
الفصل الأول.
(دكتور عما تفرج!)
انطلقت اذاعة القرآن الكريم بالراديو الخاص بالمكتبة الضخمة التي تنحاز على طرفي شوارع الحارة الشعبية، ومن جوارها كان زيت (الفلافل) يبقبق بصوتٍ يبدو للبطون الجائعة شهي للغاية، ومن بين المارة تجد من يحمل الخبز واللبن، وغيرهم ممن يجلسون على القهوة التي يقتصر مشروبها على الشاي الساخن رغم اسمها (المودرن)، وهناك بالطابق الأراضي سيدة مسنة تستند على سور شرفتها القصير، لتفرد الملابس بعد أن أزالت اتساخها، تظنها ضعيفة لا تقوى على خدمة ذاتها وخير ما تمتلكه خدمة نفسها دون الحاجة لمساعدة أحدًا، الشارع يملأه ضجيج لعب الأطفال وضحكاتهم الطفولية، البيوت متراصة باتحاد بنايتها، وكل منزل يحمل قصة لا تخص سواه، ومن بينهم منزل الحاج فتح الله المنحدر على طرف الطريق الرئيسي، وكان منزله مشهور بامتلاك بوابة ضخمة مثيرة للاهتمام، عاد صاحبه إليه فدفع بابه رجل مسن في أواخر الستين من عمره، ووضع عكازه جانبًا، ثم وضع (الفلافل) والخبز الساخن على الطاولة واتجه للغرفة الجانبية، فاغتاظ من الظلام الحالك الذي يضربها، تغاضى عن سماعه لصوت ذاك الذي يغفو فيصدر صوتًا مزعجًا، واتجه للنافذة، حررها على أخرها ليغمر الغرفة ضوءٍ كان مكروه لمن ابتعد عن سكنته، وكأنه ينحدر لكائنات أكلة لحوم البشر التي تخشى الضوء القاتل لها، فردد بتكاسلٍ وهو يحرك جسده الرفيع المتناسق مع طوله:
_أيه يا جدو.. مش هتفكك من الخصلة دي، اعتبرني ساكن جديد يا عم وسبني نايم.
لوى العجوز فمه بازدراء، وردد ساخطًا:
_مهو أنا لو مربي معزة كانت نفعتني عنك يا عديم المنفعة والرباية.. أنا غلطان اني مودتكش أي ملجأ ولا دار أيتام كانوا ربوك أحسن من كده.
جذب “مؤمن” الوسادة وضمها اليه بحرمان، وأخذ يلوح له بضجرٍ:
_حفظنا الاسطوانة الحامضة دي.. فكك مني بقا يا جدي .
وببسمة واسعة قال:
_حاج فتح الله.. هو أنا مش عملتلك جرس تحت هنا عشان كل ما تلاقي نفسك زهقان ترن على عمي وولاده.
هز الجد رأسه ردًا على سؤاله الغريب، فقال بفرحةٍ بعدما أصاب هدفه:
_حلو.. روح صحي عم أحمد عنده شغل كتير.. وبالمرة شوف يونس كل يوم يروح البنك متأخر المدير هيطرده لكن أنا شخص عاطل موريش شيء غير النوم يرضيك نبقى احنا الاتنين مطرودين!
استشاط الجد غضبًا، وخاصة حينما دفعه هذا الأحمق لتذكر ما فعله، فقال:
_أنت مالك فخور أوي كده إنك اتطردت.. خيبتي عليك وعلى فلوس معاشي اللي ادتهلك تفتح بيه مشروعك اللي خرب بيتنا ده.
برق بعينيه البنية وهو يردد بدهشةٍ:
_مشروع الفراخ فاشل! ده من أنجح المشاريع انتوا بس اللي مسمعتوش كلامي وقللتوا جرعة الدوا اللي حطتوها للكتاكيت في المية.
ردد الجد بصدمةٍ:
_ياريتنا كنا حطنالك الجرعة دي في الأكل وخلصنا منك يا شيخ، على الأقل لما تتنفخ زيهم كنت ترحمهم وتعرف تشخص الحالة صح، لو كنت ادتهم الجرعة كاملة زي ما قولت كان زمانهم انفجروا مش اتنفخوا!
استنكر نظريته، وعاتبه بشهادته العليا:
_لا الدوا ده مفيد للدواجن أنا دكتور بيطري وفاهم أكتر منك! ، ولو حضرتك بتلقح عليا اكمني يعني صاحب المزرعة طردني فده لاني حذرته وقولتله الجاموسة دي مينفعش تبيعها لتاجر يبعها لحم، مسمعش كلامي فقولت للتأجر على الدور اللي عندها ادله علقة سخنة لما معرفش يرجعله الفلوس اللي اخدها أنا ذنبي أيه يرضيك يا فتحالله الناس تأكل لحمة فاسدة! هروح فين من ربنا، ولا لما القيها لابسالي جلابية بيضة وبتجري ورايا في الحلم هو أنا ناقص! كفايا أنت عليا.
جلس الجد على المقعد وأشار له بنفاذ صبر:
_مقولناش حاجة يا سيدي، بس نحل الموضوع بالعقل.. مش نخلي الراجل يستعوض الله في ماله وعمره اللي هيقضيه بالسجن!!
هرع “مؤمن” خلفه، وجذب المقعد ليقربه منه، وقال ببسمة مصطنعة:
_بص يا جدو أنت عندك حق، أنا فعلا اخترت المشروع الفاشل، بس اوعدك ان المرة الجاية هختار صح.
كاد بأن يصيب بذبحة صدرية، فأشار له بصدمةٍ:
_هو لسه في مرة تانية!
هز رأسه بتأكيدٍ وهو يخبره بما يخطط لفعله:
_أنا عايز الفلوس اللي سبهالي بابا وماما الله يرحمهم، هشغلها والمرادي أنا متفائل المشروع هينجح.
وضع الجد يده على موضع قلبه، وبصعوبة بالغة قال:
_عايز تكسر الوديعة وتضيع شقا أبوك.. ولما أروحله هقوله أيه ابنك محفظش على مالي جازفت واديته شقا عمرك!
رفع احد حاجبيه بضيقٍ اتبع نبرته المشككة لحديثه:
_هو مش سايبلي الفلوس دي وأنت قولت هتدهاني!
هز رأسه بتأكيدٍ:
_حصل بس لما تلاقي بنت الحلال هديلك ورثك كله تجهز بيه شقتك وتعمل اللي أنت عايزه.
رفع اصبعه على ذقنه وهو يفكر في حل منطقي لحل تلك المعضلة، فهمس لنفسه قائلًا:
_هحلها ازاي دي.. أنا ضامن القى واحدة مناسبة ليا في الزمن ده…افرض بطختي طلعت قرعة!
*****
بالطابق العلوي.
كان يغفو بغرفته بعمقٍ بعد قضاء ليله بالدراسة لشقيقته قبل موعد اختبارها، فقلق منامته صوت طرق باب الغرفة الصاخب، فتح عينيه الزيتونية بتكاسلٍ، وهو يردد بصوته الرجولي الهادئ:
_أيوه!
اتاه صوتها يخبره:
_أنا مسك يا يونس.. عايزة أسالك عن حاجه قبل ما انزل الجامعة.. أدخل؟
أبعد عنه الغطاء، ثم انحنى يجذب التيشرت الخاص به، ارتداه وهو يخبرها بصوتٍ ناعس:
_ادخلي يا حبيبتي.
فتحت باب الغرفة، واتجهت اليه بابتسامتها الرقيقة، فقالت بصوتها الرقيق الناعم:
_صباح الخير يا يونس.
رفع يده يداعب خدها وهو يجيبها بحنان:
_صباح الورد يا مسك.. لسه منزلتيش الجامعة!
هزت رأسها وهي تجيبه:
_لبست وبستنى البنات يعدوا عليا، بس قولت ادخل لاخويا الكبير العسل يديني مصروف زيادة بما إنه اتوظف في بنك كبير محترم، هيقدر ان المصروف اللي بابا بيدهوني مبقاش ينفع بالزمن ده ولا أيه؟
تعالت ضحكاته الرجولية، وهو يستمع اليها بمكرٍ، فاستقام بوقفته ودنى من خزانته الخاصة، سحب “يونس” مبلغ من المال ثم قدمه لها وهو يخبرها بمشاكسةٍ:
_هيكفي لو بطلتي تخلصي مصروفك على الميكب أب والحاجات الغريبة اللي بتشتريها.. قولتلك الف مرة شكلك أحلى من غير المكياج والقرف ده بس هنقول أيه تفاهة بنات.
تجهمت تعابير وجهها، فاغدفت عن نقاء بشرتها الحنطية، فازداد ضحك، التقطت “مسك” المال منه ثم قالت بحتقٍ:
_خف شوية لسه هنزل تحت لمحاضرات جدي، ورزالة ابن عمك الغتت
لذكرها المشاكسات التي مازالت تجمعها بمؤمن الشبيهة بمغامرات القط والفأر جعلته يبتسم، فأشار لها وهو يلتقط المنشفة ومعجون أسنانه الخاص:
_انزلي بدون مشاكل مع مؤمن يا مسك، مش ناقص حوار من بابا على الصبح بسبب خناقكم ده.
عدلت من طرف حجابها الطويل أمام المرآة وهي تجيبه بضجرٍ:
_أنا في حالي دايمًا هو اللي لسانه طويل وبيتخانق مع دبان وشه.
ارتفعت صيحات الفتيات من أسفل نافذة المنزل، فاسرعت للخروج وهي تلوح له:
_همشي انا عشان متأخرش.
حملت “مسك” حقيبتها، وجذبت كتبها الموضوعة على الطاولة وحملت حذائها على يدها ثم ركضت للاسفل، وهي تحاول ارتدائه، وصلت للطابق السفلي، فاستندت على باب شقة جدها لترفع الحذاء لقدميها في نفس لحظة فتح “مؤمن” الباب، لتندفع الأخيرة من حوله حتى كادت بالسقوط أرضًا، انكمشت تعابير وجهها غضبًا، فاستقامت بوقفتها لتشير له بعصبيةٍ:
_أنت مبتفهمش!
ضيق عينيه بسخريةٍ، فقال وهو يشملها بنظرةٍ خاطفة:
_كنت بنجم عشان أعرف ان سيادتك ساندة على باب بيتي!
وانخفض ببصره تجاه حذائها الغير مرتب، ثم قال:
_ثم إنك مبتلبسيش جزمتك من فوق ليه، الكام دقيقة اللي هتربطي فيهم رباط الجزمة هيعطلوا وزارة التربية والتعليم في حاجة!
جزت على أسنانها بغيظٍ، واستعدت لمعركتها اليومية مع هذا القط السليط، فصاحت بانفعالٍ:
_اما انت انسان متدني ومعندكش ذوق، ده بدل ما تعتذر بتديني محاضرة وأنا متاخرة على الامتحان وعايزة اعدي السنة الاخيرة دي على خير!
ضحك بصوت استفزها، وخاصة حينما ردد بتسلية وهو يلتهم الفلافل الساخنة:
_دي أمنيتك أنا عارف، تخلصي الدراسة وتتجوزي فتى الاحلام اللي يسافرك أمريكا زي ما بتحلمي!
عند ذكره لحلمها الثمين، خرجت عن طور هدوئها، فصاحت به وهي تحذره باشارة اصبعها:
_إياك يا مؤمن، لحد هنا ولو اتكلمت مش هيحصلك كويس.. وبعدين انت مالك أنا حرة إن شالله احلم أروح شيكاغو انت هتتحكم في دي كمان!
هز رأسه مؤكدًا:
_طبعًا، لما تروحي أمريكا مع سعيد الحظ هقعد أنا وأخوكي هنا نهبب أيه، يدينا التأشيرة واحنا نروح نشتغل هناك ان شالله حتى نقف على عربية كبدة مدام الطب معتش بيأكل عيش.
وضعت يدها بمنتصف خصرها وهي تجيبه باندفاع:
_وما تسافرش انت ليه، ما أنت على قلبك فلوس ورث أد كده.. تخليك تسافر اسبانيا لو حابب.
تجعد وجهه وهو يدعي الحزن الذي لحق نبرته الساخطة:
_هما فين دول… أطولهم بس وأنا هعمل العجب.
قاطع حديثهما يونس الذي هبط من خلفها يعقد جرفاته، فقال بتريثٍ:
_ابتدينا.. احنا لسه على الصبح!!
أسرعت بتقديم شكواها قبل أن يسبقها:
_هو اللي بدأ.. أنا اتاخرت بسببه.
اتجهت نظراته الصارمة تجاه مؤمن الذي قابلها بالحنق، وراح يخبره:
_اختك دي عندها قدرة عالية إنها تقفل يوم أي حد.
واتجه للأريكة، فجلس وهو يردد بملل:
_أهو… مش خارج يارب تكوني انبسطتي!
خرج الجد من مطبخ المنزل يجفف يده المبتلة بالمنشفة، ليصيح به:
_انت لسه هنا!!
انتصب بوقفته سريعًا، وهرع للأسفل وهو يشير ليونس بعدم فضح أمره، فتعالت ضحكاته وقال هو يشير لمسك:
_تعالي انا هوصلكم بعربيتي.
لحقت به وهي تردد بتوتر:
_بسرعة قبل ما اللجنة تبدأ.
*******
سئم البحث عن عمل كعادة كل يومٍ يقضيه بالبحث، كونه طبيب يأهل له سرعة الحصول على عمل هكذا المنطق الذي لا ينطبق بالأونة الأخيرة، عاد مؤمن للمنزل، ليجد زوجة عمه بالأسفل تملأ المائدة بأطيب أنواع الطعام، وما أن لمحته حتى أشارت له ببسمة هادئة:
_اقعد يلا يا حبيبي.
واتجهت للدرج الجانبي، ثم ضغطت على الجرس فهبط يونس وأبيه للأسفل، بينما خرجت مسك من المطبخ حاملة عصير البرتقال الطازج، سكبته بالأكواب وجلست بمقعدها، اجتمع الجميع على المائدة بعد انضمام الجد إليهم، والصمت يغمرهم كالستار المبجل، إلى أن حطمه الجد حينما سأل ابنه:
_والعريس اللي جاي يشوف مسك بنتك هيجي أمته يا أحمد؟
فور سماعها لتلك الجملة اللازعة كالليمون بالنسبة لها سعلت بقوةٍ كادت باسقاط الشوربة عن فمها، فناولها يونس منديل ورقي وهو يكتم ضحكة كادت بالانفلات منه، وخاصة حينما أجاب أبيه:
_العريس جاي لوحده بكره بليل يا حاج.. وبعد كده هيجي هو وأهله لو حصل نصيب.
وأضاف وهو يتطلع تجاه زوجته وابنته:
_شاب محترم وابن حلال، وملوش في عك الشباب بتوع اليومين دول.
التهم مؤمن قطعة الدجاج، فلاحظ ان لونها داكن بعض الشيء، فرفع جزء منها للأعلى وهو يتساءل بشكٍ:
_اوعى يكون اللي في دماغي صح!
اتكمشت ملامح عمه بيأس من مقاطعته المعتاده لأي موضوع هام مطروح بين أفراد عائلته، فرد عليه يونس باستهزاءٍ:
_دبحنالك جوز فراخ من اللي أنت كنت أويهم على السطوح، متخافش دي فراخ تصدير محلي وكله مثبت بالأوراق!
مسح لسانه بالمنديل الورقي ليزيح المتبقى من الطعام، وقال بغضب:
_غير صالحة للاستعمال الادمي يا بني آدم، عايز تموتني عشان تورث اللي مش عارف أورثه!
حرك الجد اصابعه على السبحة وهو يردد بصوتٍ مسموع:
_لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم… توب علينا يا رب!
القى مؤمن المنشفة ونهض وهو يصيح باندفاع:
_بتحفل عليا يا فتحالله، بقي دي اخرتها سايب ابن ابنك الكبير يتريق عليا، ومرات ابنك قفشالي فرختين طالعين من السونا!
فشلت فاطمه بالسيطرة على ضحكاتها، ورددت قائلة:
_والله أبدًا دي حتى فراخ بلدي تربيتي مش بيضة زي اللي أنت كنت جايبها!
جلس محله مجددًا واستكمل طعامه بنهمٍ، فقال بحرجٍ حينما لاحظ نظراتهم المندهشة إليه:
_مدام حمرة نأكل بنفس.
منحته مسك نظرة محتقنة كالشرارة، وتساءلت بسخطٍ:
_أنت ازاي دكتور بيطري ومش قادر تفرق بين الفراخ البيضة والبلدي!
رسم ابتسامة كادت بالوصول لأذنيه وهو يجيبها:
_أنا من الدفعة بتاعت التابلت مطبقناش اللي واخدينه عملي.. وبعدين جدك اللي مصمم يخليني دكتور بالعافية، مفيش قسم رضى بيا الا الحيوانات!
همس الجد بحنقٍ:
_الحيوان غلبان مبيعرفش يستنجد من الطور اللي بيعالجه!
وأشار الجد ليونس قائلًا:
_قوم يا ابني عشان نلحق الصلاة، وأبقى هات ابن عمك في ايدك ليدخل ينام للفجر زي كل يوم!
وتركهم وغادر، فلحق يونس ومؤمن به لقضاء الصلاة الجماعية بالمسجد، وحين عودتهما اتجه كلا منهما لغرفته، والتفكير مازال يقتص من عقل مؤمن حول تنفيذ مشروعه الخاص لعدم حصوله على العمل المناسب، لا يعلم بأنه يأجج فتيل الخيط الذي سيعد بمثابة طاقة خفية ربما تكون قدرًا من ذهبٍ أو باب من أبواب جهنم!
………… يتبع………الفصل الثاني..
(فن إختيار العروس!..)
كعادة الأم المصرية باستقبال عريس قادم لرؤية ابنتها، قامت فاطمة وابنتها مسك بتنظيف المنزل جيدًا استعدادًا للضيف الهام، فقضوا يومهما الطويل بتنظيف غرفة الضيافة والمنزل بعناية، وبالمساء عاد يونس من الخارج بعلبٍ الحلوى الباهظة، وزجاجات المياه الغازية، وغيرها من التسالي، فولج للمطبخ ثم وضع ما بيده على الطاولة المستديرة المتوسطة للمطبخ الصغير، وقال بلطفٍ وهو يمنح والدته بسمة صغيرة:
_الطلبات أهي يا ست الكل شوفيها لو ناقصة حاجة مؤمن بره هبعته يجيبها.
انتهت من صنع أطباق حلوى (المهلبية)، ثم جففت يدها بالمنشفة الصغيرة، ودنت منه لتتفحص ما أحضره ابنها، وبحنان زائد ربتت على كتفيه العريض وهي تخبره بابتسامةٍ مشرقة:
_مش ناقص حاجة يا حبيبي.
هز رأسه وهو يردد:
_طب الحمد لله.. هخرج أقعد مع مؤمن لحد ما الناس توصل.
أوقفته وهي تشير للشعلة الصغيرة:
_خد قهوته وأنت خارج.. كنت محضرهاله.
اتجه يونس اليها، فسكبها بفنجان صغير، ثم خرج بها لمؤمن، فوجده يلهو بڤازة الورد الصغيرة، حتى مزق ورقاتها وألقاها بعشوائيةٍ، برق بعينيه وهو يلتفت خلفه ليتأكد من انشغال والدته بالداخل، فهرع اليه، وضع الكوب عن يده وهو يصيح بصدمةٍ:
_يخربيتك بتعمل أيه؟
أجابه بضجرٍ وهو يلاقي أخر ورقة بالورد البلاستيكي:
_بشوف حظي زي اللي بيشوفوا وكالعادة طلع منيل بنيلة!
انحنى يونس بجسده الممشق الممتد صدره وذراعيه بالعضلات الغير مبالغ بها لهوسه بالذهاب للجيم التابع لاحد أصدقائه، على عكس مؤمن كان يملك جسد طبيعي للغاية ولكنه لم يكن بالسمين، حمل يونس الاوراق من الأرض سريعًا واتجه بها لسلة المهملات، كاد بألقاها ثم عاد بها وهو يردد بصوتٍ كان مسموع لمن يتابعه بحيرةٍ من استكشاف امره:
_أوديهم فين دلوقتي.. منك لله مسك لو شافتهم هتعلقك مكان النجفة دي بتاعت جهازها بتطلعها للغالين وبعد كده بترجعها في الشنط تاني.
ذم شفتيه ساخطًا:
_خليها تلم العدة وتفردها كل ما عريس يجيلها… أهو تجدد وتشتري الحديث لان مفيش عريس هيسلك معاها بشرطها الخايب ده.
واسترسل بمنطق ظنه مفهوم لمن يحدق به:
_هي الناس لاقية تأكل عشان يسافروها أمريكا! حلمها غريب أوي بصراحة، البنات بتحلم ببوكيه ورد، علبة شوكولاتة غالية ودي طالعه السما.
جذبه يونس من تلباب قميصه الأبيض، فجحظت عين مؤمن الذي تخشب جسده بين يد ابن عمه، وردد برجاءٍ:
_القميص مكوي عند عمي اسماعيل ب١٥ج، ايدك بعيد عن القميص لانادي على فتحالله يطلعلك من تحت بالشومة!
وضع يونس الورقات بجيب قميصه العلوي، ونسقها لتبدو ظاهرة لمن تقف قبالته، ابتسامته الماكرة منحت مؤمن نبذة مختصرة عما يود فعله، فلف جسده تجاه من تفتح بابها وتستعد للخروج، جحظت عينيها البنية في صدمةٍ، وهي توزع نظراتها بينه تارة وبين الڤازة المنتزع فروعها، فاقتربت منه وهي تردد من بين اصطكاك أسنانها:
_أنت اللي عملت كده في الڤازة؟
هز رأسه يسارًا ويمينًا، فاتسعت حدقتيها بشكٍ جعله يعود لهزها للأسفل، فضربت مقدمة المقعد الفاصل بينهما وهي تصيح بجنون:
_ليلتك سودة يا مؤمن ده أنا شاريها من العباسي ب١٣٠ج، قسمًا بالله ما أنت نازل من هنا الا لما تدفعهم.
تحرر لسانه الثقيل عن طلتها التي اكتسبت اعجابه، فستانها الزهري الطويل، وحجابها الأبيض الذي تدلى من خلفها بنعومةٍ، وجهها الذي يحتفظ بالقليل من ادوات التجميل، رموشها الطويلة التي زادتهم هي طولًا فبرزت جمال لون عينيها الشبية للون الهرة، ريثما هي القطة البيضاء التي تمتلك عينين أجمل من كل ما رأهما في رحلة تصنيفهما بلقب القط والفأر كالمعتاد، من تكون تلك الحورية ليصنفنها بالفأر، بل هو الفأر والابشع من ذلك إن تطلب الأمر، كان عليه أن يسترد هيبته التي اطاحها تعصبها الشديد، لذا قال بمشاغبةٍ:
_ما تهدي يا عروسة للبهيه تسيح قبل ما العريس يجي، مكنتش وردتين لعبت بيهم دور البائس وأنا قاعد كده، اهدي كده وخدي نفس عميق عشان الواد اللي جاي يعين ده!
ادلت شفتها السفلية وتشدقت قائلة:
_خد أنت نفس عميق وأنت بتتكلم عني وعن جمالي، الظاهر إنك من كتر ما بتتعامل مع البهايم والحيوانات بقت متفرقش عنهم!
استدار برأسه ليونس الذي يحتضن رأسه بألمٍ شديد، واستحضره ليشهد على وقاحتها:
_شوفت أختك بتقول أيه؟
كز على أسنانه بغيظٍ جعل صوته محتقن:
_شايف وسامعك أنت كمان.. أنا امنيتي في الحياة كل واحد منكم يتجوز ويغور من هنا عشان أنا اللي ارتاح.
تعالت ضحكات مؤمن وقال بتسليةٍ:
_هتستريح فين وأنا شقتي فوقك بالظبط، وبعد كده لما تتجوز هتطلع انت في الدور اللي فوقي، زي دلوقتي انت فوق وانا تحت مع فتحالله، يعني بالعربي يبقى الوضع على ما هو عليه للممات يا ابن عمي.
التقط نفسًا مطولًا ثم انسحب لأبعد أريكة، فأخرج هاتفه ووضع سماعته الخارجية بأذنيه ليتغاضى عن تلك المعركة التي تحتد لأبعد حد، وانتهت بصياح مؤمن وهو يشير اليها بعنفوانٍ:
_يعني الوردة دي اللي مزعلاكي!
_آه هي.. بعد كده متمدش ايدك على شيء يخص جهازي.
أشار لها بابتسامةٍ واسعة وقال وهو يتجه للطاولة مجددًا:
_بس كده عيوني.
وانحنى يجذب الڤازة ثم قذفها تجاهها وهو يصرخ:
_أدي الڤازة العرة ام ١٣٠ج ولا تسواهم.
سقط الڤازة أرضًا أمام قدم العريس المنتظر في نفس لحظة اشارة الجد له بترحابٍ، بعدما اصطحبه للاعلى مرددًا:
_اتفضل يا حبيبي بيتك ومطرحك.
سقط الورد أسفل قدم الشاب، هرولت مسك لغرفتها بينما حان من الجد نظرة نارية لمؤمن، وقال ببسمة مصطنعة يخفي خلفها حرجه:
_فرشنلك الأرض ورد من محبتنا فيك.. اتفضل يا حبيبي اتفضل.
وأشار ليونس باتباعه لغرفة الضيافة، فتفاجئ به مغلق العينين والسماعات مازالت موضوعة بآذنيه، أشار مؤمن لجده بأنه سيتوالى أمره، فجذب الوسادة الصغيرة ودفعها لتصيب وجه يونس، الذي فتح عينيه الملتهبة بجحيم غضبه الحارق، فاقترب منه وقد تخطى الغضب محتجزه، ابتلع مؤمن ريقه بارتباكٍ فتراجع للخلف وهو يشير له على الغرفة:
_جدك عايزك العريس وصل.
لف يده حول رقبته وردد بحنقٍ:
_لو شوفتك جوه هرميك من شباك المسقط.
تهديده قذف اليه مشاهد بائسة من طفولته، حينما كان يحمله يونس كشوال البطاطا ويقذفه من النافذة التي تنحدر على طرف المنزل فكان يسقط بالطابق السفلي كثمرة البطيخ التي تتناثر أجزائها بكل اتجاه، لعق شفتيه عله يمنحهما رطوبة تمحي جفائهما وتسلل من بين يديه ليجلس على المقعد، ثم جذب قهوته يرتشفها على مهلٍ وهو يخبره ببسمةٍ مصطنعة:
_خلص وأنا هنا مستنيك.
لاح على وجه يونس بسمة انتصار، فمنحه نظرة عنجهية أخيرة قبل أن يتابع خطاه الثابت للداخل، تابعه مؤمن حتى اختفى من أمامه فإشرأب بعنقه وهو يسبه:
_أياكش تقع وتنكسر رقبتك يابو طويلة يا أهبل!
وعاد لمقعده بابتسامة رضا لما فعله، وكأنه استرد حقه أمام ما فعله يونس، وما هي الا ثوانٍ وانتبه مؤمن لمسك تتسلل على أطراف أصابعها حتى وصلت اليه فقالت ببسمة حماسية:
_ها.. حلو؟
ضيق عينيه باستغرابٍ:
_هو مين؟
اجابته بانفعالٍ:
_العريس!
بسخريةٍ ردد:
_مستعجلة على أيه الوقتي تدخليله.. الشيء الوحيد اللي حلو في الليلة إنه هيملي كرشه وهينبسط من واجب الضيافة أصل العريس يا عين أمه محتاج تغذية، تحسيه عمود نور واخد وش بهية نبيتي!
واسترسل قائلًا بتريثٍ:
_المفروض نكتب على البيت من تحت اننا فاتحينها معونة للعرسان البهتنين، كل عريس يجي يتأوت هنا أكل وشرب وبعدها يترفض بذمة.. ما من الأول من غير ما تكلفينا تورته وجاتو وحاجة ساقعة ولب وحلويات انتوا ماشين بمبدأ خش خد ضيافتك وعين واخرج وانت ساكت!
لم يثير حديثه غضبها تلك المرة، استمعت اليه وما أن انتهى قالت ببسمة واسعة:
_وهرفض ١٠٠ لحد ما ألقي الشخص المناسب اللي يحققلي حلمي ويوديني شهر العسل في أمريكا.
ضرب كف بالأخر وهو يردد:
_لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم، أفهمها ازاي دي يا ربي!
وعاد ليشير لها بانفعال:
_يا حبيبتي دي مواصفات خارج قاموس البشرية نفسها مش العريس المصري الشقيان!
واسترسل بعد تفكير:
_خلاص وقعي ثاري عربي في غرامك أهو وقتها الحلم هيكون على قد اللحاف!
قاطعت فاطمة حديثهما، حينما أشارت اليهما بالاقتراب لحمل الصواني التي أعدتها بعنايةٍ، فحمل مؤمن صينية الحلويات، بينما حملت مسك المشروبات، وانصتت الى والداتها التي تهمس لها بالتعليمات المعتادة:
_خلي ابن عمك هو اللي يدخل الأول، وانتي وراه… ومتصحكيش كتير أنا عارفاكي هربانه منك.
هزت رأسها فعادت لتسترسل بتحذيرٍ هام:
_وأوعي أوعي تجيبي سيرة أمريكا والسفر والجنان بتاعك ده…سامعة يا مسك.
عادت لهز رأسها، فضحك مؤمن ثم قال بمرحٍ:
_أول ما هيقعدوا لوحدهم عيدي لحد تلاته هتلاقي العريس قايم يجري بعد ما يسمع حكاية السفر دي.
واتجه للداخل فلحقت به، وما هي الا دقائق معدودة حتى خرج الجميع وتبقت مسك بصحبة العريس بمفردهما، ومؤمن يجلس على الأريكة يعد من واحد للرقم العاشر وعينيه لا تفارق الباب، بانتظار لحظة هروب عريس الغفلة كما وصفه!
*******
بالداخل.
بسمة الابتهاج تلك تعرفها جيدًا، اعتادت على رؤيتها على وجه أي عريس تقدم لخطبتها، هي ليست بالدميمة، فتاة بملامح قد تكون عادية ولكنها رقيقة وتمتلك جمالها الخاص كأي فتاة ترتب من ثيابها وحجابها، بدأ الحوار بينهما، حتى أنهته مسك بسؤالها المفاجئ، فقطعت ما يحضر للنطق به من البداية لحظة جلوسها أمامه، فقالت لتحسم قرارها بشأن تلك الزيجة، قبل أن يطول الأمر بجلوسها الغير محبب:
_هو أنت أيه طموحاتك عن ما بعد الزواج؟
أسبل بعينيه بدهشةٍ من سؤالها المبهم، فقال:
_مش فاهم!
أوضحت أكثر عما تود قوله:
_يعني مثلًا هتقدر تسافرنا شهر عسل بأمريكا.
اتسعت حدقتيه وهو يستمع لما تقول، فردد ساخرًا:
_شهر عسل بأمريكا.. لو كنت أقدر أسافرلها كان زماني متجوز من أربع سنين فاتوا!!
نهضت مسك عن مقعدها لتشير إليه بضيقٍ:
_يبقى ميلزمكش الجوازة دي يا ريس، شيل بوكيه الورد واتكل على الله.
بدى مشدوهًا لما يحدث هنا، فحمل الزهور وهرول للخارج مسرعًا قبل أن تتحول تلك الفتاة الغامضة..
******
مع اشارة يدها بالعد الثامن حتى وجد العريس يهرول لباب الخروج بوجهٍ مصفر، يركض وكأنه خرج من منزل الاشباح للتو، تابعه الجميع بنظراتٍ بائسة، تحركت على من خرجت خلفه تخلع عنها فستانها لتجلس ببيجامتها التي ارتدتها أسفل الفستان احتراز احتياطي لما سيحدث هنا، اشاحت بحجابها لتظل ب ( البندانة) االتي تحجب شعرها القصير عن الأعين، القت حجابها أرضًا وهي تشير لهم بتحذيرٍ سابق قبل الخوض بمعركة الحديث بعد كل عريس:
_مش عايزة أسمع كلمة ملهاش لزمة من حد، مش كتير عليا اني اسافر أمريكا، أنا لا عايزة فرح ولا شبكة ولا شقة ولا عايزة حاجة أكتر من إني أسافر أمريكا، وبقولكم أهو انا مش هتجوز الا من شخص يقبل بالشرط ده.
وفتحت باب الشقة وهي تشير اليهم جميعًا بحزمٍ ظنته مخيفًا إليهم:
_انا طالعه على السطوح أقعد مع نفسي أشكيلها حظي التعيس مش عايزة حد يجي ورايا من فضلكم.
وأغلقت الباب من خلفها، فخلفت فراغ وصمت تام يسيطر على الجميع، إتكأ الجد بجلسته على عصاه، فاحنى ذقنه عليها، وردد بحسرةٍ:
_هنعمل أيه.. محدش هيقبل بالدلع ده!
رد عليه يونس ببسمةٍ ساخرة:
_نعملها اعلان على النت يمكن تلاقي سعيد الحظ.. أو ندورلها على عريس عايش في أمريكا وعايز عروسة مصرية دليفري!
احتضن أحمد رأسه وردد بإرهاقٍ نفسي مازال يحاوطه لتلك اللحظة:
_البنت دي هتجنني.. شكلها كده هتعنس جنبي!
استحضرت فاطمة دموعها، ورددت بنواحٍ:
_متقولش كده يابو يونس، ربنا هيبعتلها ابن الحلال وبكره تشوف.
شمل الهكحوار الجد والعائلة بأكملها، الا ذاك الشارد بخطته التي ستجني ثمارها إن تنفذت أركانها مثلما شاء، فانتصب بوقفته وأشار لهم بغرورٍ:
_ولا يهمكم أنا هتكلم معاها وأكيد هتغير رأيها تمامًا.
مشطه يونس بنظرة مستهزئة، انهاها حينما قال بشكٍ:
_بلاش أنت عشان ما تحدفكش من على السطح!
أعدل قميصه وهو يكمل طريقه باتزانٍ وثبات ظنه مهيبًا:
_أنا اللي هحل الموضوع ده… استنوا وهتشوفوا.
كاد يونس باللحاق به، فجذبه الجد بعصاه ليجلس محله مجددًا، فمازحه قائلًا:
_سبها تخلص عليه هو ابن حلال ويستاهل.
*******
بالأعلى..
كانت تجلس أعلى الغرفة التي تتوسط سطح المنزل، اختارت الجلوس جوار خزان المياه الضخم، مكانها المحبب الذي يمنحها شعور مماثل بالجلوس أعلى برج إيفل، لامس الهواء البارد وجهها، فأغلقت مسك عينيها وهي تستمع بذاك القدر الكافي من الهواء المنعش بعيدًا عن ضغط عائلتها، فتسلل إليها صرير الباب الصغير الموصود، فتحت عينيها فتبدلت معالمها المسالمة للغضب، فور رؤية مؤمن يقتحم عزلتها الآمنة، استكمل طريقه للداخل حتى اقترب من السلم الخشبي فأوقفته عن تسلقه حينما قالت بتشددٍ:
_أنا مش فايقة أتخانق معاك يا مؤمن انزل تحت بكرامتك أحسن.
تجاهل نصحيتها المطعنة بتهديد صريح، تسلق مؤمن الدرج حتى أصبح جوارها فوق سقف الغرفة، فأخرج بعضًا من التسالي من جيب بنطاله، ثم قدمها اليها وهو يردد بسخريةٍ:
_سرقتهم من صينية المرحوم قبل ما ادخلهاله.
منحته نظرة مغتاظة، فأشار لها بتناوله، سحبت من يده الممدودة بعضًا منهم، ثم تناولتهم على مضضٍ، والقت القشور بعشوائيةٍ وكأنها تبث انتقامها من البشرية بأكملها بها، راقبها مؤمن بحذرٍ، وهو يحاول البوح عما صعد لأجله، فمزقت هي رداء الصمت العالق بينهما حينما تساءل بريبةٍ:
_هو اللي أنا طالباه كتير، يعني هو لو هيعملي فرح كبير وشبكة مش هيدخل في نفس المبلغ!
ارتسمت بسمته الخبيثة على شفتيه وقد دنى من هدفه دون مجهود منه، فقال:
_ناس أغبية مبيعرفوش يفكروا صح.
ضيقت عينيها بنظرة تحاول كشف ما يحاول مشاكسها فعله هنا، ظنت بأنها سيتخذ جولة صراعهما بصدرٍ رحب، ولكنها وجدته يستمع لها بهدوءٍ على غير عادته، فقالت بذهولٍ:
_هو في أيه؟ جاي ورايا وجايبلي لب وقاعد تسمعني من غير تريقة أنت بتحطط لأيه يا مؤمن!
القى ما بفمه، ثم وضع كيس التسالي البلاستيكي عن يده وقال وهو يتطلع نحوها مباشرة:
_بصراحه لما قعدت مع نفسي وفكرت لقيت الجواز ده فكرة بشعة أوي، اني اروح اخطب بنت غريبة عني وأجتهد في سنة الخطوبة اني أعرفها، وأنا واثق انها فلتر وحقيقتها هعرفها بمعاشرتي ليها بعد الجواز، بالظبط زي البطيخة يا هتطلع حمرا يا قرعة وده اللي متفائل بيه!
انفرج فمها بدهشةٍ لما تستمع اليه، فاستطرد بمنطقيته الباحتة:
_الموضوع صعب ومعتقدش اني جاهز ليه، عشان كده لما فكرت مع نفسي لقيتك الانسب ليا، على الاقل احنا عرفين بعض كويس وعارفين عيوبنا اللي هنحاول نعلاجها بإذن واحد أحد.. وان كان على المشاكل اللي بتحصل بين أي زوجين فنعتبر نفسنا اتدربنا كفايا طول السنين اللي فاتت دي، ثم انك مش هتلاقي حد يستحملك غيري!
جحظت عينيها صدمة، فاتكأت بمعصمها حتى استقامت بوقفتها، وصاحت بعثبية غير عابئة بوقوفها بمكانٍ خطير هكذا:
_أنت بتهزر.. أنا اتجوزك أنت!
جذب معصمها ليجبرها على الجلوس لجواره مجددًا وهو يردد ببسمة ثقة:
_عندي اللي يخليكي توفقي، يبقى ترسي كده وتسمعيني للاخر.
رفضت الانصياع اليه، واردفت وهي تشيح بوجهها عنه:
_اسمع أيه أنت شكلك اتجننت!
كادت بالاتجه للدرج الخشبي فمنعها مؤمن وهو يسرع بقول ما قد يجعلها لجواره مجددًا:
_هسفرك أمريكا وشهر مش أسبوع.
استكانت حركتها بصدمة تفوق التي تخوضها منذ بداية حديثه، فابتلعت ريقها القاحل بصعوبة وهي تجبر لسانها على تريد:
_أنت بتتكلم جد!
هز رأسه وهو يقذ،،ف حبات التسالي لفمه الذي التقطها ببراعةٍ، فتساءلت بعدم استيعاب:
_ازاي؟
اجابها بشرحٍ مبسط لسؤالها:
_لما أقول لجدي اني خلاص هستقر هيكسر الوديعة وهيديني فلوس بابا، ساعتها هاخدك ونسافر بعد الفرح.
صمتت لبرهةٍ تفكر في عرضه المغري، فعمها بعد موت زوجته واصابته بالمرض اللعين خشى على ابنه الصغير، فقام ببيع الأرض الزرعية التي يمتلكها واودعها بالبنك إليه، هي تعلم بأنه يمتلك حسابًا ضخمًا قد يوفر لها احتياجها لرحلتها المجنونة، بللت شفتيها الجافة بلعابها قبل أن تخبره:
_ بس تعملي الجواز وتحجز الرحلة قبل كتب الكتاب.. أنت مش مضمون.
زوى حاجبيه تعجبًا لصراحتها الدقيقة، فابتلع ما قالته دون أن يسحبها لجدالهما المعتاد حينما قال بإيجازٍ:
_موافق!
******
بالأسفل.
كان الجد يرتشف كوب الشاي الساخن جوار ابنه وحفيده، حتى زوجة ابنه كانت تجلس ليمينه، إلى أن تفاجئ الجميع بمن تدفع باب الشقة ومن خلفها مؤمن الذي ردد بثقةٍ وهو يعدل من قميصه:
_هيبقى في فرح وفرحة وكل حاجة بس أنا العريس.
جحظت الأعين بصدمة، أخر المتوقع اليهم ارتباط القط بخنقه، لم يعهد اليهم مرة واحدة تخيلهما معًا، الجميع يعلم يكرههما الشديد لبعضهما، وإن اجتمعوا معًا بجلسة عائلية تشب بينهما الخلافات التي ينجح يونس دومًا بفضها، تحرر الجد عن تمثال جموده، حينما ردد:
_عايز تتجوز قبل اخوك الكبير!
اتجهت عين مؤمن اليه وقال بضحكة تكاد تصل للأذن:
_عندك اعتراض يا يونس؟
نهض يونس عن مقعده وهو يردد بصدمة:
_اعترضي على العروسة نفسها، أنا كنت بحارب افصلكم عن بعض عشان ارتاح كده انا اللي هعاني لاخر حياتي!
……….. يتبع…………الفصل الثالث…
(عش الزوجية!..)
زفاف لم يكن مميزًا كالأساطير التي تقصها اغلب الروايات، كان بسيطًا غير متقن بالمميزات التي يسبق ذكرها على ألسنة الناس لأعوامٍ، تطرف على نصية الشارع الشعبي، تألقت به مسك بفستانها الأبيض الرقيق، ولم ترغب بارتداء فستانًا ضخمًا يعيقها عن الحركة، موعد الزفاف كان مفاجأة للمدعوين على الحفل، لم يصدق أحدٌ بأن تلك الزيجة ستتم يومًا، فاستغرق الاستعداد للزفاف ثلاثة أشهر، حرصت بهم مسك بتحضير أوراق جواز سفرها التي تنشئه لأول مرة، فلم يعنيها ما تحضره والدته من مستلزمات عش الزوجية، أكثر من ارضاء شغفها بالسفر لدولة أحلام طفولتها، وخلال رحلة بحثها على السوشيل ميديا توصلت لرحلة تقوم بها احدى الشركات لامريكا بمجموعة محددة تذهب في رحلة للتخييم، مدتها اثنا عشرة يومًا، فحجز مؤمن لهما على متنها، وها هي الآن تزف لشقتها القابعة بالطابق منزل الحاج “فتح الله”، خلعت مسك حذائها والقته أرضًا بقوةٍ جعلت من يقف خلفها ينتفض بوقفته، فصاح بضيقٍ:
_خضتيني.. انتي بتحاربي!
حملت فستانها ثم ولجت للداخل تاركته مازال يقف بالخارج ويتأمل تأففها بدهشةٍ دفعته للدخول خلفها، فسألها بذهولٍ:
_مالك شايلة طاجن جدك فتح الله ليه؟
جلست على الأريكة بانهاكٍ تام، وقالت:
_أيه كل الفقرات دي، مكنش ناقص غير يعملوا فقرة الساحر!
عدل من جرفاته وهو يجيبها بغرورٍ:
_وبجيبوا ساحر ليه وأنا موجود.
وجلس لجوارها ونظراته تشملها بنظرة خطيرة، جعلتها تتراجع للخلف وهي تردد بخوفٍ:
_في أيه يا مؤمن مالك؟
تساءل باستغراب وهو يكاد يسقط فوقها:
_مالي أيه النهاردة فرحنا!
حللت مقصده بمنطقية لم تعترف بها مسبقًا:
_هو انا كنت فاقدة الذاكرة وانت بتساعدني تراجعلي، ما أنا عارفة ان النهاردة كانت خرجتي من الدنيا.
جذب يدها ليضعها على صدره وغمز لها برغبة صريحة كادت بالتفجج من حدقتيه:
_هناك مشاعر وعواطف تضرب هذا القلب البائس، وما عليكِ سوى الصعود على متن الطائرة لنصعد معًا للفضاء.
سحبت يدها عنه، ودفعته للخلف وهي تصيح بعصبيةٍ:
_مؤمن اتهد في ليلتك دي واعقل، عشان اللي بتفكر فيه ده عمره ما هيحصل يا حبيبي… وإن.. إن يعني حصل مش هيكون غير في أمريكا.
برقت عينيه صدمةٍ لما يستمع اليه، فردد باستنكارٍ:
_نعم.. يعني أحنا هنفضل اخوات كده لحد ما نسافر! يعني هفضل كده عشر أيام!
بدون مبالاة قالت:
_وماله ما إحنا طول عمرنا اخوات مفهاش حاجة لما تستحمل عشر ايام.
رمش بعينيه وهو يردد بعدم استيعاب:
_هو انتي متخيلة اني هضحك عليكي ومش هوديكي عشان كده بتأمني نفسك!
حملت فستانها ونهضت عن الاريكة وهي تجيبه ببسمة واسعة تخالف ظنونه بنفيها هذا الظن المبطن:
_بالظبط.. اختارلك بقا اوضة وانصرف عشان بنام بدري!
اشتعلت جمرات الغضب داخله، فالقى المزهرية المجاورة له وهو يصيح بصوتٍ تسلل صداه للمنزل بأكمله:
_ده انتي ليلتك شبه رغيف العيش المدعم! بقى أنا يتشك فيا وفي وعودي يا بايرة، ده انا اللي نجدتك من فتح الله يا بت وزينتلك حلمك التعيس!
وزعت نظراتها بينه وبين المزهرية الشبيهة لتلك التي قام بكسرها من قبل، حاولت التحكم بغضبها كونها أول ليلة تجمعهما معًا، ولكن محاولتها باتت بالفشل بعد التقاطتها لأكثر من نفسٍ متقطع بصوت مختنق جعل الاخير يردد في خوفٍ:
_هتتحولي ولا أيه؟
انسحبت من أمامه بهدوءٍ كان للاخير مرعبًا، وعادت بعد قليل تحمل زجاجات العطر الخاصة به، فرفع يده يحظرها بنبرة رجاء:
_مسك إوعي، انتي متعرفيش الواحدة من دي بكام وآ…
ابتلع باقي جملته حينما كسرت أول زجاجة برفيوم، ولم تكتفي بها بل اكملت ببسمة حملت راحة واستمتاع لرؤية وجهه الشاحب القريب من فقدان الوعي!
*******
بالأسفل..
جلس على فراشه أمام حاسوبه الخاص، بعدما انعش جسده بحمامٍ دافئ بعد انتهاء ضجة الفرح التي أرهقته أكثر من الحضور، كونه الأخ الوحيد للعروس، والصديق الوحيد لابن عمه، ارتشف يونس من قهوته السادة وهو يتابع حساباته الخاصة بالبنك لانشغاله طيلة الفترة الماضية، شعر بسعادة تغمر قلبه أنه وأخيرًا سيغفو براحة بعيدًا عن مشاكسات مسك ومؤمن، علهما الآن يفضون وقتًا رومانسي لا يحتاجان به لمن يفض النزاع بينهما، بهتت معالم يونس تدريجيًا حينما تسلل اليه صوت اصطدام قوي يأتي من الأعلى، ومن بعدها عدد مرات لا تحصى من اصوات زجاج يكاد يسقط سقف غرفته فوق رأسه، ومع زعزع بدنه أصوات الصراخ المرتفع، وفجأة وجد باب غرفته يفتح ووالدته تهرول اليه بقلقٍ:
_يونس الحق يا ابني اطلع شوف أيه اللي بيحصل فوق!!
وضربت كف بالاخر وهي تستطرد برعب:
_يا ترى عمل أيه معاها الغشيم ده! أنا عارفة ابن عمك
نهض عن فراشه وارتدى ملابسه وهو يجيبها على مضضٍ:
_ومسك اللي ملاك بجناحين.. مش بعيد اطلع القيها هي اللي مخلصة عليه.
أغلق سحاب جاكيته وهو يهمس بسخطٍ:
_هطلع اخبط عليهم ازاي في وقت زي ده بس!!
فتح باب الشقة وكان بطريقه للاعلى، فاستمع صوت جده المنادي من اسفل الدرج، هبط اليه يونس وهو يتساءل بريبة:
_نعم يا جدو.
أشار له وهو يستند على عكازه:
_اطلع شوف المهزلة اللي فوق دي حالا قبل ما الناس تتفرج علينا.. وانزلي عايزك.
هز رأسه وهو يكمل طريقه للاعلى بضجرٍ، دق يونس جرس الباب أكثر من مرة حتى فتح مؤمن الباب، صعق يونس حينما رأى ثيابه مطوية بإهمالٍ، شعره منهدم بعشوائية وكأنه كان بملحمة تاريخية، أما وجهه كان يحمل مخطوطة من الاظافر، تعلق به مؤمن وهو يردد ببسمة واسعة لا تتناسب مع حالته الجسمانية الغير مبشرة بسلامته بالمرة:
_أبو نسب.. اهلا بيك يا حبيبي.
ودفعه للخارج وهو يرجوه بذعر:
_انزل هات المأذون وتعالى بسرعة… اختك جوه استلمها بكرتونتها وعهد الله مجيت جنبها.. خد اختك وسيبولي اللي اتبقى من الشقة حق المصاريف اللي صرفتها على الجوازة المنيلة بنيلة دي.
دفعه يونس للداخل، ثم أغلق الباب من خلفه، وصاح بغضبٍ:
_اهدى كده وفوق الجيران حولينا لما يسمعوا الصريخ ده كله هيقولوا علينا ايه! والمصيبة انك انت اللي بتصرخ يا رجولة!
أشار له ليستدير وهو يخبره:
_طب بص كده وشوف بنفسك.
وبالفعل التفت يونس للخلف، فصدم حينما وجد شقيقته تحمل نوع فاخر من السكاكين (سطور)، وباليد الأخرى يد المكنسة وما أن ولج يونس للداخل حتى اخفتهما خلفها ورسمت ابتسامة ترحيب، أشار لها بدهشةٍ:
_ايه اللي انتي عملاه في الراجل ده!
القت الاسلحة النووية من يدها وهي تشكو له:
_الانسان ده مهزء كسرلي ڤازة تانية من اللي انا جيبها ويستاهل قطع رقبته.. ولو زاد فيها هنعيد احداث المرأة والسطور من تاني عشان يلم نفسه من أولها كده.
تمرد بصراخه العاصف:
_مسك احترمي اخلاقك بدل ما وربي أنا اللي هربيكي، انتوا مش هنا لوحدكم الجيران حوالينا وجدك لو طلع هنا هيبهدلكم انتوا الاتنين.
ردت عليه قائلة:
_يبقى يخليه في حاله ويعدي ليلته على خير بدل ما يطلع منها على القبر.
اتجهت نظرات يونس لمؤمن الذي تعلق بذراعه مرددًا بتوسلٍ:
_خدني معاك متسبنيش مع أختك في شقة واحدة يا يونس دي متوحشة وممكن تقتلني!
دفعه بعيدًا عنه وهو يصيح بانفعال شرس:
_هو انا سايب ابن اختي عند امنا الغولة، فتنشف كده يا عم فلقتني… امال عملي فيها باتمان ومتسربع على الجواز ليه اما انت ملكش فيه.. اتكن في جنب لاخلص عليك أنا.. سبني انزل لجدك اشوف في ايه تاني مانا حلال مصايب العيلة.
هز رأسه باقتناعٍ، فمنحهما يونس نظرة اخيرة قبل أن يرحل وهو لا يستوعب ماذا يحدث بينهما!
*******
هبط يونس للأسفل، فوجد الجد فتح الله بانتظاره، جلس جواره وهو يسأله باحترامٍ:
_خير يا جدو!
استند الجد على عصاه وهو يبادله بسؤالٍ أخر:
_حليت الموضوع؟
هز رأسه بتأكيدٍ، وهو يضيف بتريثٍ:
_كلها حلول مؤقته… كنت فاكر انهم هيعقلوا بعض الجواز!
رد عليه الجد بعد صمت زرع القلق في نفس يونس:
_مش هيحصل.. والخوف الأكبر تصميمهم على السفر لامريكا.
أجابه يونس بمزحٍ يلطف الاجواء:
_هيقتلوا بعض هناك.
انجرف الجد عن مساره المطروح، وقال بجدية تامة:
_أنا قررت انك تروح معاهم.
اتسعت حدقتيه بدهشةٍ:
_أنا! ازاي ده انا ورايا شغلي مستحيل المدير هيقبل بكده، وبعدين انا ازاي هطلع معاهم شهر العسل!
طرق الجد بعصاه وهو يؤكد على عدم ترجعه بقراره:
_اللي عندي قولته يا يونس، قدام عنينا وبيحصل كل ده الله اعلم بغيابنا وببلد غريبة زي دي هيعملوا ايه، رجلك على رجل اختك.
يعلم جيدًا عناد الجد، فإن ظل العمر بأكمله يحاول اقناعه بشيءٍ لن يفعل الا ما يجده صائبًا، فرضخ اليه:
_حاضر.
وجه اليه اخر تحذير:
_عايزك تروح فاضي وترجع زي ما روحت، أصل رفضك للارتباط ولاكتر من عروسة ده مقلقني منك، عينك لو زاغت على بنات بره هتزعل يا يونس.. بنات بلدك مقصروش في حاجة.
ضحك يونس بصوت مسموع جعل الجد يشاركه الضحك، وهو يردد بصعوبة بالحديث:
_والله ما خايف الا منك!
…………. يتبع………..الفصل الثالث…
(عش الزوجية!..)
زفاف لم يكن مميزًا كالأساطير التي تقصها اغلب الروايات، كان بسيطًا غير متقن بالمميزات التي يسبق ذكرها على ألسنة الناس لأعوامٍ، تطرف على نصية الشارع الشعبي، تألقت به مسك بفستانها الأبيض الرقيق، ولم ترغب بارتداء فستانًا ضخمًا يعيقها عن الحركة، موعد الزفاف كان مفاجأة للمدعوين على الحفل، لم يصدق أحدٌ بأن تلك الزيجة ستتم يومًا، فاستغرق الاستعداد للزفاف ثلاثة أشهر، حرصت بهم مسك بتحضير أوراق جواز سفرها التي تنشئه لأول مرة، فلم يعنيها ما تحضره والدته من مستلزمات عش الزوجية، أكثر من ارضاء شغفها بالسفر لدولة أحلام طفولتها، وخلال رحلة بحثها على السوشيل ميديا توصلت لرحلة تقوم بها احدى الشركات لامريكا بمجموعة محددة تذهب في رحلة للتخييم، مدتها اثنا عشرة يومًا، فحجز مؤمن لهما على متنها، وها هي الآن تزف لشقتها القابعة بالطابق منزل الحاج “فتح الله”، خلعت مسك حذائها والقته أرضًا بقوةٍ جعلت من يقف خلفها ينتفض بوقفته، فصاح بضيقٍ:
_خضتيني.. انتي بتحاربي!
حملت فستانها ثم ولجت للداخل تاركته مازال يقف بالخارج ويتأمل تأففها بدهشةٍ دفعته للدخول خلفها، فسألها بذهولٍ:
_مالك شايلة طاجن جدك فتح الله ليه؟
جلست على الأريكة بانهاكٍ تام، وقالت:
_أيه كل الفقرات دي، مكنش ناقص غير يعملوا فقرة الساحر!
عدل من جرفاته وهو يجيبها بغرورٍ:
_وبجيبوا ساحر ليه وأنا موجود.
وجلس لجوارها ونظراته تشملها بنظرة خطيرة، جعلتها تتراجع للخلف وهي تردد بخوفٍ:
_في أيه يا مؤمن مالك؟
تساءل باستغراب وهو يكاد يسقط فوقها:
_مالي أيه النهاردة فرحنا!
حللت مقصده بمنطقية لم تعترف بها مسبقًا:
_هو انا كنت فاقدة الذاكرة وانت بتساعدني تراجعلي، ما أنا عارفة ان النهاردة كانت خرجتي من الدنيا.
جذب يدها ليضعها على صدره وغمز لها برغبة صريحة كادت بالتفجج من حدقتيه:
_هناك مشاعر وعواطف تضرب هذا القلب البائس، وما عليكِ سوى الصعود على متن الطائرة لنصعد معًا للفضاء.
سحبت يدها عنه، ودفعته للخلف وهي تصيح بعصبيةٍ:
_مؤمن اتهد في ليلتك دي واعقل، عشان اللي بتفكر فيه ده عمره ما هيحصل يا حبيبي… وإن.. إن يعني حصل مش هيكون غير في أمريكا.
برقت عينيه صدمةٍ لما يستمع اليه، فردد باستنكارٍ:
_نعم.. يعني أحنا هنفضل اخوات كده لحد ما نسافر! يعني هفضل كده عشر أيام!
بدون مبالاة قالت:
_وماله ما إحنا طول عمرنا اخوات مفهاش حاجة لما تستحمل عشر ايام.
رمش بعينيه وهو يردد بعدم استيعاب:
_هو انتي متخيلة اني هضحك عليكي ومش هوديكي عشان كده بتأمني نفسك!
حملت فستانها ونهضت عن الاريكة وهي تجيبه ببسمة واسعة تخالف ظنونه بنفيها هذا الظن المبطن:
_بالظبط.. اختارلك بقا اوضة وانصرف عشان بنام بدري!
اشتعلت جمرات الغضب داخله، فالقى المزهرية المجاورة له وهو يصيح بصوتٍ تسلل صداه للمنزل بأكمله:
_ده انتي ليلتك شبه رغيف العيش المدعم! بقى أنا يتشك فيا وفي وعودي يا بايرة، ده انا اللي نجدتك من فتح الله يا بت وزينتلك حلمك التعيس!
وزعت نظراتها بينه وبين المزهرية الشبيهة لتلك التي قام بكسرها من قبل، حاولت التحكم بغضبها كونها أول ليلة تجمعهما معًا، ولكن محاولتها باتت بالفشل بعد التقاطتها لأكثر من نفسٍ متقطع بصوت مختنق جعل الاخير يردد في خوفٍ:
_هتتحولي ولا أيه؟
انسحبت من أمامه بهدوءٍ كان للاخير مرعبًا، وعادت بعد قليل تحمل زجاجات العطر الخاصة به، فرفع يده يحظرها بنبرة رجاء:
_مسك إوعي، انتي متعرفيش الواحدة من دي بكام وآ…
ابتلع باقي جملته حينما كسرت أول زجاجة برفيوم، ولم تكتفي بها بل اكملت ببسمة حملت راحة واستمتاع لرؤية وجهه الشاحب القريب من فقدان الوعي!
*******
بالأسفل..
جلس على فراشه أمام حاسوبه الخاص، بعدما انعش جسده بحمامٍ دافئ بعد انتهاء ضجة الفرح التي أرهقته أكثر من الحضور، كونه الأخ الوحيد للعروس، والصديق الوحيد لابن عمه، ارتشف يونس من قهوته السادة وهو يتابع حساباته الخاصة بالبنك لانشغاله طيلة الفترة الماضية، شعر بسعادة تغمر قلبه أنه وأخيرًا سيغفو براحة بعيدًا عن مشاكسات مسك ومؤمن، علهما الآن يفضون وقتًا رومانسي لا يحتاجان به لمن يفض النزاع بينهما، بهتت معالم يونس تدريجيًا حينما تسلل اليه صوت اصطدام قوي يأتي من الأعلى، ومن بعدها عدد مرات لا تحصى من اصوات زجاج يكاد يسقط سقف غرفته فوق رأسه، ومع زعزع بدنه أصوات الصراخ المرتفع، وفجأة وجد باب غرفته يفتح ووالدته تهرول اليه بقلقٍ:
_يونس الحق يا ابني اطلع شوف أيه اللي بيحصل فوق!!
وضربت كف بالاخر وهي تستطرد برعب:
_يا ترى عمل أيه معاها الغشيم ده! أنا عارفة ابن عمك
نهض عن فراشه وارتدى ملابسه وهو يجيبها على مضضٍ:
_ومسك اللي ملاك بجناحين.. مش بعيد اطلع القيها هي اللي مخلصة عليه.
أغلق سحاب جاكيته وهو يهمس بسخطٍ:
_هطلع اخبط عليهم ازاي في وقت زي ده بس!!
فتح باب الشقة وكان بطريقه للاعلى، فاستمع صوت جده المنادي من اسفل الدرج، هبط اليه يونس وهو يتساءل بريبة:
_نعم يا جدو.
أشار له وهو يستند على عكازه:
_اطلع شوف المهزلة اللي فوق دي حالا قبل ما الناس تتفرج علينا.. وانزلي عايزك.
هز رأسه وهو يكمل طريقه للاعلى بضجرٍ، دق يونس جرس الباب أكثر من مرة حتى فتح مؤمن الباب، صعق يونس حينما رأى ثيابه مطوية بإهمالٍ، شعره منهدم بعشوائية وكأنه كان بملحمة تاريخية، أما وجهه كان يحمل مخطوطة من الاظافر، تعلق به مؤمن وهو يردد ببسمة واسعة لا تتناسب مع حالته الجسمانية الغير مبشرة بسلامته بالمرة:
_أبو نسب.. اهلا بيك يا حبيبي.
ودفعه للخارج وهو يرجوه بذعر:
_انزل هات المأذون وتعالى بسرعة… اختك جوه استلمها بكرتونتها وعهد الله مجيت جنبها.. خد اختك وسيبولي اللي اتبقى من الشقة حق المصاريف اللي صرفتها على الجوازة المنيلة بنيلة دي.
دفعه يونس للداخل، ثم أغلق الباب من خلفه، وصاح بغضبٍ:
_اهدى كده وفوق الجيران حولينا لما يسمعوا الصريخ ده كله هيقولوا علينا ايه! والمصيبة انك انت اللي بتصرخ يا رجولة!
أشار له ليستدير وهو يخبره:
_طب بص كده وشوف بنفسك.
وبالفعل التفت يونس للخلف، فصدم حينما وجد شقيقته تحمل نوع فاخر من السكاكين (سطور)، وباليد الأخرى يد المكنسة وما أن ولج يونس للداخل حتى اخفتهما خلفها ورسمت ابتسامة ترحيب، أشار لها بدهشةٍ:
_ايه اللي انتي عملاه في الراجل ده!
القت الاسلحة النووية من يدها وهي تشكو له:
_الانسان ده مهزء كسرلي ڤازة تانية من اللي انا جيبها ويستاهل قطع رقبته.. ولو زاد فيها هنعيد احداث المرأة والسطور من تاني عشان يلم نفسه من أولها كده.
تمرد بصراخه العاصف:
_مسك احترمي اخلاقك بدل ما وربي أنا اللي هربيكي، انتوا مش هنا لوحدكم الجيران حوالينا وجدك لو طلع هنا هيبهدلكم انتوا الاتنين.
ردت عليه قائلة:
_يبقى يخليه في حاله ويعدي ليلته على خير بدل ما يطلع منها على القبر.
اتجهت نظرات يونس لمؤمن الذي تعلق بذراعه مرددًا بتوسلٍ:
_خدني معاك متسبنيش مع أختك في شقة واحدة يا يونس دي متوحشة وممكن تقتلني!
دفعه بعيدًا عنه وهو يصيح بانفعال شرس:
_هو انا سايب ابن اختي عند امنا الغولة، فتنشف كده يا عم فلقتني… امال عملي فيها باتمان ومتسربع على الجواز ليه اما انت ملكش فيه.. اتكن في جنب لاخلص عليك أنا.. سبني انزل لجدك اشوف في ايه تاني مانا حلال مصايب العيلة.
هز رأسه باقتناعٍ، فمنحهما يونس نظرة اخيرة قبل أن يرحل وهو لا يستوعب ماذا يحدث بينهما!
*******
هبط يونس للأسفل، فوجد الجد فتح الله بانتظاره، جلس جواره وهو يسأله باحترامٍ:
_خير يا جدو!
استند الجد على عصاه وهو يبادله بسؤالٍ أخر:
_حليت الموضوع؟
هز رأسه بتأكيدٍ، وهو يضيف بتريثٍ:
_كلها حلول مؤقته… كنت فاكر انهم هيعقلوا بعض الجواز!
رد عليه الجد بعد صمت زرع القلق في نفس يونس:
_مش هيحصل.. والخوف الأكبر تصميمهم على السفر لامريكا.
أجابه يونس بمزحٍ يلطف الاجواء:
_هيقتلوا بعض هناك.
انجرف الجد عن مساره المطروح، وقال بجدية تامة:
_أنا قررت انك تروح معاهم.
اتسعت حدقتيه بدهشةٍ:
_أنا! ازاي ده انا ورايا شغلي مستحيل المدير هيقبل بكده، وبعدين انا ازاي هطلع معاهم شهر العسل!
طرق الجد بعصاه وهو يؤكد على عدم ترجعه بقراره:
_اللي عندي قولته يا يونس، قدام عنينا وبيحصل كل ده الله اعلم بغيابنا وببلد غريبة زي دي هيعملوا ايه، رجلك على رجل اختك.
يعلم جيدًا عناد الجد، فإن ظل العمر بأكمله يحاول اقناعه بشيءٍ لن يفعل الا ما يجده صائبًا، فرضخ اليه:
_حاضر.
وجه اليه اخر تحذير:
_عايزك تروح فاضي وترجع زي ما روحت، أصل رفضك للارتباط ولاكتر من عروسة ده مقلقني منك، عينك لو زاغت على بنات بره هتزعل يا يونس.. بنات بلدك مقصروش في حاجة.
ضحك يونس بصوت مسموع جعل الجد يشاركه الضحك، وهو يردد بصعوبة بالحديث:
_والله ما خايف الا منك!
…………. يتبع………..الفصل الرابع..
(حلم أميركا!…)
دبت قدميها بمدينة الأحلام،التي قضت أعوام طفولتها ترعى حلمها الثمين بزيارة أكثر الدول إثارة إليها، وضعت ألف حُلم وترقبت تحقيقه كل عامٍ، وحينما كانت تفشل تنتظر العام الذي يليه على أمل حدوث معجزة لا تشبه حياتها المختصرة بشيءٍ، لذا وضعته شرطًا لمن يريد الزواج بها، عساها تحطم استحالة تحققه، والآن يتحقق أمام عينيها، بعدما توقفت الطائرة بالمطار الدولي اتجهت مسك بصحبة مؤمن ويونس للحافلة الضخمة التي تحمل شعار الشركة المسؤولة عن الرحلة السياحية، تحركت الحافلة لساعاتٍ طويلة حتى وصلت لوجهتها “غابة اليونكوي الوطنية” ، والتي تبلغ مساحتها حوالى 117 كيلومترا مربعًا، وهي واحدة من أصغر الغابات المطيرة في الأراضي الأميركية، لكنها تفوق حجمها في التنوع البيولوجي، تعد غابة اليونكوي موطنًا لـ225 نوعًا من الأشجار المحلية – 23 منها لا توجد في أي مكان آخر في العالم – و164 نوعا من الفقاريات الموثقة، مثل الببغاء البورتوريكي المهدد بالانقراض، كانت تلك هي أول محطة لرحلتهم السياحية، قام مسؤول الرحلة من مقعده الامامي، واستدار تجاه الركاب ليخبرهم بعمليةٍ:
_سنخيم هنا الليلة وغدًا ستبدأ رحلتنا باستكشاف الغابة.
انصاع اليه السياح، وبدأوا بالهبوط تباعًا للأسفل، تركت مسك زوجها وأخيها يحملون الامتعة ثم ركضت للاسفل تطلع الغابة من حولها بانبهارٍ وحماس لخوض تلك الرحلة، هبط مؤمن أولًا، فالقى الحقائب أرضًا وهو يردد باستياءٍ:
_نقلة الدولاب كله بالشنطة!
لحقه يونس وهو يحمل حقيبة ظهره السوداء، فوقف يتأمل المكان من حوله بانبهارٍ، لم تكن فكرة جده سيئة بالمرةٍ، عساه بحاجة لجوٍ مماثل يبدد ملل حياته الروتينية، اتجه خلف الفوج الكامل، فقاموا بنصب الخيم جوار بعضهم البعض، كاد مؤمن بنصب خيمته، فأوقفه يونس وهو يشير اليه بتقزز:
_بتعمل أيه مينفعش نقعد هنا.
رفع رأسه اليه وهو يتساءل بدهشة:
_ليه؟
اشار يونس على الفاحشة التي تحيط بهم من جميع الاتجاهات، فأغلب من يشاركهم الرحلة شباب متحررين من أنحاء العالم، الفتيات ترتدي ملابس تكاد لا تستر العورة، متحررات بدرجة جعلته يشعر بأنه على وشك أن يتقيأ محله، والأبشع من ذلك العلاقات المنفرة التي يمارسونها علنًا دون خشية منهم أو حرجًا، الزنا والفحشاء تجمع جلستهم، حتى نسائهم كانوا يتشاركونهم فيما بينهم، حمل يونس أدوات التخيم والحقائب وأشار لمسك ومؤمن بغضبٍ:
_مستحيل نفضل هنا.. هنبعد شوية ونعمل الخيم هناك.
لم يناقشه مؤمن بقراره لشعوره بنفورٍ يفوقه، وخوفًا على زوجته مما يحدث هنا، فحمل ما تبقى من الأغراض ولحق بهما، ابتعدوا مسافة كبيرة عن الفوج، وبدأ يونس ومؤمن بتأسيس الخيام، فصنع مؤمن خيمة له ولزوجته وابتعد يونس عنهم بمسافة قليلة وصنع لنفسه خيمة مماثلة، تأويهم من الثليج المتنشر بالغابة في ساعات الليل المتأخر.
******
هربت الشمس مسرعة من عتمة الليل الكحيل التي أصابت السماء فجعلتها تغدف عن صفائها، فاجتمع الفوج بأكمله خارج الخِيَم يتشاركون حفل ملعون بالمحرمات والنبذ، لذا كان من المنطقي اشمئزاز يونس ومؤمن من أفعالهم، لذا فضلوا البقاء بعيدًا عن مجلسهم، لا يجتمعون بهم الا وقت التحرك من مكان لأخر، وما أن تأخر الوقت حتى ولج كلا منهما خيمته، تأكد مؤمن من انغلاق الخيمة جيدًا عليهما، ففرك يديه ببعضهما وهو يسرع تجاه الفراش الصغير حيث توجد زوجته التي تراقبه بنصف عين، جلس جوارها وهو يناديها بمكرٍ:
_أظن مفيش أحلى كده أجواء تحني فيها على الغلبان المسكين اللي استحملك طول الشهر اللي فات لحد ما جينا أميركا زي ما أنتي عايزة!
ابتلعت ريقها بارتباكٍ من طريقته الغير مبشرة بالمرة، فرفعت الغطاء تخفي به جسدها وهي تردد بغضبٍ:
_عايز أيه يا مؤمن، اطلع نام في خيمة يونس بادبك والا هصوت وألم عليك الاجانب.
رفع أحد حاجبيه بسخطٍ:
_الاجانب مقضينها برة وأنتي هتلميهم علينا وأنتي مراتي والله ما يحصل أنا قتيل!
تدحرجت لليسار وهي تشير اليه بعدم الاقتراب، فقال بضيقٍ:
_أعملك أيه تاااااني يا بت ما جبتك أمريكا أهو… نطلع أفغانستان عشان تحني يا عديمة المشاعر!
واسترسل بغضب وهو يشير لحجابها:
_ده أنتي حتى لحد الآن بتنامي بالطرحة قدامي شبه اللي عليكي تار وخايفة حد يعرفك
جذبت طرف حجابها جانبًا وهي توبخه بعناد:
_اتلم في ليلتك دي يا مؤمن وخليها تعدي بدل ما ادفنك هنا تحت الرمل!
ابتسامة واسعة تشكلت على وجهه وهو يغمز لها بنظرةٍ ظنها عاطفية:
_يا بت حني وسبيلي قلبك هاخده لعالم تاني.
كادت بدفعه ولكنه حاصرها بنظراته، شعرت مسك بمشاعرٍ غريبة تتحرك تجاهه، وخاصة حينما أحاط خديها بيده بحنانٍ، تمكن من ترويض شراستها التي كادت بالولوج لمعركةٍ مصرية بينهما، سمحت له بالاقتراب قليلًا، فشعرت بدفءٍ غريب يحاط بها، وكأنها تحلق في سماء فريدة من نوعها، وفجأة أصاب مؤمن دوار حاد، فارتد برأسه للخلف وهو يحاول التحكم بانفعالات وجهه، فازداد به ما يشعره بأنه على وشك القيء، فردد ساخرًا:
_أنا كنت عارف ان الجوازة دي سودة، انتي عملالي عمل صح، انا حاسس ان الدنيا بتلف بيا وهموت بذبحة صدرية وقتي!
جحظت عين مسك برهبةٍ، فتعلقت به وهي تشير اليه بفزعٍ:
_لا يا مؤمن انت مش بتودع اطمن… أنا كمان حاسة باللي انت حاسس بيه!!
احتدت الارض من أسفل قدميهما، فاهتزت من أسفلهما بقوة جعلته يتشبث بها وهو يصيح بصراخ:
_قدمك فقر حتى لما حاولت أقربلك بامريكا زلزل ضربها هي وسكانها!!
دفعته بعيدًا عنها وهي تردد بشراسة:
_وانت يعني اللي قدمك كاجو وسوداني، خلي الطابق مستور يابن منصور فتح الله.
تماسك جيدًا حتى لا يرتد للخلف، واجابها بتريث:
_ده وقته خناق، يلا نجري بسرعة قبل ما نموت هنا لا نلحق داخلة ولا خارجة.
وما أن اخفض قدميه عن فراشه حتى تصلب جسده حينما احاطته هالة عظيمة من الرمال المضيئة، رفع ذراعيه يتفحصهما بدهشة استحوذت عليه وهو يوزع نظراته على جسده بأكمله، فرسم بسمة باهتة لمن تتأمله بصدمة :
_ده عمل بأيه بس عشان ما أتفاجئش بعد كده.. ابقي مستعد؟
هزت رأسها يمينًا ويسارًا ببطءٍ، وبذلت مجهود مضاعف ليتحرك لسانها الناطق بهمس خافت:
_ماليش بالاعمال… مش أنا اللي عملالك!!
هز رأسه ببسمة يخفي خلفها رعب وعويل لا يتناسب مع رجولته:
_فعلًا.
أكدت له بإشارة صريحة من رأسها، ففغر فاهه حينما صدح صوتًا قوي من أسفل قدميه، وفجأة انزلقت قدميه بشيءٍ غامضًا سحبه للاسفل قليلًا، ارتعبت مسك مما يحدث أمام عينيها، تمسكت به في محاولة فاشلة لانقاذه، فأختل توازنها وسقطت من خلفه لتنتقل الهالة اليها أيضًا، فصرخت بجنون:
_يـونـــــــس!
******
يغفو بخيمته القريبة للغاية من خيمة أخته وزوجها الأبله، لا يعلم ماذا يضع على رأسه أكثر من حقيبته الثقيلة، ليمنع وصول صوتهما المزعج إليه، مازال البائس يبذل أقصى ما يمتلك ليجعلها تقبل به كزوج، حتى تناسى مشاركته له بنفس بقعة التخيم، تأفف يونس مما يحدث، وما يضيق به ارغمه بالسفر معهما وكأنهما أطفال لا تحرص التعامل مع الأخرون، ربما ظنها عزلة لائقة به ليبعد عن ازدحام الناس من حوله وليكن وحيدًا مثلما يرغب البقاء بمفرده على الدوام، ولكن أي راحة ستجد سبيلها اليه في وجود المزعج والمجنونة، حاول جاهدًا اغلاق عينيه للاستسلام لنومٍ قد يكون نجدته مما يستمع اليه منذ بداية الرحلة المشتركة بينهما، فازداد الصراخ القادم من خيمة شقيقته ومازال يتغاضى عن سماعه لأي شيء، حتى وصل اليه صراخها باسمه، انتفض يونس من مرقده، فجذب قميصه يرتديه على عجلة، ثم ركض اليهما، فوقف خارج الخيمة بترددٍ، فتملكه الحرج من فكرة اقتحام مخضعهما الخاص، كاد بالعودة ولكنه توقف حينما ناداه مؤمن هو الاخر، فاقترب من مدخل الخيمة وهو يجيبهما:
_في أيـه؟
اتاه صوت مؤمن الذي بدى بعيدًا للغاية رغم قرب يونس من الخيمة:
_الحقنـا!
عند نطقه لتلك الكلمة، اقتحم يونس الخيمة فصعق مما رأه، الرمال من أسفل قدميه منيرة بلون بنفسجي وكأنها تحمل اسطورة لا تصدق الا بالأعين، شمل الغرفة بنظرو متفحصة باحثًا عن شقيقته وزوجها، لمح يونس يد مؤمن تغوص بالرمال وهو يحاول الصعود للاعلى، فهرع اليه في محاولة بائسة بالتمسك به، فاحاطته على الفور نفس الهالة المضيئة ثم اندفع جسده بالرمال لينزلق الى مكان يشبه المزلقة، ظل بها مطولًا وعقله لا يستوعب الى أين تتجه تلك المزلقة المدفونة بالأرض، شيء جنوني لا يستعبه العقل وخاصة حينما قذفته بعيدًا عن رحمها ليصفو جوار مؤمن ومسك بأخر مكان قد يستوعبه العقل البشري!
………. يتبع……