام!
وشوفي مين بيخبط بسرعة يمكن ابوكي ولا ناصر اخوكي.. انجري يابت ماتفرسنيش!
نهضت شهد على مضض تبرطم:
كل حاجة شهد شهد..ما سعيد موجود اهو مش بتنادي عليه ليه ولا عشان أخر العنقود يعني.. امتى اتجوز واسيب البيت ده، يابختك يا نوال، كبيرة وهتتجوزي وتسيبي البيت اللي يخنق ده!
التقطت أذني ” ناصر” أخر تمتمات شقيقته الغاضبة: هو انا سمعت كلمة جواز ولا بيتهيئلي؟
أجابته الصغيرة بضجر: أيوة بدعي اتجوز عشان ارتاح من طلبات امك!
أمسك ياقة بيجامتها: أسمها أمك يا ام لسان؟ وبعدين عايزة تتجوزي وانتي لسة اتناشر سنة؟ أمال انا اعمل إيه؟ أروح انتحر؟؟؟
_ سيبني طه.. أنا مالي ماتتجوز ..هو انا اللي معطلة جوازك انت وأبلة جنة؟ .. أتجوز ياعم وريحنا!
ناصر وهو يطالعها ببلاهة: عم؟؟؟ الله يخربيت اللماضة بتاعتك.. امشي يابت نادي امك عايزها في كلمتين!
_ أوووف بقى.. حااااضر.
صفق كفيه بذهول وهو بتابع هرولة تلك القزمة شقيقته بزوبعة غضبها الطفولي!
___________________
_ خير ياضنايا.. عايزني في إيه؟
_ كل خير يامه.. بصراحة ابنك مزنوق في قرشين، وعايزك تظبطيلي جمعية كبيرة واقبضها الأول!
_ وماله يا قلب امك.. هكلم خالتك ام زكي تعمل حسابك في الجمعية. بتاعة أول السنة.. ما انت عارف، هي اللي بتفك. زنقة الحارة كلها..! بس مزنوق في إيه؟
_ عايز ادفع خلو الشقة قبل ما تطير مني.. ماصدقت لقيت حاجة سعرها مناسب!
مصمصت شفتيها ساخرة: انا عارفة مدلوق ع الجواز كده ليه.. اتقل يا واد وامسك نفسك شوية!
_ يامه عايز اتكن في بيتي واتجوز .. ولا انتي مش عايزة تفرحي بعيالي حواليكي!
غلبها حنان أمومتها: وانا في ديك الساعة. اما اشيل عيالك ياضنايا.. خلاص ولا تشيل هم.. سيب حكاية الجمعية. دي على الله ثم عليا..!
قبل رأسها بحماس بمتزج بامتنانه: أيوة كده يا ام ناصر.. فرحي قلبي، واهو بعد ما ادفع خلو الشقة، هوضبها واحده واحدة.. مرة سباكة.. مرة نجارة ولا كهربة ولا نقاشة وهتتقضي. وتبقى عال!
هتفت تدعوا بإخلاص ومحبة:
إلهي يرزقك ويطعمك ويحول التراب في أيدك دهب يا ناصر يا ابن نادرة!
لثم كفها: ومايحرمنيش منك يا غالية.. حطيلي لقمة بقى احسن ابنك واقع وعلى فطار الصبحية!
_ من عيني يا حبيبي! ثم صاحت مناديا:
بت يا شهد..حطي الطبلية وتعالي خدي مني أكل لاخوكي أوام!
ألتقطا صوت برطمتها المعتادة، فتمتم ناصر:
البت دي سايقة العوج وعايزة تتشد شوية يامه!
هتفت بتوعد: المعوجة نعدلها بفردة شبشب يا ضنايا.
______________________
عند الجارة!
أم. جنة: العواف عليكي يا ام سالم، جبتلك البيض اللي وصتيني عليه أهو.. 30 بيضة طازة ويستاهلوا بقك.. بألف هنا..!
الأخيرة: ياختي تسلمي وماتحرمش منك، وغلاوتك مابحبش اشتري بيض من برة، وابو سالم دايما يقولي انك أولى.. حسابك كام بقى؟
_ يووه.. مستعجلة ليه يا وليه.. هي الدنيا هتطير!
_ وربنا ما هنكسر بيضة في طبق إلا اما تاخدي تمنهم على داير مليم..اه الحق مايزعلش ياختي!
تنهدت الأخيرة: خلاص يا ام سالم اللي تشوفيه! بنفس سعرهم القديم!
أنقدتها ثمن ما جلبت، ولاحظت ملامحها العابسة، فتسائلت: مالك يا ام جنة شايلة الهم ليه كده؟اقعدي وقوليلي مالك وفضفضي لاختك!
باحت ما داخلها بأرياحية اعتادها مع الجارة:
_ كلام في سرك يا ام سالم.. الدنيا ضيقة معانا أوي.. مش عارفين نلم جهاز البت.. الحاجة بقيت نار ياختي مافيش حاجة رخيصة!..هما فاكرين الناس بتسرق ولا بتسرق عشان الأسعار دي كلها..!
وجدت شكوتها صداها عند الجارة التي هتفت:
_ ومين سمعك يا ام جنة! يمين بالله لسه عاملة. خناقة انا وابو محمد بسبب طقم “صيني” وطقم ” العشا” اللي جبتهم للبت عشان يتحطوا في النيش.. وهو على قولة لازمته إيه صيني وعشا..كان كفاية واحد منهم يقضي الغرض..!
_ماهو النصيبة دلوقتي كل حاجة لازم. تيجي وإلا الناس تاكل وشنا..اما بقى علينا اقساط وجمعيات تقطم الوسط!
أم سالم: هنعمل إيه بقى..التقسيط هو الحل.. احنا هنلاحق على أيه ولا إيه، ده كام بق مفتوح ومصاريف ياما..!
_ على رأيك.. حسين ومازن ونجلاء لسه عايزين تقلهم فلوس.. وانا نفسي جنة تتجوز عشان. يخف الحمل علينا شوية!
مصمصت شفتيها: بس بنتك فقرية يا ام جنة، ليه ما قبلتش بالعريس التاني، كان مقتدر عن ناصر ابن عمها اللي ماتزعليش مني حاله معدوم ع الأخر..
_ نصيبها بقى فقرية زي امها، انا كان نفسي تاخد التاني عشان تعيش مرتاحة، بس هي بتحبه، وابوها فرح وقال ابن اخويا أولى!
تمتمت بزهو: عارفة بقى “سحر” اختي، بنتها اتخطبت لعريس يشرح القلب، جاهز من كله..ومن عيلة عريقة!
ام جنة بانبهار: ماشاء الله! على كده هياخدها العراق؟
الجارة بدهشة: عراق إيه يا وليه اللي هياخد بنت اختي ليها؟!
أم. جنة: يووه! مش بتقولي العريس من عيلة عريقة؟
ضحكت الجارة وقهقهت وهي تفرد كفها على صدرها: يخربيت شيطانك يا ام جنة.. عيلة عريقة يعني مأصلة ومعروفة في اسكندرية.. عندهم خير كتير ياما، شاف بنت اختي اتهبل.. وقال يادي يا بلاش!
هتفت بحرج: يادي الإحراج فهمت الكلمة غلط.. بس بركة ربنا يتمم بخير للجميع ويستر الغلابة اللي زينا.. ثم نهضت مردفة:
هقوم بقى احسن عندي اشغال كتير!
تمتمت الجارة باستنكار: مش قبل ما نشربي الشاي.. ولا اقولك.. ثم صدح ندائها عاليًا ( بت يا نادية.. شُئي حتة بطيخ لخالتك ام جنة أوام )
_ يختي بطيخ إيه قوليلي قومي شوفي اللي وراكي.. في كام زبونة طالبة شوية بيض بلدي وفراخ حشو وبط..هروح اوديهم واخد اللي فيه النصيب!
هتفت بتصميم: يمين بالله ماتمشي قبل ما تبلي ريقك معانا.. ثم كررت النداء ( إنتي يامقصوفة الرقبة ردي على أهلي بدال ما اقوملك.. صوتي اتنبح)
_______________________
في الورشة!
_ خد يا ناصر..لقطلك تليفون استعمال نضيف، بتاعة جوز اختي، لحظك لقيته بيعرضه للبيع، اخدته منه وفاصلت معاه في سعرها، وقالي مستعد يصبر عليك شهر على ماتدفع تمنها.. ها.. أيه رأيك؟
اجاب بفرحة: ده شهر عال اوي، بإذن الله فلوسه هتكون عنده قبلها لو قدرت! وتسلم يا رجب، مش عارف أودي جمايلك دي فين!
_ عيب ياجدع احنا اخوات.. واستطرد: على فكرة
لقيتلك صنايعي سباكة شاطر وبياخد مصنعية حنينة شوية!
_ صحيح؟ طب هو فين خليني اشوفه واتفق معاه خليه يبدأ.. وانا اتفقت مع نجار الحارة اللي ورى، هيظبط باب متين مع الشبابيك وهيعملي حتتين عفش املى بيهم الشقة وهيحاسبني بالتقسيط! أهو على مايخلص اكون انا وضبت الدنيا
رجب: على خيرة الله.. كده هيبقى فاضل النقاش، بس بعد ما تخلص السباكة والنجارة!
_ قول يارب..وواصل: كلمت الحاجة تعمل حسابي في الجمعية الجاية؟
_ أيوة كلمتها وهتقبضك في معاد ما طلبت!
ناصر: أيوة كده الله يسترها.. قرشين الجمعية دي هيكون تكاليف الفرح ومصاريف الليلة بتاعة اخوك!
ربت رجب على كتفه: ربنا ينولك مرادك ويسترها معاك يا صاحبي!
_ تعيش يامجدع.. عقبال ما اساعدك في جوازك انت كمان!
_ إن شاء الله!
______________________
في مكان عمل جنة!
_ إيه يا ناصر، طلبت اطلعلك برة ليه دلوقت.. ما انت عارف عندي شغل ولسه فاضل ساعتين وامشي!
تمتم وعيناها تتجول على محياها: أولا وحشتيني، ثانيًا خدي شوفي جبتلك إيه؟!
تناولت ما يقدمه مبتسمة وتملكها الفضول وعيناها تكاد تخترق المغلف وما ان فتحته حتى شهقت بإعجاب: يا حلاوة.. ده تليفون جديد يا نصر
تمتم بزهو لاستطاعته نيل فرحتها:
ده مستعمل، بس استعمال نضيف وغلاوتك، واديكي اهو افتكرتيه جديد.. اشتريته من جوز أخت رجب صاحبي!
هنفت بفرحة: يخليك ليا يا ناصر.. وتعيش وتجيب يا رب! بس ده مش غالي؟ ماكانش له لازمة!
غمغم وعيناه تهيم متجولة على محياها : انتي تستاهلي الدنيا يا جنتي.. الود ودي اجيبلك السما هدية.. وبعدين لو مش معاكي تليفون هكلمك ازاي.. انا لازم اسمع صوتك دايما .اطمن عليكي
هتفت بدلال: مايحرمنيش منك ولا من ذوقك ابدا.. يلا بقى على شغلك كفاية دلع!
_ ماشي يا ست البنات، وعلى فكرة ده كارت شحن كمان.. ثم اقترب وتمتم بمكر: عشان نتكلم سوا بالليل! أهو كلام يصبرني ويهدي شوقي!
تلفتت حولها بخجل: طب سلام بقى وقفتنا دي مش حلوة.. ثم منحته نظرة عاشقة (وربنا يقرب البعيد! )
_______________________
في المساء!
_ مالك يامه، وشك اصفر كده ليه؟
_ معرفش يابت دماغي تقيلة شكلي اخدت لفحة برد الصبح.. عضمي كله مكسر.. ناوليني حباية مسكنة!
_ حاضر.. بس ده ناصر جاي بعد شوية!
تمتمت: وماله هو غريب؟ وابوكي موجود.. هاتي بقى الحباية اخدها عشان افوق..!
ناولتها كوب الماء لتبتلع “قرص مسكن”..وحضر ناصر بعد دقائق قليلة!
_ إيه مالك يا حماتي؟
_ مافيش يابني حبة برد كده!
رحيم: كويس انك جيت تشوف الماتش معايا يا ناصر.. ( اعملي براد شاي خلينا نشوف الماتش بمزاج ياجنة)..أطاعته: حاضر يابا..!
………………
جوووووول..!
هكذا صاح رحيم بحماس شديد: عليا النعمة ابو تريكة ده لاعيب ماجبتوش ولاده.. شوفت الحرفنة؟
ناصر: أمال إيه يا عمي، تريكة غني عن التعريف ورافع راسنا في كل حتة، ورجله تتلف في حرير ولا اجدعها لاعيب عالمي!
_ صدقت والله ..وواصل: أنا واثق في الشوط التاني أكيد ربنا هيفرجها بهدف ولا اتنين تاني خلينا نهيص!
تنحنح ناصر:
معلش ياعمي انا بصراحة عايز اقعد مع جنة خطيبتي شوية هكلمها في حاجة مهمة وامشي عشان انام!
رحيم ببساطة متعلقة بشاشة. تلفازه الصغير: مايجراش حاجة، اقعدو في الأنترية وانا قاعد هنا هكمل الماتش!
…………… .
أثناء مروره لينفرد بجنة بغرفة مجاورة ليجالسها قليلا، تمتم: الحقي امك.! نامت وهي قاعدة على الكنبة!
هتفت بشفقة: مسكينة، شقيانا طول النهار وجت تعبانة، اخدت حباية مسكن.. تلاقيها خدرت وجعها وخليتها تنام ياعيني..!
ناصر: لا ألف سلامة على حماتي!
عبر الغرفة متسائلًا:
_ أمال العيال اخواتك فين مش سامع حسهم يعني؟
_ بيلعبوا ع السطح فوق زي القرود من الصبح!
تلفت خلفه بحذر ثم أوصد باب الغرفة
فهتفت جنة بريبة:
انت بتقفل الباب علينا ليه يا ناصر؟
أردف وهو يقترب وعيناه تنهل من تفاصيلها “بوله”: أولا صوت التليفزيون عند ابوكي عالي اوي مش هعرف اكلمك براحتي.. وبعدين فيها إيه اما اقفل وانا بتكلم معاكي؟! نسيتي ان يحقلي انفرد بيكي؟ لازم كل شوية افكرك بكتب كتابنا..!
تمتمت بتوتر وهي تتجنب لمساته التي تصهرها: أيوة بس…………
بترت عبارتها وهو يجذبها لصدره مردفا ولمساته تزداد وتيرتها المتملكة وشوقه يتصاعد: بس إيه يا جنتي؟ خلوتنا دي شرعية.. امال انا كتبت كتابي ليه مش عشان اصبر نفسي شوية!
ونثر بعض القبلات الخاطفة المتجولة على وجنتيها وعنقها فابتعدت تنهره بضعف:
لو ما بطلتش هخرح واسيبك وربنا..!
استجدى عاطفتها: واهون عليكي.. ده انا حبيبك!
أزداد قربه وبدت مقاومتها تتراجع أمام رغبة تأججت داخلها لكنها تحاول الإفلات: يا ناصر كفاية بقى.. مايصحش كده! حد يشوفنا..!
لكنه تمادى و يده تكتشف خرائطها وتتلمسها بشغف وقد خرج الأمر عن سيطرته مستغلًا مساحة الحرية التي منحه أياها والد الجنة الجالس بالجوار يصفق بصياح لإحراز هدف لفريقه.. بينما الأخر يحرز هدفًا تمنى الوصول إليه لاهثًا .. وهي تذوب بين ذراعيه غارقة بحرارة مشاعره الحميمية التي تلقتها برضا واستمتاع.. لتعبر في لحظات لعالم أخر تخطو أرضه للمرة الأولى..!
ثم تآن وجعًا و ينتهي كل شيء..!
متغافلين بذروة وصالهم!
عن توابع لم تكن بالحسبان..!
الفصل الثاني
———
اجلست متربعة بقدميها أرضًا يحتوي حجر جلبابها البيتي صحن كبير بداخله حبات أرز أبيض.. تلتقط حصاه وكتله السوداء بشرود حزين.. وعقلها يُنقب عن مخرج لتلك الأزمة التي سقطت بها منذ تلك الليلة! لاعنة ضعفها وتهاونها لرغبة جامحة جرها إليها گ وسوسة شيطان..فأصبحت بين محاذير عقلها بعواقب إستسلامها بتوقيت خاطيء.. وبين ضعف غريزي أجج عشقها له گ أمواجه الثائرة لتشاركه الغرق وينزلاق من قاربهما الآمن ويقع بينهما المحظور! نعم هو بحكم الشرع والقانون زوجها.. ولكن بعُرف المجتمع وعاداته الصارمة والمورثات خاصتًا الشعبية منها.. لا يحق لهما ما فعلا.. عقد القران يندرج تحت ميثاق الخطبة وضوابطها لا أكثر..
والدها فقير الحال يلضم الجمعيات واحدة تلو الأخرى لدفع أقساط جهازها.. أما ” ناصر” مازال يكنز الجنيهات لتجهيز شقة تناسب الحال.. غير طلبات ألزمه بها والدها ليؤمن لها زيجة جيدة! بينما تكافح الأم بطريقتها وترعى بعض الطيور القليلة التي تقوم بتثمينها لتبيعها فيما بعد كنوع من الأستثمار البسيط لجلب بعض الجنيهات الإضافية كإعانة لمعيشتهم الشاقة!
_ بقالك ساعتين بتنقي حبة رز يا ست جنة.. أخلصي عشان تكنسي وتمسحي السلم وتطبخي قبل ما يجي ابوكي!
نهضت بوهن لا تصطنعه.. والأثار الجسدية المتعبة لتلك الليلة تحل عليها، متمتمة: حاضر “يامه” قايمة اهو مستعجلة ليه.. هو في حد غيري هينضف ويمسح ويطبخ..!
لوت الأم شفتيها بتهكم: مش عاجبك يا برنسيسة.. قومي يابت فزي بطلي لكاعة.. النهار قرب يعدي علينا.. وماتنسيش تحطي أكل للطيور.. وانا ساعة زمن هستقضى حاجات من السوق واجيب أكل للفراخ واجي! إياكي تستغلي غيابي وتنامي زي عوايدك الماسخة الأيام دي!
راقبت رحيلها تاركة العنان لدموعها ولومها لذاتها يتفاقم ويزيدها قهرًا وصوت ضميرها يهذي:
( لو كنتي عروسة في بيتك دلوقت ياجنة.. مش كان زمانك بتدلعي وامك خايفة عليكي وفرحانة بيكي! مين حاسس بيكي دلوقت؟ لو جازفت وصارحتها باللي حصل هي ولا ابويا هيعملوا فيا إيه؟ طب هيصدقوا إن المحظور وقع بنا بعد كتب الكتاب؟ ولا هيظنوا إني سلمت نفسي قبلها وجبتلهم العار؟)
تنهدت بحزن وعادت تندب حطها العاثر:
آه يابنت ” رحيم ” على البلوة اللي وقعتي نفسك فيها..! كان هيجرى إيه لو كنتي صبرتي على حلالك وانتي بين حيطان بيتك معززة مكرمة!
عديها على خير وكملها بالستر يارب!
____________________
نشوة تحتل خلاياه وتتغلغل في روحه بعد أن نال وصالها ونهل من رحيقها وأطفأ نار شوقه..لم يصيبه أي شعور بذنب على ما فعل.. جنة زوجته بشرع ربه.. وحبيبته بشرع القلب.. لن يجعل ما حدث أن يهديء عزمه في استعجال استقرارهما بمنزل الزوجية.. وربما يكون حافزًا أقوى ليتحرك بل يركض ليصل لنقطة التقاء دائمة لتصبح ملكة بيته وأنيسة أيام عمره القادمة!
لكن يؤرقه ضيقها وقلقها وحزنها بعد ما حدث.. خاصتًا حين أصر أن يأخذها منذ يومان لترى شقتهما وتعاينها، ولأن الأجواء كانت خالية من عزول..أغراه انفراده بها بأن “يواقعها” مرة أخرى ليسترجع نشوته المُسكرة بتلك اللحظات الفائتة..ورغم تجاوبها معه بنفس الرغبة.. إلا انها صارت بعدها خائفة حزينة نادمة..يؤنبها ضميرها، فطمئنها ان ما حدث لا يُعد معصية هي زوجته شرعًا وقانونًا..لكنها أصرت أن تأخذ منه وعدًا ألا يعاشرها ثانيًا إلا يوم زفافهما.. فأزعن لرغبتها، ووعدها ألا يقترب منها إلا وهي عروس في بيته!
____________________________
بعد شهر!
بدأت أول توابع ما حدث بينهما.. بنغزات أسفل البطن تتكرر بشكل أوجسها خيفة وأقلقها..مع تأخير روتينها الشهري گ فتاة.. لتتيقن فيما بعد أنها أصبحت تحمل نطفته بأحشائها..وهي كارثة حقيقية إن عَلم أبويها والجيران الذين لن يصدقوا أن ما حدث تم بعد عقد قرانهما.. بل ستُنسج الأقاويل والأفتراءت حول علاقة. مشينة منذ أيام الخطبة.. ليصير شرفها علكة يلوكها العالمين دون سلطان على ألسنتهم التي لن تنصفها أو ترحمها..!
………………
” هنعمل إيه في المصيبة دي يا ناصر؟ عارف لو امي وابويا عرفوا هيحصل إيه؟ ولا أهل حتتنا اللي محدش هيصدق لو قلنا انه حصل في الحلال.. سُمعتي هتبقى في الوحل يا ناصر”
لم يتحمل إنهيارها رغم صدمته وعدم توقعه ان. يحدث حمل وهو لم. يواقعها سوى مرتين بأوقات بعيدة تمامًا عن احتمالية حدوث حمل حسب ما علم منها حين سألها.. لكن قضاء الله أن يُرزقا بحملٍ غير مستعدين له على الأطلاق!
_ قطع لسان اللي يجيب سيرتك بكلمة
هتفت بنحيب: هتقطع لسان مين ولا مين يا ناصر!
_ طب اهدي يا جنة خليني افكر هنعمل إيه؟
واصلت باكية: مافيش حل غير اننا نقدم معاد جوزنا ويكون بعد شهر بالكتير، وانت فاهم السبب، بس ازاي؟! ابويا وامي لسه ماجهزونيش وانت معملتش حاجة في الشقة ولسه عايزة شغل وفلوس ياما عشان تنفع للسكن..!
وضع رأسه بين كفيه ببؤس، ملتزمًا الصمت الكئيب الذي هو يسمع بكائها.. ثم هتف بحذر:
_ مافيش غير حل واحد قدامي.. لأن زي ما قولتي ولا انا جاهز للجواز دلوقت ولا انتم جاهزين!
صمتت مترقبة اقتراحه فواصل: إنتي لسه في أول شهر.. يعني ممكن تنزلي العيل ونخلص على كده!
جحظت عيناها برعب : يعني إيه يا ناصر؟! عايز تعمل فيا إيه؟
_ هشوف دكتور يسقطك بقرشين.. زي ما كله بيعمل!
هزت رأسها برفض، والتصورات المرعبة تهاجم عقلها:
مستحيل اعمل كده.. وترضاها عليا يا ناصر ابقي كأني بنت فلتانة من اياهم؟..والدكاترة دي بتكون مش محترمة وياما سمعت عنهم بلاوي.. لأ ..مش موافقة.. شوف حل تاني.. اتصرف ياناصر.. مش انت اللي استعجلت.. اتصرف وطلعني من المصيبة دي وإلا يمين بالله أموت نفسي وارتاح!
هدرت أخر كلماتها بهستريا وجنون، فاحتواها ليهديء ثورتها وأحكم ذراعيه حولها: طب اهدي طيب متخافيش انا هكون معاكي مش هسيبك!
ظلت تهز رأسها بعنف على صدره: قلت لأ ..مش هعمل كده.. اتصرف وشوفلي حل!
فضمها أكثر : حاضر هشوف حل تاني بس اهدي عشان خاطري وبطلي عياط يا جنة ماتقطعيش قلبي.. خلاص أوعدك اشوف صرفة تاني!
سكن جسدها وارتخت رأسها على كتفه، ولم يهدأ نحيبها وآنينها.. فصار يهدهدها إلى أن تلاشى كل بكائها، فجفف عبرات وجهها ولثم جبينها:
تعالي اوصلك البيت ترتاحي وماتشليش هم حاجة..!
هزت رأسها دون حديث، وصارت جواره يأكلها الندم واللوم لذاتها .. وخواطر سوداء تجوب عقلها لتزداد خوفًا ورعبًا وكل الأحداث المشابهة تمر بذهنها دفعة. واحدة!
( شوفتي ياجنة اللي حصل للبت سارة؟.. عريسها سابها فجأة قبل جوازهم بشهر.. بيقولوا انه اخد مراده وخلي بيها.. ونكر انه قربلها.. ومحدش مصدق البت ياعيني.. وبقيت فضيحة)
( كبدي عليها أميمة.. عريسها مات في حادث وهما كانوا هيتجوزو بعد 6 شهور.. بس النصيبة. الكبيرة انها كانت حامل منه في السر.. واخوها كان هيقتلها عشان استكردتهم.. لولا الناس حاشوه..)
قصة تتداخل مع أخرى وحكايات مأساوية تهاجم خيالها.. لتنسج هواجس سوداء، فوقفت بغتة وأمسكت كفه بقوة مغمغمة برجاء:
أوعى تسيبني ياناصر.. أوعي تتخلى عني وتنكر اللي بنا.. أوعى تبعيني ..أو تبعد عني لأي سبب.. أنت لازم تتصرف ونتجوز )
أدرك أن افكارها القاتمة تهاجمها والشيطان يشعل هواجسها ومخاوفها نحوه.. فأمسك كفيها ونظر لعمق عيناها يريل لها الوعود قبل ان يقسم لسانه:
أقسم بالله ما هتخلى عنك ولا اسيبك إلا بموتي.. انتي مراتي وحبيبتي وحلم حياتي.. هعمل كل اللي اقدر عليه وهحل المشكلة بس انتي اهدي وخليكي واثقة فيا عشان خاطري.. حالك مقطع قلبي.. انا فعلا ندمان اني اتسرعت.. بس ماكنتش اعرف كل ده.. لكن بردو هحلها.. صحيح احنا مغلطناش غلط يحاسبنا عليه ربنا ولا خالفنا بيه قانون.. لكن كان لازم اراعي المجتمع اللي احنا جزء منه والعادات اللي ممكن تحاسبنا أكتر من كل قانون.. بس الوقت لسه معانا.. شهر بالكتير وهتكوني في بيتي يا جنة!
_____________________
_مالك يا جنة.. سرحانة ليه وشايلة الهم؟
_ مافيش يا فؤدة.. صحيح هي البت سارة عاملة إيه؟
مصمصت شفتيها بشفقة: اللي جرالها كتير يا عيني، بطنها قدامها، وبعد ما اخوها ضربها والناس عرفت حملها و عمالة تتهمز وتتغمز عليها ونفسيتها بقيت في الأرض وانتي عارفة الواطي خطيبها اللي سابها نكر بس هي هددته انها هتعمل تحليل وترفع عليه قضية.. فنخ وخاف ورجعلها..!
واقتربت تحدثها بصوت خافت:
بس كلام في سرك.. البت استنقصته ونزل من عينها.. قالت بس تولد ويكتب الواد بأسمه وتأمن نفسها وهتطلق منه وتربي ابنها لوحدها..!
تجرعت ريقها وداخلها يُصلى بنار الهواجس السوداء: طب ليه، مادام رجعلها ما تكمل حياتها معاه!
فؤادة: قالت كرهته ونزل من نظرها..! يلا بقى ربنا يعينها.. وواصلت: تعرفي ياجنة أنا من اللي شوفته ده مستحيل اكتب كتابي إلا قبل دُخلتي بيوم.. محدش عارف النصيب بيودي على فين ياختي، ولا بقى في راجل مضمون! والراجل الي يوفي بكلمته ده كنز والواحدة تمسك فيه بإيدها وسنانها..!
صمتت شاخصة البصر وغاب صوت رفيقتها، وعقلها و يستعيد ما حدث مع ناصر ووعده ألا يتخلى عنها.. هل سيظل كذلك.. أم ستكون ” سارة” أخرى.. ومآساة مماثلة!
_____________________
– بت ياحنة رمضان خلاص قرب، فاضله يومين ويهل هلاله..عايزاكي تمسكي الشقة تنضفيها وتخليها قشطة وبتلمع.. اغسلي الحيطان وفرش الأرض، والستاير والهدوم.. واوعي تنسي عشة الطيور اللي فوق نضفيها وافرشي حبة نشارة جديدة .. والسلم عايز دعك بفرشة البلاط.. انا خلاص يابنتي مابقيتش قادرة ولا عندي جهد عشان اعمل معاكي. يدوب بخلص لفة كل يوم على الزباين وابيع اللي فيه النصيب من الطيور وبرجع هلكانة، بس انتي الله يحميكي لسه صغيرة وشباب..!
وواصلت بحنان: خلاص يابت ده أخر رمضان هتكوني فيه وسطينا.. هتبقي ست وليكي بيت لوحدك.. بس ندر عليا أول جوازك وأول حمل.. هدلعك واخدمك برموش عنية.. وانا هبقى في ديك الساعة اما بنتي وأول فرحتي تكون أم وليها بيت وعيشة وراجل..! ربنا يسعدك يا قلب امك مع الواد ناصر.. المحروس حبيب القلب الفقري! بس خليه يشد حيله.. أخره سنة ويكون جاهز زي ما اتفق مع ابوكي!
ارتخى جسدها بإعياء لتسقط فوق الأريكة العتيقة. خلفها بعد مغادرة والدتها..وكلماتها زادت من حزنها وندمها ..!
لما انزلقت معه لبئر الرغبة، وتركته يسرق فرحتها وفرحة والديها حين تغدو في بيته عروس.. بكر رشيد.. تتنعم باهتمام والدتها كما قالت.. وبشغفه وهو يقترب للمرة الأولى.. تمارس دلال العروس المتعبة بأول زواجها.. تستقبل نصائح والدتها بخجل.. لكن كل هذا وأكثر ضاع منها.. أصبحت بكارثة.. وزواجهما أضحى أمرًا مطلوب إنجازه بأسرع وقت ممكن! من يشعر بها الآن وهي تعاني أعراض الحمل والغثيان وآلام البطن وكثرة النوم والهزلان.. وبدلًا من ان تنول راحة ودلال ورعاية.. هاهي مطالبة بإنجاز الكثير من شغل المنزل عاجزة حتى عن الشكوى او التذمر..!
_________________________
أراد أن يسعدها بشيىء بسيط.. لأنهم على مشارف قدوم شهر كريم ..فابتاع لها فانوس رمضان الملون بحجم كبير ويعلم انه سيروقها وتدخره ليُعلق في منزلهما كما تفعل بكل شيء ذو قيمة..وتحتفظ بيه من ضمن أشيائها البسيطة بجهاز عُرسها..!
كاد أن يطرق الباب.. لكنه رآه منفرجًا..يبدو ان احد الصغار خرج دون أن يوصده.. فولج للداخل وقبل أن يتفوه بكلمة شاهدها وهي جاثية على ركبتيها تدعك الأرض بفرشاه صغيرة وتنظفها بمعالم إعياء وشحوب واضحة.. فانفطر قلبه وتقطع نياطه وهاجت روحه غضبًا لأجلها ومن نفسه.. زوجته التي تحمل طفله الآن.. بدلًا من أن يرعاها ويدللها ويفرح معها هو والجميع.. هاهي تعاني توابع غلطته التي يصبغ عليها دائمًا نكهة شرعية..!
اقترب ليرفعها من على الأرض ليوقفها أمامه، فبصر شحوبها وهزلانها اكثر عن قرب.. فغمغم بحزن:
أنا أسف.. سامحيني ياجنة!
فجأة وضعت كفها على فمها وشعور الغثيان يهاجمها بضراوة.. فركضت أمامه لتفرغ ما في معدتها بآنات زادت فزعه جنونه عليها.. فذهب ليسندها متمتم:
تعالي ارتاحي وانا هساعدك ( وأجلسها فوق مقعد قريب وجثى أمامها يطالعها وكفيه مستقرة فوق ركبتيها) حبيبتي شكلك تعبانة اوي.. لازم تكشفي ياجنة اكيد في علاج وأدوية ومقويات محتاجة تاخديها في الأول!
لم. تجيبه وهي تلتقط انفاسها اللاهثة بعد عناء القيء، فمسح على وجهها بحنان ثم نهض وخلع قميصه، فنظرت له بريبة غير مصدقة ما تظنه؟! هل ينوى الآن ما جال بذهنها وسيخلف وعده لها؟؟؟؟
لكنها اتسعت عيناها وهي تشاهده يثني أطراف بنطاله لعدة طبقات ويمسك الفرشاه ويواصل ما كانت تفعله بقوة وسرعة لينجز عملها بدلا منها قبل أن تأتي والدتها وتشاهده.. وبالفعل ظل ينظف تحت أنظارها المذهولة، ثم احتل قلبها شعور السعادة وهي تراه يفعل ما يفعله لأجلها.. دغدغها هذا الإحساس.. وكم تحبه وتريد ان تهنأ معه وتحتمي به من كل شيء.. تنهدت ثم غمغمت: كفاية يا ناصر انا هكمل.. وبعدين لو امي جت شافتك هتهزأني!
هتف بحزم: حتى لو جت مايهمنيش، انا مش غريب وبساعد مراتي..! ( وواصل بسرعة انجاز كل شيء ثم جلس جوارها).. أسمعي ياجنة.. انا لازم اوديكي لدكتورة تشوفك وتكتبلك علاج عشان الغثيان والضعف اللي انتي فيه.. وانا خلاص كلمت ناس اعرفها هتسلفني مبلغ حلو اظبط بيه الدنيا بسرعة واجيب أوضة نوم على قدنا وهطلب من ابوكي نتجوز فورا
صاحت بفرحة: بتتكلم. جد ياناصر.. يعني خلاص هتحل المشكلة وتاخدني بيتك.. ثم خفت حماسها وهتفت بخوف: بس ابويا مش هيوافق لأن لسه جهازي مش كامل ده يدوب كان بيبتدي يجيب حاجات هو وامي.. أكيد هيرفضوا..!
هتف بقوة: مش هستسلم لرفضهم.. وهصمم نتجوز في خلال شهر بالكتير.. وان كان على جهازك يكملوا واحنا في بيتنا انا راضي..ثم منحها نظرة اكثر أمان: المهم انتي متخافيش قريب جدا هتتحل مشكلتنا..!
هزت رأسها وهمت بالحديث، فهاجمتها نوبة. غثيان أخرى لتهرول أمامه ويسمع ثانيًا صوت آنينها وقامتها الهزيلة منحنية تفرغ ما بها.. فساعدها بغسل وجهها وتجفيفه ثم أرقدها على فراشها محذرًا :
اسمعي اللي هقوله.. انتي هتنامي دلوقت.. خلاص شغل البيت خلص وامك مش هتقدر تتكلم اما تلاقيكي نايمة..! ثم غادر الغرفة وعاد حاملًا هديته وأردف: جبتلك الفانوس اللي كان نفسك فيه.. كل سنة وانتي طيبة ياحبيبتي..بإذن الله مش هايجي العيد غير واحنا محددين جوزنا..!
ابتسمت بسعادة وهي تتخيل فانوسها الجميل يضوى وسط منزلهما.. نعم ستنتهي اهميته بانتهاء الشهر الكريم .. لكنها ستصنع هي طقوسها ومناسكها الخاصة بعد أن تظلل الراحة سقف حياتهما للأبد..وبتلك الابتسامة الحالمة تحت أنظاره المتأملة بصمت، سقطت بغفوتها التي تقاتل لتنالها، فأسدلت جفنيها وارتخى كل جسدها المستغيث لنيل الراحة!
فظل يتأملها بحزن..ثم مال بشفتيه يُقبل جبينها قُبلة أودع بها وعد غير منطوق ان معاناتها لن تدوم طويلًا
__________________________
الفصل الثالث
————
نهضت بعد انتهاء الفحص الطبي، والممرضة تزيل تلك المادة اللزجة عن بطن جنة.. ليصل لسمعها صوت الدكتورة وهي تلقي تعليماتها أمام زوجها:
_ هي في أول الشهر التاني.. الأعراض اللي عندها طبيعية. جدا لأنها في أول شهور الحمل.. بس طبعا هي محتاجة مقويات لأنها ضعيفة. جدا وياريت لو تبعد عن اي ضغط نفسي لأن واضح ان في حاجة مأثرة عليها..وماينفعش تمارس نفس شغل البيت.. لازم راحة تامة.. وتنام دايما على ضهرها..! وأخر حاجة ممنوع تصوم.. حالتها ماتسمحش.. وضروري تنتظم في علاجها..!
استمع لها ناصر باهتمام يواري حزن دفين داخله.. كيف الراحة ولا أحد يعرف بحملها ووالدتها تُثقل عليها كثيرا بأعمال البيت دون أن تدري أنها تؤذيها..
لذا ازداد عزمه على اتمام زواجهما بأقرب وقت ممكن!
_____________________
_ مافيش حاجة نفسك فيها ياجنة!
هتفت باقتضاب وهي تسير جواره تطالع الطريق حولها: لأ..!
داعب أصابعها بين كفه:كفاية زعل بقى هانت وتتحل.. أنا خلاص هاخد المبلغ اللي طلبته من ناس معرفة عشان اظبط بيه بسرعة أوضة نوم واشطب السباكة والكهربة وبعدها هكلم ابوكي فورا..!
تمتمت: طب انت قولت لأهلك اننا هنتجوز أخر الشهر؟
_ لأ.. قلت استنى شوية!
لم. تجيبه.. فصمتا مخيمًا عليهما الضيق والكٱبة، هل ستسير الأمور بتلك السلاسة ويتزوجوا.. لم مازال في جعبة أيامهما القادمة عقبات.. تنهدت وهي تتذكر كيف أصبحت تتجنب رؤية أبويها والخزي يملأها تجاههم.. تشعر بكره لذاتها بعد ما فعلت.. وهاهي تقاسي تبعات جرمها معه.. هي المخطئة الأكبر.. لم تمنعه كما يجب أن يكون شاركته الرغبه.. فحملت الذنب الأكبر.. ولا تعرف أي قربان ستدفع!
_ سرحانة في إيه؟
رمقته بصمت ثم أومأت هاتفة: ولا حاجة، فلم تجد ما تقوله.. بعد قليل وصلا أمام منزلها، فودعها:
هسيبك واول ماتصحي الصبح كلميني.. ماشي؟
تمتمت باقتضاب: ماشي..!
________________
_ أنا عايز اتجوز !
تركت أم ناصر قطعة القماش القديمة التي كانت تنظف بها النافذة والتفت له متعجبة: تتجوز ازاي، ما انت كاتب كتابك يا واد واما تخلص تجهيز شقتك هتتجوز.. عايز إيه تاني؟!
_ الشقة لسه موالها طويل ومش هخلصها حتى في سنتين!
_ ومالوا.. حتى لو سنتين.. هي بنت فاتن هتطير؟ منين ما تخلص ابقى اتجوز..!
فرك مؤخرة رأسه بتوتر : بصي يامه.. بصريح العبارة كده.. أنا عايز مراتي في بيتي، وبعدها هكمل تشطيب الشقة. براحتي!
دبت على صدرها باعتراض غاضب: ننننعممم هو إيه النغمة الجديدة دي يا واد انت.. تتجوز على البلاط؟ ليه يعني.. ماتصبر اما نقبض الجمعيات اللي هنساعدك بيها وانت تشد حيلك في شغلك وتظبط الشقة سباكة ونجارة ونقاشة وعفش ..ده انت عايز جبل فلوس.. امتى هتعمل كل ده؟ انت عايز تفضحنا وسط الحتة؟ هيقولو إيه لو اتجوزت كروتة كده، إيه يجبرنا على كده؟
_ وانا مالي بالناس يامه.. أنا عايز ادخل ع البت واتكن في بيتي واحنا أحرار ندخل في قصر ندخل في عشة مايخصش حد لا مؤاخذة!
رمقته بريبة: واد انت.. هتوغوشني ليه، إيه اللي عفرتك كده ع الجواز؟ ده انت لسه عمنول كنت بتقولي مش عارف هتوضب شقتك منين وانك بتفكر تمد المهلة سنتين مع عمك.. إيه اللي جرى وشقلب حالك؟
_ مافيش!
وأجاب باقتضاب وتركها هاربا من نظراتها الكاشفة.. فغمغمت وهي تبرم بعض خصلات شعرها:
وحياة مقاصيصي البيضا دي.. الموضوع في إنة.. ومش هيغمضلي جفن إلا أما اجيب أرار الحكاية!.
_________________
أم ناصر: بقولك إيه يا ابو ناصر..كلم الواد ابنك ده عقله! ولاشوف في دماغه إيه بالظبط!
_ ليه هو مجنون؟
_ أيوة اتجن! أما يقولي عايز اتجوز دلوقت واحنا في الظروف دي يبقي اتجن يا اخويا.. ده لسه شقته خرابة وعايزة فلوس ياما عشان تنفع تتسكن..!
_ بس انا متفق مع اخويا إن الدخلة مش قبل سنة، يكون هو جهز البت واحنا نكون ساعدنا ابننا باللي نقدر عليه، أنا عامله جمعيتين لسه هقبض أولهم بعد 3 شهور!
مصمصت شفتيها بسخرية: ماهو ده اللي قولته ، بس المحروس مش عاجبه ولا قادر على بعد بنت أخوك!
تغاضى عن سخريتها اللازعة والذي اعتادها تجاه ابنة أخيه وتمتم: أنا هكلمه واشوف قصته إيه.. روحي حضري لقمة أحسن بطني فاضية من الصبح!
_ ماشي يا اخويا.. ( وصدحت تنادي) بت يا شهد، حطي الطبلية وهاتي حبة مخلل لمون، وتعالي خدي مني اطباق الأكل لابوكي!
شهد مُبرتمة: أنا بذاكر يامه مش فاضية!
صاحت الأخيرة بصوتها الساخر:
حوش حوش المِذاكرة اللي مقطعة بعضها، محسساني هتطلعي داكتورة ولا مهندزة.. ده البت أية اللي سنك بتاكل الكتب وبتعمل مع امها كل حاجة وانتي وهيبقى أخرك دبلون يا مايلة..فزي يابت طلعتي حسي بدال ما اجيلك بالشبشب.
شهد بحنق شديد: حااااااضر.
وراحت تغمغم بضجر:
كل بنات الجيران احسن مني وانا اللي مغضوب عليه،
أمهات أخر زمن
_____________________
_ يعني إيه يا ناصر.. أمك مش موافقة؟ وابويا وامي أكيد هيرفضوا.. دول لسه ماجابوش قشاية في جهازي.. هنعمل أيه؟
وضع رأسه بين راحتيه ببؤس:
مش عارف انا خلاص مخي وقف.. أمي وابويا رافضين، ومحدش هيقدر يساعدني، وامي شكلها شاكة في حاجة!
جنة بفزع وهي تدب على صدرها:
يانصيبتي؟! أمك لو عرفت هتفضحني ياناصر.. هي مابتحبنيش وهتتلكك عشان تخليك تسيبني!
رمقها بحنق: وانا جردل يابت انتي ولا عيل بشورت عشان انفذ كلام امي.. أنا راجل وهمشي بدماغي ومحدش له حاجة عندي!
انهارت والهواجس تشتعل برأسها:
انا مش عايزة فضايح ولا مشاكل لامي وابويا.. ابوس ايدك اقنع امك واوعي تعرف حاجة دي ماهتصدق عشان تقهر امي وتضايقها بالكلام وانت عارف انها ولا بتحبني ولا بتقبلها!ك، لازم تتصرف ياناصر، انا خلاص ولا بقيت عارفة انام ولا اكل ولا اشرب.. بخاف اقعد مع حد يلاحظ عليا حاجة، والحمل اعراضه بتبان!
ثم راحت تندب بصوت تخنقه العبرات:
ياريتني ماضعفت.. ياريتني ماسمحتلك تقرب وتستغل ضعفي.. انا اللي محقوقة.. أنا الغلطانة!
صاح بصوت هادر:
كفاااااية بقى..أبو النكد بتاعك ياشيخة.. كل شوية ندب ندب.. وبعدين ماهو كان بمزاجك وبكيفك.. أنا مغصبتكيش، وكنتي تقدري تمنعيني ماتعمليش فيها قطة مغمضة وانا اللي شيطان رجيم وضحكت عليكي..وواصل بنفس العاصفة: وديني لاغور من وشك وماهتشوفيني وابقي اقعدي اندبي للحيط واخبطي راسك فيه واتصرفي لوحدك.. أنا إيه جابرني على الهم ده!
وأختفى تحت أنظارها الذاهلة لما قال.. هل عايرها ضعفها؟ هل طعن بأخلاقها حين استسلمت لرغبتها معه؟ هل فقدت باقي كرامتها للتو..والأقسى من ذلك.. هل بكلمته الأخيرة سيتخلى عنها وتصبح سارة أخرى وتعيش توابع فضيحتها وتخسر أهلها وسمعتها وحقوقها وكل شيء..؟! سقطت على ركبتيها ودموعها تُزرف بغزارة والمشاهد السوداء تتوالي بسخاء لخيالها منتظرة مستقبل مظلم.. مظلم جدًا..!
_____________________
أسبوع مضى وهي على نفس الوتيرة الكئيبة.. تتجنب الجميع قدر المستطاع محاولة التحكم بنوبات غثيانها أمام اسرتها ورفاق عملها..تنتظر ظهوره مرة أخرى بعد نوبة غضبه الأخيرة، لكنه اختفي ومن حينها لم تراه.. قررت أن تتغاضى عن كبريائها الذي لم يعد له أساس بعد ما حدث، وذهبت لمكان عمله تسأل عنه، فوجدته لم يواظب بحضوره.. نغزها قلبها أكثر.. هل حقًا سيتخلى عنها بتلك البساطة؟ ماذا تفعل إن طال بعده وانتفخت بطنها، كيف ستحجب هذا الأمر؟.. ليس لديها حتى مسكن يخصها تلجأ إليه.. فاقدة لأي حقوق.. حتى ذهبها الزهيد لن يكفي شيء إن فكرت في بيعه.. أسندت رأسها بجوار عشة الطيور فوق سطح منزلها، تبكي وهي مختبئة من العيون!
الندم ينغر قلبها.. لما لم تنتظر.. لما لم تمنعه.. هي أثمة مثله بحق نفسها.. نعم هي زوجته شرعًا ولكن هل يكفي هذا لإثبات حقوقها.. ماذا لو طلقها ونكر مابينهما وتركها تواجه توابع أزمتها بمفردها گرفيقتها..؟ هي وسط مجتمع له أعرافه وثوابته.. قاسي لن يرحم مثلها، ولن يضع باعتباره انهما عاقدين القران.. سيلفظوها ويتهموها بالفسوق و سوء السلوك وتصبح منبوذة بينهم وتتلطخ سمعة والديها وحتى أشقائها..!
ظلت غارقة بدوامة أفكارها السوداء حتى غفت وسط نسمات باردة صفعت جسدها ونخرت عظامها وأوهنتها أكثر..لتزداد مرضًا على ما هي عليه، ويتسبب في امتناعها هي الأخرى عن الذهاب عملها لأيام..!
____________________
رحيم: البت بنتك دي مش عاجباني يا فاتن، بقالها فترة مش مظبوطة ماتشوفي فيها إيه؟
_ شكلها متخانقة مع ناصر لأن مختفي من كام يوم مابيجيش زي عوايده.. واما سألتها مارضتش تحكي
رحيم: يعني تفتكري ده السبب؟
_ أمال هيكون إيه يا ابو جنة.. بكرة أما يظهر المحروس خطيبها هترجع تاني وشها منور والضحكة من الودن للودن يا اخويا.. ماتشلش هم انت وروح صلي العصر وريح جتتك على ما نجهز الغدا..!
_ ماشي.. مادام ده رأيك!
_____________________
_ أنا مش فاهمة الواد ابنك ده غطسان فين.. أسبوع بحاله غايب عن البيت.. آل أيه؟ قاعد يومين عند صاحبه.. من إمتى الكلام ده؟
هتف زوجها بضجر: وبعدين معاكي، هو بت هتخافي عليها؟.. سيبيه يفك عن نفسه يومين ما انتي عارفة ضيقته بسبب الشقة والهم اللي وراه..!
هدرت به: ماهو اللي جايبه لنفسه.. مستعجل ليه ع الجواز.. مايوضب براحته وكله برزقه.. ليه محكم دماغه يتجوز الأيام دي.. ثم همست بخفوت: إلا اذا كان الموضوع فيه إنه!
قال بريبة: تقصدي إيه؟
هزت رأسها نافية: لا ماتحطش في بالك.. ده خاطر كده بيروح ويجي في دماغي.. المهم يوله يرجع البيت انا مش عاحبني بياته بره.. بدال ما اروح احرجة قصاد صاحبه
أردف بتحذير: إياكي! ده راجل مش عيل هتجيبه من ايده، سيبيه يرجع براحته.. وفضيها سيرة بقي خليني اغفل ساعتين!
تركته وشخصت عيناها بشرود وهواجس ما تدور بعقلها وينقصها فقط اليقين.. وتعرف ماذا ستفعل!
___________________
_ صباح الخير يافاتن.. جنة عاملة إيه سمعت إنها مرضانة!
هتفت الأخيرة: أه والله يا ام ناصر.. معرفش البت مالها تعبانة خالص ودبلانة! خشي عندها وانا هحط أكل للطير واحصلك!
…………
ما أن وقع بصرها على وجهها الذابل وجسدها الهزيل حتى اشتعلت الظنون أكثر.. حدجتها بعين خبيرة وهي تتفحص معالم معينة بجسدها الذي طرأ عليه بعض التغير، لتتيقن وقتها أن شكوكها كانت صحيحة لقد حدث بينها هي ناصر شيء.. لذا أراد إتمام زواجهما بأسرع وقت..!
تنحنحت فانتبهت حنة لوجود الحماة، واعتدلت هاتفة: ازيك ياخالتي.. متأخذنيش مش قادرة اقوم!
_ لا ياختي خليكي.. ثم دنت من وجهها وهتفت بغموض أوجس الأولى: اللي زيك. محتاجة راحة.. ولا إيه ياخطيبة ابني؟
تجرعت ريقها بتوتر: قصدك أيه ياخالتي، راحة عشان إيه ..ده ..ده شوية برد!
_برد؟! اظن انتي فاهمة قصدي إنتي فاهماه كويس.. عيب عليكي اللي عملتيه، وياعالم حصل كده بينكم من إمتى يابنت فاتن! شكلك كنتي مقضياها من قبل كتب الكتاب مسخرة مع الواد عشان تطويه تحت جناحك! عشان كده صمم يعقد عليكي رغم انه لسه مش جاهز، وبعدها زودتي العيار حبتين وبقي دلوقت عايز يخدك بيته اللي لسه خرابة.. أخص على دي تربية أخص!
قذفت أم جنة ما بيدها بعد أن سمعت حديث والدة ناصر، وهاجمتها مدافعة عن ابنتها:
_ أخرسي يا وليه يا ناقصة! انتي جاية ترمي بلاكي على بنتي؟ .. إيه التخاريف اللي بتقوليها للبت دي؟ إيه فاكرة محدش هيعرف يرد على لسانك اللي عايز قطعه!
_ أنا اللي لساني عايز قطعه، ولا بنتك مقصوفة الرقبة اللي سابت نفسها للواد وقرطستنا كلنا.. وياعالم سلمت روحها امتى؟!
فقدت أم جنة ما تبقى من عقلها واتجهت إليها بعاصفة تنبيء بالخطر: بقولك أخرسي انا بنتي أشرف من عيلتك كلها، ويستحيل توطي راسنا لحد.. بنتي عارفة الأصول وعمرها تغلط من ورانا..!
ضحكت أم ناصر ضحكة ساخرة وهتفت:
طب بصي في وش بنتك وفي شكل جسمها اللي اتغير وابقي تعالي اتكلمي عن الشرف والأصول.. واقطع دراعي إن ما كانت بنتك حبلة.. ولو سيبتيني انا اكشف عليها هعرف!
ازدادت هياجًا وفردت ذراعها مشيرة لباب الغرفة:
أخرجي من بيتي بدال ما الم عليكي أمة لا إله إلا الله.
تمتمت بتهكم: أنا اصلا مش هقدر افضل هنا دقيقة واحدة ويحرم عليا بيتكم!
وذهبت لتتركها لمعركتها الأكبر وهي تواجهه نظرات والدتها الذاهلة، التي بدأتها بسيل من الصفعات التي لطمت وجهها والمسبات الجارحة و أسئلة لا حصر لها، والصمت المخزي ورأسها المنتكسة كان جوابها ودفاعها الوحيد.. لتنهزم قواها بغتة، وتنكفيء على جانبها فاقدة للوعي!
___________________
صاح يعنفها بقوة بعد أن كشفت عن نيتها البغيضة:
انتي اتجننتي يا وليه.. جوازة ايه اللي تفركشيها؟
_جوازة ابنك، ماهو بقولك ايه يا ابو ناصر، علي جثتي الجوازة دي تكمل.. انا ماكانش عاجبني البت دي من الاول.. وظنوني طلعت في محلها.. بنت اخوك بت فلتانة وبلفت الواد وضحكت عليه وخليته ي.!
صفعة نزلت على وجهها وهو بقترب بنظرة تطلق شرار غاضب: أخرسي.. بنت اخويا أشرف من اي واحدة واياك.. إياك تجيبي سيرتها على لسانك مرة تاني.. وإلا قسمًا عظمًا هتشوفي مني وش عمرك ماشوفتيه قبل كده!
جحظت عيناها بذهول وهي تنظر له وتغمغم وكفها يحتضن وجنتها الملتهبة: بتضربني بعد العمر ده كله؟! وعشان بنت فاتن؟
_ دي بنت اخويا مش بنت فاتن.. وكلامي مش هيتعاد تاني.. اقصري الشر احسن.. وجواز ابني ماتدخليش فيه من هنا ورايح!
حملقت بقامته المغادرة بذهول تحول لحقد على تلك اللعوب التي تسببت فيما حدث.. وأضمرت لها الكثير من الكره الذي لن ينمحي بأيامها القادمة!
_____________________
ثلاثة أيام لا تحاكيها أو تنظر لها.. والحزن يتملكها وازداد فوق كاهلها الهموم.. كيف الخلاص من هذا النفق الذي أدخلتهم فيه ابنتها الحمقاء بفعلتها.. لو درى زوجها ” رحيم” ستكون كارثة ولا تضمن رد فعله.. والأكثر أن ناصر مختفي منذ أيام.. هل ينوي التنصل من مما فعل؟ الويل كل الويل إن فعل وتخلى عن مسؤليته!
أما جنة فلم يبقى لديها أي قوة بعد مواجهة والدتها القاسية والتي تتجنبتها وتنبذها گ جرثومة.. وتعلم أنها مثلها تكتوي بنيران الظنون السوداء وتطاردها هي الأخرى، أن يرضخ ناصر لوالدته ويتركها تواجه بمفردها مجتمعها بطفل منه ربما ينكره ويدخلون بدوامة أخرى! حقًا سيثبتون نسبه، لكن بعد ان تتلوث سمعتها وتصبح علكة الأفواه..!
اخذتها قدميها لشقتهما التي ترتفع لسبعة طوابق.. ورغم انها بحالة صحية لا تسمح لها بمجهود الصعود لكنها صعدت ودلفت بعد أن فتحت بابها الموصد! ظلت تنظر حولها بحزن.. وهي تتخيل كم حلمت بها بعد ان تكتمل.. وكيف انتقت لون الجدران وحددت غرفة نومها وأين سيكون مطبخها الصغير وهي تتفنن بصنع مالذ وطاب له كل يوم.. تصورت حين تأتي والدتها وأشقائها الصغار يزورنها وتتباهي هي بمسكنها الخاص.. الآن فقدت كل شيء.. فرحتها.. كرامتها.. أمانها.. حقوقها.. واحترامها بعين والدتها ووالدته هي الأخرى.. والقادم سيكون أسوأ حين يعلم والدها المسكين الذي ينتظر دوره بجمعيات صغيرة ليبتاع لها ما يستطيع!
هل سيعود ناصر؟
أم ستكون نسخة أخرى من صديقتها؟
الفصل الرابع
———–
الخذلان!
هو حصادها منه تلك اللحظة!
هو مقصلة نحرت عنق الأمل داخلها وعظمت الخوف گ مارد يكاد يبتلعها بجوفه المظلم..
تشعر بالوهن يسرق قوتها وقامتها ترتخي جالسة بإعياء على أرض شقتها العارية بعد ان اكتنف رأسها دوار شديد! تميل برأسها ترتاح على الجدار الرمادي بلونه الكئيب تنتحب بصمت..مقيدة الكلمات بحلقها الجاف وكأنها بصحراء انقطع عنها قطرت المطر.. زاهدة بكل شيء.. تفكر أين هو؟ متى سيعود؟ هل ينوي تركها؟ وماذا تفعل حينها؟! عشرات الأسئلة تتراقص على أوتار أعصابها المشدودة!
وبخضم تساؤلات صامتة في عقلها المجهد انتفضت بغتة على يدٍ تربت على كتفها الهزيل، فصرخت بفزع لكنها ابتلعت باقي صرختها وهي تسمع همهمته:
_ أنا ناصر ياجنة متخافيش!
لم تصدق انها تسمع صوته فهتفت بذهول لتتيقن:
_ ناصر؟!
أنحنى ليضمها إليه: أيوة ناصر.. وحشتيني ياجنة!
تصلبت بضع ثوان تستوعب حقيقة وجودها بين ذراعيه ثم تمالكت نفسها سريعا وتذكرت أخر ما قاله لها ثم غيابه ومرارة ما قاست، فدفعته بعيدا عنها بقسوة محاولة النهوض لتغادر، فمنعها مبررًا:
والله غصب غني.. عارف انك زعلانة بس كان لازم أبعد لحد ما اتصرف.. انا عاهدت نفسي مش هرجع غير وانا معايا الحل!
قاومت احتجازه لها بشراسة قدر قوتها وهي تهم بالنهوض بإصرار:
سبتني لأفكاري وخوفي وهمي وحزني اللي عيشتهم لوحدي ولا تعرف إيه حصلي وواجهت إيه وتقولي كان لازم ابعد.. خلاص ابعد وسيبني حتى لو هموت.. يارب اموت عشان ترتاحوا كلكم.. سيبني وابعد تاني زي ما كنت.. سيب القطة المغمضة اللي فتحت على إيدك وفي الأخر بتعايرها بضعفها.. سبني وامشي ياناصر.. سبني بقولك!
كلما ابتعدت اشتد بضمها إليه أكثر، تاركا لغضبها العنان لتنفثه بوجهه! مقدرًا ومدركًا أين أخذتها أفكارها السوداء، بعد ان نفذت قوتها وهي تقاومه أستكانت تبكي مستسلمة على صدره، فأسند جبهته على جبينها وغمغم بخفوت: أنا أسف.. عارف اللي انتي فيه، والظنون اللي دارت في دماغك ناحيتي ومقدرش الومك عليها، وسامحيني على أخر كلام قولته انا ماقصدتوش والله..انتي مراتي وحبيبتي ومستحيل ابصلك بصة وحشة أو اتخلى عنك ياجنة، وأنا خلاص اتصرفت في مبلغ كبير هعمل بيه اللي اقدر عليه في شقتنا وهروح لعمي وافاتحه في دخلتنا أخر الشهر!
ظلت تبكي مستسلمة لهدهدته لها منصتة لكلماته، فجذبها على صدره واستجداها: خلاص بقى بطلي عياط قولتلك هتصرف!
هتفت بوهن تشكو له كل ما ادخرته بصمت داخلها: خوفت ما ترجعش، خوفت تسيبني.. حسيت إني بموت..!
_ بعد الشر عليكي.. أموت قبلك!
ثم لثم وجهها المدفون بثنايا عنقه مستمعًا لهمسها الشاكي: أمك جت زارتني وعرفت باللي بنا وسمعت امي كلام زي الزفت وحلفت انك لو اخدتني مش هترضى عنك.. وامي مش طايقاني من وقتها ومقطعاني.. انا خايفة من اللي جاي ياناصر اما ابويا يعرف! أنا تعبانة أوي ومش قادرة اتحمل!
ربت على ظهرها وقبل رأسها المُطرق: كله هيتصلح أوعدك.. أهم حاجة نتلم في بيتنا.. ومسير زعلهم يروح وهيرضوا علينا تاني.. مش هنهون عليهم..!
ثم رفع وجهها إليه يطالعها بتفحص حاني: وشك أصفر أوي يا جنة، إنتي مابتاكليش؟
هزت رأسها بالنفي، فقبل جبينها وقال:
طب انا هنزل اجيب لقمة ناكلها سوا وعلبتين عصير وبعدها اوصلك البيت!
_ ماليش نفس.. خليني امشي احسن!
شاكسها: هتكسفي ناصر حبيبك يابت؟..ده انا هأكلك بإيدي.. وواصل بحنان: اطمن انك اكلتي حاجة وهنمشي على طول.. دقايق وجاي استنيني!
غادرها، ورغم قسواة ما تحياه، زحفت ابتسامة لشفتيها وهي تستعيد طعم حنانه عليها منذ لحظات وكأن بعودته واهتمامه بُذر الأمل بصحرائها مرة أخرى وانغرز بأرضها، وهاهي تتنعم بقربه وعشقه بعد غياب ، لقد عاد سندها بعد الله..سيكون كل شيء بخير.. ناصر لن يتركها..! هكذا ظلت تردد داخلها ولسانها يستغفر رجاءً بالصفح من الخالق لحين عودته!
______________________
مر أسبوع أخر وناصر يستميت بإنجاز بعض التشطيبات من سباكة ونجارة وتأسيس إضاءة حتى تصبح شقتهما صالحة فقط للعيش! وحان الوقت ليحدث العم ” رحيم” بأمر زفافه هو وجنة!
هل ستجري الأمور كما يريد ويوافق والدها وترضى والدته عن زيجته؟ أم مازالت معركته مستمرة؟
_________________
عاصفة رفض توقعها من والد جنة، ولكن لن يتأثر مهما لطمته رياحها القاسية..أو يبرح مكانه قبل أن يأخذ موافقته على إتمام زيجتهما، الوقت ليس بصالحهم بعد الآن!
_ كلام إيه اللي بتقوله ده يا سي ناصر.. دُخلة ايه اللي عاوزها اخر الاسبوع؟
الأخير بثبات: معترض ليه ياعمي؟ هو حرام ابقى عايز مراتي في بيتي، انا بصريح العبارة كده مبقيتش قادر على العزوبية.. وانا لسه موالي طويل، مش هخلص الشقة حتى بعد سنة.. وعشان كده عملت اللي قدرت عليه عشان نعيش فيها، واما اخد جنة لبيتي هاكمل على راحتي!
هدر به ” رحيم” : وأنت عشان ترتاح تقلب الدنيا فوق دماغي وتتعس بنتي معاك وتاخدها لشقة. لسه خرابة؟ يا سيدي بعد سنة لو مخلصتش ابقي اتجوز، ع الأقل هتكون خليت للمطرح منظر وينفع يعيش فيه بني آدمين.. واكون انا جبت للبت شوية حاجات تسترها في جهازها زي كل البنات.. انما دلوقت مستحيل أوافق.. محدش فينا جاهز لقصة الدُخلة دي! وده كان شرطي عليك، هنكتب كتاب بدون دُخلة وأنت وابوك وافقتوا.. ولا ده كان كلام عيال؟
يعلم أن كل حديثه منطقي وصحيح وهو الملام لأنه لم يلتزم بهذا العهد وأخل به.. وان الضغط المادي ينال من الجميع ولكن لا حيلة له سوى الإصرار على رغبته مهما حدث، وإلا سينكشف الأمر.. ولو عليه لا ضرر.. ولكن هي من سينالها افتراءت المحيطين.. هي محقة حين قالت انها هي الطرف الخاسر والمُلامة وحدها بعيون اللذين سيكذبونهم ويرجموهم بذنب الخطيئة، حتى وإن كانت جنة في الأساس حلاله وحقه!
أقترب من العم وعيناه تشع إصرار أكثر من سابقه مردفًا على مسامعه:
_ جنة من حقها الدنيا ومافيها ياعمي.. وتستاهل تتجوز في قصر ولا الأميرات مش بس شقة.. بس انا إيدي مربوطة بضيق الحال وخلاص مضغوط من كل ناحية.. وحاسس اني مش هرتاح غير وهي في بيتي.. واقسملك برب العزة ما هقصر معاها ولا هنسى التزاماتي.. كل حاجة اتفقت فيها معاك هعملها.. هكمل التوضيب والعفش وربنا يقدرني اسد ديوني، بس وهي معايا هتهون عليا كل حاجة.. وانت كمان هتكمل جهازها وانا واثق انك هتلتزم باتفاقنا.. ارجوك توافق لأن صدقني مش همشي من هنا إلا بقرار نهائي منك.. وإلا ماتلومنيش على حاجة بعد كده!
حدجه بنظرة ثاقبة وطرح تساؤله:
يعني إيه الكلام ده! طب ابوك عنده علم بجنانك ده؟
_ أبويا مالوش دعوة.. ولا حتى امي، انا راجل وأدرى بمصلحتي!
_وإذا قولت مش موافق هتعمل أيه يا ناصر؟
التزم الأخير برهة من الصمت وأردف:
بيني وبينك جنة! خلينا ناخد رأيها..!
رحيم: ولو رفضت هي كمان؟
_ مش هرد عليك غير بعد ما نسمعها..!
” بت ياجنة.. تعالي عايزك! وهاتي امك معاكي”
سمعت صياح والدها وهو ينادي بغضب، فارتجفت، وذهبت وهي تحاول الثبات! تتبع والدتها التي لبت استدعاء زوجها وهي ترتجف خوفًا من القادم..!
_ نعم “يابا”..!
اقترب وسألها مباشرًا:
ناصر عايز يتمم جوازكم ويعمل دُخلة أخر الاسبوع.. إيه رأيك على الكلام ده؟
ظلت صامتة مطرقة الرأس، فلكز أبيها كتفها بعنف أوجعها صائحا:
ماتردي يابت ولا القطة كلت لسانك..ردي وقولي لأ خليه يروح يشوف حاله و احنا نشوف حالنا..!
استاء ناصر لتعامله وهو يرى وجعها المحفور بوجهها الذابل، فتمتم: براحة ياعمي الكلام مش كده بردو..سيبها تاخد قرار براحتها
ثم وجه حديثه لجنة: قولي رأيك ياجنة ومتخافيش من حاجة، فتمتمت بصوت واهن: موافقة يابا..! ولو ع الشقة انا راضية وواثقة إن ناصر هيوضبها واحنا سوا..!
صُدم رحيم من جوابها، وراح يُحلل الأمر بعين أخرى، وللمرة الأولى يلاحظ شحوب ابنته وهزلان جسدها..! فتمتم لزوجته بريبة:
_ خدي بنتك واخرجي وسيبيني مع ناصر..!
همت أم جنة بقول شيئا ما، فأوقفها زوجها بأشارة صارمة من عينه، فابتلعت باقي حروفها، وأخذت ابنتها وأغلقت الباب خلفهما..!
صفعة قوية نزلت على وجه ناصر فور إنغلاق الباب، فبرزت عروق الأخير غضبًا وللحظة وقف أمامه يناطحه النظرات القاسية، وعين رحيم تكشف كل شيء وتجرد نواياه.. ما عاد للإنكار والمواراه مكان..لقد فطن الأب لما حدث! ابن أخيه لم يفي بالوعد.. وأتم زواجه فعليًا على ابنته! شعر بالغضب وراح يصفعه ثانيا هادرا:
_ بقى ٱأمنك على بنتي تخون ثقتي؟ وتخون العهد اللي بنا واتفاقي معاك أنت وابوك؟ اخص عليك اخص!.. ( ماكانش في نيتي اخون، وغلطت غصب عني وماتنساش انها مراتي)
لم تهدأ ثورته بتبريرات ناصر ودفاعه فجادله بحدة:
_ صحيح البت بالشرع والقانون مراتك..لكن مش من حقك تخالف اتفاقنا، وزي ما بيقولوا العقد شريعة المتعاقدين، و بعُرف الرجالة انا اتفقت معاك على كتب كتاب وبس، الدُخلة دي ماكنتش في الحسبان، والناس كلها عارفة انه كتب كتاب وبس، يعني شرط الأشهار انت ماعملتوش، وطلعت مش قد كلمتك.. وأنا غلطان إني وافقت تعقد عليها قبل ما اجهزها واسترها قصاد الناس..! ليه تجبرني اجوزهالك بحالتك دي وتعيشها في ضنك.. ليه ما صبرتش
_ غصب عني! ماكنتش ناوي اخلف وعدي ولا اتفاقي بس اعمل إيه، ده اللي حصل.. ومادام كله بقى على المكشوف، يبقي خلاص نتمم كل حاجة قصاد الناس عشانها هي مش عشاني.. لأن محدش هيصدق ان اللي حصل، حصل وهي مراتي.. وانا مش هتحمل حد يجيب سيرتها بكلمة!
_ إنت مكتف إيدي وبتقولي اختار؟ ياخسارة يا ناصر كان نفسي تطلع راجل!
ناصر وهو يبتلع إهانته احترمًا له: ياعمي أنت عارف كويس اوي أني راجل وارجل من أي حد..وانا مش هفضل اقول واعيد انها مراتي على سنة الله ورسوله! وانا بشر وضعفت لأني بحبها وعايزها.. وانا اهو جاي اقولك خلينا نتلم في بيت واحد.. واقسم بالله هلتزم بكل حرف قولته وكل حقوقها هعملها في بيتي معززة مكرمة..!
لم يجد والد حنة ما يقوله بالتزم الصمت، فتمتم ناصر: أنا هروح احضر لفرحنا يوم الخميس يا عمي.. وحقك عليا وسامحيني أنا غلطت، بس محدش فينا معصوم، وانا بردو شاب وانت عارف وفاهم!
وواصل باستجداء: وعارف إنك في يوم هترضى عننا ومش هنهون عليك! وغادر وتركه لأفكاره التي صاحبها لوم شديد لذاته، فهو من ترك له الحرية ليحدث ما حدث ومنحه الثقة الكاملة، لما يلومه وحده؟ هو أيضًا مُلام بهذا الأمر..!
ويجب أن يرضخ ويُسرع بزيجتهما.. حتى يتجنب الأقاويل.. فإن كان ظنه صحيح.. فلا مجال للتباطؤ..!
______________________
_ أرتاحتي دلوقت في اللي احنا فيه بسببك؟
بكت جنة وهي تتألم من كل شيء.. كل شيء أصبح يؤذيها، وتمتمت بخزي لوالدتها الثائرة: غصب عني يامه.. والله غصب عني، محسبتهاش، سبت نفسي لشيطاني، وقلت يابت ما انتي مراته وعاقد عليكي، يعني مش حرام!
هتفت الأم: بس حقوقك ضاعت دي حتى قايمة عفش لسه ما اتكتبتش، وكرامتك اتهانت من كلام امه ونظرتها ليكي، ومش هتسلمي من لسانها السو بعد كده، وهتنغص عليكي عيشتك بالكلام، وهتقلب ابنها عليكي! ومتأكدة انها مش هتحضر الفرح أصلا. قوليلي هيكون شكلنا إيه وقتها قصاد الناس؟
وواصلت تأنيبها: استغفلتينا وصغرتينا وانتي عارفة البير وغطاه ولسه مجبناش حاجة تسترك وترفع راسك قصاد جوزك وأهله، وبعدين سيبك من كل ده، افرضي المحروس خلي بيكي وقال محصلش مني وشوفوا من مين؟ حد يقدر يكدبه؟
_ مستحيل.. ناصر مايعملش كده.. وبعدين احنا في زمن فيه ميت طريقة تثبت إن هو اللي عمل كده!
واصلت الأم جدالها بافتراضات قاسية:
بس تمن الإثبات ده.. سمعتك هتتلوث وتبقى على كل لسان.. وكله هيألف حكايات عنك براحته ويقولوا دي كانت وكانت.. نسيتي إنك في حتة شعبية بتنتشر فيها الوحشة قبل الحلوة؟
وواصلت بنفس الغضب: طب بلاش، افرضي خبطته عربية وراح فيها..!
أسرعت تدعو له بانزعاج: بعد الشر عليه يامه!
فاستأنفت الأولى حديثها: وحتى لو قولتي بعدها ده حصل بينا جواز حقيقي.. كانوا هيصدقوا بسهولة.؟
الناس دايما بتميل للوحشة وتكبرها وتعمل قصص من الهوا.. ليه تحطي نفسك في الموقف ده!
ثم اقتربت تلك المرة واردفت بنبرة موجعة:
ليه تضيعي فرحتك زي أي بنت خارجة من بيت ابوها بتتباهى باللي جابه وهي بتفرج اصحابها وأهل حتتها على جهازها؟ ليه تتجوزي وانتي مكسورة وبتداري مصيبة وتعبانة وحزينة، بدال ماتتجوزي وانتي فرحانة .ليه تتجوزي في شقة مايسكنش فيها بشر.. شقة هتتكسفي حد يجيلك فيها.. لأنها لسه عريانة حيطانها مالهاش لون ولا ساترها ستارة ولا حتى كرسي تقعدي ضيفك عليه؟ ليه ماتفرحيش بكل حاجة هتعيشيها لأول مرة معاه وانتي مرتاحة من غير هموم..
وواصلت بصوت أكثر بؤسًا: انا كنت عمالة اقول هجيب وهجيب عشان اشرفك قصاده هو وأهله.. ليه يابنتي ماصبرتيش على الحلال بس بالأصول!. اسمعي يابنتي اخر نصيحة من امك اللي شافت وسمعت كتير.. البنت في الحسبة دي هي لوحدها اللي بتطلع خسرانة حاجات كتيييير أوي..ضحكتك اللي من القلب.. ذكرياتك الحلوة اللي هتفضل معاكي سنين وسنين هتحكيها لولادك بعد كده بزهو.. قوليلي دلوقت.. هتحبي تفتكري الفترة دي في حياتك؟ هتحكيها لولادك ولا هتتكسفي وتتوجعي كل اما تيجي في بالك؟
نفذت طاقتها.. ليتها ظلت تصفعها وتجلدها بدلًا مما قالته وألمها أكثر بكثير من صفعاتها الدامية.. الآن فقط أدركت جنة ماذا فقدت وفيما أخطأت!
________________________
استقبلت غضب زوجها العاصف بصبر وهو يهدر:
ازاي تعرفي حاجة زي دي واتخبي عني؟ بتقرطسيني انتي كمان يافاتن؟ أنا مش سألتك البت حالها غريب طمنتيني؟ كنتي بتضحكي عليا؟
_ يمين بالله ابدا.. وقتها ماكنتش اعرف حاجة، واما عرفت ماكنتش قادرة احكي وخوفت تأذي البت.. وناصر كان مختفي واستنيت اشوف هيعمل ايه
ثم اقتربت بحذر تستجديه:
_ المصيبة خلاص حصلت هنعمل إيه يا رحيم.. البت طلعت “حبلة”..لو عاندنا ورفضنا نعمل دخلتهم، بطنها هتبان والناس مابترحمش، مش هيظنوا فيها غير السوء وهتبقى سيرتنا لبانة يتسلوا بيها..!
اشتعلت الدماء بعروقه وتأججت رغبته بسحقها و
نهض بقسمات مخيفة تنبيء بشر قاصدًا غرفتها ليفرغ بها كل طاقة غضبه مما فعلته به وبنفسها، فاعترضت طريقه وهي تتوسله:
_ أحب على إيدك يا رحيم.. لو ضربتها هتروح فيها دي مافيهاش حيل الله يسترك وكفاية اللي خدته مني
هاج بها: ماتموت ولا تغور في داهية على الأقل تريحنا.. هي بعد ما استغفلني وركبتني قرون هخاف عليها؟!
بكت ومازالت تستجديه: غبية وماعرفتش انها أذت نفسها باللي حصل.. بس خلاص مامنوش فايدة الكلام يا اخويا.. الحل دلوقت نزفها على ناصر ونخلص، ومسير النفوس تهدى.. انما أي عنف دلوقت هنخسرها ودي بردو جنة يا رُحيم!
صامتًا يحاول التحكم بما يجتاحه، ويحتله الضيق واللوم بآنٍ واحد.. كيف غفل عنهما وترك الأمور تفلت من يده.. ومن أين له الآن بمال كافي لجهازها حتى يسترها أمام الناس ويفي حقها عليه دون ضغط..!وكيف سيستقبل الناس تلك العجلة بزواجها، مؤكد لن يسلم من همساتهم..!
_ مابدهاش يا رحيم.. انا هدبر قرشين بمعرفتي ونجبلها شوية حاجات قد مانقدر ونجوزها اخر الأسبوع.. ونخلص من هما وتبقى مع جوزها..كده كده كان هياخدها..!
_ بس ياخدها بالأصول ونكون مش مضغوطين بالشكل ده! ولا خافين من كلام الناس.. ده غير أن هو نفسه مش مستعد ماديًا، ولا جهز حاجة، كان صبر بدال الكروتة دي!
_ اللي حصل حصل خلاص.. شوف هتعمل أيه وابتدي بلغ المعارف واعزمهم ع الفرح..!
صمت دون رد.. فليس هناك ما يقال.. وصار إتمام زواجهما حتمي لتفادي أي شيء يضر بابنته وسمعتها..!
_ _____________________
_ يعني إيه؟! هتتجوز من غير رضايا يا واد ياناصر؟
_ بقولك إيه يامه.. أنا مش واد انا راجل.. وانتي ناسية اني عاقد على جنة يعني جوازنا تحصيل حاصل.. مش فاضل بس غير اتمم جوازي قصاد الخلق.. وانا مش فاهم انتي عايزة ايه، ماتسيبيني اعمل اللي على مزاجي، دي حياتي في الأخر، وسواء اتجوزت مديون ولا لأ.. أنا اللي هشيل الليلة، محدش خسران حاجة فيكم.. ليه بقى وقف الحال ده، بدال ماتدعيلي دعوة حلوة؟
_ دعوة حلوة بعد ما…..
قاطعها بحزم شديد: لو قولتي كلمة واحدة في حق جنة مش هسامحك ولا هنسهالك طول عمري.. ولو عايزة تكسري خاطر ابنك يوم فرحه.. ماتحضريش..!
مات الكلام!
وتركها تأخذ قرارها بمفردها وذهب ليحضر لزفافه!
_________________
تتأمل ثوب زفافها بعين دامعة.. متذكرة كيف اضطرت استعارته من إحدى صديقاتها كي تختزل أي تكاليف إضافية، متغاضية عن كونه لا يطابق ابدا ما تمنت أن ترتديه يوم عُرسها المنتظر. كما وافقت أن تتزين على يد صديقة أيضًا، بدلا من اللجوء لمركز تجميل يناسب طموحها كما تفعل أي عروس، لم تحقق أحلامها البسيطة مراعاة لظروف ناصر ..وكل هذال لا يساوي شيًا أمام سعورها الخزين الكئيب بليلة عمرها.. كم كانت والدتها محقة.. هي فقدت أشياء غالية .. بليلة عمر لن تتكرر.. لتضاف ذكرى تعيسة أخرى لسلسلة ذكريات ستحاول وأدها بعقلها.. يجب ان تنسى تلك الفترة بكل ما عانت بها.. ولكن هل ستنجح؟
__________________
جالسًا جوارها بمقعده المزين يتبادل ابتسامات مزيفة مع الجميع، فالإرهاق يتملك كل جسده، يتمنى أن يغفو وينال قسط طويل من الراحة، فكأنه كان يعدو وما وقف يلتقط أنفاسه إلا الآن.. تنهد وشعر بالندم فاقدًا كل شعور بالمتعة والشغف، فلم يسير شيء كما تمناه.. كان يخطط ألا بتزوج بدين مهما حدث بعد ما كان يسمع مآسي رفاقه المادية.. وتمنى أن تكتمل شقته كما يجب، لكنه لم يستطع سوى تدبير غرفة. نوم بسيطة فقط، تاركًا الجدران بلونها الكئيب!
لمح والدته ترمقه بضيق ملتزمة مقعدها وكأنها ضيفة ومدعوة گ الأغراب.. يعلم انها حضرت رغما عنها حتى تقف جواره فلم تطاوعها أمومتها على تركه.. يدري بغضبها.. لكن هو يعلم كيف سينال رضاها مرة أخرى..!
___________________
انتهى زفافهما المتواضع، وأخذها ناصر لشقة الزوجية التي ما أن شاهدتها حتي ايقنت خسارة اخرى.. وهي ترى كآبتها وفراغها من كل شيء سوى غرفة. نوم..!
_اتفضلي ياحبيبتي.. نورتي بيتك! أخيرا ارتاحنا وحلينا المشكلة على خير..!
هزت رأسها ملتزمة الصمت.. وذهبت لتستريح فالإعياء يتملكها بقوة، واصبحت غير قادرة على الوقوف على قدميها..!
اما هو فلم يكن افضل منها حالًا..الضغط النفسي بالأيام السابقة ولهاثه وهو ينتقل من مكان لمكان حتى ينجز ما يقدر عليه قبل الزفاف.. قد نال منه الكثير.. وانتهت ليلتهما الأولى بعد الزفاف.. وكلًا منهما يعطي ظهره للأخر غارقًا بنومه وهمومه..!
ولكن قبل ان تغفو، التفتت تنظر له بعد ان تركها وغرق بنومه أولا دون أن يلمسها.. وتصورت كيف كان سيتصرف لو كانت عروسه التي لم ينالها من قبل.. هل كان سيتركها ويغفو هكذا؟ لم يحتضنها حتى ليخفف عنها غربتها بهذا المنزل الغريب عنها..! بكت بصمت ولم. تمضي لحظات إلا وهي ساقطة بنومتها وأخر العبرات تُكمل طريقها فوق وجنتها المنطفئة!
________________
تُرى كيف ستكون الحياة بينهما بعد ذلك؟
وهل سيظل أهلهما على قطيعتهم معهما؟
الفصل الخامس
_________
لم تزور ابنتها سوى مرتان..يوم الصباحية حتى لا يتسائل أحدًا لما لم تبارك لابنتها العروس كما تقتضي العادات بثاني أيام العُرس.. وبأخر يوم بأسبوعها الأول.. وبعد فترة أخرى أعلنت للجميع حملها بالشهر الأول، رغم أنها تخطت الشهر الثاني ببضعة أيام.. فحين تحين ولادتها بالشهر التاسع سيظن الجميع انها ولادة مبكرة وانها ستنجب طفل ” ابن سبعة”.. وبالفعل أخبرت الجميع، فأطلقوا الزغاريد العالية كنوع من الزهو والفرحة والمباركة لابنتها جنة!
_ مش هنزور أبلة جنة يامه؟
قطعت الصغيرة نجلاء شرود والدتها فهمست:
بعدين لما افضي هنزورها.. روحي ذاكري وانا هطلع على السطوح احط أكل للطيور وانزل!
……………
تعلم ان لديه حق.. لكن قلبها يشتاق لجنة.. وبالوقت ذاته لا تقدر على مخالفة أمر زوجها في الذهاب إليها.. خاصتًا مع أطلاقه يمين عليها ألا تذهب دون عمه.. هو يريد معاقبتها هي وزوجها ولن تلومه.. لكن إلى متى ستُحرم من رؤيتها.. إلى متى؟!
____________________
“منك لله يا بنت فاتن.. فرقتيني عن ابني”
صاح عليها: انتي مش هتبطلي ترمي كل حاجة على جنة؟ وابنك ماغلطش ابدا؟ ترضيها تحصل مع نوال بنتنا يا نادرة؟
هتفت بفجاجة: أنا بنتي متربية و…..
اتسعت عيناها برعب وهي ترى كف زوجها وهو يهم بصفعها.. ثم تراخت بقبضة مضمومة كاظمًا غضبه، ثم لوح بسبابته محذرا: قسمًا عظمًا لولا الفضايح قدام العيال لكنت عدمتك العافية.. بنت اخويا متربية وقطع لسانك تجيبي سيرتها تاني.. ولو كررتيها مش همسك نفسي وهتخربي بيتك بأيدك.. عايزة تخاصمي ابنك براحتك وخدي وقتك لحد ما تهدي.. لكن تجيبي سيرة مراته بالعاطل مش هضمن رد فعلي معاكي بعد كده! اتقي شري وماتفرجيش علينا الناس بعد العمر ده كله!
وغادر بزوبعة غضبه وتركها منكمشة خوفًا تلاشي بعد رحيله، واستعادت عيناها نظرتها الكارهة:
_ ماشي يابنت فاتن.. ماشي!
____________________
مضى ثلاثة أشهر وأصبحت فعليا بأول شهرها الخامس، لكن أمام المحيطين بالشهر الثاني. ولأن بطنها بدأت في البروز، حاولت ان تحتجب اغلب الوقت حتى لا يلاحظ أحدا سرعة ظهور حملها.. وان ترتدي كل ملابسها الفضفاضة!
أما زوجها ناصر فغرق بدوامة عمله ليل نهار حتى يُسدد كل ديونه وأقساطه، خاصتُا أنه جلب لها بعض الأشياء الضرورية.. كتلفاز وثلاجة وغسالة..وهذا زاد أعبائه المادية، فكثف عمله وأصبحا لا يلتقيا إلا قليلا يوم إجازته التي يقضيها بالنوم لينال أكبر قسط من الراحة حتى يوصل ساعات عمله الطويلة بالأسبوع التالي!
__________________
معاناة شديدة تخوضها وهي تصعد لشقتها بالطابق السابع.. رغم أن ناصر منعها أن تذهب السوق وتبتاع أغرض، معتمدا على يوم أجازته وإحضار كل شيء.. لكن أرادت أن تريحه من هذا العبء وترفهه عن نفسها بالخروج قليلا.. ولم تعمل حسابًا لحالتها.. وهاهي يكتنفها دوار شديد ومازلت بالطابق الثالث
ارتخت قدميها وجلست علي الدرج بإعياء واضح.. فوجدتها الجارة الشابة على تلك الحالة أثناء صعودها فهتفت بجزع: إيه ده مالك قاعدة كده ليه حصلك حاجة؟
جنة بوهن: لا ابدا.. أصلي حامل ودوخت شوية، هرتاح واطلع بيتي.. اتفضلي انتي اقفلي بابك عادي!
هتفت الجارة: لا طبعا هتدخلي معايا اعملك عصير يقويكي واطمن انك كويسة!
همت جنة برفض عرضها فقاطعتها الأخيرة بإصرار:
جوزي لسه مجاش وانا لوحدي.. تعالي نقعد سوا وفرصة نتعرف على بعض.. مش معقول نكون جيران ومش نعرف حتى أسامينا أيه..
……… ..
الجارة بود وهي تقدم العصير:
أنا أماني.. متجوزة من شهرين.. يعني لسه عروسة..! ممرضة في مستشفى حكومي.. وجوزي محمد مدرس ابتدائي..في المدرسة اللي جمبنا
جنة بابتسامة بسيطة: وأنا جنة.. كنت بشتغل قبل جوازي في خياطة العبايات الجاهزة.. وجوزي ناصر مكانيكي سيارات! وزي ما انتي شايفة، حامل في شهري الخامس!
_ ما شاء الله.. انتي كده متجوزة قبلي بوقت بسيط!
هزت رأسها ببعض الحزن، فواصلت الأخيرة بحماس:
تعالي بقى افرجك على شقتي وهي لسه جديدة.. فرصة قبل ما نجيب عيال ويخلوها خرابة!
راحت تستعرض أمامها أناقة شقتها وجمالها البسيط.. وهي تذكر كم عانت هي وزوجها وصبروا حتى اكتملت ثم تزوجوا.. تذكرت حينها شقتها وخلائها حتى من لون حيطان يبدد كآبتها.. وكيف خجلت أن تدعوها لتستضيفها..كيف تفعل ولن تجد مقعد تجلسها عليه
وهذا غير استعراضها نزهاتهما معا بعد الزواج.. وكيف تمضي أوقات طيبة بصحبة زوجها.. وعلمت انهما لا يعانون أي ديون تؤرقهما.. وينتظرا فقط ان يكتمل حلمهما بطفل يؤنسهما ويحلي أيامهما.. !
شعرت جنة بالضغط يزداد عليها وأنها تختنق.. تريد الاختلاء بنفسها بأسرع وقت.. كما أخذت قرار أن تظل منطوية دون علاقات ببنايتها حتى لا تتحسر على حالها أكثر.. استأذنتها بالمغادرة مع وعد كاذب باللقاء في زيارة أخرى!
______________________
في اليوم التالي!
_ جنة ساعة زمن وتصحيني، أوعي تنسي احسن اتأخر على شغل بالليل!
اعترضت: شغل أيه؟ انهاردة الجمعة ياناصر يوم أجازتك!
_ لا منا جاتلي سبوبة حلوة هاخد منها قرشين، اهو ينفعوا أخر الشهر في سداد الأقساط اللي عليا..!
هزت رأسها بتنهيدة وقالت: ماشي.. الله يعينك، بس انا كنت نفسي اخرج انهاردة اي حتة معاك، زهقانة يا ناصر، هطق من الوحدة.. ولا نافع اروح لامي وابويا اللي زعلانين ولا هما بيجوا.. ووالدتك مش بتيجي تشقر عليا، ولا مختلطة بجيران هنا اتسلى معاهم.. ونفسي اشم هوا انا وانت و…………
سمعت صوت أنفاسه الصاخب فالتفتت لتجده غارق بغفوته، فدمعت عيناها وهي تدثره بغطائه وأطفأت ضوء الغرفة، وراحت تجلس وحدها كعادتها كل ليلة!
____________________
العبء ثقيل وديونه تحرمه النوم..صار وكأنه يلهث دون توقف..وهو يقتص ساعات زهيدة من يومه لينام حتي يواصل عمله ليل نهار ليحصل على أكبر قدر من النقود شهريًا.. وعلاوة على كل هذا مقاطعة أهل زوجته ووالدته التي مازالت على موقفها تجاة جنة..!
_ في واحد بيسأل عليك. يا اسطى ناصر ومستنيك برة!.. التفت للصبي وتسائل: مين ده يا عز؟
_ معرفش يا اسطى، قال انه قاعد على القهوة اللي قصاد الورشة!
ذهب وما أن رآه حتى هلل وهو يلثم كفه:
وحشتني “يابا” عامل إيه انت واخواتي وامي؟
ربت والده على كتفه ودعاه للجلوس: الحمد لله يا ابني بخير.. انت عامل ايه طمني عليك؟
_ نحمد ربنا على كل حال..مش ناقصني غير تسألوا عليا.. ونفسي امي ترضى عني انا ومراتي.. وعمي رحيم وحماتي.. كلهم مقاطعنا محدش بيزورنا خالص.. بقينا مقطوعين يابا ومالناش حد!
التاع قلبه وهتف بمؤازرة حانية بفطرة قلبه گ أب:
بعد الشر عليك يا ابني.. مقطوع ازاي وانا على وش الدنيا.. أنا صحيح زعلان من اللي حصل خصوصا ان عمك رحيم مقاطعني من وقتها.. وامك في الرايحة والجاية تدب كلام زي السم تلقيح على جنة ومحملاها سبب كل حاجة.. بس ماهانش عليا اسيبك.. وصحيح أنت غلطت.. بس صلحت غلطتك وطلعت راجل وشلت المسؤلية وماهربتش واستندلت زي غيرك ..عشان كده عديت على بيتك ازورك!
قاطعه ناصر بفرحة: بجد يابا؟! يعني زورتني وشوفت جنة؟
هز رأسه مجيبًا: أه ولله عديت وجنة قالتلي انك بتشتغل بالليل والصبح وهي اللي قالتلي عنوان شغلك الجديد!
صمت ليلتقط مغلف من جيب جلبابه وواصل:
_ خد يا ناصر يا ابني.. دي أول جمعية قبضتها.. شوف ناقصك إيه في بيتك وهاته.. واوعدك كل شوية هجيبلك مبلغ زيه.. وواحدة واحدة تكمل بيتك وتستره يا ابني!
أبت كرامة ناصر أن تقبل إعانة من والده فرفض بحزم:
_ رجع فلوسك في جيبك يابا.. أنا عارف البير وغطاه.. أختي نوال جوازها قرب وهي أولى مني.. أنا خلاص استقليت بحياتي وبقيت مسؤل لوحدي وكل حاجة هتيجي لما ربنا يريد.. كفاية بس ترضى عني!
نكزه أبيه بقسوة كاذبة: وانت عشان فتحت بيت هتكبر على ابوك ي واد انت وترد ايده؟
استنكر ناصر: معاش اللي يرد ايدك يابا بس……
قاطعه الأخر: مافيش بس.. في حاضر يابا.. مهما كبرت واتجوزت وخلفت مش هتكبر عليا.. لما اساعدك أوعى ترفض.. ربنا يديني العمر ويرزقني وما اخليش حد فيكم ناقصه حاجة وانا عايش.. وصحيح القرشين دول مش كتير، بس اهي نواية تسند الزير زي مابيقوله!
واستأنف حديثه وناصر يرمقه بتأثر وغصة دموع تخنق صوته: مراتك مالقيتش كرسي تقعدني عليه يا ابني.. كانت مكسوفة وهي بتجيبلي كرسي من أوضة نومها.. خد المبلغ ده وادفع مقدم أنتريه تقعد عليه ضيوفها وتستر بيتها.. لو انا مش غريب.. في جارة ولا صاحبة ممكن تدق بابها.. اسمع كلامي واعمل اللي قولته.. وزي ما وعدتك الجمعيات اللي معمولة على أسمك هتاخدها كلها.. وربك كريم وهيفضل ساترها.. وان كان على امك ماتقلقش مسيرها تهدى وترضى عنكم.. انت عارفها لسان ع الفاضي!
لم يجد ناصر أبلغ من عناق دافيء صامت.. كان خير رسول لمشاعره الممتنة تجاه والده الذي كان أسخى بعناقه وهو يربت على ظهره مغمغما: يلا قوم خلص شغلك بسرعة وارجع لمراتك وروحوا اشتروا الأنتريه وخليها تختاره وفرحها.. وماتحملش هم.. كل يومٍ هو في شأن.. وبكرة الحال يتغير للأحسن بأمر اللي خلقك!
سبحان من بدل حاله من كآبة وحزن قبل أن يأتيه والده.. وبعد أن غادره..وگأنه منحه طاقة غير محدودة من التفائل وأنعش قلبه الذابل وأقبل على الحياة.. وشعر بشوق شديد لزوجته تلك اللحظة وكم يتوق لرؤية فرحتها وهما يبتاعوا غرفة أنتريه لشقتهما.. لن يبخل عليها.. سيختار لها شيء غالي حتى وإن طالت أقساطه.. وبالفعل انجز سريعا عمله وذهب تسبقه اللهفة لبيته.. وجنة!
_____________________
تأخر الوقت وهو لم يأتي، فتراخت جفناها وأُسدلت لتسقط بغفوة على مقعدها دون إدراك لما حولها.. ولم. يمضي كثيرًا من الوقت إلا وأتى ناصر، ففوجيء بنومتها الغير مريحة وعنقها يتدلى بميل بسيط، ووجها شاحب..وعيناها تحوطها دائرة من هالات سوداء.. فاقترب منها محاولًا تعديل وضعها، فانتفضت للمسته وقالت بنعاس وجفنيها مازالا مطبقان : أنت جيت يا ناصر؟!
ابتسم وهو يتأملها: لأ، لسه مجيتش!
فردت بوعي غائب: طب اما تيجي صحيني احطلك عشا..!
ضحك بخفوت ثم تلاشت رويدا ابتسامته ليحتل وجهه نظرة غائمة حزينة وهو يطالعها بشفقة لا تخلو من شوق لها وهو يسترجع كيف مرت بينهما الشهور الماضية.. تقريبا لم يجالسها يومًا كامل، أو يخرج معها نزهة، أو يتثامر أو يُسمعها كلماتِ غزله الحانية كما كان يفعل.. حتى لقائهما گزوجين، صار له گروتين بارد، خالي من مشاعره الدافئة.. أهملها تمامًا..وتذكر كيف غفى أمامها وهي تقص له شكواها من وحدتها.. لكن رغمًا عنه غرق في سبات عميق، ولم يجد الفرصة ليسألها ماذا كانت تقول..أما هي، فلم تعيد عليه شكوتها مرة أخرى زاهدة في نيل اهتمامه، مكتفية بصمتٍ عاتب يسكن مقلتيها الذي ذهب صفائها، فعمله يبدأ من الصباح الباكر ويأتي ساعتين بمنتصف النهار يتناول غداءه معها ثم يمدد جسده ويغفو لينال بعضًا من الراحة .. ويذهب عُقبها لعملٍ أخر.. حتى ينتهي من التزاماته ومصاريف ولادتها.. ماذا يفعل وأصبح مسؤل عن عائلة ولديه أعباء كثيرة!
سمعها تَئن وقسماتها تتجعد بألم! يبدو أن شيئًا ما يؤلمها.. نهض وحملها برفق، ثم أرقدها على فراشها.. ولثم جبينها.. وذهب ليغتسل ويصلي، وأعد لهما طبقين من الفاكهة.. هو يعلم أنها لا تأكل في الليل سواها.!
_ جنة! قومي ياحبيبتي!
تململت على صوته ومازالت تحت سطوة النوم دون أن تستجيب، فنكز وجنتها برقة لتفيق، رمشت عيناها لتستوعب حضوره هاتفة: إنت جيت إمتى؟
ابتسم بمشاكسة: منا بقولك لسه ماجيتش”
ابتسمت لدعابته ولم تنتبه لصحنين. الفاكهة وهي تنهض سريعًا تترنح: هقوم اعملك عشا حالا..!
جذبها لتجلس مرة أخرى وجلس أمامها : ماتعمليش حاجة انا عملت الطبقين دول ليا انا وانتي، يلا ناكل سوا..!
عند جملته استعادت وعيها كاملًا وهي تنقل بصرها بينه وبين الصحنين، محدقة عيناها بذهول لاهتمامه المفاجيء وشفتها منفرجة ببلاهة مضحكة وشهية! فضحك لهيئتها ثم لثم شفتيها برقة وتمتم: أعدلي وشك يابت، بصتك محسساني اني كنت مسافر ورجعت.. مالك مذبهلة كده ليه ياجنتي”
جنتي؟!
أعادت كلمته داخلها غير مصدقة، وغشت مقلتيها العبرات تتآوه فرحا وشوقًا للفظ دلالها الذي امتنع عنه طوال الفترة الماضية.. حتى ظنت انه لن يدللها ثانيًا..! وأنها سقطت من ذاكرته وسط أعبائه.. لكن هاهو يعود لنفس عهده القديم.. يغمرها بحنانه واهتمامه.. فنظرت لقطع الفاكهة التي أعدها لها.. وقالت:
_ ممكن اطلب منك حاجة!
كان صامتًا يراقب دهشتها ثم سحابة دموعها بضيق، وقد فطن كيف أهملها، فشعر بالنقمة على ذاته، وما ان تفوهت برجائها حتى أومأ لها برأسه دون حديث.. فقالت:
_ أكلني بإيدك يا ناصر!
رمقها متعجبًا فواصلت: عايزة احس انك رجعتلي تاني.. عايزة. ادوق طعم حنانك اللي وحشني لحد ما ارتوي.. انت صحيح ماكنتش مسافر.. بس ماكنتش معايا.. أنت بعدت أوي يا ناصر.. بعدت لدرجة اني عايزة اصدق إنك فعلا معايا دلوقت..!
تمزقت أوتار قلبه لعذابها الصامت وهو غارق بدوامته غير واعي لحالها، فتلقفها بين ذراعيه محيطًا جسدها بقوة تآوهت لها ألمًا.. وقد تفاقم تأنيب ضميره أكثر! كيف نسى ان يرعاها وسط أشغاله.. وعمله الذي لا تنتهي، معتقدًا انه يفعل الصواب لأجلها ويلبي حاجتها وهذا يكفي.. لكن كان خاطيء.. المرأة لا تكتفي من الدلال.. لا تشبع من الحنان.. لا ترتوي إلا بالحب..هي زهرة تذبُل إن طال عطشُها.. وزهرته جفت أوراقها دون أن يدري!
ترك لعبراته العنان مخبئًا وجهه جانب عنقها.. أما هي فغدت تلك اللحظة گأنها طفلة لا تُحسن التعبير بالكلمات، فاختزلت كل مشاعرها وشكواها له .. بعناق دافيء..!
__________________
الفصل الأخير
———
تمطعت بفراشها وحاولت النهوض فوجدته يحتجزها فوق صدره، فاستكانت وقبلته وراحت تسترجع تفاصيل ليلتهما الماضية وكأنها هي من تلت زفافهما.. وليس تلك الليلة البعيدة الكئيبة.. حين أدار كلًا منهما ظهره للأخر.. بينما الآن تشعر أنه عاد حبيبها وزوجها الحنون الذي يتملك خصرها بذراعيه گ أنه يخشى فررها، داعبت أنفه بمشاكسة فتجعد وجه وهو يحركه بعيدا عن مرمى إصبعها الذي لاحق أنفه ثانيًا وهي تكتم ضحكتها..ثم غمغمت بنعومة: ناصر.. يلا قوم ياحبيبي عشان شغلك هتتأخر كده!
ندت عنه همهمة خافتة، فعادت تنكز صدره: يابني بطل كسل واصحي عشان معاد شغلك!
ثم حادت بنظرها تتبين توقيتهما فوجدته تخطى معاد استيقاظه، فانتفضت توقظه بخوف:
_ ناصر… ناصر قوم بسرعة الوقت اتأخر ومش هتلحق شغلك وهترجع تزعق وتقولي انتي السبب..!
تملل مغمغمًا: مش رايح!
رفعت رأسها قليلا عن صدره وهي تطالعه قائلة:
_ نعم؟! ازاي؟ هو ينفع ماتروحش؟
رمش بعيناه قليلا حتى استقر على رؤية محياها، فجذب رأسها لتستكين فوق صدره ثانيًا وراح يداعب شعرها: هقضي اليوم بطوله معاكي ياجنتي!
لم تصدق وظنته غير واعي فنكزته نكزة أقوى ليفيق: فوق يا ناصر شكلك لسه نايم.. والله لو عاتبتني وقلت ماصحتنيش ه……… أسكتها بأنامله على شفتيها ومنحها نظرة مفعمة بمشاعره الهائمة: مش عايز اصحى يا جنة.. هفضل في جنتك لحد ما اشبع.. هحاول اعوضك عن بعدي وإهمالي ليكي الفترة اللي فاتت، امبارح اتأخرت في شغلي، بس أخدت أجازة يومين بحالهم.. هنخرج نتفسح في أي مكان ونتمشى ومش هسيبك لحظة..وهسمع كل حاجة نفسك تحكيها زي زمان، بس سامحيني على تقصيري في حقك.. والله غصب عني.. لكن انتي عارفة إنك روحي وقلبي من جوه!
طافت عيناها على وجهه بحنان، وضمته بقوة مردفة: عارفة ومسمحاك ياحبيبي..انسى العتاب..وخلينا نبتدي من جديد! كفاية عليا انك رجعت تحس بيا تاني!
داعب بشرة وجنتها برفق: هنسى وهصلح اللي فات وعندي ليكي مفاجأة هتعجبك أوي..
تسائلت بفضول: إيه هي؟
_ مش هقول دلوقت، بعدين..يلا بقى قومي نفطر بدري وبعدين نخرج، مش عايز دقيقة تضيع في البيت! ولو عايزة. تروحي مكان معين قولي!
فاضت عيناها بسعادة طاغية:
مش مهم نروح فين.. المهم انك معايا يا ناصر.. ربنا مايحرمني منك ابدا.. ”
ضمها أكثر وقد لاحظ استعادة وجهها لنضارته وبهاءه وأقسم داخله ألا يطفيء بريقها يومًا..هي حبيبته وزوجته وأم اطفاله.. فما قيمة الأيام إن أمضيناها بجفاء وبُعد عن من نحب؟..مهما كان انشغاله، سيقتنص لها دائما ولو دقائق يقضيها معها.. وينعم بدفء صحبتها..!
___________________
يلا اختاري أنتريه على ذوقك.. المحل ده اسعاره حلوة وصاحبه مهاود عن غيره!
تنظر له بدهشة ولا تعرف لما أتى بها إلى هنا وكيف تنتقي شيء وهي تعرف حالته وأعباءه؟
تنحت به جانبًا وقالت بخفوت: ناصر أنتريه إيه اللي اختاره.. هو احنا معانا فلوس..!
ابتسم وهو يشدد علي يدها: ماهي دي المفاجأة اللي قولتلك عليها.. هنجيب حاجة تقسيط عشان لما يجي ضيوفنا يلاقوا بيتنا مستور.. أبويا امبارح عطاني مبلغ ينفع مقدم كويس.. وقالي اشتري واحد.. ورغم اني رفض بس هو صمم ووصاني اجيبك ونشتريه..!
تهلل وجهها وهي تجيبه: بجد ياناصر؟ ربنا يخليك لينا ياعمي، أصله زارني امبارح و……
قاطعها: عارف هو عدى عليا وقالي..وانا اوعدك الشهر الجاي اجيب نقاش يظبطلنا المطرح بدهان متواضع احسن من لون الحيطان الكئيب ده.. انا متأكد انها هتفرج وتبقى عال بس ادعيلي!
_ بدعيلك ياحبيبي ربنا يرزقك برزقنا و…… ..
هتف بجزع: إيه مالك بتتألمي ليه؟!
_ اظاهر ابنك فرحان وبيلعب جوه عشان الأنتريه.. عمال يخبط في ضهري ابن اللذينا.. بس اما ينزل هوريه!
ضحك وهو يطالع موضع طفله: شكله هيطلع واد شقي زي ابوه.. عموما يلا بلاش نضيع وقت اختاري حاجة عشان ننقلها بيتنا واظبط معاكي مكانها وبالليل هعزمك على كباب ومش هخليكي تطبخي.. انهاردة وبكرة في دلع وبس!
شعرت أنها تحلق من سعادتها فقالت بحماسة اللحظة: هو انا ماينفعش ابوسك دلوقت؟
قال محذرا: إياكي احنا في محل وحوالينا ناس!
ثم مال عليها مردفا بخبث: بس عايز اشوف الشقاوة والدلع ده في البيت!
_ هبهرك.
ضحك مشاكسًا: هتبهريني ببطنك دي؟ طب يلا ياستي أحسن تولدي وانتي واقفة!
وجذبها لتنتقي ما يروقها حتى بتثني لهما العودة وترتيبه والتمتع به!
______________________
رغم إرهاقها وثقل بطنها المنتفخة، إلا أن سعادتها بتلك النزهة وما ابتاعته هي وزوجها وجعلتها تتغاضى عن أي تعب أصابها..!
_ الله علي المكان لعد ما اتفرش واترص الأنتريه.. بقى له منظر ياجنة ويتقعد فيه!
_ الحمد لله.. انا مش مصدقة اننا اشتريناه..!
ثم تذكرت جارتها وهتفت: أهو كده اقدر اعزم جارتي أماني عندي.. انا كنت مكسوفة اقولها تطلع والمكان فاضي!
تسائل: عرفتيها امتي دي؟
قصت عليه دون إسهاب كيف داهمها الدوار ورؤيتها مصادفًا واستضافتها حتى تتوازن..!
_ وانا مش محرج عليكي تنزلي وانتي ببطنك دي واحنا في السابع؟
_ كنت زهقانة يا ناصر، عموما ربنا سترها.. دي طلعت عشرية أوي واتكلمت معايا كأننا اصحاب من زمان!
ثم تنهدت وهي تتذكر أبويها ومقاطعتهم لها ووحدتها دونهم فاحتلها الحزن الذي أدركه ناصر بملامحها:
أوعدك كله هيتحل.. وقريب جدا..!
يارب يا ناصر.. يارب!
__________________________
” مافيش كتب كتاب غير في الفرح وده أخر كلام عندي يا فتحي”
زفر خطيب ابنته نوال بضيق: ياعمي احنا مش اتفقنا قبل كده وكنت موافق.. إيه جرى؟ انا بصراحة مش بعرف اقعد اتكلم مع خطيبتي وبتوتر وام ناصر بتفضل قاعدة قصاد الأوضة تراقبنا كأني هخطفها..عشان كده قلت كتب الكتاب، هو في حاجة قالقاكم من ناحيتي لا سمح الله؟
أبو ناصر: اسمع يافتحي يابني.. انت مش قدامك ست شهور وتكون جاهز؟
_ أيوة ويمكن أقل!
_ أقل ولا اكتر ربنا يعينك.. اهي البت مستنية وادينا بنجهزها براحتنا.. وحكاية. انك مش عارف تاخد راحتك في الكلام مع خطيبتك..معلش اتحمل كلها كام شهر وتبقى في بيتك على طول!
_ بس ياعمي… .
_ مافيش بس يافتحي ده أخر القول.. خلي موضوعكم يكمل على خير من غير مشاكل، وربنا يقرب البعيد، ومحدش وقتها هيكون له عندك حاجة!
يأس أن يجعله يتراجع عن قراره.. فغادر فتحي يعتريه الضيق، وكلما ذهب ليراها وجد والدتها تتابعهما بشكلٍ فج وترفض حتى التنزهة معها گ السابق.. وكأن هناك ما طرأ وغير عادتهما معه..!
________________________
أم ناصر وهي تعلق معطف زوجها بغرفتهنا:
_ عداك العيب انك رفضت طلب فتحي.. كتب كتابهم هيكون يوم الدُخلة! محدش بقى مضمون الأيام، أفرض ضحك ع البت واحنا في غفلة ومش داريين!
اقتنص الفرصة ليثبت لها تناقضها الغير عادل مع موقف جنة وتحميلها كل اللوم:
_ يعني بتعترفي ان ابنك هو اللي ضحك على جنة اهو!!
أدركت فخه، فجادلته: لأ دي مش زي دي.. انا بنتي قطة مغمضة ماتفهمش حاجة انما بنت اخوك…. .
زغر لها محذرا قبل ان تتمادا، فابتلعت باقي حديثها:
أنا همشي من قدامك خالص.. مش كل شوية هنتخانق عشان المحروسة مرات ابنك!
هز رأسه بيأس وضيق من تجبرها على ابنة أخيه، لكن مايطمئن قلبه، هو ناصر وقدرته على حماية زوجته ونيل رضاء والدته بنفس الوقت! تنهد وهو يدعوا بصلاح النفوس وصفاء قلب زوجته!
_____________________
بعد بضعة أيام!
على أعتاب باب منزل عائلة جنة، تجلس والدتها متربعة أرضًا وهي تفرط حبات ” البازلاء” بشرود و الشوق يأكل روحها لرؤية ابنتها ولكنها لا تستطع مخالفة زوجها رحيم الذي مازال غاضبًا، وحرم عليها الذهاب لمنزل ناصر خاصتًا بعد تجاوزت أم ناصر وأهانتهم بكلمات لاذعة، فحمل ابنته وزوجها ذنب كل هذا، أما هي ذاتها أيضًا غاضبة منها، ولكن تظل ابنتها وحبيبة قلبها وأول فرحتها..!
_ سلامو عليكم يامرات عمي!
رفعت بعيناها سريعا فور سماع صوته وهتفت بجزع: بنتي جرالها حاجة يا ناصر؟
ابتسم بهدوء: لما انتي قلقانة عليها ووحشاكي كده.. ليه مش راضية تزوريها؟
نكست رأسها بحزن وخبئت عيناها الدابلة وتظاهرت بتفريط حبات البازلاء! فدنى من جلستها وواصل:
لحد امتى هتفضلوا بتعاقبونا أنا وهي يا مرات عمي؟ كام شهر واحنا لوحدنا..مش كفاية عقاب؟ في النهاية جنة كانت مراتي وخلاص بقيت في بيتي وقريب أوي ربنا هيجبرنا بأول طفل وانتم بعيد عننا..
وواصل بنبرة مغموسة برجاءه:
بنتك محتجالك.. جنة نفسيتها تعبانة اوي لأنكم مش بتكلموها.. سامحونا وارجعوا اسألوا علينا.. إن كنا غلطنا، دفعنا التمن..بعدكم.. والديون اللي بدأت بيها حياتي.. والضغط والهم اللي شلته والخوف اني مقدرش اتكفل ببيت وزوجة وعيال.. وحاجات كتير أوي ضاعت مننا ..حتى يوم فرحنا كان كئيب وكل واحد نام وهو مدي ضهره للتاني..!
واقترب إليها وهو يرى انهيار عبراتها تزحف مغرقة ثنايا وجهها والحنين ينضح من مقلتيها المترقرقة:
كلمي عمي يسامحنا وأنا كمان هستسمحه وعارف إن مش هنهون عليه يفضل مقاطعنا.. وانا وجنة مالناش بركة غيركم!
مررت طرف كم جلبابها وجففت دموعها، وشوقها لابنتها يخمد داخلها كل عناد وغضب ففهتفت :
عمك لسه زعلان.. وانا كلمته كذا مرة ومش راضي يلين، بس انا مش هسكت لحد ما يرضى ويسمحلي ازورها وهو كمان يزورها معايا..!
استنار وجهه بأمل:
ربنا مايحرمني منك ياست الكل، كنت عارف مش هتكسفيني! وانا مستني اللحظة دي بفارغ الصبر
ثم تنهد وهو يغمغم بخفوت: فاضل امي اراضيها هي كمان! وربنا يهديها..!
______________________
_ أنا عايزة اشوف اخويا ناصر يامه!
تجرعت ماء جوفها وعيناها ترمش بحنين:
روحي زوريه ياشهد.. محدش منعك!
_ عايزة اروح معاكي.. ليه مخاصمة اخويا؟
شعورها انه فضل زوجته عليها ولم يلبي رغبتها أورثها حنقًا وغصبًا منه..وحقدًا وغيرة لا تنكرها منها..! لم تكن خطبتهما برضاها.. كانت تتمنى له فتاة أخرى، ربما لكرهها القديم لوالدتها.. لكن إصرار ناصر على ابنة العم جعلها ترضخ على مضض، وظل بقلبها ذاك الرفض، وحين ظنت ان الفرصة سمحت لتلفظها من حياته، جابهها ناصر بقوة متمسكًا بها ولم يبالي بغضبها.. نعم تشتاقه حد الوجع.. لكن لن تذهب إليه!
_ ناصر أخويا؟!!!!!
حركت رأسها سريعا فور سماع اسمه لتجده يشرف بقامته المديدة عند باب منزلهم واقفًا يطالعها مبتسمًا..! كادت ان تهرول إليه وتغمسه بأحضانها وتنثر ألاف القبلات المشتاقة على وجهه، لكنها عزفت وتظاهرت بصعوبه شديدة أنها لا تهتم.. لكن هيهات أن تخفى مشاعرها التي تجلت بقوة عن ناصر الذي تلقفتها عيناه بشوق مماثل، مقتربًا منها ومازال محتفظًا بابتسامته:
_ أيه يامه! مش هترحبي بأبنك؟ ماوحشتكيش يا ام ناصر؟ مابقيتيش تحبيني؟
تحاول استجلاب قوة جبارة كي تحارب ألا تضمه.. فجثى أمامها ونظراته يشوبها توسل لها أن تلين:
_ عارف يامه انك زعلانة مني.. وفاهم فاكراني فضلت مراتي عليكي.. بس ده مش صح.. ربنا عالم انا كنت في إيه.. أنا في دوامة يامه من يوم جوازي، بشتغل شغلتين عشان اسدد ديوني واقدر اتكفل بولادة جنة وبمصاريف ابننا.. انا تقريبا بنام 3 ساعات في اليوم.. وماشبعش نوم إلا في أجازتي..! مافيش حاجة في الدنيا ليها طعم وانتي غضبانة عليه!
نغزها قلبها لحاله لكنها ظلت على صمتها مزيحة عينيها باتجاه أخر بعيدا عنه ولكن قلبها يحوط قسماته ويتشربها، فواصل:
الظلم وحش يا امي.. انتي كنتي عايزاني اسيب جنة بعد ما خطبتها وكتبت كتابها.. طب ترضيها على حد من بناتك؟ ترضيها؟ ذنبها إيه اسيبها وانا اصلا بحبها من زمان وماصدقت اخدها.. ليه ماتحاوليش تحبيها عشان ترضيني.. مش لما ابقى انا مرتاح انتي هتبقى مبسوطة؟ جنة بنت حلال وغلبانة ومتحملاني ومابتشتكيش من ظروفي، تستحق منك تقدريها.. ثم التقط كفها المرتجف ولثمهما وهو يردد: سامحيني ياغالية لو زعلتك ارضي عني انا ماليش بركة غيرك انتي وابويا.. تعالي زوريني في بيتي وفرحيني بدخلتك عليا انا ومراتي واجبروا بخاطرنا..حفيدك جاي في الطريق وانتم مش معانا..والله لولا جنة بقيت تعبانة وحملها صعب اوي كنت جبتهالك تبوس أيدك بس الدكتورة قالتلها ترتاح
لم تعد تراه من سحابة دموعها، فنهض وضم رأسها على صدره وراح يقبلها وهو يعتذر ويسترضيها وهي تبكي بعد أن اطلقت عنان مشاعرها من عُقالها وراحت تضمه هي الأخرى بلهفة وهي تتفحص هزلانه وتزدعد بكاءً..ثم انضم أشقائه اليهم محاوطين جسده بأذرعهم الصغيرة، كما ضم هو نوال لتتقاسم صدره مع والدته، ولم يمض الكثير إلا وأتى والده ورحب به معانقًا بسعادة.. واسترسلوا بالأحاديث وانتهى الوقت سريعا وغادرهم بعد حصوله على وعد بزيارة قريبة من الجميع لمنزله!
_______________________
آلامها في تصاعد.. أصبحت لا تقوى على المجهود مع ثقل بطنها وقرب ولادتها.. لكن لابد لها أن تحضر الغداء لزوجها ناصر قبل عودته التي حانت..!
وصل لسمعها صوت مزلاج باب شقتها وهو يفتح، فالتفت تتسائل بخفوت: معقول ناصر جه بدري؟ ده انا لسه ماطبختش حاجة!
وجدته يدلف إليها بابتسامة بشوشة وهو يتمتم بتحيه: السلام عليكم ياجنتي”
اتسعت ابتسامتها: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. خير ياناصر جاي بدري عن معادك ليه؟
هتفت بعتاب مازح: بلاش اجي؟ أمشي طيب؟
اقتربت مبتسمة: لا طبعا مش قصدي.. انا بس لسه معملتش غدى وانت أكيد جعان! بس ولا يهمك انا هعمله بسرعة و……… .
قاطعها: ماتعمليش حاجة..!
وواصل بمشاكسة وهو يشملها بنظرة عابسة وقميصها يعكس إغراء لا يقاوم : وغيري هدومك المغرية دي والبسي حاجة تانية عشان في ضيوف جايين!
ابتسمت بدلال: مغرية ببطني دي كلها؟! ماشي يا اسطى هصدقك، بس قولي ضيوف مين اللي جايين يزورنا يا ناصر؟
_ دقايق وهتعرفي يا قلب الاسطى!
…………… ..
ابدلت ثيابها بأخرى تناسب استقبال من أخبرها ناصر عنهم، وتعجبت لما لم يتركها لتعد شيئًا گ ضيافة لهم
وبعد قليل صدح رنين الباب فأمرها أن تفتح للزائر بنفسها، فازدادت تعجبًا لكن أطاعته، وما أن فعلت حتى تسمرت مكانها بعين جاحظة مذهولة وهي ترى والديها وأشقائها الصغار وبالجوار والدي زوجها وأشقاء ناصر.. جميعهم واقفون يطالعوها.. ولكن اختلفت النظرات.. والدتها تبكي ووالدها تلمع عيناه بحنين يحاول تحجيمه والسيطرة عليه، بينما أشقائها يبتسمون لمرآها.. أما والدة زوجها فنظرتها لم تكن ودودوة.. وكأنها تنفذ مهمة ليس أكثر.. بينما يطالعها والد ناصر بابتسامة راضية وهو يتمتم: إيه يا مرات أبني.. هنفضل واقفين برة كتير!
وكأنها فقدت النطق والعبرات تسيل على وجنتيها بغزارة.. فاقترب ناصر واحاطها بذراعه قائلا:
معلش يابا أصلها متفاجئة.. اتفضلوا عشان بيتنا يتبارك بيكم.. واستجابو لدعوته وكلًا منهم يسلم ويعانق تلك المآخوذة وهي لا تصدق بعد وجودهم على أعتاب بابها.. وما ان عبرت والدتها حتى تلقفتها بين ذراعيها باكية.. وهنا انهارت جنة تبكي بصدر والدتها التي راحت تهدهدها وتخبرها كم اشتاقت لها طوال المدة الفائتة..!
………………
تنحت بها داخل غرفتها ثم احتصنتها وهي تحاكيها بحنان ادخرته طيلة أيام فراقها: طمنيني يابنتي جوزك عامل ايه معاكي؟ بيعاملك كويس ياجنة.. قالك كلمة تزعلك واحنا بعيد؟
راحت تتلمس برأسها گ القطة أحضان والدتها مجيبة:
كويس يامه.. مزعلنيش ابدا.. مكانش معكر عيشتنا غير زعلكم ومقاطعتكم لينا..! قوليلي يامه، أبويا لسه غضبان عليه؟
_ أبوكي قلبه طيب يا جنة، أوعي تكوني فاكرة كان مبسوط..ده انا كام مرة اشوفه بيبص على سريرك وهدومك بشوق بس كان بيداري.. اطمني ياضنايا.. راضي عنك وانا كمان راضية يانور عيني!
هناك كلمات تساوي بأثرها قطرات المطر التي تسقط على جسدا تيبس من جفافه، فارتوى بتلك القطرات.. هكذا شعرت جنة التي بضمة والدها لها فيما بعد ازدادت ارتواء وشبع لن تظمأ بعده ثانيًا..!
____________________
أوصى ناصر مسبقًا على وليمة غداء متواضعة للعائلاتين.. واصطبغ يومهما بدفء عائلي كم كانوا يحتاجونه.. وزوجته التي استنار وجهها بشدة مبتسمة وتضحك مع أشقائها وتنعم بحنان والديها.. كما حاولت استرضاء والدته بالاهتمام الشديد بها هي وأبيه..!
غادروا جميعهم بعد وعود بزيارات أخرى لهما..وبمجرد اختلاء البيت من الجميع ارتمت جنة بأحضان زوجها تبكي سعادة تختلط بامتنانها لما فعل لأجلها.. كانت تلك مفاجأته التي وعد بها.. ظلت تدعوا له إلى أن غلبها النوم بين أحضانه، فدثرها جيدا وغفى وهو يطالعها براحة.. أخيرا استعادوا راحة البال والفرحة بعودة الوصال مرة أخرى مع من يحبون!
___________________
يوم ولادة جنة!
استفحل الألم ولم تغفو جنة طيلة ليلتها وهي تئن داخلها حتى لا توقظ زوجها.. ولكن لم يعد الوجع محتمل، وبدون مقدمات أطلقت صرخة أفزعت ناصر من نومه وجعلته يهرول متصلًا بوالدتها.. فعلى مايبدو آن الآوان لولادة طفله الأول!
……………… ..
_ النونو شبهي!
طالعت جنة شقيقتها نجلاء وهي راقدة على فراش المشفى هاتفة مبتسمة بوهن: بجد.. يبقي اكيد شكله حلو!
هتفت والدتها التي تحتضن بعيناها حفيدها الصغير:
لا ده كله أبوه “ناصر”.!
ابتسم الأخير وداعبها: أنا أساسا مش شايفه له ملامح لسه ياحماتي.. هيبان بعدين!
رحيم بسعادة لقدوم حفيده: مش مهم شبه مين.. المهم ان صحته حلوة وبخير.. ربنا يبارك لكم فيه يابني ويتربى في عزكم!
_ الله يبارك فيك ياعمي.. ومايحرمناش منك
تسائلت والدة زوجته:
أمال فين أهلك ياناصر مجوش ليه؟
_ على وصول.. انا بصراحة مقدرتش اكلم حد غير اما اطمن على جنة، كلمتك انتي بس عشان تساعديها..!
وصل أبيه ووالدته عابرين للغرفة بلهفة:
_جنة ولدت؟
تسائل أبيه، فأجابه ناصر: أيوة يابا الحمد لله.. تعالي شوف ابني اهو!
تقدم وتبعته والدة ناصر بذات اللهفة. وما أن رآو حفيدهم الأول حتى زرفت دموعهم دون إرادة وهما يسمعون همسات الصغير وهو يأكل أصابعه الصغيرة وكأنه جائع، فهتفت ام جنة: الواد جعان ياجنة رضعيه يابنتي! ثم نظرت لأم ناصر وهتفت بمبادرة: شيلي حفيدك يا ام ناصر وحطيه في حجر مرات ابنك.. وقوليلها مبروك ياختي!
لم تحيد عين ” نادرة” عن الصغير وكأنها مسحورة، ثم حملته برفق شديد وكأنه ماسة ثمينة، وأرقدته بحجر جنة التي اعتدلت بنصف جلسة بمساعدة زوجها..ثم التقط كف والدة ناصر ولثمتها وهي تقول:
ربنا مايحرمنا منك يامه ويرزقنا رضاكي وتعيشي وتربيه معانا..! وحياة ابني اللي لسه عمره دقايق لترضي عني وتفتحيلي قلبك.. أنا بحبك عشان انتي أم اغلي انسان عندي.. وان كنت غلطت انا صغيرة وانتي كبيرتنا وقلبك ابيض!
منحها ناصر نظرة مفعمة بفخره بها ورضاه عن تصرفها الذي فاجأه حقًا.. كما ترقرقت عين والدتها وتأثر والد زوجها وأبيها باعتذارها المهذب..!
أما نادرة لم تتوقع منها تلك السماحة والذكاء اللذي لن تنكر أنه أرضى دواخلها، واستطاعت بتلك الكلمات إزالة الكثير من الحواجز تجاهها..!
_ وامي كبيرة وطول عمرها مابتردش حد وجدعة..ومش هتزعلنا في يوم زي ده، صح يامه؟
نظرت لناصر الذي استجداها بحديثه وهتفت بحنان لم تقوى على مواراته: ربنا يرضى عليك انت ومراتك يا ابني ويجعلوا ذرية صالحة وسند ليكم!
ثم احتضنت جنة التي بكت على صدرها، فنكزتها الأخيرة التي تقاوم عبراتها هي الأخرى: بطلي عياط يابت حفيدي هيرضع منك نكد واحنا مش ناقصين!
ضحكت جنة من وسط بكائها، فواصلت نادرة: ناويين تسموه إيه؟
تبادل ناصر النظرات مع زوجته.. ثم اقترب من والدته وقبل جبينها وهتف: هنسميه “نادر” على أسمك يا ” نادرة”..!
حدقت بوجهه غير مصدقة ومتأثرة بلك اللفتة التي أسعدتها بشدة وأكسبتهم رضاها الكامل وتملكتها فرحة جمة وهي تغمغم: بجد؟!
ابتسمت جنة: أيوة يامه.. عشان دايما نادر هيكون في حضن نادرة جدته وحبيبته وحبيبتنا كلنا..!
ناصر بزهو: لعلمك.. دي فكرة جنة مراتي انها تسمي أبننا على اسمك!
لم تصدق ابدا أن تكون زوجة ولدها بتلك الطيبة.. ربما ظلمتها كثيرا بجفائها معها وعداوتها دون مبرر.. ومن الآن فصاعد ستغدو جنة گ ابنتها وأكثر.. ستمحو أي شعور سيء تجاهها وتبدأ صفحة جديدة لا تحوى سوى المحبة بينهما..!
وبعد أسبوعان من ولادة جنة.. أقاما “عقيقة” احتفالًا بقدوم صغيرهما الذي أتى بكل الخير والفرج لوالديه.. فما ان علم صاحب العمل ان ناصر حظى بمولود جديد حتى أعطاه مكافأة مالية سخية گ هدية للصغير.. كما أنقده العم رحيم مبلغ غير هين من المال بعد ان ادخره من جمعياته وأخبره انه حق زوجته وباقي جهاز زواجها وهي حرة تبتاع به مايلزم منزلها.. وبالفعل فرحت جنة واشترت أشياء ضرورية لشقتها .. كما أغدق الجميع بالهدايا والملابس للصغير الذي غير بقدومه نفوس الجميع.. وأزال الضغائن وزرع الحب والمودة بينهم!
___________________
تمت بحمد الله!