
الفصل السادس
شظايا الكلمات
_إلىَ أين بعد المفر منك؟!
= لقلبي
_وبعد هَجرك؟
= لروحي
*****************
استندت بجسدها على أقرب مقعد طالته قدميها، مظهره والدماء تقطر من أنفه ووجهه الشاحب وشفتيه البَنفسجيتين جعلها ترتجف عند الاقتراب منه، للآن تشعر بألمٍ حادٍ بقلبها، حبست أنفاسها ودعت الله بنفسها، لقد مضى نصف ساعة منذ أن آتت به للمشفى واختفى خلف الغرفة الزجاجية، كانت تنوي صفعه ولكمه والصراخ عليه وسؤاله عن أسباب غيابه ولكن بعدما رأت حالته باتت تريد فقط ضمه والبقاء بين أحضانه!! اللعنة على قلبها العاهر الذي تعلق به وأحبه، تنهدت بجزعٍ ونهضت تنوي الدلوف له ولكنها اصتدمت بالطبيب الخاص به، طغت اللهفة عليها وأردفت بقلق: براء عامل إيه يا دكتور
نظر لها الطبيب ببعض التوجس وتمتم: حضرتك مراته؟!
ابتلعت ريقها بتردد ورسمت بسمة زائفة وهمست: ايوا
هز الطبيب رأسه بموافقة وتحدث بجدية: إحنا عملنا ليه شوية فحوصات وتحاليل وهي هتبين لينا حالته بالظبط
هزت رأسها بخوفٍ وتمسكت بثوبها وتمتمت بتوجس: حضرتك شاكك في حاجه؟
تفحص الطبيب الأوراق التي بيديه بدقة ومن ثم رمقها بنظرة شاملة وهتف: ورم
غادر الطبيب وتركها تتخبط وتردد كلمته التي بصقها لتسقط بخواء روحها ورحل!!! من المؤكد أنه يمزح!! عن أي ورمٍ يتحدث!!! هل؟؟ هل براء يُعاني؟! هزت رأسها بسخرية وابتسمت بتهكم لحديث الطبيب الكاذب من وجهة نظرها!! وجلست بتحدي أمام غرفته تنتظر ظهور نتائج الفحوصات التي ستكون الضربة القاضية لها…..
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
مضت الدقائق عليهم بطيئة، توقفت دقات الساعة عند تلك اللحظات التي اختلسوها من الزمن، هي بضعفها واحتياجها وهو بقوته ومساندته لها، تلك الضمة ما كانت تحتاجه فقط، رغبت بإلاحتواء منه، ببطءٍ رفعت رأسها من عنقه ونظرت له بطريقة لأول مرة يختبرها قلبه منها، نظرة حالمة لأبعد الحدود، نظرة عاشقة متيمة برجلها الأول، ابتعد عنه واعتدلت في مقعدها ولكنها لم تفصل تشابك كفيهما وهمست بخفوتٍ: شكراً لوجودك
ابتسم بعشقٍ يتخلل روحه وتحدث بنبرة جعلتها ترفرف بعنان السماء: دا مكانك من غير ما تطلبي، حضني بيتك حتى لو زعلانين من بعض، أثير أنا معرفتش أحب غير بيكِ
ضحكت وسط دموعها التي مازالت تهطل ورفعت كفه لشفتيها وطبعت قبلة رطبة فوقه وأردفت بنبرة ممتنه: وجودك زي البلسم بيداويني ويشفي قلبي
مدة من الصمت تخللها صوت أنفاسهم العالية وتنهيداتهم المطمئنة، مدة من النظرات الدافئة والحنونة والعاشقة، اللغة السائدة بينهم هي نظراتهم الشغوفة والصابره، قطع الصمت صوتها العذب: ممكن نروح مكان قريب من هنا؟!
ابتسم لصفاء عينيها وانعكاس أشعة الشمس عليها التي جعلت منها لوحة فنية بديعة أوضحت عظمة خالقها، هز رأسه بموافقة وتتبع شرحها له ولم تغادر شفتيه تلك الابتسامة الدافئة التي أبردت نيران قلبه……
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
استيقظت براحة عكس أيامها السابقة وتمطأت بدلالٍ شديد ثم رفرفت بأهدابها عندما أبصرت شقيقتها بنظراتها الثاقبة، ابتسمت بتوتر وتحدثت بنعاسٍ: صباح القمر يا رحوم
رمقتها « رحمه» بنظرة مستهزئة ورطبت شفتيها وتحدثت: امممم بتثبتيني صح؟!
ضحكت على غضب شقيقتها واقتربت منها بخفة محتضنة إياها وتمتمت بمهادنه: إيه مزعل ست رحمه مننا طيب
رفعت الصغيرة رأسها بشموخٍ وتحدثت: إزاي تروحي لثائر ومتخدنيش معاكِ؟!
ضحكت « هبه» بشدة على دراما الصغيرة المرحة وأردفت بنبرة مصطنعة الحزن: والله هو اللي جه خادني يا رحمه وقال ماما عوزاكي وبس يعني
جحدتها الصغيرة بنظرة متوجسة وجذبت أذنها بخفة وأردفت: قلبك وقع تاني يا هبه؟
تلبكت بحديثها وشردت قليلاً به، هو بعنفوانه وقوته وشخصيته الطاغية اقتحم أسوار قلبها المتينة وجعلها كمراهقة تبتسم لكلمة غزلٍ عابرة، ابتعدت عن شقيقتها وتوجهت للشرفة وتركت للهواء حريته بالتخلخل بين خصلاتها الطويلة، ابتسمت لنسمة عابرة حضنت وجهها وتحدثت بخفوتٍ مُتيم: مش هتفهمي كلامي دلوقت بس رغم كدا هقولك، ثائر زي التلج اللي نزل على قلبي في عِز النار عشان يطفيه، يشبه تتر مسلسل قديم أو بيت طيب لجدودنا أو يمكن زي بسمة طفل لأم فضلت سنين عمرها تستناه، قلبي مكنش قدامه اختيار بين إنه يحبه أو لأ، قلبي وقع غصب عنه، ممرش وقت طويل بس زي ما بيقولوا مهما تخبى وتداري قلبك مسيره يحب ويدادي ويمكن قلبه مرايدنيش مش هكون حزينة والله لأن قلبي كفاية عليه حبي ليه، عمري ما فرحت بقصص الحب اللي بتتداول بين الناس لأني شايفه الحب من منظور تاني، الحب لمسة حنينه في وقت تعب، ضحكة صافية في وقت وجع، رسالة غزل في وقت حزن وعتاب، ضمة في وقت خوف، ثقة في وقت خذلان، قوة في لحظة ضعف أو حتى كلمة في وقت ضياع، الحب مش مجرد كلمات بنقولها لا دا حاجه أعظم، يمكن مليش نصيب أتحب وقلبي يرفرف بلمسه من شخص قلبي يتنفض بشوفته بس قلبي راضي بشوفته، الحب أسطوره قديمة بتحيا بيها قلوبنا….
استطرد قليلاً ثم نظرت لشقيقتها المستفهمه وتمتمت بسلامٍ تام: عارفه إنك مش فاهمه أغلب كلامي بس وقت ما قلبك يدق هتفتكريه
ابتسمت «رحمه» وتمتمت باستفسار: وثائر بالنسبالك إيه بقا؟!
عادت لشرودها مرة أخرى تراقب قطرات المياه وهي تتمسح بزجاج السيارات المارة وتلك الهرة الخائفة من العبور، إنه الصباح ولم تغفل السماء عن إنزال رونقها الخاص للعالم، عقدت يديها حول صدرها وهمست بنبرة عميقة: ثائر زي المطر بعد صيف طويل وقحط مؤذي لتربة كانت خِصبه، ثائر بيمثل كل معاني الحب ليا رغم تناقض معانيه جوايا، هو كل حاجه حلوة عيني بتشوفها أو يمكن هو كل اللي عيوني شيفاه؟!…..
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
فركت أصابعها بتوتر عندما تأخر في الخروج، فبعد لحظات ضعفها قررت ترك قلبها له وها هو حدد مع والدها موعد زفافِهم بعد غد!!!!
عدلت « أثير» وضع نظارتها الشمسية التي جعلتها بأروع إطلالة على الأطلاق ووقفت بلهفة تنتظر خروجه من غرفة تبديل الملابس، فهو اصر عليها بأن ترافقه لاختيار بذلته زفافهم، ابتسمت عندما أبصرته حتى ظهرت نُغزتيها المُغريتين وعينيها تفيضان عشقًا له وأردفت: البدلة بقت حلوة بيك يا راكان
دار راكان بنظرة حولهم وابتسم بخبثٍ وأردف: طب ممكن تعدليلي لياقة القميص لأنها مضيقاني؟!
أومأت بموافقة واقتربت منه بعدما خلعت نظارتها ووضعتها على أحد المقاعد، ها هو ذلك الرجل الذي ستذهب لبيته بعد غد ومن ثم تصبح زوجته قولاً وفعلاً، هو ذلك الرجل الذي أثنى على قلبها وربط روحها بروحه ليسكنها بظِلهُ وتصبح فتاته، كادت أن تقترب منه ولكن ظهرت فتاة من العدم تتغنج بوقفتها أمامه وثيابها تفضح أكثر ما تستر من جسدها وتتدلل عليه، غلت الدماء بقلبها حتى وصلت لأبراج عقلها ليدق إنذار الخطر، لأول مرة تتخلى عن ضعفها وتقترب منها بلمحة وتدير وجهها عن « راكان» الخاص بها وتهتف بتملك: معلش أصل عنده حساسية بعيد عنك وكمان محتاج تهويه أصل المكان بقى خنيق فجأة
ناظرتها الفتاة بسخرية وتهكم وتمتمت وعينيها تدور على جسدها: وأنتِ مين بقا يا ست الحُسن
رأت الهجوم بعيني «راكان» ولكنها بادلته نظراته المشتعلة بأخرى مُسالمة وهادئة وقبضت بقوة على ذراع الفتاة وهتفت بكبرياء وثقة: هي ماما معلمتكيش إنك متبصيش على حاجة غيرك لأن ممكن صاحبها يحط صباعه في عينك وتبقى بعين واحده أو من غير الاتنين أيهم أقرب يا…
هزت رأسها بتهكم وأكملت وهي تترك يديها وتتوجه لزوجها: يا ست الحسن!
لم تنتظر لتسمع ردة فعلها فيكفيها نظرات راكان الخبيثة ونظرات الفتاة الحارقة بل دفعته لغرفة الملابس وأغلقتها واستندت على الباب تلتقط أنفاسها بعد تلك المواجهة التي سُجلت أول اهدافها الرابحة بها….
أما ذلك الماكر…
نظرته الخبيثة لها أوضحت نواياه الكامنة ولكنه لم يدعها تستوعب بل دفن اعتراضها بجوفة بهجومه الكاسح عليها مما جعلها ترفع يديها لتحيط بعنقه بقوة لتتشبث به وليتها لم تفعل فحركتها البريئة ايقظت نيرانه الخامدة وجعلته يتعمق بقبلته المتلهفة لتنسحب أنفاسها وتشعر بوغزة ممُتعة تُدغدغ حواسها لتبتسم له وتبتعد عنه في خجل من استسلامها تلك المرة أيضاً وتخفض رأسها لأسفل لتتهرب من عيناه ولكنه استجمع رباط قوته ورفع مقلتيها الخجولتين وهمس بجانب أذنها: إحنا ملكية خاصه لأثير هانم ولقلب أثير هانم بس هي ترضى علينا بلمعة حب من عيونها وإحنا قلوبنا ترفرف وراها….
ابتعدت عنه بأنفاسٍ متهدجة ونبضاتٍ ثائرة ورطبت شفتيها بتوتر وتمتمت بخجل: يلا نمشي يا راكان
راقص حاجبيه ومرر إبهامه على شفتيها بحركات بطيئة جعلتها تتلبك بوقفتها وتشعر بصاعقة ضارية تحتل جسدها وأغمضت عينيها وحاولت تنظيم أنفاسها من قُربه المُهلك لقلبها وهمست بتعلثم : راكان… م ينفعش… بليز…زز
تركها وابتعد عنها لتشعر هي بالهواء يداهم جسدها بعد دفء حضوره فسارعت بفتح عينيها وصعقت لما رأته، بلعت لُعابها المُفرط وهمست بتوجس: أنتَ بتعمل إيه؟! … بتخلع كدا لي؟!
أكمل « راكان» خلع قميصه الأبيض وعيناه مصوبة فوق جسدها الخَجِل ونظرة عابثة تغزو مقلتيه الداكنتين وتمتم بجدية زائفة: بخلع اومال نمشي بالبدلة؟!
تلجلجت بوقفتها ودرات بنظرها بالغرفة الصغيرة وبلعت رَيقها وهمست وهي تنوي الخروج: طب أنا هستناك برا
لاعب حاجبيه بمكرً وغمر لها ثم تحدث بنبرة عابثة : ومالو كلها يومين يا أثير هانم
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
أما تلك المُتألمة بقت بضع دقائق تمنع نفسها من الدلوف إليه ولكن لهفتها وقلقها غلبا عليها وها هي تُراقب ملامحه المُتعبة وكأنه خرج من إحدى ساحات القتال الشرسة، تقدمت من فراشه بقلبٍ ينتفض رُعبًا عليه، جلست على ركبتيها أمامه وأمسكت بكفه المُرتخي وبترددٍ ورجفة قربته من فمها لاثمة إياه بقبلة نازفة، قُبلة راجية وحزينة لما وصلا إليه!…
بللت شفتيها بطرف لسانها وخرج صوتها المرتعش بهمسٍ خافت ولكنه صاعق للقلوب : من سنين عدت مقدرش أعدها قضيتها في حبك، من أول مشكلة لينا سوا وأنا حبيتك، كنت ديما تهزر معايا وتقولي يا أوزعه وتتريق على مشيتي وطول وأنا أرد عليك وأزعق وأبقى نفسي أضربك بس دا في الأول يوم ورا التاني وشهر ورا التاني لقتني بستنى هزارك دا بس لما كان بينا ؟ ايه خرجته برا؟ مكنتش كدا ؟ ايه بدل حالك يا كل حالي وكل غالي على قلبي، بيقولوا القط مبيحبش إلا خناقه دا مثل قديم كدا بينطبق عليا رغم كل اللي عملته في قلبي وكل وجع زرعته فيا لسه قلبي الجاهل بيحبك
صمتت قليلاً لتستجمع حروفها المُهاجرة وترقرقت الدموع بمقلتيها السوداويتين وهمست بضعف : متعودتش عليك ساكت، حبيتك وأنت بتشاكسني يا براء ….. خليك قوي بالله
انتصبت واقفة وطبعت قبلة عميقة فوق جبهته ودموعها لأول مرة تصاحبها وتهطل لتواري ضعفها وقلة حيلتها، لم تدري لما فعلت ذلك ولا كيف ولكنها اتبعت ما يُمليه عليه قلبها، لم تكن قبلتها سوى عطوفة وحانية وراجية له، راجية ومتمنية عودته بقوته من جديد، كانت تحتاج تلك القبلة أكثر منه وقد كان وانتهى الأمر ……
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
مرَ بقية اليوم عليها بسلامٍ، لم تذهب لعملها التي كانت تتفانى به لأجل أن تحيا هي وشقيقتها ولكنها الآن لا ترغب بالابتعاد عن مُحيطه، جاذبية مجهولة تُلصقها به، تنهدت بيأس من مراقبته، باتت مُراهقة ساذجة تُراقب حبيبها من خلف شرفتها بانتظار عودته، لاح بعقلها صديقتها (ورده) !! ولكن كيف نسيتها ولم تسأل عن أحوالها ؟ أسرعت ملتقطة هاتفها وهاتفتها …..
_ عاملة إيه يا بشكير
قالتها (هبه) بمزاحٍ عندما طال الصمت إلا من أنفاس صديقتها العالية
= محتاجاكِ يا هبه
تمتمت بها (ورده) بضعفٍ عام وهمسٍ نازف نابع من قلبها المُرهق
سقط قلب الأخرى عندما وصل لها ما تشعر به رفيقتها فجذبت خِمارها ونقابها على عجلٍ وهي تسألها
_ أنتِ فين يا وردة
= في مستشفى *****
همست بها ( ورده) وبدأت دموعها تتساقط من جديد مُعلنة بداية جديدة لها بمأساتها الجديدة التي ستطيح بصبرها !!!!……
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
بلهفة وتسرع التهمت الدرج وهي تُعدل من ثيابها ولم تنتبه للحائط البشري المُقدم عليها ، رفعت عينيها بلامبالاة عندما رأت ظلٍ رجولي أصبح حائل بينها وبين باب البناية، كادت أن تصيح فيه بالابتعاد ولكنها عندما رأته أخفضت رأسها بينما هو بادر بسؤاله الغاضب : راحه فين يا هبه دلوقت ومستعجله كدا ليه حتى مربطيش نقابك كويس
هزت رأسها بنفي وتمتمت ويديها تقبض على رِباط نقابها : راحه المستشفى لورده ممكن لو سمحت تعديني ؟
أفسح (ثائر) لها الطريق وسبقها متحدثًا بأمرٍ : اتفضلي ورايا هوصلك
لم يكن لديها مجالاً للمناقشة أو الرفض وسارت خلفه بخنوعٍ وقلبها ينبض بعنف من هواجسها التي تصور لها السوء برفيقتها، جلست بالمقعد جواره وشردت قليلاً بحالها ولكن …..
شرد هو بها، بداية من عينيها البُنيتين اللامعتين بالعَبرات حتى صوتها الهامس الذي بات يُدمنه ويعتاد عليه، تُشبه زهرة الربيع المُتفتحة التي مرت بقلبه لتتهادى بخطواتها المدللة فوق دقاته العالية، حمحم ( ثائر) بصوته قاطعًا الصمت وأردف بهدوء : مين ورده دي ؟
ابتسمت لصوته الذي تخطى جميع الحواجز ليعبر لقلبها ورمقته بنظرة جاهدت لإخفاء ارتباكها وهمست بحزن : صحبتي الوحيدة
صمت قليلاً وراقب الطريق من حولهم، السماء ليست بحالة جيدة الليلة، من المؤكد أن موجة من الأمطار قادمة، اختلس بعض النظرات لها ليرى تلك البُقعة المالحة أسفل عينيها والتي أكدت حِدثه بأنها تبكي، قبض على مقود السيارة بعنف حتى أبيضت سُلمياته ولكنه تمالك غضبه من حزنها وأردف بتوجس : عرفتيها إزاي ؟
حسناً هي تحتاج الحديث وها هو يُقدم لها بطاقة البِدء على طبقٍ من ذهب، أشاحت بوجهها للطريق حيث بدأت قطرات المياه بالهطول وصوت الرياح بدأ بالعزف على أحزانها وكأن الجميع يشاركها تلك اللحظة الفريدة وكم هي ممنونة لهم، فركت كفيها بتوتر وتحدثت ببسمة استشفها هو من صوتها : لما دخلت الحاره اللي والدة فاضل قالتلي هتعيشي فيها كنت تايهه، معرفش حد، خايفه، كنت تعبانه، كل ذرة بتئن من الوجع جوايا غير وجع قلبي، كنت ماشية بتسند على الحيطان لحد ما ظهرتلي بنت شالت عني شنطتي ومسكت رحمه ودورتلي على شقة فيها، فضلت معايا طول اليوم لحد ما نضفت الشقة وجابلتي أكل وبعدين سابتني، تاني يوم لقيتها جايه بتطمن عليا، وجابتلي دكتور والعلاج وفضل الوضع دا لحد ما خفيت، كنت بسيب رحمه عند مامتها وقت شغلي لأني خايفه عليها، صادف وشغلي كان معاها في نفس الشركة، كل دا ومكنتش تعرف حكايتي ولا اسمي غير بعدها بإسبوعين لما خفيت، مكنتش خايفه من وجودها، كنت مطمنه، حد بيطيب جرحك ببسمة منه وهو مفتقدها، حد بيحضنك لما تتعب بعد ما كنت وحيد بتعاني، ورده زي الحلم، أنا لو بحمد ربنا على رزق هيبقى ورده، علاقتنا مش صحاب ولا مجرد فترة وهتعدي، إحنا بنبعد وقت المشاكل لإننا محتاجين هُدنه بس لما قلوبنا بتحتاج بعضها بنرجع من غير تفكير، أصل الصحاب من بالعدد ولا بالكلام لا بالفعل والأوقات …..
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
دقت الساعة التاسعة وهم جالسان بالحديقة يتحدثان، رُغماً عنها أجلسها ووضع رأسه فوق فخذها وأغمض عينيه براحة، قلبه هادئ، روحه سعيدة، يومين فقط وستذهب معه لبيته ويستيقظ يحتضنها كل صباح، يومين فقط وستصبح ملكه!!
جذب (راكان) أناملها الرقيقة ووضعها بين منابت شعره الأسود وأغمض عينيه بعشق وهمس باسمها بتأني : أثير
ابتسمت هي الأخرى ولكن بخجل واحمرت وجنتيها وهمست بنعومة : نعم …
بلع ريقه بصعوبة من همسها الناعم الذي أطرب أذنيه وجعله يتخيل أشياءٍ لو علمتها هي لسقطت فاقدة للوعي من خجلها، أمسك كفها من بين خصلاته ووضعه برفقٍ فوق خافقه لتصبح قبضتها تتراقص على نبضاته السريعة وأنفاسه السطحية وأردف بتمني : أوعي تفرطي في قلبي يا أثير….لو في يوم حصل بينا مشكلة واجهيني بيها وعاتبيني بس متمشيش ولا تسكتي، متبعديش عن قلبي لأنه ضعيف من غيرك والله
غَصة مؤلمة اجتاحت حلقه يعرفها جيداً تلك التي تسبق بكاؤه جعلته يغمض عينيه ويتحدث متهربًا منها : اعرفي إن أي حاجه وكل حاجه بعملها عشانك والله، متفكريش تسيبيني من قبل ما تواجهيني وتلوميني، أنا عمري ما هقصد في يوم أوجعك ولا أجرحك ولو حصل بيبقى غصب عني …
ابتسمت بحنانٍ لتوتره وحديثه الغامض عليها وربتت فوق صدره هامسة برقتها المعهودة : اللي بيحب مبيوجعش يا راكان
هز رأسه بيأس من تلك الدموع التي تعنفه رغبة بالهطول وزاغ ببصره نحو النجوم العالية وتحدث برجاء : لا بيوجع ، بس ممكن ميبقاش قاصد ممكن يكون بيختارله وجع أخف من وجع ويضطر يوجع نفسه معاه، اللي بيحب بيوجع يا أثير
احتارت من صوته المتألم عكس لهفته وفرحته منذ قليل، ولما ذلك الوجع بنبرته؟! رفعت رأسه ببطء من فوق قدمها وثقبته بعينيها بنظرة شاملة وكورت وجهه بين كفيها بجرأة جديدة وأردفت : مالك يا راكان
اقترب بوجهه من كفيها أكثر وأغمض عينيه بألم ودموعٍ تشتاق للنزول وهمس بخفوت : احضنيني ….
لبت رغبته على الفور وفتحت ذراعيها بلهفة كدعوة صريحة له ليُلقي بألمه بين ثناياها الرقيقة، دفن وجهه بعنفٍ بين خصلاتها النارية وذراعيه متشبثين بخصرها بقوة وكأنه يخشى ذهابها ؟! همس بتعب : بحبك يا أثير … بحبك والله
ضمته بقوة مماثلة لقوته لعلها تستشف سبب تألمه ونزاع عقله الخائف من سببٍ مجهول!! رغبت لو همست له بحبها الجديد ولهفتها عليه ورغبتها بالبكاء على حزنه ووجعه ولكنها يجب عليها التحلي بالقوة لأجله !! ولكن هل للقدر ظنونٍ أخرى !!!؟
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
بخطواتٍ متعثرة بحثت عنها وقلبها بخفق بقوة وهلع، هوى قلبها للحافة عندما ناظرتها جالسة على الأرضية الباردة واضعة رأسها بين قدميها وصوت نحيبها يصل لها، أسرعت مقتربة منها حتى وصلت إليها وجلست أمامها وهمست بقلق : ورده !!
رفعت ( ورده) رأسها ببطء لترى رفيقتها الوحيدة بلهفتها وقلقها الواضح على محياها وملابسه الغير مرتبة وصوتها الخائف!، ابتسمت بحزن ورَمت بذاتها بين ذراعيها، لم تأبه بالمكان ولا العالم هي فقط رغبت بصدرٍ يستقبل وجعها ويضم قلبها، رغبت ولو بشفقة تخفف عنها أنين قلبها، بعدما صرح لها الطبيب بنتيجة الفحوصات التي أظهرت شدة مرضه لم تشعر بنفسها للآن، مازال فاقدًا للوعي وهي هنا تُصارع هواجسها المُرتعبة، بضعفٍ وتعب أغمضت عينيها وهمست بوهنٍ : هيروح مني يا هبه، بعد حُبي ليه دا كله بيضيع مني، بعد ما حبيت عيوبه وتعبه لقلبي عاوز يمشي ويسيبني يا هبه، براء عنده كانسر في حالة متاخرة يا هبه، كانسر عارفه يعني إيه ؟؟ يعني … يعني هيموت !! يعني بعد ما وجع قلبي هيمشي بسهوله كدا!!! دا قلبي بينزف بسببه وعشانه!! أنا قولت ليه مش عاوزة أشوفك بس مكنش قصدي كدا والله، أنتِ عارفه كدا صح ؟!!
تساقطت دموع ( هبه) المُشفقة والحزينة على حال رفيقتها التي مازالت تُدافع القدر لعله يبتسم لها ولكن بكل مرة تسقط مُدمرة وفاقدة لجزءٍ منها، لكل مرة تفقد قوتها وقلبها وتتحطم آمالها، هزت رأسها بصدمة من تلك الهيستيريا التي عليها ( ورده) وضمتها بقوة وهمست لها بتأكيد : عارفه يا قلب هبه …. عارفه والله
دفنت وجهها أكثر بصدر ( هبه) وببكاءٍ مكتوم همست : والله يا هبه مكنتش اقصد، كنت بس عاوزه هدنه بعيد عنه عشان قلبي تعب من حبه، رَجع ليها يوجعني بالحقيقة دي، أنا قلبي مبقاش حمل وجع جديد، هو مش هيمشي ويسيبني صح !!! هو بيحبني صح !!!؟
صوت نحيبهم جعل المارين يشفقون عليهم ومنهم من بكىَ حزنًا على حالهم…..
علا صوت نشيج كلتاهما وتراخت قوتهم وهتفت (هبه) مؤكدة : والله مش هيمشي عشانك والله بيحبك بس اهدي …
تراخت قوة ( ورده) وضعفها خلف سِتار حزنها ووجعها المزمن وسقطت قبضتها المتشبثة بصديقتها وسقطت غائبة عن الوعي، تاركة قلب ( هبه) ينتفض خوفا عليها……
هل ستنتهي قصتهم المأساوية عند ذلك السطر بنقطة سوداء أم فصلة متعددة تُبشر ببداية زهرية عليهم!!!
الفصل السابع
شظايا الكلمات
رُبَ صُدفة تجمعنا ولحظة تُرافقنا وعمرًا يُنسينا سنكون معاً ذات يوم
******************
ضباب، كل ما يجول حولها ضبابٍ تام، تخلل لمسمعها صوتٍ حزينٍ خافت يتلو بعض الآيات، رغبت بالخلاص وأن يكون واقعها مُجرد هلاوس بصرية تجول بها، تمنت من صميم قلبها كونها فراشة حُرة ترفرف بين الأزهار وتتلمس بأجنحتها المُلونة جُزيئات الرياح ولكن!!!
هي بالواقع، رمشت بأهدابها بتعب ومن ثم كشفت عن داكنتيها الحزينين، رطبت شفتيها ووقع نظرها على «هبه» الممُسكة لكتاب الله تتلو لها، ابتسمت بحبٍ وخرج صوتها الضعيف أثر نحيبها: صوتك بيروي الروح يا هبه
رفعت « هبه» نظرها من المصحف لتتسع بسمتها الحزينة أسفل نقابها عندما أبصرتها، لقد ظلت لساعتين غائبة عن الوعي بفعل بعض المُهدئات التي حقنها الطبيب بها، نهضت مُقتربة منها وجذبت المقعد لجوار فراشها، انحنت طابعة قبلة مُطمئنة فوق جبينها وأردفت بحب: أنتِ بخير؟
هزت « وردة» رأسها وتصاعدت العَبرات المالحة لتسكن حدقتيها وأشاحت بوجهها بعيدًا وهمست برجاء: هو كويس صح؟!
تساقطت دموع « هبه» المُتألمة وربتت بكفها فوق حِجابها وهمست بتأكيد: ومستني يشوفك
رمقتها « ورده» بنظرة متلهفة ودموعها تبلل وجنتيها الشاحبتين ثم ابتلعت ريقها بخوف وتمتمت بتوجس: هو فاق وبقى كويس!؟
ابتسامة« هبه» المؤكدة جعلتها تنهض بضعفٍ شغوف من مخدعها وتهرول لمن أرهق قلبها، استندت على جُدران الغرف حتى وصلت لغرفته ووقفت أمام الباب وتنهدت بعمق وطرقته، آتاها صوته المُتعب الذي مزق قلبها إربًا وجعلها تكتم صُرخها وتخطو للداخل بتباطؤ…..
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
وقع نظرها المتلهف عليه، فقد بريق عيناه التي كانت تغوص بغاباتها الخضراء، شفتيه الشاحبتين أوضحت نقص الأكسجين بجسده، جسده الهزيل والأجهزة الموصلة به جعلتها تُشيح ببصرها عنه تنوي الخروج قبل إظهار ضعفها ولكن صوته الملئ بالرجاء جعلها تتقدم منه وتجلس على ركبتيها أمامه وتهمس بحنوٍ: عامل إيه دلوقت
ابتسم « براء» باتساع وتنفس بعمق رغم ضيق صدره وتمتم بإرهاقٍ: أنا آسف
هزت رأسها بعنف وأغمضت عينيها لتسمح لدموعها بالتوازي على وجنتيها وهمست بأمل: هتبقى بخير عشاني!
رفع « براء» كفه المرتجف ووضعه بحنانٍ على شِطر وجهها ليمسح دموعها بأنامله وتحدث بحُرقة: تتجوزيني؟!!
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
بعدما هدأ قلبها على صديقتها قررت العودة لشقيقتها، كانت في طريقها للخروج من الغرفة عندما التقت به، ابتسمت بتكلف وتمتمت له: ينفع نمشي؟!
أومأ لها بصمت ووضع كفه بجيب بنطاله وأشار لها بالتقدم….
إنها الثانية عشر بمنتصف الليل تمامًا حيث العاشقين والمحبين يتهامسون سِرًا وعلنًا عن ما يجيش بصدورهم، الثانية عشر من أوحش الزكريات القاسية على قلوب المخذولين والمُفارقين، الثانية عشر البداية الجديدة لحكاياتٍ جديدة مُبهجة لبعض الوقت….
طلبت منه التوقف أمام البحر، ترجلت من مقعدها وجلست على الأرضية الرملية محتضنة نفسها، يقولون البحر بئر الاسرار لم يرد قلبًا خائب ولا حزينًا تعيس، جميع المُحبين يأتونه ليقذفوا بأمواجه ندبات قلوبهم وعلقم حلقهم ثم يبتسمون وينتهي الأمر، شعرت بحركته يجلس جانبها لكنها لم تلتف واكتفت بسؤالٍ بسيط: بتحب البحر؟!
قبض على بعض الرمال وخللها بين أصابعها وابتسم بغموض وتمتم: البحر غدار ميتوثقش فيه ولا يتحب
دارت بنظرها له ورمقته بتعجب وأردفت: ليه؟!
اعتدل بجلسته واراح ظهره للخلف وسلط نظراته على النجوم اللامعة بالسماء والتي بدأت بالاختباء وتحدث: البحر زي الكتاب الاحتياطي اللي بتلجأي ليه لما كل اللي حواليكي يمشوا، هو بدوره بيغريكِ بموجه وصمته ولونه الصافي ويثبتلك إنه خير صديق بس هو ألد عدو واحده واحده تتمني تغوصي فيه عشان تفهميه بس وقتها بيبقى هو انتصر وسحبك لنهايته اللي بتوازي نهايتك، كلنا بنميل للبحر بلونه ولُطفه والراحه اللي بنلاقيها على رِماله بس في الحقيقة اللي بيحب البحر وحيد
اعطته نظرة جانبية مع ابتسامة فاتنة ولكنها مُختبئة خلف نِقابها وشردت بقلبها الذي سقط صريع قلبه وتمتمت: البحر دافي للعُشاق، بيشهد لقاءهم وحبهم، قلوبنا محتاجة رهبة البحر وأمانه
انتصب واقفًا أمامها بطوله الفارع وانعكاس ضوء القمر عليه جعلاه كأسطورة قديمة للجمال الإغريقي المُهلك، فتح كفه أمامها ونظرة عيناه الدافئة جعلتها ترفع كفها بلا تردد ليحتضن خاصته بحرارة وسرور، سار بها حتى وصلا على أعتاب الأمواج المتلاطمة وانحنى مُشمرًا بنطاله وعاود إمساك قبضتها بقوة وهتف بسعادة زلزلتها بوقفتها: سيبي نفسك وعيشي ولو لحظة بدون خوف من ماضي أو حاضر أو حتى مستقبل مجهول
ابتسمت بشدة حتى بكت من فرط سعادتها التي لم تتحقق سوا معه وبأبسط الامور وخلعت حذائها وما إن لامست قدميها المياه حتى شهقت من برودتها وتيبست قدميها ولكنه لم يتركها بل أشار لها بعيناه بمعنى لا مكان للخوف ومن ثم بدأت رحلتها بالحبو كرضِيعٍ صغير ولم تُضاهىَ سعادتها وصوت ضحكاتها الذي انعش فؤاده فهمس بلا وعي: يا صاحبة البُنيتين تمتلكين اروع بَسمة بين نِساءِ حَواءِ جميعهم…
شُلت قدميها ووقفت لوهلة مصدومة من غزله الصريح بها ونبرته التي حملت تلك التنهيدة الحارة التي استشعرها قلبها، وضعت يديها على وجهها من الخارج وتقسم أنها شعرت بحرارته رغم برودة الأجواء، على غفلة من شرودها شعرت بقطرات باردة من المياه تُلامس أهدابِها مما جعلها تضحك بقوة عندما رأت « ثائر» يقذفها بالمياة ومن ثم يتصنع البراءة، انحنت ودفعت المياه نحوه بقوة وصدحت ضحكاتها بالأجواء على تقاسيم وجهه الحانق منها، وقفت بشموخٍ وثقة مُختصرة وأدرفت: مش قد اللعب متلعبش
ابتسم « ثائر» بتهكم ورفع قدمه وهبط بها بالمياه حتى أغرقتها المياه بالكامل لتشهق بعنف وتدوي ضحكاته هو عليها تلك المرة، شردت بصوت ضحكته الرجولية وملامحه التي تتوهج عندما يبتسم وتلك النُغزة الممُيزة بخده الأيمن كم كان وسيمًا وجذابًا وعندما تنغلق عيناه بفعل خداه، ابتسمت ببلاهة وهتفت: عاوزه أكل آيس كريم
انقطعت ضحكاته وابصرها بعينين ضيقتين وهمهم بتفكير ثم قبض على كفها وسحبها خلفه بسعادة
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
استندت بسعادة عارمة على باب غرفتها واحتضنت تلك الروايات التي جلبها لها بعد موعدهم، يعرف كل شاردة ووارده عنها ولا يغفل عن أية نظرة منها، استمعت لطرقاتٍ خافتة على نافذتها فوضعت الروايات على الفراش واقتربت بحذر من النافذة وهتفت بخوف: مين؟
لم يأتيها الرد ولكن باغتها الطارق بدفعة جديدة للنافذة اغضبتها وجعلتها تفتحها على مصرعيها وتشهق بصدمة عندما رأت « راكان» يجلس بأريحة على الشجرة المجاورة لشرفتها، ضحكت بمرح وتعجب وهتفت: بتعمل إيه هنا يا دكتور يا محترم
تصنع « راكان» التفكير لعدة لحظات ثم بخفة ورشاقة قفز لغرفتها وسط صدمتها التي اختفت بين احضانه!!
أجفلت « أثير» من فعلته واحتضانه الشديد لها وتمتمت بزهول: أنتَ عملتها إزاي
ضحك « راكان» ملئ فاهه وقرصها بمرح بخصرها مما جعلها تنتفض بين ذراعيه وتهتف بخجلٍ وغضب: أنت قليل الأدب ووقح
هز كتفيه لأعلى بلا مبالاة وعاود جذبها من خصرها بقوة ولفها له حتى اصتدم ظهرها بصدره العضلي وخصلاتها النارية تُشعل شياطينه، ابتلع ريقه بتوتر وحاول إخراج صوته المُرتبك وهمس بدلال: عملتي فيا إيه يا أثير هانم
بجرأة منها لامست كفه المحتضن لخصرها واراحت رأسها على صدره بدلالٍ وهمست بنعومة: ولا حاجه وإسأل قلبك
توتر جسده من اقترابها المفاجئ ونبرتها التي تجعله يود فعل الكثير من الأمور الغير صالحة الآن ولكنه ليتهرب من كل ذلك دفن وجهه بين خصلاتها وتنهد براحة كغريقٍ حصل على أنفاسه وتمتم: قلبي تعب من بعدك ودلالك يا ست الحُسن بس لسه بيتنفس على أمل في يوم تكون ملامحك أو طله تشوفها عينيه
ارضى غرورها وثقتها بالفعل وجعلها تود احتضانه لمئة عامٍ حتى تزهق أنفاسهم سويًا، أمالت برأسها للجانب لتسمح له ببث شوقه وتعبه القاسي لها، ولكنها لم تحسب ضريبة ذلك بأنها سترتجف خجلاً وترتبك من قوة مشاعره التي يُغدقها بها…
لثم « راكان» عنقها بحرارة ولطافة جارفة جعلتها تشعر بالسُحب أسفل قدميها تقودها لوجهة خاصة بهم، كانت قبلاته مُلتهبة وشغوفة ومُشتاقة حد الجنون، أنفاسه التي تلفح جيدها الناعم جعلتها تتنهد بعمقٍ وحرارة وتهتف بتعلثم مُدلل: راكـــــ…. ااا.ن
أغمض عينيه من صوتها الناعم الذي يعبث برجولته وصبره وتنفس بين ثنايا عنقها الأبيض وهمس بصوته الأجش: ضي عيون راكان
أدارت جسدها لتُصبح بمواجهته وأنفاسها الساخنة تلفح صفحات وجهه وأحاطت عنقه بيديها وهمست: مش هتندم على جوازنا؟!
آتاها رده بقبلة عصفت بكيانها وجعلتها ترتجف بين يديه وتقبض بقوة على عنقه ليتعمق بقبلته التي زلزلت وجدانها، لحظه مُختسلة من واقعهم انستهم العالم وحلقت قلوبهم بعنان السحاب، فصل القبلة واسند جبهته على خاصتها ليلتقط أنفاسه وتهدأ ثورته المُتهدجة ولامس بإبهامه شفتيها برقة وهمس بعشقٍ: وحياة عيون أثير هانم اللي خطفتني ما هندم غير على اللحظة اللي مش هتكوني في حضني فيها
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
لتوها فاقت من صدمتها بطلبه للزواج منها، ليست مُخيره ستوافق مهما كلفها الأمر، رأت الكثير والكثير من الأحاديث بعيناه يود البوح به ولكن هناك ما يحول بينهم، بشجاعة طرقت باب والدها بعدما تركته بالمشفى وغادرت لتُخبر والدها، ابتسمت بتكلف واقتربت من والدها الجالس ولكن قبل أن تتفوه سبقها هو بصوته الثابت: خايفه ليه يا بنت بلال مش عادتك
ابتسمت هذه المرة براحة وجلست أمامه واحتضنت كفه وهتفت مباشرة: براء متقدملي…
رأت الجدية بعيني والدها فابتلعت لعابها واخفضت رأسها بحسرة وهمست: أنتَ ديماً بتساعدني.. المرة دي دليني
ابتسم بطيبة وحنان وهمس: قلبك دليلك يا بنت بلال وعيونك متلهفه ودا كفاية
كادت أن تقاطعه وتبرر له وضع زواجها ولكنه أشار لها بالصمت وتحدث بجدية تامه: مش هعاتبك ولا هلومك ولا هسألك لأن بنتي مبتغلطش، طالما قلبك رايده أنا جنبك وفي ضهرك، متخافيش، بس خلي بالك لكل لحظة فرح ضريبة هندفعها فخدي بالك من قلبك
قبلت يده بعمق ونهضت بخطواتٍ مُتثاقلة تُرتب أفكارها من جديد بعد حديث والدها الجَدي
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
وضعت يديها على معدتها تُمسدها برضا تام عن ما خلفته، في حين أن نظرات ذلك المصدوم تكاد تُبرق من فرط مشاعره التي تؤرجح قلبه، زفر بحنقٍ منها ولكنه ابتسم بسعادة لتلك البسمة التي تزين ثغرها الشهي بعد محاولاته المستميته لجعلها ترفع نقابها لحين تناول المثلجات، راقب ارتخاء ملامحها التي أبرزت كم الانتشاء الذي أصابها بفعل تناولها للشيكولاته، بدت كنسيمٍ هادئ وسط عاصفة قاسية، تصنع انشغاله عندما رآها تفتح عينيها وتهمس بتثاقل: يلا نروح
لم يتحمل كتم ضحكاته الساخرة منها ومن هيئتها الشبه نائمة ونهض هامسًا بمرح: بقى كام علبه شيكولاته على آيس كريم يعملوا فيكِ كدا يعيني على الرجاله
لوت شفتيها بلا مبالاة من حديثه ورمقته بعينين ناعستين وهمست وهي تتثاءب: لازم تقدر وتفهم إن الشيكولاته بتعملي تُخمه وتخليني طايره… طايره في السحاب
ضحك بفرحٍ على تعابيرها الهائمة للشيكولاته واقترب ممُسكاً بكفها ليساعدها على النهوض وتمتم بتهكم: شكلك شبه دُب الباندا بعد وجبة خيزُران
عقدت حاجبيها بضيق وزمت شفتيها بغضب وتمتمت: متقولش دب باندا أنا قمر يا قمر
ضحك بشدة حتى ادمعت عيناه وتحدث من بين ضحكاته وهو يشير على نفسه : أنا يبنتي؟ شكرًا على ثقتك الغالية دي
نهضت « هبه» بتثاقل وانزلت نقابها وتقدمته ثم نظرت له بكبرياء ورفعت أحد حاجبيها وتمتمت: ورايا
عدل من وضع چاكيته ومسح على خصلاته وتمتم بغيظ: قدامي يا أخرة صبري وسلواني
سارا سويًا حتى خرجا من المحل ومازالت هي تتفاخر بمشيتها وتدندن بسعادة لدرجة أنه شك باحتواء تلك المثلجات على موادٍ مخدرة افقدتها عقلها الرزين، وسط نظراته لها بدأت السماء بالكشف عن مطرها الغزير الذي جعله يدفعها للتقدم بسرعة حتى لا تبتل ملابسهم ولكنها على عكس المتوقع جلست على الرصيف ورفعت كفيها لأعلى وعينيها تلمعان كلمعان البرق بالسماء، زفر بضيق من تهورها وعدم خوفها على نفسها واقترب يحثها على النهوض والسير ولكنها جذبت يديه ليقع جانبها ووضعت رأسها على كتفه بنعاسٍ شديد وتمتمت: عاوزه أنام كدا سيبني شوي
ابتلع لعابه بتوتر من قربها الشديد ورأسها الملامس لكتفه وتلك القشعريرة التي وثبت بقلبه وجعلته يرغب بضمها لصدره وليحترق العالم بأسرة، غابا كلاهما خلف تلك اللحظة وقطرات المياه الشاهدة على أول تقارب لقلوبهم العنيدة واحتضن كفها بين أصابعه وهمس بشجن: بتعملي فيا إيه بس يا هبه ومودياني على فين
مطت شفتيها للأمام بزنق وقربت جسدها منه وهمست بنعاس: على قلبي يا قرة عيني
نظر لها بصدمة سرعان ما تحولت لضحكٍ هيستيري لما تفوهت به وهو يتوعد لنفسه صباحًا عندما تستيقظ وتتذكر ما خرج من جوفها الشهي حتما ستصاب بجلطة من لسانها
بحنانٍ شديد حاول إفاقتها وخلع چاكيته ووضعه بحبٍ عليها وساندها حتى وصلا للسيارة ووضعها بالمقعد الخلفي وسارا
نهاية ليلة سعيدة عاشاها سويًا بلا قيود وبلا فوارق فقط قلوبهم كانت حُكامهم، اتبعا ما تُمليه عليهم مشاعرهم ولأول مرة تصدح منهم مثل تلك الضحكات السعيدة التي زلزلت فؤادهم، أهذا مذاق الحب الذي أخبرته والدته عنه؟؟…..
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
انحنت السُحب كاشفة عن نهارٍ جديد لقلوبٍ جديدة أرهقتها الليالي المظلمة، بدأت الشمس بإلقاء دفئها بعد ليلة باردة كان الدفء الوحيد بها هو الحب الكامن بين ثنايا الأفئدة….
وصلت « ورده» مع والدها ووالدتها للمشفى وقلبها لا يعلم أيفرح للقادم أم يهاب الزمن ويتراجع، هي لا تعلم طبيعة مشاعره ناحيتها ولم تُفصح عن خبايا قلبها، وقفت بتوتر أمام غرفته وفركت كفيها بخوف وطرقت الباب، آتاها صوته الخافت الذي ارجف قلبها بين قفصها الصدري، دلفت بخطواتٍ متثاقلة بعد والديها ولم ترفع عينيها فقط تستمع لحديث والدها معه عن حالته وحنان والدتها عليه وأصواتٍ رجالية أخرى لم تتبينها وأخيرًا صوت المأذون وهو يهتف بسعادة ورضا
« بارك لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير»
ابتلعت ريقها الذي وخزها بقوة بحلقها ورفعت نظرها له، صُدمت بالغرفة الفارغة من حولهم سوى من نظراته العجيبة بها!! راقبت اقترابه منها حتى جلس جانبها على المِقعد وهمسه الضعيف: مُبارك لينا
أشاحت بوجهها بعيدًا عنه وتساقطت دموعها الحزينة التي لا تعلم سببها ولم تتفوه بشيء، بينما نهض « براء» وجلس أسفل ركبتيها وحضن كفيها المُحمرين ثم لثمهم بقبلة رقيقة بعثرت ثباتها وتمتم بنْبرة عاشقة: مش عاوزه تسمعيني؟!
هزت رأسها بنفي وارتجفت يديها وسلطت نظراتها عليها لتغوص بزيتونيتيه وهمست بحرقة: مش عاوزه غير أسمعك
أومأ لها وعلى ثغره الشاحب بسمة حزينة ووضع رأسها على ركبتيها وخرج صوته الذي تخلله الحزن والألم: كان في أسرة صغيرة من راجل وزوجته عايشين بهدوء وسعادة وحبهم كان مالي قلوبهم، فاتت الأيام وعدى على جوازهم سنه والتانية والتالته لحد ما كملوا ست سنين بدون ولاد والاتنين خايفين يكشفوا عشان ميقدروش يواجهوا قرارات بعض كانوا رغم حبهم إلا انهم أنانين، بعد فترة قرروا يكشفوا ولقوا إن الحل إنهم يعملوا عملية حقن مجهري، بالفعل عملوها وربنا رزقهم بتوأم ولاد، كانوا جُمال وأسرتهم جميلة والكل بيحسدهم عليها ويتمنى يبقى عنده أسرة شبهها، بس زي ما بيقولوا وما خفى كان أعظم، من أول الولاد بدأوا يكبروا ومعاملة الأم والأب ليهم مش عادلة، واحد ليه كل الحب والحنان والخوف والطيبة وكل اللي يطلبه والفخر وواحد ليه العُزله والفشل والرهبه والوحدة والكُره والهروب، الولد فِضل عايش في وسط كل الوجع دا لحد ما كمل 17 سنه، كان عنده استعداد يهرب وقتها ومحدش هيهتم لأمره ولا هيفكروا فيه لأن طالما اللي مفروض ومُجبرين يحبوك مش بيحبوك يبقى ملكش لازمه في الحياة، الولد حاول ينتحر كتييير بس كل مره محاولته بتفشل وكأن ربنا عاوزه يتعذب، قرر يسيب البيت ليهم في ليلة شتا في آخر ديسمبر ومشي….
شعرت بدموعه التي بللت ثيابها حتى وصلت لجسدها لتحرقه، حاولت مواسته وإخراج صوتها وربما ضمه ولكنها فشلت واكتفت برفع كفها لمنابت شعره لعلها تخفف عنه كم الألم الذي يعتصر صدره بقوة ويضغط فوق روحه….
صمت « براء» لعدة دقائق يلتقط أنفاسه ثم ابتسم بعشق لفعلتها وأغمض عينيه واسترسل تلك الزكريات القابضة فوق صدره: الولد مشي بطوله من غير هدوم ولا اكل ولا فلوس، هِرب من عيلته اللي حطمته ودمرت ثقته وطموحه، فضل قاعد تحت كوبري ميعرفش حتى مكانه بيحمي نفسه من البرد ويشاء ربك إن راجل عجوز يشوفه وياخده بيته ويتعاطف معاه ويحبه ويربيه مع ابنه، وفاتت السنين والولد دا كبر وخلص كليته وكان في حاله طول عمره، وبعد 9 سنين أهله رجعوا يدوروا عليه ويلاقوه بالصدفه وعاوزين يخدوه بعد ما توأمه مات بمرض خبيث بعد ما هو مشي بسنين، بس الولد وقتها كان قلبه بقا جاحد نسى أهله نسى أزاي كان بيحب أو فين رحمته وطيبته
رفع رأسها ودموعه التي أغرقت وجهه الباكي وأشار على صدره بلكمة قوية وهتف بحرقة: قلبه اتوجع من أهله، قلب الولد دا مات من ليلة الشتا وبقى في قسوة الشتا، الولد دا اتعذب بحق كل ليلة بات بيبكي من إهمال اهله ليه وعدم خوفهم وتجاهلهم وجوده، الولد دا اتحطم
هزت رأسها بنفي وهبطت لتصبح بمستواه وجذبت رأسها لصدرها بقوة ودموعها النازفة تكوي قلبها المسكين، لن تعاتبه فيكفيه ما عاناه بعمره منذ صغره، لقد نشأت بين عائلة تحبها وتخاف عليها وتحتويها عكسه هو، شددت من ضمها له وصوت نحيبه يمزق كيانها، تتفهم ما يشعر به تقسم أن قلبها يئن بوجعه، رفعت رأسه من حضنها وكورته بين أناملها بعشق وعلى استحياء طبعت قبلة متيمة جانب ثغره وهمست: الولد دا قلبه مفيش في حنيته ولا في شهامته وجدعانته، الولد دا قلبه بخير ولو مش بخير مكنش هيفضل موجود لدلوقت
لمعت عيناه ببريقٍ خافت واقترب ببطءٍ من وجهها حتى امتزجت أنفاسهم وتلامست شفاهِهم بقبلة عميقة وعاشقة لأبعد الحدود، قبلة طويلة بث كلاهما مشاعرهم المختبأة بها، لم يهتما للمكان ولا الزمان فقط كل ما يهم أنهم هنا معا، طالت قبلتهم واختفت أنفاسهم بها وكلاهما يرتوي من شهد الأخر رغم ضعفهم وضعف روحهم التي بدأت تُزهر من جديد، جذبها « براء» من خصرها ضاممًا جسدها لجسده بقوة ولم يقدر على إنهاء تلك القبلة الناعمة وكفيه يلامسان وجهها بحنانٍ جعلهم يحلقون بسماء العاشقين بعالمٍ حلله الله لهم……
بعد مدة طويلة ابتعدا ولكن مازالت أنفاسهم تتخلل بعضها البعض رافضة البعد والهجر من جديد، وضعت « ورده» يديها فوق خافقها الثائر لتهدأ من نبضاته وتُسكن جسدها المرتجف الذي انتعش بقربه الفاتن ولكنها فشلت فهل للعشق بقيودٍ تمنع الجسد من التراقص؟!
أما هو!! اكتفى ببسمة هائمة ونظرة خاطفة على هيئتها المرتبكة وخجلها وذلك النمش الذي ضاعف جمالها المُهلك، تمعن بملامحها وكأنها فنانٍ يلتقط صورة فوتوغرافية للوحته بعقله حتى يُعاود رسمها من جديد، بكل مرة ينظر لها يخفق قلبه بين صدره وتشتعل رغبته بضمها وتقبيل رأسها وهذا ما يُعنيه السلام النفسي له، القى برأسه على كتفيها بسلامٍ وتمتم وبسمته تتسع: لحد ما قابل بنت طايشه ومجنونه، بنت من أول يوم شافها وهم بيتخانقوا، بنت صغيرة وأوزعه حيرته، كان كل يوم بيروح الشركة اللي بتجمعهم قبلها عشان يشوفها وهي داخله زهقانه ومتعصبه أنها صحيت بادري، كان قلبه بيرقص لما يشوفها بتضحك في يوم، كانت اسم على مُسمى….« و..ر..د..ه» وهي كانت ورده بس وردة ربيعي اللي نورت ضلمة روحي، كنت كل مره بقول ليها يا أوزعه أو يا قصيرة بيبقى نفسي اضمها ليا واقول ليها والله قلبي ما بيفرح غير لما يلمح طيفك، كانت جميلة رغم خوفها، بسيطة في كل تفاصيلها، ضحكتها بتنورها قلبي ما تضوي قلبي، البنت دي خطفت قلبي وخلتني مش على بعضي، مكنتش عارف إن كلامي بيوجعها كدا لأنها بتبتسم وتزعقلي وتمشي… مكنتش اقصد في يوم أوجعها ولا اتعب قلبها دا انا كنت بعافر لأجل حُبها، غابت عني يومين توهت والدنيا اتقفلت في وشي وحطيت أي حجة عشان اشوفها واعتذر ليها بس هي طردتني وواجهتني بتعبها مني، حسستني بحقارتي وقد إية كنت قذر معاها بس هي متعرفش إن كل دا كان عشان أخليها تكلمني واسمع صوتها واسمي منها حتى لو بغضب ولقب، غبت وعرفت عيلتي وملقتش حد يضمني مكنش على بالي غيرها رجعت ليها بس قبل ما اعترف بغلطي هي عرفت بمرضي وتعبي، أنا حبيتها والله بكل ذرة قوة وضعف فيا ومتمنتش غير قلبها…. تفتكري هلاقي حُبها؟!!!!….
الفصل الثامن 🤍
شظايا الكلمات
إكسير السعادة الذي تجرعته من ملامحها جعلني كالضال عن ماهيتي، أفقدني ثباتي ووقاري، أضلني عن هدوئي، مجرد وقوع ناظري عليها ينتاب قلبي رجفة فريدة أشبه بصاعقة من الانتشاء الروحي
مر اليوم بسلامٍ على جميع العقول الشاردة بحزنها والراجية لراحتها وأخرى طائرة من فرط سعادتها، لقد آتى اليوم الذي كانت تتمناه دوماً بقلبٍ مُبتهج، يوم إعلانها زوجته أمام الجميع، مهما بلغت سعادتها يكمن الخوف بخبايا قلبها الضعيف، إنه يوم زِفافِها على من انشق قلبها حُبًا به، ابتسمت بسعادة لطلتها المُبهرة بالمرآه، هو من اختار هذا الثوب الأكثر من فاتن عليها لتصبح كإحدى قديسات الفِتنة والهلاك بجمالها الشرقي، دارات حول نفسها بسرورٍ خالص ويديها تسير بنعومة فوق جسدها من أعلى فستانها الأبيض اللامع، تنهيدة طويلة خرجت من أعماق صدرها عندما وصل إليها عَبقه الخاص التي أدمنت جزيئاته، فارقت أهدابها برقة ونعومة جارفة وهمست لنفسها: اللهمَّ السعادة والسكينة ودوام نعمتك ورحمتك بِنا
رطبت شفتيها وزفرت بتوتر لتخرج شُحنة القلق التي تعتمر جسدها ولكنها ما أن ابصرته بحليته السوداء وشعره المُصفف وبسمته الجذابة بملامحه الرجولية الطاغية وتلك الثقة والوسامة التي تُحيط به حتى ترددت بخطواتها وابتلعت ريقها وهمست لنفسها: يخربيت حلاوة أمك دا
لنستمع بهدوءٍ وصمتٍ لدقات قلب ذلك العاشق الولهان والمُتيم بالصبابة والوفاء لمحبوبته، ها هي فتاته الفاتنة بثوبها الأبيض الذي ستدلف به أول خطواتها ببيتهم، لقد تجسد أحلامه بها وبطفلٍ منها بل الكثير والكثير من الأطفال الذين يحملون ملامحها وقلبها، تلك الشابة التي أوقعته بلا مجهودٍ أو إغراءٍ منها وجعلته كالمُدمن المنتظر لجرعته اليومية التي تكتمل برؤيتها، قمر لياليه المُظلمة سينير سماؤه من الليلة، لمعت عيناه بوميض الشوق واللهفة لضمها والذهاب بها بعيداً عن أعيض الجميع بتلك الهيئة المُغرية والبسمة الصافية وهذه المُنحنيات التي فتكت به، تنهد بسأمٍ من شروده الذي طال عنها واقترب ممسكًا بكفها رافعًا إياه لشفتيه ولثمه بقوة وعشقٍ وتمتم بسعادة: الفستان حلو بيكِ يا أثير هانم
حسنًا عليها القول أن نظراته أخجلتها وجعلتها تنصهر بوقفتها، نعم أثبت بجدارة كم يعشقها وأنها لم ولن تندم على اختيارها وثقتها به، ارتجف جسدها من عطره المحاوط لحواسها وقُبلته الصغيرة وصوته الرخيم الذي طمأن قلبها، بادلته ببسمة حالمة وهمست: ليه ديماً بتقولي يا هانم
أضاءت عيناه بلمعة الشوق والعشق المُقيد بوجودها وجذب رأسها ثم طبع قبلة متيمة على جبهتها وخلل أصابعه بخصلاتها النارية المتحررة وتمتم باختناق من فرط شوقه ومشاعره: هتعرفي الليلة
لم تشأ أن تضغط عليه واكتفت بالتربيت فوق كفه وهمست بامتنان: بحمد ربنا لوجودك يا راكان أنا قلبي بيفرح بوجودك
كاد أن يرد عليها لولا دخول والدها بوجهه المُحتقن آثر بكائه ومن خلفه جدها ببسمته الخافية لدموعه هو الآخر، افسح لهم المجال ليقتربوا منها وتلك المشاعر الحانية تطوف بينهم بفرحٍ وبهجة، ضمها والدها لصدره بقوة وقبل جبينها واختنق صوته بالبكاء وهتف بتحذير: أنا اديتك نجمتي الوحيدة يا ابني، أثير بنتي الوحيدة ونور عيوني، أنتَ خدت بهجة البيت وفرحته، شيلها في قلبك قبل عيونك يا راكان، أثير نعمه لكل حد تدخل حياته، لو في يوم حسيت بس إنك مزعلها صدقني محدش هيوقف في وشك غيري، ربنا يهنيكوا يولاد
ضمت والدها ودموعها تهدد بالهطول ولكن نظرة جدها الحانية وضمته هو الآخر لها جعلتها تبتسم وتحول نظرها لـــ« راكان» بملامحه المقتضبة لعلها تتفهم سبب تبدل حاله ولكنه اقترب منها مُبعدًا والدها وجدها عنها وواضعًا ذارعها بخاصتها وهتف بتملك وتأكيد: مراتـــــــــي لو سمحتوا وكدا يعني
ضحكت بخجل من نظراته والدها المُغتاظة وجدها الساخر ولكزته بخصره بحدة ولكنه تجاهل حُنقها وسار بها بتفاخر وغرور وهتف لهم: معلش اصلي راجل غيور حبتين وأثير بقت بتاعتي يا عمي بقا ولا إيه يا جدو
حينها لكزه الجد بعصاه بركبته من الخلف وكاد يسقط من الالم وتمتم بتأكيد وكبرياء: مش حريم الشاملي اللي يبقوا ملك حد يواد، بنتنا هتفضل طول عمرها ملك نفسها
رمقه « راكان» بنظرة ساخطة ولف ذراعه الآخر حول خِصر « أثير» التي تُجاهد لتكتم ضحكاتها على مناوشاتهم وهتف بتملك وعشق: بس بقت في بيتي وعلى اسمي وكمان هتنام في حــ..
قاطعه الجد بقذفه بزهرية بلاستيكية كادت أن تصيبه بكدمة ولكنه تفاداها ببراعة ولا عب حاجبيه بمشاكسة وهتف بدلال ومكر: يلا يا روحي ننزل نخلص الفرح دا ونروح بيتنا عشان في كلام كتير هموت واقولوا ليكي
افترس الجد شفتيه هو وولده وهتفا سويًا بغيرة وغضب: امشي يا ابن الكــ…..
رفع « راكان» سبابته بتحذيرٍ ضاحك ونفخ صدغيه وهتف بحدة مصطنعة: ايه هااا إيه… عيب يا جدو… عيب يا حمايا
انهى حديثه والتف دافعًا « أثير» لصدره مستمتعًا بخجلها الزائد وهمس باذنها بوقاحة: خفي كسوف شوي اللي جاي تقيل خلي الكسوف لبعدين يا سوسو
عضت « أثير» شفتيها بقوة ولكزته بكتفه بحدة وخجل وهتفت بهمسٍ حاد: بس يا سافل
رفع « راكان» أحد حاجبيه ومط شفتيه وهتف بثقة ووقاحة مُفرطة: مراتي يا جدع واعمل اللي يريحني اله
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
جلست «هبه» بملل تُتابع التلفاز بوجهٍ مُحتقن وملامح مُقتضبه، منذ ليلة أول أمس لم تراه، اختفى وكأنه لم يكن، أنبت نفسها كثيراً على تركها لزمام الأمور هكذا، رغم نضوجها التام إلا أنها أمامه كطفلة تُعاود طفولتها معه، هذه الليلة كانت من أفضل ما مر عليها، نسيت ماضيها، معاناتها، حزنها، تشوهها وكذلك نسيت كونها مازالت إمرأة متزوجة!!! لكن هناك ثغرة بروحها تريد قربه، تريد فقط الاستمتاع بتواجده الدائم وعَبقه وصوته الأجش، هذا الرجل يُربكها بكل ما به بداية من نظراته الغامضة حتى أفعاله التي تُطيب قلبها المُتهالك، تحسست شِطر وجهها الأيسر بتباطؤ وتذكرت نظراته الحانية عندما رأى تشوهها الذي نفر الجميع منه، أعطاها ثقة كاملة لخلع نقابها الذي ارتدته لتُخفي عيبها، في السابق منذ صِغرها كانت مُتيمة بالفتيات المُنتقبات وترغب بأن تكون مثلهم ولكن عن رغبة تامة وحبٍ ولكن آتى ذلك التشوه ليجعلها تختفي خلفه وليس حُبًا به، هي ممنونه نعم لتلك القُماشة التي تحميها من بُغض البشر لها وقسوة العالم عليها ولكنها تمنت ارتدائه عن رضا تام منها، أفاقت من شرودها على صوت شقيقتها يسمح لأحدهم بالدلوف، تحسنت حالة « رحمه» وبدأت بالسير بضعف على قدمها رغم تواجد الجبيرة بها، استنشقت عبيره الرجولي بحواسٍ يقظة وابتسمت بشوق عندما رأته يحمل شقيقتها ويهتف برجاء: ممكن اطلب منك طلب ؟
هذه المرة لم تهرول لتتخبى خلف نقابها منه بل ابتسمت بثقة وحنان وطالعته بعشقٍ وأردفت: أكيد
وضع « ثائر» الصغيرة جوارهم ومسح على خصلاته بتوتر ودارت نظراته بأرجاء الصالون وهتف: أنتِ مروحتيش الشغل، يعني عندك شغل النهارده يعني، بصي هو
ضحكت بمرح على إحمرار أذناه وتهرب نظراته منها وخجله وهتفت بنبرة تحمل بين طياتها الضحك: هو الموضوع مستاهل دا كله يا ثائر، اهدى كدا وخد نفس طويل واتكلم متخافش مش بعُض والله
ضحك « ثائر» بتوتر وسلط نظراته عليها ورطب شفتاه وتمتم بتمني: عندي فرح ابن عمي، ينفع تحضري معايا؟!
قررت الإفصاح عن البعض من ما يدور بقلبها وهتفت مباشرة: بصفتي إيه
حك ذقنه الخفيفة بتوتر وفرك كفها معًا وتمتم بتعلثم: يعني… هو بصراحه.. بصي
ابتسمت بحزن ولمعت عيناها ببريق الفشل وغمغمت بتساؤل: خلاص كنت بهزر معاك، طب ورحمه
ابتلع ردها القاسي بروحه الخاوية وأمسك كف « رحمه» وتمتم بتهرب: هنسيبها عند ماما متخافيش، هوديها على ما تلبسي
هزت رأسها بموافقة ونظرة له بخيبة أمل كبيرة وهو يغادر حاملاً شقيقتها ثم نهضت بتباطؤ وهمست لنفسها بألم: نصيبك خدتيه يا هبه ارضي بقضاء ربنا وعيشي لأختك ولنفسك
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
أغمضت عينيها بسلامٍ وابتسمت لنسمات الهواء التي تتخلل خصلاتها الغجرية الحمراء وملامحها الهادئة، شددت من كفيها حول خِصره واستندت بذقنها على رأسها وبسمة عاشقة تلوح في الأفق الخاص بهم، جالسان على الشاطئ وهو مستند بجسده عليها ورأسها بين ثنايا صدرها وكم اسعدها هذا، بعد اعترافه الصادق لها بعشقه المكنون وحبه المُقيد لم تتفوه بحرف بل اكتفت بضمه والنوم براحة تامة بين أحضانه الدافئة، ليلة أمس كانت هادئة وحنونة عليها، لم يقسو الليل عليها تلك المرة بوجوده وكأنه يخشى تواجده جوارها، لقد ملكت إحدى النجوم بكفيها عندما استمعت لتصريحه بترانيم تتيمه بها، للآن قلبها يتراقص فوق ألحان حبه الجارف لها، ضمته بقوة أكبر وهم يتابعان تحرك الأمواج أمامهم، قطع تأملهم صوته الحاني: مبسوطه يا ورده معايا
قبلت خصلاته بعشقٍ شديد وشبكت كفيها بخاصتها دون تردد وغمغمت بصدق: عمري ما كنت مبسوطه قد من وقت ما كنت مراتك
رفع « براء» كفيها لفمه ولثمهم بقوة وتنهيدة حارة خرجت من جوفه وتحدث بأمل: حبتيني؟
لقد حان وقت اعترافها له، مهما تهربت عليها البوح بما يختبأ بقلبها، تلمست لحيته السوداء بحنان وغمغمت بصوتٍ هامس مُغلف بعاطفة جياشة: كان في بيت فضلت طول حياتها وحيدة، منبوذة، كانت بتخاف تواجه الناس بسبب شكلها، طول فترة دراستها كانت مكتئبة وعلطول بتبكي، كانت بتسمع شتيمتها منهم بدموع وبس، اتهربت كتير، ثانوي ولحد أولى جامعه كانت بتخاف تواجه، هي عشان قصيرة شوية وعندها نمش أو شوية آثار حب شباب تبقى وحشه؟! هي كانت تقدر تخلق نفسها جميلة ومعملتش كدا؟! كان بإيديها أنها تفضل وحيدة؟! كانت صديقتها الوحيدة أمها وباباها هو سندها الوحيد، شجعوها تواجه وتدافع عن نفسها وتشتغل وعملت كدا وكسبت قوتها يوم ورا التاني، في يوم كان بداية لعنه ليها شافت راجل طول بعرض ودقن وعيون خضرا وملامح تخلي البنات تدوب فيه بيتنمر عليها ويتريق عليها، أول مره زعقت وشتمته وتاني مره طنشته ومشيت وتالت مره ضحكت وزعقت وبعدين بدأت تراقبه من بعيد، غصب عنها حبته مش عشان هو جميل ولا وسيم لا عشان شافت حنيته مع بنت المدير اللي منفصل عن مراته تعبانه وباباها مش موجود وكانت محتاجه فلوس وهي بنت صغيرة ومامتها مش معاها فلوس تكفي علاجها، شافته جدع مع راجل الامن لما ضاع ملف مهم وهو اتهم بسرقته وعشان راجل كبير اتحمل هو الضرر، شافته راجل رغم هزاره الكتير، شافته حد كبير جداً في عيونها، كل يوم كان بيسخر منها كانت بتموت وكل امل عندها بيدفن، كانت بتخبي وجعها وتسكت لحد ما فاض بيها وواجهته وهو يومها مشي!!!
صمتت ليعلو نحيبها وشهقاتها المتألمة ورطبت شفتيها الجافه وهمست بحزن وسط صمته: مشي!! مشي وسابها موجوعه وبتبكي!! لأول مره تسمح لنفسها بالضعف وإنها تبكي، الأيام كانت بتمر عليها بطيئة، قلبها فقد الأمل وكرر يكرهه وينزعه لعل الوجع دا يخف بس كانت غلطانه!! رِجع!! روحها ردت ليها تاني بشوفته بس صدمة رجوعه كانت أقوى من أنها تتحملها وانهارت تاني، صدمة إنها ممكن تخسره المرة دي بلا رجعه خلتها زي الجثه من غير روح، وفجأة يطلع ليها نور يضوي روحها لم تعرف إنه كان بيحبها وبيتعذب زيها بالحب دا، شوفت الدنيا صغيره إزاي يا برائي
التف لها لتتلاقى نظراتهم النارية، لم يرف جفن لكلاهما ولم تتحرك شفَاههم بل سادت نظراتهم الهادئة، انحسر الوقت حول تلك اللحظة السعيدة عليهم، كلاهما لاذا بما رغبوا، صوت دقات قلوبهم يجذبهم لجنة شاسعة من الحب والحنان، تحركت أصابع « براء» لتتخلل كفها الناعم بقوة وتملك ودموعه تسير ببطء على صدغيه، علا ثغره بسمة سعيدة وراضية وهتف بنَبرة معبأة بالعاطفة: بحبك يا وردة أيامي وفرحة سنيني الجاية
ابتسمت « ورده» بسرورٍ وانتفض قلبها لتصريحه التي تسمعه للمرة الثانية ولكنه يبقى بمذاقه الخاص كأول مرة دوماً، اتسعت بسمتها الولهانة واقتربت منه حتى اختلطت أنفاسهم الراغبة والمتلهفة وغمغمت بعشق: بحبك يا برائي
بجراءة وحب اقتربت مُشابكة شفتيها بخاصته بقبلة جريئة، عاشقة، عنيفة وبريئة، اقتربت بجسدها منه وضمت وجهه بين كفيها وسط صدمته التي لم تختفي ولكنه جذبها بقوة ليضعها فوق قدميه وضمَّ جسدها له بعنف تأوهت منه وقاد هو وجهة قبلتهم وحولها من قبلة بريئة وجاهلة لأخرى ناعمة وخبيرة وقوية غابا كلاهما خلفها تحت سِتار الأمل الذي وُلِدَ بهما من جديد، من أسفل أنقاد أرواحهم خرجت أسطورة جديدة لعشقهم الأبدي، تغنجت السماء برياحها لتشهد تلك اللحظة التي ستُحفر بركنٍ خاص بفؤاد كلاهما، لاح بالأفق طير عشقهم وصمتت جميع الأصوات سوا أنفاسهم السريعة كمثل مشاعرهم
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
وضعت « أثير» يديها حول عنقه وضمت جسدها له بخوف وقلق من النظرات الساخرة منها التي تلقتها من الجميع للآن، لم تكتمل فرحتها فنظرات الحاضرين الحاقدة والشامتة والأهم الساخرة والمُشفقة جعلتها تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها، فاقت من شرودها على صوت الموسيقى الذي صدح ليُعلن بداية رقصتهم، نظرت لـ « راكان» بعشق متناسية ألم قلبها وذلك الوخز بروحها وابتسمت وتركت نفسها بين يديها….
شعر « راكان» بخوفها من حركات جسدها المتوتر أسفل يداه مما دفعه لإحكام ذراعيه حول خِصرها ليُعلن للجميع بملكتيها له وأن هذه الفاتنة أوقعته بعشقها حد الهلاك فلم يجد نجاة منها إلا إليها، اقترب بأنفاسه الحارة من عنقها الظاهر وهمس بحنان: خايفه ليه يا قلب وعيون راكان
وضعت رأسها على كتفه وتدللت برقصتهم وتحركت مع حركاته الناعمة وهمست بشجن: مبقتش خايفه من أول ما حضنتني
فك حِصاره عنها ورفع يديه للأعلى وجعلها يدور بين يديها ومن ثم ضمها لصدره وظهرها يشعر بخفقاته وغمغم بصدق: بحبك ولو ادوني فوق عمري عمر هكتفي بحبك فيهم
تراقصت بين أوتار رجولته وثقته ووقاره واسندت رأسها على صدره وأنغام الموسيقى تتغنج عليهم وهمست بلوعة مُحبة: لو الزمن رجع بيا كنت في كل مره أقابلك فيها كنت هأمنلك من أول وجديد
توقفت الموسيقى وفاق كلاهما من انسجامهم على التصفيق الحار بالقاعة الفاخرة بزينتها المُبهرة، انحنى « راكان» على أحد ركبتيه وأمسك بكف « أثير» ولثمه بعاطفة شغوفة وهتف بصوتٍ عالٍ: بعترف بأني عمري ما حبيت ولا هحب غيرك يا أثير هانم ولو الزمن رجع بيا ألف مره هتمناكِ تنوري دنيتي وبيتي في كل مره بحبك
أوقفته « أثير» ودموعها السعيدة تغرق وجنتيها وضمته بقوة لصدرها وهمست بصدقٍ نابع من صميمها: بحبك يا راكان، بحبك لدرجة مبقتش قادرو اتنفس من غير وجودك جنبي، بحبك
لم تُصدق آذناه تصريحها بعشقها الشديد له وسط الجموع الحاضرة فابتعد عنها ونظر لها بخوفٍ وسألها مجدداً بتوتر: قولتي أيه؟!
ضحكت « أثير» على صدمته وملامحه المتعجبة وقربته مكورة وجهه بين كفيها بحنان وهتفت بتأكيد وعشق: بحبك يا راكان، بـــ حــ بــ كــ
ابتلع « راكان» ريقه بتوتر وبرزت تفاحة آدم خاصته بوضوح وهمس باختناقٍ من فرط مشاعره: بقول كفاية كدا ونروح بيتنا لإني كدا حرام
ضحكت « أثير» بخجل وجذبته من كفه ليجلسا بمكانهم والسعادة طاغية عليهما وهمست بتوتر: عيب يا حبيبي شوي وهنمشي
زفر « راكان» بغضب وتلبك بجلسته وهمس من بين أسنانه: حبكت تقولي حبيبي دلوقت، منك للاه أنا أصلاً ماسك نفسي بالعافية لنتمسك آداب وجدك هيطلعك ويخلص مني
ضحكت « أثير» حتى أدمعت عينيها وتلاقت عينيها مع « مي» ابنة عمها بكبرياء ثم تجاهلت نظراتها الحاقدة والباغضة ووجهت نظرها مجدداً لحبيبها وهمست بتلاعب : عيب يا روحي والله
جحدها «راكان» بنظرة حادة أخرستها وجعلتها تتهرب منه وهتف من بين أسنانه: اللي بيلعب بالنار لازم يتحرق بيها يا أثير هانم افتكري دا كويس
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
وصلا أخيراً بعد ساعة من الصمت الذي خيم عليهم، لا تدري لما وافقت على طلبه ولما بالأصل هو أرداها معه بأي صفة سيقدمها لأهله، ترجلت من مقعدها وسارت خلفه بصمت بينما هو لم يروقه هذا الوضع فقرر البدء بالحديث وتمتم بجدية: مالك يا هبه من وقت ما خرجنا وأنتِ ساكته أنتِ مكنتيش حابه تيجي؟!
ابتسمت بتكلف وهزت رأسها بنفي ولمعت عينيها بالعبرات وهمست بكذب واقتضاب: لو مكنتش حابه مكنتش وافقت ولا جيت
هز « ثائر» راسه بعدم اقتناع ووضع يده بجيبه وأردف بثبات: اللي جوا دا ابن عمي اسمه راكان واحنا هنسلم عليهم ونمشي علطول متقلقيش بس حبيتك تغيري جو بدل ضغطك في الشغل والبيت
أومات له بصمت وتبعته حتى دلفا للداخل، أصابها بعض الخوف والرهبه من الزِحام وهذا التجمع الكاذب، لطالما كرهت الطبقات الرفيعة لمظاهرهم الكاذبة ومشاعرهم المزيفة وسوء علاقاتهم، تبغض المال وما يفعله بالنفوس البشرية من حقدٍ وغلٍ، تنفست محاولة لتهدئة نفسها واقتربت معه نحو مجلس العروسين….
نهض « راكان» محتضنًا « ثائر» بحرارة وشوق وهمس كلاهما بنفسٍ واحد: ليك واحشه يا شق واللهي
ضحكا كلاهما على ذلك الترابط الدموي بينهم وقوة صداقتهم ولكزه « ثائر» بصدره وهتف: مُبارك عليك يولا، أنتم السابقون ونحن اللاحقون
ختم كلامه بغمزه ثم نظر لـ « هبه» الخائفة وقدمها لهم بحفاوة: دي يا عم هبه، تقدر تقول الركن الهادي
طالعته « هبه» بتعجب واستفسار تجاهله « ثائر» بينما فهم « راكان» مخزى كلماته وابتسم بسعادة وقدم لهم « أثير» المتابعة للموقف بحرج: دي بقا أثير هانم تقدر تقول القلب بجدرانه
تلاقت نظرات الفتاتان بحنية وشغف للتعرف ولكنهم ابتسمتا فقط وهمست « هبه» بحرج: مُبارك يا أثير
جذبتها « أثير» وضمتها عنوة وضحكت بمرح وهتفت: عُقبالك يجميله، متتكسفيش مني
بادلتها « هبه» عناقها بقوة وأُلفة وتمتمت بصدق: شكلك قمر في الفستان
اشتعلت وجنتي « أثير» بخجل وعصت شفتيها وغمغمت بتوتر: بجد يا هبه
طالعتها « هبه» ببسمة هادئة وربتت فوق كتفها وهمست: بجد جداً وعيون راكان هتاكلك
كان كلاً من « ثائر» و« راكان» يتابعان سرعة صداقة الفتاتان وأُلفتهم السريعة مع بعضهم البعض بتعجب همس « راكان» لـ « ثائر» بتوجس: أنتَ مطمن؟!
هز « ثائر» كتفيه لأعلى وتحدث بهمسٍ مماثل له: عارف الفار اللي بيلعب في عقلك دلوقت هو نفسه اللي عندي
ابتلع « راكان» لعابه وهتف بترجي: استرها يارب دا أنا غلبان ولسه مدخلتش دُنيا
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
دلفت بخوف من باب ذلك البيت الجديد عليها بل بيتها الجديد؟! نظرت بتوتر لـ « راكان» المتابع نظراتها وتهربت منه وهمست: أوضتي فين؟
عقد « راكان» حاجبيه بزهول من ياء الملكية بجملتها ونهض مصححًا بنبرة خبيثة: اسمها اوضتنا يا روحي، تعالي أوريكي
سارت « أثير» خلفه بقلق وقلبٍ مضطرب تضغط على فستانها لعله يمدها بعض القوة والثبات أمام هذا الموقف، دلفت خلفه ونظرت للغرفة بسعادته وانبهارٍ شديد، حولت نظرها له ثم هتفت بعشق: دي أوضتنا؟!
هز « راكان» رأسه بموافقة واقترب منها بخطواتٍ بطيئة ولم يرف جفنه لثانية ليحرمه من ملامحها الحبيبة لقلبه وغمغم: كل حاجه فيها زي ما بتحبيها بالظبط
ضحكت « أثير» بسعادة وأسرعت تُلقي بنفسها بين ذراعيه وهتفت: بحبك يا راكان بحبك أوووي
ضمها « راكان» لصدره بعنف وتأوه براحة ثم قبل خصلاتها بعشقٍ وتمتم: وراكان بيعشقك يا ضي عيونه
رفع « راكان» وجهها ليصبح أمامه مباشرة ليروي ظمأه وظمأ أربعة أعوام من الشوق واللهفة والوجدان لها، هبط ليقتنص من شفتيها حقه الذي حُرمَ عليه قبلاً والآن هو له وبكامل إرادتها، قطف من بُستان شفتيها قُبلاتٍ مسروقة عصفت به وجعلته يجذبها بعنف له وشفتاه تسير بلا هوادة ولا رحمه تلتقط كل ما تطأ عليه، غاص بقبلاته ينهل من شهدها العذب ويطفئ نيران عذابه وشوقه لها، تحركت شفتاه نحو جيدها الناعم ليفك طرحتها التي تُعييقه وألقاها بإهمالٍ على الأرضية ودفن أنفاسه بين ثنايا عُنقها الناعم مستمتعًا بقربها اللذيذ ومذاق نعيمها الفريد، لثم عُنقها بقبلات متفرقة وسارت يداه تعبث بسحاب فستانها ولكنها فاقت من غيمة مشاعرها وابتعدت عنه تلملم ما بعثرته لحظتهم وهتفت بحدة وخجل: مينفعش
ابتسم « راكان» ببلاهة وضرب كفه معاً وهتف بصوتٍ عابث: مينفعش إيه يا أثير
أدرات وجهها بعيداً عنه وعضت على شفتيها بخجل وهتفت بتوتر: اللي في بالك مينفعش صدقني ومش هيحصل
نفخ « راكان» صدغيه بغضب وتمتم بحدة مزيفة: لا دا أنا اروح فيكي في داهيه مش أصوم اصوم واتعشى حمام أنا هتعشى بيكي
ضحكت « أثير» بمرح على غضبه وصوت أنفاسه الحادة وهزت كتفيها بلا مبالاة وغمغمت بمكرٍ: روح نام يحبيبي عشان متحلمش كتير لأنه مش هيحصل لتلت أيام قدام
سقط فك « راكان» صدمة من تلك المكيدة التي وضعتها زوجته بها واقترب بخطواتٍ ثابتة ثم دنى منها وهتف بتوجس فور وصله معنى حديثها: أوعي تكون هي!!!!
واجهته « أثير» ببسمة عريضة ولكنها خجولة وهزت رأسها بتأكيد وتمتمت: بالظبط يا روحي
فك « راكان» ازرار قميصه بغضب وعلا صوت تنفسه وهتف بحدة: دا انا هطلع روحك الليلة
كتمت « أثير» ضحكتها على مظهره وشعر المُشعت وغمغمت بنعومة قاتلة: اله وأنا مالي بس يا راكان
لوى « راكان» شفتيه بتحسر وجلس أعلى الفراش المزين بالورود الحمراء وهتف بخيبة أمل وحسرة: هي أمي قالتلهالي طول عمرك فقري يا راكان يا ابني وصدقت
شظايا الكلمات
الفصل التاسع
_وماذا عن ألم الهَجر؟
= كالسُمِ ينشط بالجسد فيُهلكه
_ وبالروحِ؟!
= يؤلم كنزاع العقل لاختيار الصواب والأقرب للصواب فيُشتته
هناك حيث الفراغ القاسي الممزوج ببرودة الرياح العاتية، حيث العقل المُشتت والواقع المرير، تتفقد ذاتك عدة مرات ظنًا منك بأنك لربما مُتَ وتحلل جسدك وتلك البرودة التي تتسلل إليك هي نتيجة توقف تدفق دمائك ولكن رغم ذلك لم يتوقف الألم!! لم يتوقف عن كونه عادة معنوية ومادية بداخلك، تُجبرك تلك الغِصة المريرة على إلقاء روحك بالهاوية لربما يخشاك الوجع والحزن، نقطة سوداء سُكبت بأواصِلنا مهدت السبيل للجِراح والمزيد من الندبات القوية، لن يرحل الشتاء هذا العالم إلا بفقدان الشغف، اللهفة، الحماس، النشاط والحب!!
كان الزِفاف أكثر من مُبهر لها ذكرها بزِفافِها، أعاد لها هذه الفرحة التي خُتمت بصوت صرخاتها المُتألمة حتى تقطعت أحبالها الصوتية، بخبرتها القليلة بأمور الحب أدركت مدى عشق العروسين لبعضهم البعض ولكن لما نظرة الخوف والرجاء بقدحتين بذلك المُسمى بـ « راكان» رغم حُبه الجارف الذي تقصه تعابير جسده!! أياً يكن لديها ما يكفيها لتفكر به، تلاقت نظراتها مع خاصته بثوانٍ طويلة دق قلبها بعنف لهذه العينان الساحرتين، هذا الرجل من البداية كان خطرًا شديدًا عليها ولكنها على أية حال تعشق المخاطرة!!!
خرجت خلفه بعقلٍ شارد وعينين ذابلتين كأوراق الخريف الصفراء، راقبت من نافذتها حركة السيارات السريعة والشخوص المجهول هوية قلوبهم لها، ابتسمت بسخرية من نفسها وهمست بخفوتٍ لذاتها: طريقك كله شوك والطريق اللي بدايته وجع نهايته فُراق
أفاقت على صوت احتكاك إطارات السيارة وتوقفها أمام البناية، هبطت من السيارة دون نظرة عابرة له وقلبها ينبض وكأنها بسباق مارثون، تريد الهرب والنجاة من هذه الموجة التي ستُطيح بقلبها المتهالك
منذ البداية يتابع توترها وخوفها ويستشعر حزنها بحركتها المتوترة والخائفة، لا يعرف ما دهاها تتصرف بغرابة عليه ولكن لا مجال للهرب الآن، تركها تتهرب بصمتها وشرودها طوال الطريق وهو يتابعها خِلسة بعيناه، لا يروقه حالها الذابل لا يناسبها الحزن والخوف هي خُلقت لتتوج ولن يتردد بفعل ذلك، ترجل من مقعده وأغلق السيارة واستند بجسده على مُقدمتها وهتف بأمر: استني
لم تكن المسافة التي تخطتها بعيداً عنه كبيرة ولكن صوته الحاد ونبرته الحالمة لبوادر الغضب أوقفت قدميها عن الحِراك وقبضت فوق ثوبها…
مسح على شعره بتروي وكل رغبته تنصب بجذبها بقوة لذراعيه وهذه الرغبة تتملكه حد الهوس وكم يخشى منها، تقدم منها حتى أصبح أمامها مباشرة وعيناه تلتهمها بشغفٍ وحزم وهتف بإصرار: أنا سيبتك من وقت ما جيت أخدك ومضغطش عليكي واحترمت صمتك والدموع اللي بتخبيها عني واللي حقيقي أنا جاهل سببها بس مقدرش أسيبك دلوقت، مالك يا هبه
افترست شفتيها بألم وهي تُنصت لحديثه الذي يقع عليها السوط الحاد وغمغمت بهمسٍ خافت ولكنه حزين : ليــــه؟!
جعد ملامحه بتعجب واستفهام وهز رأسه بجهل وهتف: ليه إيه؟!
ابتسمت بأمل وأغمضت عينيها للحظاتٍ ثم فتحتهم وهتفت بقوة: ليه مقدرتش تسيبني؟! ليه عاوز تعرف سبب تعبي؟! ليه خايف عليا؟! جاوبني ووقتها هقدر أجاوبك على كل أسئلتك اللي شاغله بالك
انعقد لسانه وطارت الحروف من جوفه فبلع ريقه بارتباكٍ وأشاح بنظره عن عينيها الراجيتين وتمتم بضياع: مش عارف ليه بس جوايا حابب أعرف جوايا رُكن حاسس بوجعك ورافض يسيبك فيه، عاوز اطمن عليكي مش حابب نظرة الوجع اللي مبقتش تفارق عيونك، صدقني أنا متشتت ومش عارف إجابه لكل أسئلتك دي!!
حبست دموعها الخائبة ونصب عودها الضعيف وهتفت بقوة زائفة منافية لكل الضعف المُتعايش داخلها: وقت ما تلاقي إجابتك في نفس المكان والعالم هتلاقي إجابتي
لم تنتظر رده بل جرت أقدامها بضعفٍ وخيبة أمل راغبة بوصلة من النوم لو تدوم لمئة عام أو يزيد لا ترغب بالاستيقاظ لترى نظراته المشتتة كما يزعم أو نظرات الشفقة والعطف والنفور والسخرية التي تتولد من الجميع تجاهِها، نغزات قوية تضرب جسدها بمواضع ضعفه لتزيد الأمر سوءً وترفع معدل الألم بداخلها القاتم، وصلت بالنهاية لشقتها بل عفواً شقته التي عَطَفَ عليها هي وشقيقتها بها وهي بسذاجتها وافقت بل وانصاعت له تحت مسمي الحصول على حريتها من زوجها، أغلقت الباب بضعف واستندت عليه وكتساقط الثلوج وقعت ضاممة جسدها لركبتيها وانخرطت ببكاءٍ مرير سامحة لهدنة طفيفة لقلبها من الألم الذي تذوقه وكم كان كالعلقم، علاَ صوت نحيبها تزامنًا مع ضعف جفنيها وارتجاف جسدها، شُوشَت الرؤية أمامها لا تعلم أمِن غشاوة دموعها أم من بوادر ذهابها بعالم اللاوعي والإدراك!! على كُلٍ كم هي مرحبة بذلك العالم المظلم الذي سيبتلعها عاجِلاً أم أجِلاً. …
************
من المؤسف عدم إدراكِنا لاحتياجات قلوبنا، تلجأ القلوب للهرب والجزع عندما يعلو صوت العقل بالنفور من الشخص المراد، تضعف قواتنا المُكتسبة منهم ومن ثم نبكي ندمًا وتطبًا بعودتهم، نرغب وبشدة العودة لنقطة البداية لإصلاح المزيد من الأمور ولكن عند تساقط آخر حبات الرِمال من الساعة الزجاجية يصدح العقل بالتوقف مجدداً وعندها ينتهي كل شيء بدَمعةٍ وشهقة مؤلمة….
دلف من باب شقته بخطىَ متعثرة عكس طبيعته القوية والواثقة، تمسك بالباب وانتصب واقفًا مقابل بابِها، يُقسم أنه يستمع لصوت تهشم فؤادها بيديه وتدفق الحزن لروحها، لم يكن أهِلاً بها بل بكلماته حطم المتبقي منها دون قصدٍ منه!! أغلق الباب واستند برأسه عليه وهمس بألم: لــــيــه بغبائـــي وجعتهـــا
لم ينتبه لوالدته الواقفة خلفه يبكي قلبها حزنًا على فلذة كبِدها وصغيرها الوحيد، تشعر بمرارة صوته وتلك الغِصة التي تحرق جوفه كمادة كيميائية مُلتهبة، اقتربت منه وربتت بكفها فوق كتفه بحنانٍ خالص وهتفت: تعالي
فتحت ذراعيها كطيرٍ يستعد لإنقاذ ولده الذي بدأ للتو بتعلم الطير ولكنه كان يسقط فشلاً وخوفًا، شعرت بقوة دفعت جسده لصدرها، ضمته بقوة ومسحت على ظهره بحبٍ وحنان ٍ وغمغمت بثقة: مصرحتهاش بحبك ليها ليه؟!
دفن وجهه بصدرها أكثر ولمعت الدموع بمقلتيه الحزينتين وهتف وهو يتذكر ترقرق العَبرات بحدقتيها: مكنش عندي الشجاعه الكافيه، خوفت، كنت ضايع قدامها…
أخرجته من حضنها وسارت به لأقرب أريكة، أجلسته أمامها وكورت وجهه بين يديها وهتفت بلا تردد: أنت عارف وواثق من نفسك إنك حبيتها رفضتها ليه وأنت حاسس بحبها
نظر لوالدته بتعجب من علمها بكل مشاعرهم الخفية فابتسمت بتفهم لنظراته ولكزته بكتفه وهتفت بعاطفة: أنا أمك وفهماك وأفهم عيونك وقلبك فيه إية كويس، مش عيب ولا غلط إنك تعرفها مشاعرك بس متجرحهاش، هبه متستهلش كدا، أنت خايف ليه يا حبيبي
أراح ظهره على الأريكة وأغمض عينيه بتعب وهتف بشرود: النهاردة كانت غير يا أمي، كانت حزينه ومهمومه، كانت بتشكيلي مني وإني سبب حُزنها ووجعها، سكوتها وهروبها مني كان ، أنا مش عيل مراهق بس معاها بتحول لكدا وبنسى العالم، أنا عارف إني النهاردة خذلتها وإنها كانت مستنية ولو كلمه واحده مني بس غير كل الكلام اللي قولته بس كنت ضايع ولساني نطق بحاجات كسرتها معرفش ليه، هبه اتوغلت جوايا زي المرض اللي عارف علاجه ومش عاوزه، أنا خايف أجرحها خايف مقدرش اتعامل مع خوفها الزايد ولا كسرتها اللي استرخت فيها، أنا بقصد أبات ليالي في الشغل عشان أتهرب منها ومن عيونها اللي بتتلهف تشوفني، فاكره لما قولتيلي هتفضل عازب لامتى وقلبك ميحبش فاكره قولتلك إيه؟!
ابتسمت والدته وتحركت يديها لتمسح على خصلاته بحب وأردفت ببشاشة: قولتلي مش هتجوز غير واحده عقلي قبل قلبي عاوزها ومتلهف عليها، مش هظلم بنت ناس معايا تحت مُسمى إني مع الوقت هحبها، قولتلي أنا مش كل يوم هحب
قاطعها « ثائر» بابتسامة رائعة وأكمل بعشق: وعندي غير قلب واحد هحب بيه بنت واحده، البنت دي هبه بس قدام ضعفها بكون لأول مره متوتر ومتردد من إني أمد إيدي ليها عشان أنقذها من قوقعة الألم اللي عاشته السنين دي، هبه جميله فوق ما حروفي ولا مشاعري توصفها يا أمي
حركت السيدة « نجاة» رأسها أمامه باستنكار وهتفت وهي تدنو منه: عشان كدا مقولتلهاش إنها اطلقت من شهر فات وفاضل شهرين وعدتها تخلص! هتواجهها بكدا امتى؟! مظنش بقى ينفع تخبي أكتر من كدا
نهض بِقِلة حيلة وقبل رأس والدته بسأمٍ وتمتم بتعب: ادعيلي يا نوجا، ابنك قلبه تعبان وضايع
ربتت فوق كفه البارد بحب وأدمعت عينيها لنظرة الضياع بعيني صغيرها وهتفت بتأكيد وأمل: سلامة قلبك يا ضي عيون نوجا، بدعيلك ياابني في كل صلاة
توجه « ثائر» بخطواتٍ ضعيفة لغرفته لينعم بحمامٍ دافئ نافضًا غُبار الحزن المتربص لهذه الليلة الشنيعة بينما بقت والدته تنظر بأثره بتأثر ولوعة على ما أصاب ولدها الوحيد، رَجُلَها الوحيد الباقي لها يحترق بنيران عشقه الأول، ابتسمت بيأس وهمست بصوتٍ خافِت: بيبان الحب من شوك كل وارد مسيره ينصاب يا ضي عيني
**************
طال انتظاره لها أمام باب المرحاض، مضى أكثر من نصف ساعة على دخولها لتبديل ثيابها ولم يلوح طيفها للآن!؟ طرق عدة طرقات على باب الغرفة بنفاذ صبر وهتف بغضب: أثـــيــــر اطلعـــي بقا
سمع صوت فتح الباب وتواريها خلف الباب فجز على أسنانه وصاح بحدة وتمالك: اطلعي بقا يا زفته بتعملي إيه دا كله
ابتسمت« أثير» بسماجة وارجعت خُصلة هاربة من تسريحتها وهتفت باستفزاز: عاوز أيه يا بيبي! أله مش عروسه
افترس « راكــان» أسنانه بغضب من تصرفاتها التي تُشعل فتيل غضبه وهتف بحدة: عاوز اعمل زي الناس ثم تعالي كدا
ألقى ملابسه على الأرضية وتقدم منها جاذبًا تلابيب ثوبها الذي لم يتبين ملامحه وهتف وهي بين يديه كالجرو الخائف: عروسة إيه يا أم عروسه هنكدب على بعض ما أنتِ لعبتيها صح
أغمض عينيه بجزع ثم فتحهم فوقعت عيناه على ثوبها الأبيض الذي بالكاد يصل لقبل ركبتيها بكثيرٍ بحمالاته الرفيعة وتلك الحِبال الخلفية التي تُشكل غِطاءً لظهرها!!! حتماً سيفقد تحمله وصبره، دفعها من أمامه بحدة وهبط متناولا ملابسه وهم يستغفر، أزاحها مجدداً بقبضته وهتف بغيظٍ: روحي نامي في ليلتك اللي مش هتعدي غير بذنوب الليلة دي، روحي منك لللاه يبنت الشاملي، هو ثائر الكلب اللي باصصلي في أم الليلة الفقر دي
وضعت يديها على فمها تكتم ضحكاتها بصعوبة من وجهه الأحمر وأذناه القانيتين وأنفاسه الغاضبة، أدمعت عينيها بسبب عدم قدرتها على كتم ضحكاتها فانفجرت ضاحكة بشدة حتى تساقطت بعض دموعها الساخرة والمتشفية فيه، اقترب منها « راكــان» مسحورًا بمظهرها الفاتن وهيئتها المُغرية وهتف بلا وعي: يخربيت حلاوة ودلال أمك يشيخه أنتِ كانوا بيشربوكيِ فلاوله بدل اللبن ولا إيه
صمتت ضحكاتها من غزله الصريح وقتامة عيناه التي تزداد واتساع حدقتيه وهتفت بغرورٍ مُدلل اكتسبته مؤخرًا: تؤ لبن عادي يا روحي
ابتسم « راكـــان» بمُكرٍ وقرصها بــ خِصرها بِــ خفة وهتف بعبث: طب ما تيجي أقولك كلمه سر
شهقت « أثير» من وقاحته المُفرطة وأغمضت عينيها بخجلٍ عكس جرأتها السابقة وهتفت بحزم: ادخل خدلك شاور ونام يا راكــان وخد بالك أحسن تاخد برد
هز رأسه بسخرية وتخصر باستهزاء وهتف: واغسل سناني قبل ما أنام بالمرة يا مامي!؟
أشاحت بوجهها بعيدًا عنه وأدارت ظهرها له متناسية ثوبها بكل تفاصيله!! كاتمة ضحكاتها ولمعة عيونها المُبهرة وهتفت بكبرياء مصطنع: يلا لأن الوقت اتأخر
حملق بعينيه بزهول من ظهر قميصها المُنعدم إلا من خيطين منعكسين بعقدة صغيرة عند المنتصف كاشفًا بشرتها البيضاء الذي موقن من نعومتها ورقتها مثلها، تحركت أصابعه لتلامس بشرتها ولكنه تراجع بأخر لحظة عن فعلته ووضع المِنشفة على رأسه بحنقٍ وهتف: اللهمَّ أخزيك يا ابليس الكلب بتفكيرك القذر وأفعالك الأقذر
********************
غريبة ثم زوجة ثم والدة ومن ثم تصبح العالم بأسره، حسن اختيار الزوجة من أفضل الأرزاق التي منها الله علينا، فلن تبقى ليوم أو ليومين بل للدهر وما بعده سنتشارك بالضراء قبل السراء، هي من ستتقبل ظلمتك الداخلية وبل وتحاول أن تُنيرها بكل ذرة من قوتها….
دثرته جيداً بالفراش وضمت رأسه لصدرها وهمست بحب: ارتاح شوي جسمك محتاج راحه عشان يقدر يواصل
شعرت بهزة رأسه بالنفي بين ذراعيها فابتسمت بخفوتٍ وتحدثت بأمرٍ مرح: لما أقول ارتاح يعني ترتاح من هنا ورايح في قوانين يا أستاذ
أخرج رأسه من بين براثين قلبها الدافئ ورمقها بنظرة شغوفة ومحبة وهتف بتأكيد: يا قلب الاستاذ اللي تأمري بيه هيكون بس مش عارف اشبع منك وخايف أنام ولقدر الله
قاطعته بعنف واضعة يديها فوق شفتيه وهزت رأسها بنفيٍ هيستيري وهتفت بحزم ورجاء: لا لا بعيد الشر، أنا واثقه إن ربنا مش هيردني خايبه
قبل باطن كفها بعمق ورفع يديه لتتحسس وجهها المميز له وابتسم بعشق وغمغم بانبهار: من أول يوم شوفتك فيه وشكلك شدني زي ما يكون حواليكي تعويذه وقعتني على جدور رقبتي، طول عمرك مميزه يا ورده
تلمست كفه بكفها الصغير وتمسحت به كهرة صغيرة وهمست بحب: رغم كل مشاكلنا وخناقتنا قلبي مكنش قادر يكرهك ولا يبطل يحبك، كان بيعاندني وينهرني لما أفكر أبعد عنك، بهرب منك إليك، معرفش حبيتك ليه وأنت معندكش ولا ميزه
رمقها « براء» بغيظٍ وجعد ملامحه وهتف وهو يشد أذنها: أنا مفيش عندي ولا ميزه يا شبر ونص
بادلته « ورده» بنظرة مماثلة ولكنها ساخرة وهتفت بغرور: تنكر إنك وقعت بسبب الشبر ونص دي؟!
ترك « براء» أذنها وضحك حتى ادمعت عيناه ثم جذبها لصدره بحب ودثرها جيداً بالفراش معه وهتف بتأكيد: والله دوختني وخلتني زي المراهق اللي بيستنى نظره من حبيبته
رفعت « ورده» أحد حاجبيها باستنكار وبجرأتها المعتادة جذبته من تلابيب قميصه وهمست وأنفاسها تداهم صفحات وجهه: بذمتك في مراهق قمر كدا؟!
ثانية وأخرى لم يستوعب «براء» وقاحتها ولا أفعالها الجنونية فانفجر ضاحكًا عليها بشدة حتى ترقرقت الدموع بمقلتيه الساحرتين وهتف من بين ضحكاته: يبنتي أنتِ عليكي طلعات بتوقف قلبي والله
رفعت « ورده» رأسها بكبرياءٍ وشموخ ورمقته بنظرة شاملة ولكنها أبدلتها بعد ثوانٍ بأخرى ماكرة وغمزته بوقاحتها وهتفت بمرح: سلامة قلبك يا قرة عيني يا قمر أنتَ
ارجع «براء» ظهره على الفراش وجذبها لتتوسد صدره العضلي ولم تختفي ضحكته التي هي سببها الرئيسي وهتف براحة واطمئنان: قلبي بسلامته لأنك قريبه منه
********************
فاقت من ليلتها العصيبة على صوت طرقات الباب، لا تتذكر شيء سوى وقوعها وبكائها وتلك الغشاوة التي أصابتها ومن ثم انتهى كل شيء، نهضت بضعف وفتحت الباب، رأت نظرة شقيقتها المعاتبة على تقصيرها الذي فاض عن حده بالأيام الماضية، لقد نست وجودها عند والدة « ثائر» ليلة أمس، ساعدتها بالدخول حتى جلست بمنتصف الردهة ومازالت عينيها تلتهمها بنظرات العتاب واللوم الذي يرهقها فوق ما تعانيه من آلالامٍ جسدية ونفسية جارفة، جلست جانبها بصمت قاطعته رحمه بصوتها المتوجس: أنتِ كنتِ نايمه جنب الباب بهدومك؟!
ابتلعت « هبه» غصة الألم التي انحدرت لتقعد لسانها وحاولت إخراج حروفها ولكنها عجزت فهمست بتعب: رحمه ممكن تسيبيني دلوقت؟!
اعتدلت «رحمه» بجلستها لتقابل تهرب شقيقتها الكُبرى ونظراتها الحزينة التي تفهمتها جيداً وهتفت بإصرار: لا مش هسيبك وضعك بقى ميتسكتش عليه، بقيتي نسياني ولا كأني موجوده، تقبلت كل حاجه وقولت متضغطيش عليها بس عجبك شكلك دا؟! لبسك اللي نمتي بيه والنقاب اللي ممكن كنتي تموتي وأنتِ كاتمه نفسك بيه طول الليل ولا عينك الحمرا من كتر العياط ولا جسمك اللي بيضعف يوم عن يوم؟! راضيكي ضعفك دا؟!
أشاحت بوجهها عنها وابتسمت بسخرية، أتخبرها انها لا تعرف كيف نامت بل بالأصح غابت عن الوعي؟! أم تخبرها عن تلك القبضة ابتي تعتصر فؤادها؟! أم عن حُطامِها ليلة أمس للمرة الثانية على التوالي على يد من أحبت؟!
كعادتها نهضت ببطء ووهن ودلفت غرفتها وسط تعجب الصغيرة الغاضبة والحزينة على شقيقتها وأمها الأولى والوحيدة حتى الآن، لم تكن « هبه» لــ «رحمه» مجرد أخت بل كانت أعظم من ذلك بكثير، كانت الرفيق الأسمى والأنيس الأغلى بل الأوحد والقلب الحاني والصوت الغالي والأم المثالية والأب الألطف والعالم الأروع لها، حين تبكي تضمها وحين تبتسم تتراقص معها، نسجت لها من جسدها سعادتها وقوتها اليومي، نضجت مبكرًا لما عانته شقيقتها أمام عينيها…
****************
استيقظ بنشاط وحماس أفتقده لأيامٍ عديدة، بعد ليلة عصيبة من التفكير والتحليل اتخذ قراره، اليوم موعد إزالة جبيرة « رحمه» سيصارحها بكل ما يجيش بصدره حتى يهدأ نبض قلبه ويتوجها ملكة لبيته وأمًا لأولاده الذي يرغب بهم، بعد نصف ساعة كان يقف أمام باب شقتها بتردد، طرق الباب فآتاه صوت الصغيرة، فتحت له « رحمه» ودلف خلفها ودار بعينيه بالمكان لعله يلمحها فأخرجه من تأمله صوت الصغيرة: هبه بتلبس وجايه
مضت بضع دقائق وخرجت له، كانت غريبة على عادتها الطيبة البشوشة التي يراها من خلف نقابها ولكن اليوم هي جامدة!! حمل « رحمه» وتقدم منها حتى وصلا للسيارة، فتح لها المقعد المجاور له وما صدمه هو تجاهلها له وجلوسها جانب شقيقتها بالخلف دون أن تعيره أدنى اهتمام، علت أنفاسه بغضب من فعلتها وعدم مبالاتها لمحاولته لفت انتباهِها فصفع الباب بعنف ورمقها بنظرة حادة لم تبادله إياها، اتخذ مقعده بغضب وانطلق لوجهتهم…..
**********************
بالعاشرة صباحًا كانت « ورده» تجلس جانب والدتها ووالدها على مائدة الإفطار تشاركهم إياه وقلبها مُعلق بزوجها النائم مع الفجر، ابتسمت بخفوتٍ لتلك الزكريات القليلة التي تشاركاها معاً ولم تنتبه لنظرات والدها الماكرة لها، تحرك « بلال» بكرسيه لغرفته وهتف: ورده تعالي عاوزك في كلمتين قبل ما تروحي المستشفى
نصبت عودها وسارت خلفه بعدما طبعت قبلة سعيدة فوق رأس والدتها، دلفت الغرفة بمرح وابتسامتها تتسع مع لمعة عينيها وهتفت وهي تجلس أمام والدها: يا نعم يا حاج بلال
رمقها والدها بنظرة مشمئزة ومط شفتيه بقرف مصطنع وهتف: بقى دي منظر واحده هتتجوز وتبني بيت يا ربي
ابتسمت « ورده» بسعادة فور نطق والدها بذلك وغمزته بمكر وغمغمت بمرح: جوزني بس ومتحملش هم، بنتك قدها
صفعها « بلال» بخفة على وجنتيها وهتف بحسرة: والله ما شوفتي خمس دقايق تربية
مطت « ورده» شفتيها بغيظ وقبلت عينيها بملل وتمتمت: يا حاج جوزني بس ونتفاهم في اتربيت ولا لا دي بعدين
أعطاها والدة نظرة أخرستها وجعلتها تبلع ريقها وخفضت رأسها بخنوع وهتفت: أحلى مسا عليك يا كبير اتفضل
كاد أن يضحك من تبدل حالها ومرحها الدائم رغم علمه بخوفها على زوجها ولكنه ربت على شعرها بحنان وهتف: مبسوطه معاه؟!
رفعت رأسها ببطء وابتسمت بصفاء وهمست بنبرة تتلونها السعادة والرضا: عمري ما كنت راضيه ومبسوطه قد دلوقت يا بابا، عارفه إننا مش بناخد كل حاجه مره واحده وإن ربنا بيختار لينا الخير وراضيه بتعبه وكمان واثقه من شفاؤه لأن ربنا عمره ما رد دعوتي، براء كان خيال مش مجرد حلم بحلمه ولما عيشت الخيال دا شوفت الدنيا بتوضي زي طفل فضل طول عمره بيشوف العالم من ورا نضارته بس لما ربنا أنعم عليه وعمل عمليه شافها بألوانها الأساسية مش الباهته ولا الضبابيه، أنا راضيه
انحنى والدها طابعًا قبلة متأثرة وفخورة فوق رأس طفلته وهتف بحزمٍ وبوادر بكاء: روحي لجوزك ومتفرقهوش يا ورد الدار ورحيقه الغالي
ضحكت مع ترقرق الدموع بعينيها السوداء وابتهجت لهذا اللقب الذي أسكنه والدها بقلبه لأعوامٍ أمدية لها وغمغمت بحب: شكراً لأنك صاحبي قبل أبويا
نهضت دافنة رأسها بصدره ويديها الصغيرتين تتمسكان بقوة بقميصه من الخلف وسط دموعها الشاكرة والراضية وهمست بخفوت: شكراً
*****************
انتهت جلسة « رحمه» مع الطبيب بسلام وتم حل جبيرتها، جلست أيضا جانب شقيقتها وأبعدت نظراتها عنه، طوال الطريق كاد يصيبهم بحوادث شنيعة بسبب تبلدها وجمودها معه، قاسية هي حواء بغضبها وعتابها، أوقف السيارة أمام أحد المطاعم الفاخرة وحول نظره لها ليجدها تنظر من نافذتها بهدوء، قبض على المقود بغضب حتى أبيضت سُلمياته وهتف باستفزاز: هنتغدى هنا
خرجت عن صمتها وبرودها ولكن لم ترمش بعينيها وهتفت بثبات: لا
ترك المقود ودار بجسده ليواجه جمودها المفرط وغضبها الزائد وهتف بحدة: لا لي؟! البنت مخرجتش بقالها كتير والنهارده فكت الجبس وفرصه تتفسح شوي
لفت رأسها كإنسانٍ آلي ورمقته بنظرة فارغة وهتفت بحزم: متقررش حاجه نيابة عني، رحمه دي أختي أنا اللي أقول المناسب ليها واللي مش مناسب حضرتك مجرد واحد كان بيعطف علينا والحمد لله مش مضطر أكتر من كدا لأنها زي ما قولت من شوي فكت الجبس
هز رأسه بعدم استيعاب وابتسم بسخرية لحديثها الصادم له وهتف بتعجب: قصدك إيه؟!
ابتسمت ببرود وسلطت نظراتها عليه وهتفت بتأكيد ونبرة غير حاملة للنقاش: يعني شكراً دور حضرتك لحد كدا خلص وفرصه سعيده واتشرفت بمعرفتك، هنرجع بيتنا في الحارة وبالنسبة لطلاقي هقدر أخد حقي بنفسي وارجع وأقولك شكراً!! دي النهاية يا ثائر…..
لم يتفوه جوفه غير بعدة أحرف متعلثمة وبطيئة كبطء أنفاسه: النــــ … هـــ… اا…. يـــه!!!!
الفصل العاشر
شظايا الكلمات
يتسرب ببطء كفيروسٍ لعين ونحن غافلون عن تواجده ومن ثم يتمكن فتظهر أعراضه الحَتمية التي من المحتمل أن تكون بداية جديدة لنا أو نهاية مأساوية…..
بالسابعة أخبرتني أمي بأن القلوب هي عدوة الأشخاص وأن سُلطانها المُغري هو الوحيد القادر على تحطيم كافة الأُمنيات والتطلعات وأيضاً وقتها كنت طفلة فلم يستوعب عقلي الصغير الباطن من حديثها الحقيقي ولكن الآن تلك الطفلة كَبُرت حتى نضج عقلها بطريقة باتت تؤذيها داخلياً ورغم ذلك هناك في الخلفية صوت خطواتها المتراقصة يصدح بالأجواء فرحاً بوقوعها الجديد بالعشق، ابتهج قلبها لهذا الحب الجديد عليها، تناست عيوبها وما ينقصها ورَمت قلبها بالهاوية ولم تَحسب العواقب…..
تسللت البرودة إليها وتبعَها قطرات المطر الباردة التي شهقت على آثرها وأغلقت النافذة بعنف تزامُنًا مع ارتفاع وتيرة أنفاسها المتهدجة وارتجاف جسدها أسفل ذلك الوِشاح الثقيل، لم تنفَلت قدميها عن الحركة أكثر ووقفت بشرود وضياع تراقب حركة الأمطار والرياح العاتية لازالت تتذكر أنها كانت تهاب صوت الرعد وبرق السماء الخافت كلاهما يبعثان الخوف القارص لقلبها البارد ولكن ماذا عن اليوم؟! أين خوفها؟! هل فقدا هيبتهم بتخويفِها أم أنها هي من فقدت شعورها بالخوف أيضاً!! دِمعة وحيدة فرت من عينيها ببطء تتوارى من ضعفها القادم، مازالت نظراته الضائعة والمتلهفة تلوح بعقلها، لم تُخطئ هو رجلاٌ كامل الأوصاف لما سينظر لها!؟ كيف سيتعامل مع خوفها الغامض له حتى الآن؟! خيبة الأمل التي تسربت لمعالم وجهه المحبب لقلبها أصابتها بوخزة قوية بصدرها ولم تتحمل أكثر من ذلك ففرت هاربة بدموعها أسفل نقابها التي هي ممتنة له خد النخاع، خبأت نفسها عنه طيلة اليوم وعندما عادا للبيت لم تنتظره بل سارعت بالتخفي عن عيناه الكاشفتين لها ولكل ارتجافه من جسدها الهزيل…..
_ أوقات كتير قلوبنا بتكون غافله عن إنها تشوف الحب وبتترجمه حسب شعورها
كانت هذه الكلمات البسيطة من شقيقتها الصغرى « رحمه» التي باتت تُثبت لها نضجها الكبير وعقلها واسع المدى…
ضمت جسدها بقوة والتفتت لها بهدوء ونظرات الحزن المتأرجحة بعينيها تنبثق كشعاع الضوء وسط ظُلمة الليل الحالك:
_وأوقات كتير بيكون شعور قلوبنا دا صح ودا سبب بعدنا عنهم ويمكن لخوفنا منهم!
اقتربت « رحمه» منها وربتت فوق كتفيها بحب وابتسامة عذبة عَلت ثِغرها وهمست:
_ قلبك مش هيقدر يبعد عن ثائر حتى لو فات العمر كله عمرك ما هتقدري تتخلصي من حبه، أنا شوفتك وأنتِ بتوصفي شعورك بـ فاضل وشوفتك وأنتِ بتمجدي بــ بعشقك وحبك لــ ثائر
خفضت «هبه» نظراتها المتألمة للأسفل ولكنها لم تكبح زِمام بكائها الشديد ومرارة شعورها الكامن بفؤادها النازف وتعلثمت:
_ أنا… أنا خايــفه منـ… خايــفــه من ضعــفـي وتجربتي.. هو ميستحقش دا… هو كامل
لم تختفِ نظرة « رحمه» الباسمة وإنما زادت اتساع وهتفت بتروي:
_ بيقولوا الخوف أساس نجاح كل شيء بس مقالوش إن التغلب على الخوف دا هو التفوق والنجاح نفسه، خوفك كان من تجربة سابقة ليكِ أنا وأنتِ عارفين معالِمها كويس، محدش فينا كامل لا أنتِ ولا أنا ولا حتى ثائر، الكمال لله واحده ولنبيه محمد بس كلنا جوانا عِزة وافتخار بنفوسنا مش هسمحلك تمحي شخصيتك بسبب بني آدم مريض كان مجرد فترة عابرة من حياتك وعلى أساس الفترة دي تِلغي عقلك وتفضلي معميه عن قلوب اللي حواليكي…
لن تُنكر دهشتها بل صدمتها بتلك الصغيرة شقيقتها ومدى احتوائها وتفهمها لما تعانيه وكأنها عجوزة شاب شعرها وختم الزمن على ملامحها وليست فتاةً بالعاشرة من عمرها!! رفعت كفيها لتحتضن وجه « رحــمـه» البشوش وهمست بشرود:
_ بس أنا سألته واتهرب زيي، مجاوبنيش، قالي معرفش!! كنت وقتها مستنيه كلمه منه!! كنت محتاجة ولو كلمة تطمني وتهدي قلبي وشعور الذنب اللي بينشب في روحي عشانه، أنا مش أنانيه صح؟!
جعدت « رحمه» ملامحها بتعجب واستنكار من شقيقتها الكبري المفترض أنها ناضجة كفاية ولكنها تشعر بأنها طفلة بمهدها ليس أكثر، جذبتها من يديها للفراش ودثرتها جيداً به وصعدت جوارها وتمددت ثم أردفت بهدوء:
_ أنتِ غلط، متتعجبيش أنتِ فعلاً غلطتي، في مليون سبب يمنعوا ثائر إنه حتى لو بيكن ليكِ مشاعر يتشجع ويعترف ليكي، أنا مش صغيرة يا هبه وفاهمه كل حاجه، أبسط الأسباب دي إنك لسه على ذمة راجل تاني؟! تقدري تقوليلي ثائر بشخصيته الواضحة وهدوؤه ووقاره وشهامته هيستغلك ويستغل الظروف والوقت الراهن؟! من يوم ما شوفناه عمره جِه على واحده فينا؟! دا سبب بسيط يخليه حتى لو بيدوب فيكي ميعترفش ويحتفظ بيه لنفسه لوقت طلاقك ولما تكوني حلاله وتحت طوعه يقولك كل حاجه، خوفك مش حل ولا استسلامك حل ولا تسرعك حل يا هبه، مفيش حاجه بتكون قفش ولا مجرد إني مسمعتش اللي يرضيني أهرب واتخبى؟!
ابتلعت توترها وصِغر حجمها أمام تلك الصغيرة وجذبتها بقوة لصدرها طابعة قبلة ممتنة على جبهتها وغمغمت باستنكارٍ مرح:
_ كبرتي امتى كدا يا ست رحمه وأنا كنت فين وقتها
ضمتها الأخرى بدورها بعاطفة قوية كلتاهما بحاحتها ورمقتها بنظرة شاكرة وهتفت:
_ لما شوفتك بتبكي وتترجيه عشان يضربك ويسيبني أو يبعد عنك قدامي ولما كنت بسمع صوت صراخك كل ليله وأنتِ بتتألمي وهو جنبك مع واحدة قذرة شبهه، لما كنتي بترجعي كل ليله متأخرة عشان توفري تمن لقمه لينا، لما…
قاطعتها « هبه» بعنف ولم تتحمل المزيد من الزكريات المتدفقة لعقلها وشددت من ضمها وهمست برجاء وحرقة:
_ أنا أسفه على كل حاجه… أسفه ليكي
*****************
استندت بهيام على باب الغرفة تراقب تحركاته العفوية بالغرفة بحثًا عن ملابسه، يبدو لها وسيمًا لدرجة أهلكت قلبها، ببطء تسللت من خلفه على أصابع قدميها حتى أصبحت خلفه مباشرة وكادت أن تلف يديها حول خِصره ولكنه سبقها وأمسك بكفيها ولفها لتُقابل معالم وجهه المتلهف بشدة لها، ابتلعت « ورده» لعابها بصدمة ورفرفت بأهدابها ثم رطبت شفتيها وتمتمت بلا وعي:
_ يخربيتك أنتَ كنت عارف إني واقفه؟!
لاعب « بـراء» حاجبيه بتسلية ومكر وجذبها من خصرها لترتطم بصدره العريض وهمس أمام صفحات وجهها:
_ وسايبك تتحرشي بيا وساكت اهو عشان تعرفي كرم أخلاقي
اقتربت بوجهها منه أكثر بجرأتها المعتادة وغاصت بعينيها بملامحه وهمست بدلال:
_ دا تحرش نظري برئ يا بيبو أله
اصطنع « براء» التفكير ومط شفتيه باستنكار ثم غمغم جانب أذنيها بهمسٍ بعثرها:
_ بس أنا بحب العملي واستاذ ورئيس قسم فيه
لم تهتم بوقاحته التي يجاهد بها ليصل لمستوى وقاحتها بل أحاطت عنقه بدلال ومطت شفتيها بإغراء وهمست برقة ونعومة:
_ خِف بسرعة عشان نعمل واحد فرح كبير ونلعب عريس وعروسه
ختمت حديثها بغمزة وقحة منها وعضت على شفتيها بخبث لم يتحمله هذا الذائب أمام حلوة الخضمي الخاصة به التي يكاد يُصاب بأزمة قلبية من دلالها فلم يتمهل بل انخفض بنظرة لشفتيها متوليًا قضمها بخفة ورقة متناهية، التهمها بقبلة شغوفة ومتلهفة، لم تتفاجأ كثيراً من شوقه لها بل بادلته بقوة وجذبته لجسدها لتخبأه بداخل إحدى ضلوعها، شعر هو بابتسامتها ضد شفتيها فتعمق بقبلته حتى انقطعت أنفاسهم وابتعدا عنها يلهث بعنف وهتف بحدة:
_ أنتِ هتموتيني ناقص عمر يا شبر ونص أنتِ
شعرت بوخزة قوية تلفح قفصها الصدري عند ذكره للموت ولو على سبيل المزاح ولكنها لن تعكر صفو لحظاتهم معاً واقتربت مجدداً رافعة أصابعها تتلمس لحيته الكثة وتغوص بكفها بها وهمست بغنجٍ:
_ بعيد الشر يا بيبو قلبي، أنتَ حلو أووي يولا
زفر بعنف من تصرفاتها التي جعلت الشياطين تتراقص أمام عينيه مطالبة بها وبالتنعم وسط أحضانها الموقِن من دفئها عن برودة الليل، جذبها بقوة من تلابيب عباءتها وهتف من بين أسنانه:
_ هتتلمي في ليلتك اللي شبه عبايتك دي ولا اعمل حاجات الشيطان هيموت ويخليني اعملها؟!
مطت « ورده» شفتيها بقنوطٍ من هذا المُدعى زوجها والذي لا ينفك عن ختم لحظاتهم الرومانسية بأحد تصرفاته البربرية وهتفت بغيظ من بين يديه:
_ يعني بدلع وبكل رقه ونعومه والبعيد حلوف، أنتَ غبي ياض أنت
رفعها « براء» أكثر لتصبح مباشرة بطوله وافترس شفتيه من أفعالها الوقحة وهتف بتوعد:
_ لا مش حلوف بس اللي في دماغك لو كملنا فيه هيبقى نهايته ملونه على دماغك يبنت بلال
صكت على أسنانها بعنف ولوحت بيديها وقدميها بالهواء بغيظ وهتفت:
_ يا عديم الرومانسيه، يا هادم اللحظات، أنتَ ياض إيه، هتموتني
أنزلها « براء» بهدوء كاتماً ضحكته من هيئتها بين يديه كالفأر الذي يرغب بالفرار من مصيدته وهتف بمرح:
_ أنا بحبك يا بت
اصطنعت « ورده» الإشمئزاز وعدلت من كتفي ملابسها وهتفت:
_ بت!! إيه العلاقة القذرة دي يا ربي
رمقها « براء» بـ توجس وكتف عضديه أمام صدره وتمتم باستنكار:
_ على أساس إنك نهر دلال وحنان ورقه يختي اتوكسي
دبدبت « ورده» بقدميها بالأرضية وتوجهت للفراش بتأفف وهتفت :
_ أقول عليك إيه وأنت فيك كل العِبر يا بعيد ومفيكش ولا ميزه
ضحك « براء» بشدة على تعابيرها وملامحها الغاضبة وهمس بحنانٍ وعشق:
_ بحبك…
ابتسمت « ورده» بـ بلاهة واصطبغ وجهها بحمرة قانية منافية لتلك الوقحة من دقائق وهمست بخجل:.
_ بحبك
******************
أغلقت « أثـيـر» باب الثلاجة بعنف وكأنها تنتقم منه هو على تجاهل زوجها لها، يا لحظها الأكثر من رائع لم يفت على زواجهم يومين وها هو يعاملها ببرودٍ ساحق ويتجاهل محاولاتها للحديث معه، ليس ذنبها فهو من حدد موعد الزفاف، وضعت قنينة المياه بغضب على السطح الرخامي وهمست بغل:
_ ماشي يا راكان ماشي
لم تنتبه لذلك الواقف يتابع غضبها الاكثر من رائع بوجنتيها المكتزتين وشفتيها المعذبتين لأعصابه، تسلل بخفة من خلفها وقرصها برقة بخصرها ونجم عن ذلك شهقة مرتعبة منها جعلتها تلتف له بغضب هاتفة:
_ أنتَ رخم ومبتحسش وابعد عني
رفع « راكــان» أحد حاجبيه بمكر من توترها ولهوجتها بالحديث الغير مترابط وهتف بعبث:
_ بس صدقي الأحمر هيأكل منك حتت مش حته واحده
شهقة أخرى خجولة نجمت من جوفها بسبب وقاحته ونظراته التي تلتهمها كأسدٍ وجد فريسته جعلتها تبتعد بتوتر عن مرمى بصره وتتمتم بتعلثم:
_ أنت.. أنت بتكلمني لي.. دلوقت
قطع « راكان» المسافة الفاصلة بينهم بثوانٍ وحاصرها بذراعيه وهمس بجانب أنها بمرح:
_ ما هو بالحِبال اللي طيرت عقلي دي لو كلمتك ابقى أهبل والله دي عاوزه فعل
قاطعته « أثـيـر» بنظرة حادة من قزحتيها العسليتين وهتفت بارتباك:
_ أنتَ شارِب وقاحه وقلة أدب؟!
هز « راكــان» كتفيه بلا مبالاة واقترب بجسده منها حتى لفحت أنفاسه الساخنة بشرتها البيضاء بنعومتها التي موقِن منها وهتف بصوتٍ عميق:
_ والله أنا سافل وقليل الأدب وما حد عرف يربيني بس هاتي بوسه واحده
من المفترض بها الخجل الآن ولكن تعابيره الطفولية وشفتيه المزمومتين وكأنه يستعد لقبلة منها جعلتها تنفجر ضاحكة بشدة حتى أدمعت عينيها واصطبغ وجهها بحمرة قانية، ابتعد عنها « راكــان» بغضبٍ يصطنعه ولكنه لا وجود له بتاتًا بقاموسه معها وهتف:
_ اضحكي على قد ما تقدري عشان كله هيطلع عليكي بس اصبري
وضعت يديها على وجهها لتوقف نوبة الضحك التي انتابتها من تقاسيم وجهه الوسيم بتكشيره جذابة جعلته شهيًا للالتهام!! هزت رأسها بقوة مُبعدة تلك الأفكار عن رأسها وانخرطت بوصلة ضحك جديدة جعلته يهيم بها عشقًا يقسم أنه لن ينتهي يوماً إلا بمماته، بعد دقائق توقفت « أثـيـر» عن الضحك بسبب تطلعه الزائد بها وهتفت بعبث:
_ عارفه إني حلوه
هز « راكــان» رأسه بخفة واقترب جاذبًا جسدها لصدره بقوة وهتف بعشق:
_ أنتِ مش حلوه وبس أنتِ نِجمه بعيده أووي لقيتها بعد سفر سنين طويله ووقتها حسيت براحه فضلت عمري كله أتمنى أعيشها وحاولت أخلقها كتير بس كنت بفشل بكدا لأن لا الوقت ولا الأشخاص كانوا صح…
رفعت يديها لتتشبث بخصره بقوة مماثلة له وتبادله عِناقه وشوقه المضني لها وهمست بعذوبة:
_ السعادة، الراحه، الحب، الهدوء، الآمان والسكينه معاني معرفتهاش غير معاك وبيك ولو فضلت طول عمري أدور عليها عمرها ما كانت هتكون بنفس قوتها زي ما بشوفها في عيونك…
خرجت من أحضانه وبسمة لطيفة تزين ثغرها وكورت وجهه بين يديها وعيناه وآااه من عينيها التي تسحبه بلا هوادة لعالمها الخاص الذي نسجته بحبها الكبير له، نظرت بعيناه مباشرة وكأنها تبحث عن ضالتها ووجهتها الضائعة وتمتمت بصدق:
_ كنت ديماً بقرأ إن العيون الخضرا أو الزرقا أو حتى الرمادي ليهم سحر خاص وبيخلونا نبحر بيهم لبعد الأفق بس عمري ما حبيتهم وكنت مقتنعه إن كل لون عيون ليه تعويذه خاصه مش هيقع بيها غير الشخص المثالي لينا، من أول مره شوفتك ولقتني عاوزه أفضل طول عمري حاضنه عيونك بعيوني وببتسم ليهم، بحس براحه وعيوني واقعه معاك، راكــان أنا بحبك بكل ذرة قوة وضعف وخوف وآمان جوايا….
قاطعها « راكــان» بقبلة جذبته لعالمه هو تلك المرة ليُريها نيران عذابه طيلة الأعوام بها وبصورها المحفورة بخافقه، بادلته « أثـيـر» بعاطفة قوية دون خجل ودون قيود بل بعشقها وقلبها العاشق لذلك الرجل المِغوار بمحاسِنه المتعددة وقلبه الحاني عليها، ابتعد عنها دافنًا وجهه بين ثنايا عنقنها الرقيق وهمس بنَبرة ضائعة:
_ هحبك أكتر من كدا إيه يا أثـيـر
وصلت يديها لمنابت شعرها الغزير وأبحرت بها بحنانٍ متناسية مكانهم والزمان من حولهم وهمست برقة وصدق:
_ وحتى وإن غابا قلبينا عن العالم ستبقى روحينا متشابكة بأغلالٍ أبدية يا عزيزي
*******************
« بـعـد ثـلاثـة أيــامٍ»
وصل لمسامعه صوت بعض الأغاني الشعبية الشهيرة تزمنًا مع اختفاء زوجته من مكانها المعتاد بالمطبخ بذلك الوقت من اليوم ، ابتسم بدفء وعشق عندما لاحت نظراتها الحانية بالأفق تُغرد من حوله، أوقعته بلا هوادة لدرجة أهلكته وأنارت ظلمة هوامش روحه القاتمة، بحث عنها بلهفة عندما طال غيابها ووصلت قدماه أمام مصدر الصوت، وقف أمام غرفتهم كطفلٍ يتسعد لعبور جسر عقابه الأخير وبعدها سينال جائزته، دلف بهدوء وليته لم يفعل بل ليته لم يأتي من عمله مبكرًا ليراها بمثل تلك الهيئة!!!، ابتلع لعابه بتوتر وجف حلقه من فرط مشاعره، توارى خلف الخِزانة الكبيرة المجاورة للباب وخلع عنه ملابسه العلوية بسبب الحرارة التي انبعثت من جسده وبقى يلتهمها بعيناه، تلك الشُعلة النارية ترتدي إحدى قمصانها الحريرية الذي يحتضن جسدها بنعومة عوضًا عنه وينساب بسلاسة على منحنياتها التي أذابته، زادت وتيرة أنفاسه عندما تمايلت بثقة على أنغام الموسيقى الشعبية، أخفض رأسه كمحاولة بائسة منه للثبات والتحكم بشوقه القارص لها ولكن محاولته ذهبت مع الرياح عندما دارت بجسدها لتقع عينيه على فتحة الثوب الأماميه التي تُبرز كتفيها وعنقها المرمي وكل ذلك خلاف ملامحها التي تصرخ بالاشتعال والحماس عند تمايلها يمينًا ويسارًا بخفة كفراشة ملونة، بمكرٍ اقترب منها وجذبها لترتطم بصدره العاري بقوة وابتلع شهقتها المصدومة بجوفه بقبلة مُشتعلة وبربرية فتكت بهم معاً، شدَّ خِصرها له بعنف وغابت أنفاسه لتسلب خاصتها، بادلته هي بقوة مماثلة له تعبر عن شوقها الجارف له برغم غيابه الذي لم يدم لساعتين!! تحركت يداه لتجذبها أكثر له ولأول مرة يختبر جرأتها معه وعدم خوفها وخجلها منه، شعر بحرارة أنفاسها السريعة فأشفق عليها وابتعد عن شفتيها ودفن وجهه بعنقها الأبيض وهمس باختناق:
_حرام عليكي كفاية كدا عليا
ضحكت « أثير» بمرح وزمت شفتيها للأمام وهمست بصعوبة من خجلها بسبب أنفاسه التي تلفح عنقها:
_حد منعك؟!
رفع رأسه من عنقها بزهول وعدم تصديق لما تفوهت به وبرز بؤبؤ عينينه وهتف بتقطع:
_يعني خلاص؟! إفراج!!!
عضت شفتيها بخجل وهزت رأسها بتأكيد وفرت هاربة منه ولكن قبضته التي حاصرتها جعلتها تتصلب بمكانها، جذبها «راكان» بعنف لصدره ليتصدى ظهرها لنبضات خافقه السعيد وهتف ويده تتلاعب بخُبث بحمالات ثوبها الواهية:
_ هتهربي فين بقا يا هانم
عضت شفتيها بخجل شديد وهزت رأسها بنفي ودارت بين يديه لتمتزج ابتسامتهم وصوت خفقاتهم يقرع كطبول الحرب، لفت يديها حول عنقه بتملك وعشق وهمست بجانب أذنيه:
_مين قالك إن الهانم عاوزه هتهربي
ابتسم « راكان» بسعادة وضمها بشوقٍ وسعادة لصدره وهمس بنَبرة مُفعمة بالعواطف:
_تعرفي إني استنيت اللحظة دي من سنين؟! تعرفي كام مره نمت على أمل بكره تكوني هنا في بيتي وفي أوضتي واسكن قلبك زي ما احتليتي قلبي، ياااه يا أثير الحب في عذابك لذه كبيرة
بادلته عناقه بأخر أقوى وتشبثت به وخفقاته المضطربة تتهادى فوق أوتار قلبها السعيد والراضي، ابتعدت عنه وكورت وجهه بين يديها وهمست وعيناها مصوبة على حدقتيه القاتمتين:
_ عمري ما اتخيلت إني أتحب بالطريقة دي، أنا قلبي لو قِدر يسكن ضلوعك مش هيتأخر، جيت نورت حياتي وخلتني بروح عيله بتضحك وتضوي، أنت جنة الله في أرضه ليا، هفضل طول عمري منك وإليك يا راكان
غمزها « راكان» بعبث وتوهجت ملامحه وهتف بوقاحة:
_لا دا إحنا اتغيرنا خالص وبقينا بنعمل حاجات حلوة
مطت « أثير» شفتيها الورديتين بأغراءٍ وتحسست بنعومة عنقه وهمست برقة:
_ودا حلو ولا وحش في رأيك؟!
غامت عيناه بسحابة سعيدة وغمزها بوقاحة وحملها للفراش وهتف بوقاحة:
_ رأيي هتعرفيه دلوقت يا هانم بس عاوزك تسجلي اللحظة دي عشان أنا هرمت لأجلها والله
ضحكت « أثير» بمرح وخجل على حديثه الوقح ولكنها دفن ضحكاتها بين طياته القوية لتبدأ رحلة من نوعٍ خاص بروحيهما بعد عذاب أربعة سنوات ها هو يلوذ بعشقه الأول والأخير ومحبوبته تسكن بين ذراعيه بلهفة واشتياقٍ مماثل لعنفوانه وشغفه لها، نسجا حديقة وردية من ترانيم عشقهم وبحورٍ من السعادة والحماس الممزوج بالحب المقدس…..
******************************
جلست ممسكة بيديه وبسمة راضية وسعيدة تزين ثِغرها، مضت ساعتين على نومه بسبب بعض الأدوية المسكنة، مرَّ على زواجهم ما يقارب الإسبوع قضوه بالمشفى لإجراء فحوصاته الطبية استعدادًا لتلقي جرعات الإشعاع اللازمة له، لن تنكر أن هناك غرفة من قلبها حزينة على ما أصابه ولكن حمدً للاه على شفاؤه وتجاوب جسده للجرعات، اتسعت بسمتها العاشقة وخللت أصابعها برقة بين منابت شعره الكثيف وهي للآن لا تصدق أن هذا الوسيم أصبح زوجها وأنها لطالما ملكت قلبه!!، لقد راضاها الله بعطائه الوفير وكرمه الكبير، شردت بملامحه الجذابة ونزلت بأصابعها لتستكشف وجهه الشاحب وهمست بتقطع مختنق:
_ هتخف ونفضل سوا وتفضل تحبني وربنا مش هيخيب ظني فيه عمري ما رفعت كفوفي برجاء وردني حزينه يا براء بس خليك قوي عشاني، طريقنا طويل وهنكمله سوا يا عيوني
تقدمت منه وخفضت رأسها متلمسة شفتيه بخاصتها بحالمية وتتميم جارف ولم تنتبه لذلك المتابع لكل شاردة وواردة منها ويتمنى جذبها لأحضانها وجعلها ضلعًا رفيقًا لروحه ولكن لن يكف عن التظاهر بالنوم حتى يشبع من قربها قبل جلسته القادمة ولكن عندما أحس بشفتيها الناعمة تتمسح بخاصتها جذبها بتملك وتولى زمام الأمر ليغيبا بتملك بقبلة هائمة ببحور عشقهم المُتعب سارقين بعض الثوان القليلة من الزمن المُحزن، ابتعدت عنه ورفرفت بأهدابها السوداء الكثيفة وهمست بحرج:
_أنتَ صاحي من امتى؟!
ابتسم « براء» بوهنٍ وأشار لها لتجلس جانبه على الفراش فنهضت جواره وما لبث أن جذبها بين ذراعيه بعناقٍ قويٍ متعب يستمد منها قوته ومصدر أمانه وهمس بتعب:
_ مبعرفش أنام طول ما أنتِ جنبي ومش في حضني
ضمته باحتواءٍ لصدرها وطبعت قبلة على رأسه وودت لو تنساق خلف رغبتها المُلحة بالبكاء لتُفرغ كبت قلبها ولكن لن تفعل فزوجها يريد قوتها ولن تتوانى عن تقديم روحها وإن كانت مشوهة لأجله!! أغمضت عينيها بإرهاق وهمست بعبث:
_ ما احنا بنعرف نحب ونقول كلام حلو اهو اومال ليه الوش الخشب يا ابو عمو
ضحك « براء» بتعب على مُزاحها رغم علمه بمدى حزنها عليه ولكنه يجب عليه مساندتها رغم كل شيء، عليه الصمود لأجلها، شبك أصابعه بين أناملها الرقيقة ورفعها لفمه ثم لثمها بقبلة ممتنة وراضية وغمغم بمرحٍ:
_الحلو للحلو يا واد يا حلو يا بطل أنتَ
مررت « ورده» أناملها بين ذقنه الكثيفة التي تكفي لإيقاع جيوشًا من النساء تحت قدميه وفور وصولها لتلك النقطة غلت الدماء بعروقها ونفخت خديها بقنوط وهتفت:
_دقنك عاوزه تتحلق يا أستاذ ولا هي عجباك ومريحاك كدا؟!
تعجب «براء» من تحولها وغضبها الذي ظهر بصوتها ولكنه ما إن توصل لسبب غضبها حتى ابتسم بخبث ورفع نفسه ليصبح أمام وجهها مباشرة وهمس بنَبرته التي رغم ضعفها سُربت لخافقها اللعين:
_إحنا بنغير ولا بنغير!!؟
ضحكت « ورده» بتهكم وأغمضت عينيها لثوانٍ معدودة ثم فتحتهم بهدوء واقتربت منه أكثر حتى تداخلت أنفاسهم الحارة وطبعت قبلة متملكة جانب ثِغره المُغري لها وهمست أمام شفتيه بتأكيد وثقة:
_ بغير!! أنا لما بغير بحرق، بولع وممكن فخاف من غيرتي لأنها لو طالت جِنس حواء جنبك هتولع فيك وفيها آمين!؟!!
ابتلع « براء» ريقه بخوف وتوجس واهتزت تفاحة آدم خاصته وهمس بلا وعي من نظراتها:
_آمين!!
****************
مضت ثلاثة أيامٍ بلا رؤيته، كعادته يختفي كما يشاء ويعود يجدها بانتظاره، رغبة ملحة تنتابها بـ زيارة والديها، لم تعد خائفة من رؤية « فاضل» أو والدتها ولكن هناك ما هو أكثر من الخوف بداخلها، ارتدت ثوبًا أسود ووضعت نقابها وتركت رسالة ورقية لشقيقتها تخبرها بذهابها لأمرٍ هام بالعمل ومن المحتمل تأخيرها، أغلقت باب المنزل خلفها وألقت نظرة خائبة على منزله، له الحق بذلك هو حتى لم يأتي ليعلم سبب غضبها عليه وحدتها معه، كل ما يصدر عنه يؤكد لها بأنه من المستحيل أن تحصل على حبه، ظلت طوال الطريق شاردة بحياتها التي لو كانت رواية لملَّ القارئ منها ومن كَم الحزن المختزن بها، هبطت من السيارة بضعف بعد مدة طويلة، بعد الأحيان تحسد الموتى على ذهابهم لربما لعالم أفضل بعيداً عن أنياب البشر الحادة، وصلت لقبر والدتها وجلست أمامه بهدوء وابتسمت بحزن وهمست:
_ وحشتيني… كل حاجه كنتي بتقوليهالي وأنا صغيره كانت صح، العالم بشع زي ما كنتي فاهمه وبنتك لسه بتتخبط فيه، كان لازم تسيبيني أبكي كل ليله لواحدي من غير حضنك، بنتك بقت مشوهه من جوا وفاضيه، أنا اسفه عشان وعدتك إني مش هعيط والله أسفه
حديثها الغير مترابط وتعلثمها ودموعها الغزيرة كفيلة لوصف شوقها لوالدتها الغائبة، وضعت يديها بالرمال وهتفت بحرقة وألم:
_ في وجع جوايا مبيوقفش في نزيف مش عاوز يخلص غير لما يقضي عليا، تعبت من المحاولة، كل يوم بقوم على محاوله جديدة ارجع فيها ولو جزء بسيط مني بس بفشل، كل يوم وجعي وحرقة قلبي بتزيد، كل يوم وليله مخدتي الدموع مش بتفارقها، أنا ضايعه من غيرك، وحشتوني، لو كنتي هنا مكنتش فضلت طول عمري لواحدي، لو كنتي هنا مكنتش اتهنت وانضربت وجوزي ولا كان حاجات كتير حصلت، انتو لي مش هنا ولي قلبي مش عاوز يوقف وجع، ليييي قوليلي…..
بحالة يرثى لها حملت حقيبتها ونهضت بضعف للخارج، أمسكت بالباب تستمد من قوته وألقت نظرة أخيرة على قبرهما وهتفت بمرارة وندم:
_ أتمنى وجع قلبي يختفي يا أمي…
بخيبة أمل وألم خرجت من المقابر تجر ضعفها وقلة حيلتها ودموعها تغلف صفحات وجهها، زكرياتها مع والدتها تدور بعقلها كدوامة قاسية تعاتبها على ضعف إيمانها، لم تنتبه للطريق من حولها ولا صوت العابرين فقط كل ما تسمعه هو صوت اصطدامها بالسيارة وصوت صفيرٍ مؤلم يضرب بعقلها وتجمهر الكثير من البشر حولها، هناك ألمًا مريب يطعن جسدها وتشعر بسائل لزج يتدفق من كل خلاياها التي لازالت حية؟!!! ابتسمت بوهنٍ وتعب لرؤية والدتها تحتضنها بشغف وأغمضت عينيها بسلامٍ سامحة للضباب الرقيق بابتلاعِها…..
الفصل الحادي عشر…
شظايا الكلمات…
قالت بـ حزنِها ذات مرة: أخاف الخوف وكَم هي بشعة رهبة الخوف منه…
هل جردكَ عقلك ذات مرة من التصرف واتباع المطلوب منه والسير بلا وِجهة تُذكر ووضعك ببؤرة مخاوفك حتى تعتاد التعايش معها؟ أو ربما جعلك تتساءل هل لنا من هذا الحزن من فائدة؟ أو لما لا ينف الحُزن بطوائفه عنا ويهرع رُعبًا منا؟ تسلسل العقول لنسج حبكة مأساوية لعرض شريطٍ بائس من اللقطات المُعبأة باللعنات فقط…!!
من المؤسف التواري بـِ حِجة الخوف من مواجهة العالم لما بداخلنا من تشوهات نعجز عن إظهارها حتى لمن نحب حتى لا نلقى نظرة مُشفقة تُطرح بنا أرضًا، يتعين علينا إنها تلوث بعض الجروب بـ كَيها بقوة حتى يتوقف نزيفها والمها لنا لا أن نهرب بـ بعض الأمور المهدئة فقط…!!
قاربت الشمس على الإجتباء بـ السماء المُلبدة بالغيوم التي تهدد ببوادر عاصفة شديدة قادمة، جلس بِـ إرهاقٍ وتعب على المقعد المقابل لـ «رحمه» الباكية والفزعة، انقضى اليوم بحثًا عن « هبه» المُتغيبة منذ الصباح، قلبه ينبض بعنف وكأنه بحلبة مصارعة ولا فرصة لنجاته منها سوا بموته، لا يعلم اين اختفت ولا لما ولا لـ متى ولما اليوم بالتحديد، عقله لا ينفك عن طرح التساؤلات البشعة وهواجسه تصورها بأبشع الأمور سوءً أن يكون أصابها مكروه وهذا ما لا يتحمله، فرك جفنيه بـ تعب واعتدل بـ جلسته للأمام مُشابكًا كفيه معاً بتردد وتحدث:
_ أنا دورت في كل مكان ممكن تكون فيه ومينفعش اعمل بلاغ غير لما يمر 24 ساعه على غيابها وللأسف هي ملحقتش تكون صداقات هنا غير مع ورده وورده مع جوزها من فترة ومش بتسيبه وبتنفي أنها شافتها حاولي..
قاطعته «رحمه» بـ غضب وحدة وانتصب عودها بعنف هاتفة:
_ ايوا وجاي تقولي كل دا لي وأنا عرفاه!! مفروض كدا تطمني؟! لو مكنتش تقدر تدور عليها على الاقل سيبني متحبسنيش هنا
جعد «ثائــر» جبينه من هجومها القاسِ عليه وحدتها الغير مبررة بالحديث معه ونهض بـ اتجاهِها محاولاً امتصاص غضبها ولكنها نهرته بعيداً عنها وهتفت بـ حرقة ومرارة:
_ متقربش مني، هاتلي أختي، أختي مش بخير، مش بخير خالص ولا كويسه… هبه تعبانه وعمرها ما تقدر تسيبني وتمشي وأختى أنا متأكدة إنها حصلها حاجه… رجعلي هبه بالله.. بالله
هز رأسه بنفي وترقرت الدموع بمقلتيه الشاحبتين واقترب منها وجذبها مربتًا فوق كتفيها بـ حنانٍ وتمتم بتأكيد:
_ هترجع والله هترجع وهتبقى بخير والليلة هتبات في حضنك ومعاكي
رفعت «رحمه» عينيها له بأمل ورجاء وهمست بوجع وكأنها تتوسله إعطائها ولو أملٍ بسيط:
_ توعدني؟!! …
بادلها بـ بسمة زائفة لا تنم عن جم القلق السائر داخله وعن مدى توتره وتمتم بـ شرود:
_أوعدك يا رحمه
*************
بِـ جناح العروسين لم تغفل لحظة من سعادتهم، كلاهما غارقان ببحورٍ من الفرحة واللذة معاً، ما كانا يحلمان بهذا الكم من الراحة والسلام الداخلي بـ عمرهِما ولكن ها هما معاً الآن وأعطيك بحت زوجته أمام الله كما العالم ولن تتردد لحظة عن الفتك بـ من يحاول نزع تلك المشاعر الهادئة منها…
تململت بنعومة فوق الفراش ما إن تذكرت عدد المرات التي أغدقها بحبه واعترافه الصادق لها لأي مدى وصل بعشقه لها لم تكن تتخيل أن هذا الوسيم الجذاب صاحب القلب الحنون بقوته وصلابته أن يقع بعشقها وهي الثمينة أضحوكة جامعتها وزملائها عند هذه النقطة وزمت شفتيها بـ ضيق وجعدت حاجبيها ببغض لتلك المواقف ولكن هذا العاشق المنتظر بزوخ عسلها الصافي من خلف جفنيها اقترب خِلسة منها طابعًا قبلة رقيقة وحانية فوق شفتيها المزمومتين بإغرائهم الواضح والفتاك له.. ابتعد عنها فاصلاً قبلتهم ولكنها ما لبثت أن جذبته مجدداً وأحاطت عنقه بـ حب مُلصقة شفتيها بخاصته بـ قبلة متلهفة ومتشوقة له ولقربه الدائم منها، تقابلت شفاهِهم ببسمة سعيدة وضحكة صاخبة عندما تولى «راكــان» الدُفة ليتعمق بتلك اللحظة الفريدة البعيدة كل البعد عن خجلها وتوترها الدائم، فارق قبلتهم واسند ملامحه المُرهقة من أفعالها العفوية وهتف بصوتٍ خافت مملوء بالمشاعر:
_ أنا عمري في حياتي ما شوفت صباح زي النهاردة بكل مراحله
ابتسمت « أثـيـر» بخجل وعضت شفتيها بـ توتر وهمست أمام شفتيه بـ رقة:
_ ولا أنا كنت مطمنه زي النهاردة
رفع « راكــان» أحد حاجبيه بـ مكر ودهاء وسار بإبهامه فوق شفتيها ليبعث بها صاعقة لحظية جعلتها تخفي وجهها بصدره هامسة:
_ راكــان بس
تنهيدة طويلة خرجت من جوفها لتلفح خصلاتها النارية آثر نطقها لاسمه بتلك الطريقة جعلته يبغي تناولها كوجبة دسمة لإفطاره المتأخرة ولكن ليس عليه الإسراع بشيء سيترك لها المجال حتى تعتاد عليه، ضمها بقوة لصدره العاري ولف شرشف الفراش حول جسدهم جيداً وهتف بمرح:
_ والله أنتِ هتجيبي اجلي قريب برقتك ونعومتك دي
ضحكت « أثـيـر» بـ صخب ودلال وبادلته ضمته بـِ خفة وهتفت بـ مرح:
_ والله أنتَ هتجنني بحلاوتك وحنيتك اللي مغرقني فيهم دول
ضحك « راكــان» بشدة حتى ادمعت عيناه على حديثها المقتبس من جملته وهتف بـ مكر:
_ يعني اعترفتي إني حلو ومتقدريش تقاوميني اهو اومال لي الرفض من الأول
رفعت « أثـيـر» جسدها لتصبح على مقربة من وجهه وملامحه التي ادمنتها وهمست بدلال وثقة:
_ مش يمكن كنت بدلع عليك وعاوزه اشوف هتتحملني لامتى؟!
أحاطها « راكــان» بذراعيه مجدداً وطبع قبلة خفيفة فوق وجنتيها الشهيتين وهتف بـ مزاحٍ يتخلله الصدق:
_ أثـيـر هانم تدلع براحتها وتتدلل وإحنا تحت أمرها هو أنا عندي كام أثـيـر يعني؟
رفعت «أثـيـر» سبابتها لتتلمس شفتيه وأبحرت بعينيها بقارب قزحيتيه وهمست وأنفاسها تداعب وجهه:
_هي أثير واحده بس ومش هسمح يكون في تاء تأنيث غيرها هي ومامتك بس…
لم يتحمل « راكــان» المزيد من جرأتها وانفتاحها العجيب معه وتلك الثقة العامرة بحديثها وبلحظة كان يجذبها اسفله وعيناه تدور بـ شغفٍ على سائر ملامحها المترسخة بفؤاده
*************
عندما يتواجد لقلبك من يخشى أمره ستهدأ ثورة هلعك من الموت، حينها ستطمئن كونك ستفارق الحياة وجوارك من يهتم لأمرك
وضعت «ورده» أصناف الطعام المختلفة والصحية أمام «براء» المتربص لحركاتها الشاردة وتصرفاتها المتعثرة وجلست أمامه لمحاولة تناول طعامها هي الأخرى، أمسك «براء» كفيها بين أصابعه القوية وجذبها لـ تجلس جانبه وتحديداً اسفل ذراعه وهتف باهتمام:
_ سرحانه في إيه من وقت ما المكالمه الغريبة دي جاتلك
أشاحت ببصرها عنه لتتفادى غابات عيناه العامرة بـ الرجاء وهتفت بمرح زائف:
_ فيك طبعاً يا روحي
ابتسم « براء» بسمة لم تصل لعيناه وأدار وجهها بأصابعه لتقابل عيناه وهتف بتأكيد وإصرار:
_ متحاوليش تكدبي عليا وأنتِ عارفه إني ملاحظ كدبك، مالك يا قلب براء
تنهدت «ورده» بقلق وتذكرت مكالمتها البسيطة مع «ثائر» التي اوضحت تغيب «هبه» منذ الصباح ومدى فزع شقيقتها الصغرى وخوف ذلك الرجل المفترض انه غريب عنهم!! تحفظ «هبه» عن ظهر قلب وموقنه من بشاعة وألم سببها للتغيب ولكن لما لم تحادثها؟! هذا ما يقلقها تحديداً وأن مكروه قد أصابها، فاقت من شرودها على أصابع براء التي تضغط فوق كتفيها فـ ابتسمت بـ توتر وتمتمت:
_ هبه مرجعتش البيت لحد دلوقت ومحدش عارف راحت فين وحتى موبايلها محدش بيرد عليه.. دا مش من عادتها واللي مخوفني إنها مكلمتنيش
ضمها « براء» لـ صدره وربت على ظهرها بـ حنانٍ وهتف بثقة:
_ أكيد حابه تكون لواحدها فترة عشان كدا مكلمتكيش، هبه مش عيله صغيرة عشان لقدر الله تعمل في نفسها حاجه يا حبيبتي وكمان هي بتخاف ربنا قبل كل شيء
تشبثت بقوة بـ خصره وسمحت لدموعها الخائفة بالنزول لتُخمد نيران وجزع قلبها القلق وهتفت بنشيج:
_ لا قلبي بيوجعني، صدقني هبه مش كويسه، هي مبتعرفش تعدي الطريق وبتخاف من العربيات، بتخاف تكون لواحدها مبتحبش الوحدة ولا من طبعها الغياب ومبتحبش حد يقلق عليها، أنا خايفه يا براء
أصابه الزهول من كم ترابط علاقة زوجته بـ صديقتها التي صادف وجودها بـ العمل معهم بفترة قصيرة لم تُنهار العام حتى ولكن تشابك قلوب الفتاتان جعلته يبتسم برضا لهذه العلاقات المبنية على الحب والوفاء الخالص منافية لبشاعة وزيف العالم من حولهم، مد يديه ليزيل دموع زوجته بعشق وهمس بصدق:
_ لو حابه تروحي بيتها وتطمني إذا كانت رجعت متفكريش حتى روحي وأنا هكون بخير متقلقيش
فكت نفسها من بين أحضانه وبسمة لأول مرة تعتري محياها ولا تعلم تفسيرًا منطقي لها أهي سعادة أم رضا أم شكر لهذا الرجل الذي تفهم ما يجيش بصدرها وعلم ما يدور بخبايا عقلها من أفكار، تمسكت بيده ورفعتها لشفتيه وهمست بـ امتنان:
_ شكراً … أنا بحبك
بادلها قبلتها بأخرى فوق جبهتها وهمس بتأكيد على أحرفه:
_ وأنا بـمـوت فـيكِ يا وردتــي
***************
عِند تلك الغافية بـ أحلامها الوردية معه وزكرياتها القليلة التي مزجت بين قلبيهما الصادقين بـ حبٍ معذب، راقدة كجثة سُحبت روحها وغادرتها الدماء لتشحب وجنتيها وتذبل حُمرة شفتيها وجسدها المُختفي خلف رِداء المشفى والأسلاك الثاقبة لأوردتها الضعيفة، بدت كجثة فاقدة للحياة، تنفرج شفتيها تارة عن بسمة حالمة وتارة أخرى عن رجفة خائفة من يناظرها يعلم بما خلف ثنايا قلبها المتهالك….
تركض بـ مرح على أنغام موسيقى الحياة التي نسجتها بخيالها بـ ثوبٍ أبيض بـ نقوشٍ وردية لطيفة يلامس جسدها المُفعم بالحيوية والنشاط كطفلة خرجت للتو من مهدها الصغير ولكن قلبها العجوز بالزمن لازال يحمل روح الطفولة، انحنت قاطفة زهرة عباد الشمس الرقيقة ولم تنتبه لبعض الأشواك التي غُرست بقوة بقدمها فـ خرجت منها صرخت مكتومة جعلتها تترنح حتى سقطت ممسكة بقدميها النازفة، رأت ظلًا يحوم فوقها فرفعت رأسها مسرعة لتتوسع بسمتها متناسية الألم فور رؤيته وهتفت بـ سعادة:
_ أنت جيت ومسبتنيش
انحنى ذلك الغريب جالساً أمامها ممسكًا بقدميها بين أصابعه القوية ونزع الأشواك بـ لطف ومسح عليها بـ نعومة وهمس بتأكيد:
_ أنا هكون موجود ديما وقت ما تحتاجيني
اقتربت متلمسة كفه بأصابعها وضمته لصدرها بـ عشق وهتفت بـ حب:
_ وأنا هفضل أحبك
جعد ذلك الغريب وجهه وأشاح ببصره عنها وتمتم بألم:
_ طب لي عاوزه تمشي وتسيبيني
أحاط « هبه» وجهه بكفيها الناعمتين وأطالت النظر بعيناه الساحرتين أسفل أشعة الشمس وتمتم بشرود:
_ عيونك حلوة أووي يا ثائر
طبع «ثائر» قبلة حانية ومتلهفة فوق كفها وابتسم بأمل هاتفا:
_ عشان عيونك شيفاهم يا ضي عيوني
هزت « هبه» رأسها بـ وجع وتركت وجهه ونهضت هاتفة:
_ عشان بشوفهم بـ قلبي… سلام..
لما انتهى ذلك الحلم الوحيد الذي آتاها به وبذلك القرب.. لما انتهت تلك اللحظات الجميلة على فاجعة ذهابها… سقطت دمعة وحيدة من عينيها تزامنًا مع تحرك جفنيها بـ ضعف سامحة لوعيها بـ العودة من جديد، فنحت عينيها بـ تعب لتضرب عقلها تلك الحادثة التي جعلتها طريحة الفراش، دارت بـ نظرها للغرفة البيضاء من حولها وتلك الوصلات البلاستيكية الثاقبة لعروقها، سقطت دموعها بـ قوة عندما عاد ذلك الألم ليضرب قلبها فرفعت نظرها لأعلى وعضت على شفتيها بـ عنف لتكتم صوت صراختها ولـعل ذلك القرع بـ عقلها ينتهي ولكن لا فائدة من محاولاتها…
دلفت الممرضة لتطمئن على إفاقتها وابتسمت باتساع لرؤيتها واعية فـ اقتربت معاينة نبضها وعلامتها الحيوية وهتفت بـ راحة:
_ حمد الله على سلامتك..
رطبت « هبه» شفتيها وحرقت لسانها عدة مرات لتخرج حروفها واهنة وضعيفة:
_ أنا هنا من امتى؟
أوقفت الممرضة بعض الأسلاك المتصلة بها وتمتمت باهتمام:
_ من الصبح وإحنا بقينا نص الليل
حاولت «هبه» النهوض بـ قلق على شقيقتها وخوفها وهتفت بفزع:
_فين شنطتي وفين موبايلي
نهرتها الفتاة بـ هدوء واعدلتها بالفراش وهتفت:
_ موجودين بس اهدي أنتِ لسه خارجه من عمليه ودا غلط عليكي… لو محتاجة حاجه قوليلي
لم تهتم بما قالته ولا لتصريحها بأنها خاضت جراحة بل تمسكت بيديها وهتفت بـ رجاء:
_ عاوزه أكلم اختي بالله عليكي.. زمانها هتموت من الخوف لواحدها
هزت الفتاة رأسها بتأكيد وإشفاقٍ عليها وأخرجت هاتفها لها فالتقطته «هبه» بـ لهفة وضربت بعض الأرقام…
*******************
انهت « أثـيـر» حمامها وخرجت خِلسة تتمنى بشدة استغراقه في النوم حتى لا يخُجلها مجدداً، تنفست الصعداء عندما لم تراه على الفراش فتركت لقدميها العنان للركض للـفراش ولكن قبضته التي حالت بينها وجعلتها تسقط بين أحضانه أصابتها بـ الزهول، طالعته بـ صدمة فـ بادلها بـ ضحكة ماكرة وهتف:
_ ما هو بردو مينفعش تهربي من جوزك يا هانم
ضحكت « أثـيـر» بـ مرح وتعلقت بـ عنقه بـ دلال وهمست:
_ ما هو لما يبقى جوزي قليل الادب لازم اهرب منه
جذبها « راكــان» لـ تتصدى ذراعيه وهتف بـ عبث:
_ يعني باد بوي معاكِ ومش عاجبك كمان
كادت أن ترد عليه ولكن قاطعها صوت رسالة واردة لـ هاتفها فـ هربت من بين يديها بـ صعوبة لتطلع على محتواها
« هسيبكوا تفرحوا بـ بعض شوية عشان اللي جاي هيفرحني أنا ويكون تعاستكوا أنتو»
خفق قلبها بـ عنف من محتوى تلك الرسالة العجيبة والتي تلقتها بـ جهلٍ تام واعطته الهاتف هامسة:
_ إية دا يا راكــان؟
ابتلع «راكــان» خوفه وتردده ورسم بسمة زائفة فوق شفتيها والقى الهاتف بإهمال على المقعد وتمتم:
_ هتلاقيه حد باعت رسالة غلط أو بيهزر معاكِ متقلقيش
ناظرته «أثـيـر» بـ عينين متوجستين وهتفت:
_ راكــان أنتَ مخبي عني حاجه؟
أولاها ظهره وفرك كفيه بارتباك وتمنى لو بـ إمكانه البوح بهذا السر البسيط الذي يقلق مضجعه ويهدد حياته مع محبوبته ولكن شجاعته الواهية لا تكفي لذلك، كل ليلة منذ أصبحت بين أحضانه يصارحها ليلاً ويطلب عفوها ولكن لن يقدر على المصارحة به وهي يقظة لن يتحمل نظرة خيبة الأمل والألم بـ عينيها…
اقتربت « أثـيـر» مربتة فوق كتفه وابتسمت بـ اتساع وهتفت بـ مرح:
_ إيه الدراما دي أنا بهزر يا ابني
بادلها «راكــان» بسمة مصطنعة وجذبها من ذراعيها لصدره وضمها بـ قوة لعله يريح عذاب قلبه بـ كذبه عليها وتمتم بـ صدق:
_ أنا بحبك ومهما حصل قلبي مدقش غير ليكِ
ضمته « أثـيـر» متلمسة خوفه المجهول لها وهتفت مؤكدة بـ عشق:
_ وأنا بحبك
******************
بعد مدة ليست بـ قصيرة وصلت سيارة «ثائر» الحاملة لـ «رحمه» و «ورده» بعد تلقي «ورده» اتصال «هبه» وتصريحها عن حادثة إصابتها، هرعت «ورده» لمنزلها بـ خوف وها هم أمام غرفتها ولم تكف الصغيرة عن البكاء بـ حرقة وكذلك هي أما عن ذلك العاشق فـ قلبه ينبض بـ شدة من خوفه وقلقه، يشعر بـ نيرانٍ قوية تعصف بـ عقله، من أحبها راقدة بالمشفى بـ مفردها تعاني آلامها ووحدتها، لأول مرة يرغب بـ البكاء حد الموت ولا يعلم سبب خوفه بعدما اطمئن ولو بسيط؟!!.
وقف الجميع أمام غرفتها منتظرين خروج الطبيب من عندها، مرت بعض الدقائق حتى خرج الطبيب وطمأنهم عليها، هرعت الفتاتان للداخل بـ مزيدٍ من العبارات والمزيد من الألم، اقتربت «رحمه» من شقيقتها طابعة قبلة شاكرة فوق جبهتها وهتفت بألم:
_ ليه تقلقينا عليكي كدا يا نور عيوني
ابتسمت «هبه» بـ تعب وهزت رأسها ثم تمتمت باختناق:
_ متقلقيش أنا بقيت بخير
ضحكت «ورده» بـ مرح لتخفف الأجواء وهتفت ممازحة:
_ بت أنتِ البونيه زي الفل اهي اهمدي بقا وبطلي نواح عشان مرقدكيش جنبها
ضحكت «هبه» بـ شدة على مزاح رفيقتها الوحيدة واعطتها نظرة ممتنة وهتفت:
_ متقلقيش أنا كويسه كان جرح بسيط بس…
مضت عدت دقائق تسامر الفتيات بـ مرح وتناسوا «ثائر» وسرعان ما شهقت «ورده» بـ قوة ونهضت ساحبة «رحمه» وهتفت:
_ الواد زمانه عفن برا منك للاه
لم تتعجب «هبه» من وجوده فهي موقنة من وجوده معهم وهذا ما دعاها لطلبهم بـ هذا الوقت المتأخر، بل بـ الأصل هي بحثت عنه ورغبتها الشديدة باحتضانه تزداد، ابتسمت باصطناع لوجهه الشاحب وهمست:
_ إزيك؟
هز رأسه بوجع وخلل أصابعه بين خصلاته بألم وهو المفترض من يسألها عن حالها ولكنها تولت الدَفة فابتسم بتعب وهمس بـ حديث غير مترابط:
_ كنت ميت… كنت مرعوب.. مش عارف.. كان قلبي واجعني يا هبه
شعرت الصدق بـ حروفه ومدى الوجع الكامن خلف عيناه فـ أشاحت بوجهها عنه بألم:
_ أسفه معرفش حصلت إزاي الحادثه دي .
أمسك « ثائر» بكفها وجلس أسفل الفراش وعيناه تلتهم ملامحها الذابلة وجانب وجهها الذي تحاول حجبه عنه وهتف بنفي:
_ متخبيش وشك عني… متخبيش أي حاجه منك عني يا هبه… متحسسنيش بالذنب أكتر من كدا
أدارت وجهها بالكامل له وسمحت لـ دموعها بالهطول بكثافة عالية وعلت شهقاتها النازفة ورغبت بـ محو تلك الحروف التي أطلقتها بـ سذاجة وتهور قبيل ليلة أمس:
_ أنا آسفه على الكلام .
قاطعها بضجر من حديثها الساذج ورفع أصابعها لفمه ثم لثمهم بـ عشق وتعب وهتف بتأكيد:
_ متتأسفيش مفروض أنا اللي اتأسف
أخفت وجهها مجدداً عنه بخجل وسحبت يديها من بين أصابعه وهتفت بأمل:
_ لي كل دا يا ثائر لي خوفك ولي وجودك الدايم ولي أنتَ؟ لييه
ابتسم «ثائر» بـ حنان وجذب غطاء شعرها الساقط ليخفي خصلاتها عن عيناه وعلم أنه لا مفر من اعترافه لها وتمتم بتأكيد وحب رُسم بـ عيناه:
_ اللي قلبك رافض يواجهه حقيقة يا هبه… أنا بحبك يا هبه.. بحبك وهفضل أقولها طول عمري
ضحكت «هبه» بـ خجل وسعادة وأخفت وجهها عنه بتوتر وقلبها يقرع بقوة كطبول الحرب بـ نشاطها وهمتها سامحة للفرحة تدق أبواب خافقها لأول مرة بـ حبٍ أرادته رغم بعض الألم الذي عانته منه ولكنه أفضل بـكثير عن ذي قبل، شعرت بكفه يحتضن خاصتها بحنانٍ ورقة فأدارت وجهها له، هدأت ملامح «ثائر» المقتضبة لأخرى صافية ومريحة وافترقت شفتاه عن ضحكة رجولية صاخبة لخجلها وملامحها الفاتنة المخفية خلف نقابها وهتف بـ عشق:
_ شهرين يا هبه… شهرين بس ووقتها هتبقي ملكي قلبًا وقالبًا…
***************”
ظهرت الشمس تتوسد السحب العالية معلنة عن يومٍ مُبهج للجميع وخاصة للعروسين السعيدين! وقفت « أثـيـر» تعد الفطار بـ قلبٍ متلهف لاستيقاظه وفرحة عارمة تتدفق بـ شرايينها لتجعلها بأبهى طلة لها، استمعت لـ طرق الباب فارتدت روبها الأسود فوق قميصها وفتحت، طلت من خلف الباب مرأة رجحت أنها بـ العقد الثالث من عمرها بثوبها المحتشم وحجابها الهادئ وزينتها البسيطة بـ بسمة لم تُريح قلب « أثير» بل جعلتها تبتسم بـ توتر وتحدثت:
_ حضرتك محتاجه حاجه؟
ابتسمت المرأة بـ ثقة وكبرياء وعقدت ذراعيها أمام صدرها وهتفت:
_ جايه عشانك إشارة لطيفة ليكي
هزت « أثـيـر» رأسها بنفيٍ وتعجب من جهلها لـ هوية تلك المرأة وهتفت:
_ لا حضرتك أكيد غلطانه أنا معرفكيش؟
ضحكت المرأة ودفعت الباب بـ لطف ودلفت بـ خطوات مغرورة وتمتمت:
_ مش مهم، المهم إني أعرفك وأعرف كل اللي يهمك أمرهم
أغلقت « أثـيـر» الباب ودلفت خلفها وكأنها ليس بيتها هي!! وهتفت بـ حدة:
حضرتك مين وعاوزه إيه مني وازاي تدخلي بيتي بالطريقة دي ولي بتتكلمي بالطريقة دي
ناظرتها المرأة بـ قوة وعقدت وجلست على أقرب مقعد واضعة قدم فوق أخرى بـ كبرياء وألقت نظرة شاملة على « أثـيـر» وهتفت بـ غموض:
_ أنا ابقى ميار الشربيني كابوسك الجديد ونهاية السعادة اللي أنتِ فيها دي….
الفصل الثاني عشر
شظايا الكلمات
عندما سقطت حروف جوفي تبقت ثلاثة لـ يُشيدوا أبنية كيانِ وتلخصوا بكَ هم فقط.. «حُبُكَ»…
الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام تعتري العقل عندما تختبئ الإجابات الفرضية للنظريات المطلوب حلها حينها تتبدل الأحوال من صدمة لـ ضحكاتٍ هيسترية وعدد لا نهائي من الغرائب ومن ثم تبدأ نقطة التحول بـ مراحِلها المستعصية فـ يأتي طور الصدمة بـ صمته التام ومن ثم يليه الإنكار والخوف من مواجهة الحقائق وبـ نهاية الأمر يكشف الإنهيار عن غرائزه وتبدأ حياة جديدة من النحيب والضعف الشديد
كلما زادت المقدرة على الإعطاء بلا مُقابل كلما نشط الألم عند الخذلان لـ فترة مؤقتة يتوجب التعايش والابتسام والتصنع لتخفيف حِدة النيران الضامرة التي تلتهم كل ما تطأه ولكن!! لحظة العِلم بـ وجوب إخراج الصرخات لن يكون للصمت طريق فقط القوة المُخلقة من الحُطام والقسوة المُنسوجة من الحب…
لا تزال «أثـيـر» بـ موضعها وملامحها المتعجبة تصرخ بـ إجابة أو تفسيرًا منطقي لتلك المرأة التي اقحمت نفسها بـ بيتها بل والادهى تدعي كونها سببًا بـ إخافتها!! أخرجت زفرة طويلة نابعة من أعمق رئتيها لـ طرد طاقتها السلبية وجلست بـ المقعد المقابل لها واضعة قدم فوق الأخرى وهتفت بـ قوة:
_ أولاً: لا من الذوق ولا الأدب إنك تدخلي بيتي بالطريقة الفوضوية دي وثانياً: سواء كنتي كابوسي أو حتى شيطاني فدا شيء بإيدي انهيه وأتحكم فيه كويس أما بالنسبة لسعادتي اللي متعرفيهاش وجايه تهدديني بزوالها فصدقيني لو مليش نصيب فيها مكنش ربنا رزقني بيها وثالثاً:
ضحكت « ميار» بـ قوة ممزوجة بـ سخرية تامة رافعة أحد حاجبيها بـ خبث وهتفت:
_ ثالثاً دي عندي وصدقيني أنا مش هتعجبك خالص
حاولت « أثـيـر» تصنع القوة لآخر لحظة أمام تلك التي لا تنفك عن إخراج أسوأ ما بها وتمتمت بـ ثقة:
_ أبهريني مش يمكن تعجبني وساعتها رد فعلي هو اللي ميعجبكيش؟!
ضمت « ميار» شفتيها لأعلى وحركت عينيها بـ نفيٍ ساخر وغمغمت بتهكم:
_ مظنش لأن اللي عندي قادر يحطمك؟!… أوبس إزاي نسيت هو الدكتور راكــان فين مش من عادته ينام متأخر طول عمره نشيط
بهتت ملامح « أثـيـر» واعتلت الصدمة محياها وتلك البرودة اللعينة التي بُثت بـ جسدها جعلته تتمسك بـ روبها هاتفة بـ توجس وخوف:
_ أنتِ مين وتعرفي راكان منين؟!
عدلت « ميار» من جلستها وأراحت ظهرها على المقعد بـ سلامٍ وعينيها تراقب تعابير « أثـيـر» بـ تشفٍ واضح وشماتة بدائية وأردفت بـ كبرياء:
_ قولتلك قبل كدا ميار الشربيني والاسم دا لما بيحط حاجه في دماغه بيعرفها ولو بعد مليون سنه وكمان الاسم دا هينزع فرحتك قريب أووي وقولتلك بردو إن اللي عندي هيعجبك اووي مبحبش العب قدام خصم ضعيف
انتصبت « أثـيـر» بـ غضب وحِدة أمامها وتلاقت عينيهم بـ لهيبٍ من الثأر البغيض وزُمرة من الانتقام الذي زُرع بـ أحدهما ولن تتوانى عن إنهاؤه، تشجعت « أثـيـر» ورفعت سبابتها بـ وجهها وهتفت بـ صوتٍ عالٍ بعض الشيئ:
_ اتفضلي برا بيتي وجودك غير مرغوب فيه نهائي
نهضت « ميار» وحدق مباشرة بـ عيني « أثـيـر» الدامعتين بـ بسمة منتصرة واقتربت من أذنيها هامسة بـ غِلٍ:
_ أبقي أسألي راكــان عني هو الوحيد القادر إنه يعرفك أنا مين
غشاوة من الدموع صعدت لتلمع بـ مقلتيها المزهولتين من هوية تلك المرأة وسبب تواجدها، خارت قواها فـ جلست بـ ضياع تُعيد ما دار بينهم ولكن عقلها مُضطرب ولدية رغبة بـ محو تلك المقابلة ولكن هناك رُكنًا ينازع لتصديق أمرًا واحد وهو أن هذه المرأة لها علاقة مجهولة بـ زوجها وحبيبها الأول!!!!
************************
تقلبت « هبه» بـ ضعفٍ وألم طفيف بـ أنحاء جسدها المُنهك بعد حادثة يوم أمس التي كادت تُطيح بها لنهاية مأساوية، علا ثغرها بسمة خجولة عندما عُرض اعترافه بـ عشقه الشديد لها وثقته التامة بـ أنها ستكون له عما قريب تململت بـ سعادة وضحكة مكتومة تهدد للسطوع من شفتيها وقلبها العاشق يعبر أسوار الصبابة المُقدرة له طائرًا بـ أجنحة الهيام الجارف نافيًا العالم بتعاويذه المُخيفة سابِحًا بـ بحورٍ من السرور والسَكِينة، رفعت أناملها بـ بطء تتلمس جانب وجهها الأيسر بـ جفافه وتشوهه، وضعت كفيها على وجهها كـ مراهقة متوترة عندما تذكرت رغبته الدائمة بـ رؤيتها بـ أسوأ أوضاعِها قبل أفضلها….
_ الكسوف بيزيدك جمال فوق جمالك
أردف بتلك الجملة « ثائر» المنتظر استيقاظها منذ ساعاتٍ عديدة ولم يجافيه النوم منذ خرجت حروف حبه لها
شهقت « هبه» بـ خجل وتوتر ورفعت الغطاء لتُخفي وجهها خلفه هروبًا منه وهمست بـ تعلثم:
_ أنتَ بتعمل.. بتعمل إيه هنا ومن أمتى قاعد كدا
ابتسم « ثائر» بـ اتساع ونهض مقتربًا منها بـ خطواتٍ حذرة وهتف بـ استمتاع:
_ امممم قولي امتى مشيت؟! دا السؤال الأنسب
جحظت عينيها بـ زهول وافترست شفتيها بـ توتر هامسة:
_ طب.. طب هي ورده ورحمه فين..؟
أصبح « ثائر» مُطلًا عليها بـ جسده وبسمته الوسيمة التي تُنير ملامحه الجذابة عاقدًا ذراعيه أمام صدره وهتف بـ مرح:
_ مشيتهم عشان استفرض بيكِ
شقَ جوفها شهقة مصدومة من تفوهه الوقح ونهضت مُلقية بـ غطاء السرير عنها ولم تنتبه لـ قربه الوشيك منها وهتفت بـ غضب:
_ إيه تستفرض دي يا أستاذ أنتَ عيب على سِنك حتى إحنا مش صغيرين للكلام دا
دنى منها « ثائر» بـ مرح وجذب غِطاء رأسها للمرة الثانية رغم تعجبها من قربه وهتف بـ ثقة:
_ والله بالنسبة لسني فهو يسمحلي بحاجات كتير هتعرفيها بس مش دلوقت أما بالنسبة للكلام فأنا بحب الأفعال لأن اللي بيقول مبيعملش
اعدل « ثائـر» الوسائد من خلفها وارجع جسدها للخلف جاذبًا شرشف الفراش عليها وهتف بـ مرح:
_ رغم كل تعبك عيونك لسه بلمعتها بـ تتوهني فيها
خفضت « هبه» رأسها بـ خجل وعضت على شفتيها بـ توتر وغمغمت بتوجس:
_ بجد البنات فين يا ثائر
جذب المقعد لـ جوار فراشها واستند رأسه على مرفقيه وحملق بها بـ نظرة جعلتها تبتسم بـ حب له، خلل « ثائـر» أصابعه بـ شعره وتحدث موضحًا:
_ راحوا يجيبوا ليكِ لبس وورده صممت تعملك أكل بنفسها
ابتسمت « هبه» بـ صدق ورضا عن تلك الأخت التي خلفتها الأيام لها فـ كانت دوماً خير عونٍ لها وتمتمت بـ حب:
_ لو هحمد ربنا على أفضل رزق لحد الآن هيكون ورده بقلبها وجدعنتها معايا وصدقها وحبها ليا، تعرف وردة دي أول واحده بل الوحيدة اللي وقفت جنبي لما جيت من المنصورة لهنا وبردو الوحيدة اللي صدقت حكايتي من غير أي دلائل وساعدتني في كل خطوة كانت أخت تانية ليا مش كلنا بنكون محظوظين بصديق يفضل ملازم قلوبنا بوقت ضعفها وحزنها قبل قوتها …
اعتدل بـ جلسته وأنصت لتعابير وجهها السعيد والبهجة المرسومة به بـ اعترافها عن قوة ترابط صداقتهم، يرغب بـ سماع صوتها يتردد صداه بـ اذناه أبدا الدهر، يريد المزيد من حياتها لـ يصبح رزقها القادم!!…
*******************
وصلت « ورده» بـ شوق ولهفة للمشفى بعد قضائها ليلة كاملة بدون رؤيته، دلفت لـ غرفته بـ هدوء ظنًا منها أنه مازال نائمًا وللعجب فهي لم تجده بـ فراشه!! ولكنها استمعت لـ صوت المياه بـ المرحاض فـ ابتسمت بـ شغف وألقت بـ نفسها على فراشه محتضنة وسادته ودافنة وجهها بها تستنشق عِطره الخاص وعبير روحه، اعتدلت جالسة بعدما استمعت لـ صوت فتح الباب تبعه خروجه بـ هيئته التي حبست أنفاسها بداية من خصلات شعره المُبتلة الملامسة لـ جبهته وصدره العاري الذي يرتفع وينخفض مع كل شهيقٍ وزفيرٍ ينبع منه، أغمضت عينيها لـ محاولة منع نفسها من النهوض وتقبيله وضم جسدها لجسده واكتفت بزفرة قوية ثم هتفت:
_ اتنيل البس عشان متبردش وتاخد برد
ناظرها «براء» بعينين ماكرتين لعلمه بـ تواجدها ولـ تأثرها الشديد به واقترب منها مُطلًا بـ جسده المُبتل عليها وهمس بـ جانب أذنها:
_ وحشتيني
هل عليها الآن جذبه وتعنيفه على ما يفعله بها أم صفعه والهروب حتى لا تُقدم على فضيحة عامة بـ مشفى خاص! تنهدت لـ تلملم شتات نفسها وطالعته بـ نفاذ صبر هاتفة بـ غيظ:
_ البس عشان مقومش البسك في وشك يا نحنوح
ضم « براء» شفتيه بـ غيظ ومكر وجعد جبهته بـ استمتاع وأصبح على مقربة أكبر منها هامسًا بـ عاطفة:
_ الحلوة متعفرته ليه
حسنًا لا مفر من جاذبيته أو صوته أو عبيره لا مفر منه إطلاقًا لذلك!! اقتربت مُلصقة شفتيها بـ خاصته بـ قبلة قوية وجريئة كـ طبيعتها المتمردة ساحبة إياه لأعماقها المتشوقة له سامحة لروحها بـ التغذي عليه ولـ قلبها الهدوء الذي أفتقده الساعات الماضية بـ بعده عنه، ابتعدت عنه وأنفاسها العالية كفيلة لـ وصف حالتها المضطربة وعينيها متلهفة للقاء وريقات خاصته وهمست بـ شوق:
_ دلوقتي أقدر أقولك وحشتني يا براء
أين براء؟! بل اين صوته من كل ذلك؟! سـ تصيبه بـ ذبحة صدرية تودي بـ حياته بـ أفعالِها المُلهبة لـ قلبه، التقط تيشرته الخاص وارتداه بـ أنفاسٍ متهدجة وأعصابٍ ثائرة وهتف:
_ أنا عاوز اتجوز مليش دعوة يا ورده
ضحكت « ورده» بـ شدة على صياحه وغضبه المعلوم سببه وانتصبت واقفة خلفه وتسللت يديها لـ تحتضن خِصره بـ قوة واستندت بـ رأسها على ظهره وهمست بـ حب:
_ هنتجوز وهنعمل فرح محصلش بس تخف وتكون بخير ووقتها نكون مع بعض.. هانت يا قلب ورده
أدارها « براء» لـ تواجه عيناه المتشوقتين لها وكور وجهها بين كفيها وهمس بـ حنان ورجاء:
_ هكون كويس وبخير وإحنا في بيتنا وأنتِ في حضني وأنا مطمن بإنك معايا وإن ربنا رضاني بعد سنين تعب وعذاب بـ قربك وبعدك هكون مبسوط وأنا شايفك واقفه في المطبخ بتحضريلي فطار وضحكتك ماليه وشك ولهفتك عليا بتزيد بعد كل يوم شغل، أنا مش حابب جو المستشفيات دا ولا وجودي هنا، أنا محتاج قربك مني بس يا ورده
أدمعت عينيها من رجاؤه المُبطن وابتسمت بـ أمل وأحاطت عنقه بـ يديها ودفنت وجهها بـ عنقه هامسة:
_ حاضر يا عيون ورده، هبه تكون كويسه ونتجوز ووقتها مش هيبقى في خوف ولا تعب ولا بُكا في بس فرح وأمل وفي أنا
ابتسم « براء» بـ سعادة وضمها لـ صدرة بـ قوة ألمتها وتنهد بـ إرهاق:
_ عاوز أنام يا ورده، منمتش من امبارح
أنبت نفسها على تركها له بـ مفرده ولكن تلك كانت رفيقتها الوحيدة! ولكن داخلها وتلك النزعة الأنوثية تتراقص طربًا لـ كونه لم يستطع النوم سوى بـ أحضانها لـ تُصبح هي ملجأ غضبه ومأمن خوفه وأنيس قلبه، جذبته من كفه للفراش ودثرته جيداً به وصعدت جانبه ضاممة رأسه لـ صدرها بـ حنانٍ أمومي كأنه صغيرها وليس زوجها وحبيبها وهمست بصوتها الهادئ:
_ نام واطمن أنا هنا مش همشي..
نحتاج دوماً بـ أوج لحظات الضعف ضمة قوية لـ تثبت لنا تواجد أحدهم لـ يهتم بنا ويكترث لـ كوننا لسنا بخير، نتشارك القوة والضعف، نحارب الخوف والهلع، نطمئن بـ الراحة والسلام ونسعد بـ قرب من نحب…
***************
لازالت على جلستها وأفكارها تتصادم لـ تلك النقطة التي عصفت بـ كيانها وجرحت كرامتها، لم تطل فترة خطوبتهم ولا تعارفهم لذلك لن تجزم بـ خيانته ولكنها ترى الشوق الحنان بـ عينيه بـ كل مرة يناظرها!؟ ترى الحب يتدفق من مقلتيه لها؟! نفضت تلك الهلاوس عنها ونهضت عازمة على إنهاء هذا الأمر برمته والحد لهواجسها وذلك الشك الذي تولد داخلها، لم تنتبه لوقوفه ولا لمعة عيناه لها بـ ملامحه الناعسة لكنه انتبه لـ دموعها التي تلاصق وجنتيها دون إرادة منها! اقترب جالسًا أمامها وأمسك كفيها طابعًا قبلة حنونة عليهم وتمتم بـ صوتٍ يحمل النعاس:
_ بتعيطي لي يا أثير
فاقت من شرودها على صوته وابصرته بـ عسليتيها الغائمتين بـ العبارات، وسحبت يديها من بين كفيه و تنهدت بـ توتر عاقدة ذراعيها أمام صدرها وهتفت بـ إصرار:
_ مين ميار الشربيني يا راكــان
صوتها ونبرتها الهجومية جعلته يهتز بـ وقفته وعندما رَنّ عقله بـ تلك الحروف ابتلع لعابه بـ ارتباك من القادم المظلم لهم وأغمض عينيه محاولاً الثبات واختلاق كذبة جديدة لها وَدَّ سؤالها من أين لها بـ هذا الاسم ولكنها لا تريد سوى إجابة صادقة لن يتفوه هو بها بل سيدور حولها، فرك جبهته بـ تعب وتنهد ثم تمتمت بـ ثقة زائفة:
_ كانت واحدة معرفة والدتي من سنين وكانت ماما مرشحاها ليا عشان أتجوزها بس اكتشفت أنها مش كويسه بعد كام خروجه لينا وبعدت عنها.. بس أنتِ عرفتي منين اسمها؟!
ضيقت « أثير» عينيها بـ توجس وشك من إجابته التي لم تُخمد لهيبها القائم واقتربت منه بـ خطواتٍ ثابتة وهتفت بـ استنكار:
_ هي اللي جت وطلبت مني أسألك عنها وواضح أنها تعرفك كويس وتعرف عاداتك
اسودت ملامح « راكــان» ولمعت عيناه بـ بريقٍ من الغضب والندم لعدم مصارحته إياها بـ سره الغامض وهي الاحق به، تنفس بـ عمق واقترب ضاممًا خصرها لـ صدره وهمس بـكذب جانب وجهها:
_ يمكن لأن أمي كانت بتحاول تخليها مناسبه ليا فعرفتها عادتي كلها؟!
تنهدت « أثـيـر» بـ راحة وأخرجت بعضًا من الشك الذي ساور قلبها وأحاطط عنقه بـ يدها وتمتمت بـ هدوء:
_ الحمد لله دي كانت عاوزه توقعني فيك بس وتزرع الشك جوايا إن بينكوا حاجه وكل شوية تقولي إنها هتدمر سعادتي وكلام كتير كدا مش عاوزه افتكره
دفن « راكــان» وجهه بـ عنقها وأغمض عينيه بـ المٍ قارص لـ كذبه الذي بات عادة يوميه وكم يبغض روحه لـ ذلك الشخص الذي تلبسه، كل مرة يُخير بين المواجهة أو الهروب يلجأ للهروب ظنًا منه أن الحال سيصلح ولن تكتشف سره ولكن للقدر المكتوب سردًا آخر لهم..
******************
خرجت من المرحاض بـ تعب بسبب حِدة جرحها رغم حركتها القليلة ولكنه يوخزها بـ شدة، صعدت الفراش بعدما عدلت حجابها الذي يتمرد عليها ويسقط بـ أوقات تواجده جانبها، للآن لا تصدق أنه اعترف بحبه بل ويتمناها زوجة له، اختبرت الحب قبيل ذلك الرجل ولكن الفارق بينهم كفرق النور والظلام، انتبهت لـ صوت فتح باب الغرفة وظهوره بـ بسمته المُهلكة لـ لقلبها فـ بادلته بـ أخرى عاشقة، عقد « ثائر» ذراعيه أمام صدره واستند بجانبه على الباب وتمتم بـ اهتمام:
_ أحسن دلوقت؟
هزت « هبه» رأسها بـ تأكيد رغم الألم الطفيف الذي يتخلل جسدها وهتفت بـ تساؤل:
_ كنت فين؟
جلس على المقعد المجاور لـ فراشها واعتلت الجدية ملامحه وأردف بـ اقتضاب:
_هبه في حاجه لازم تعرفيها وأنا خبيتها عنك الفترة اللي فاتت وكنت هفضل مخبي لحد ما مدتها تنتهي بس بما إنك بقيتي عارفه طبيعة مشاعري تجاهك يبقى لازم تعرفي
هزت « هبه» راسها بـ قلق وانحنت مقتربة منه وابصرت ملامحه المشدودة وهتفت بـ توجس:
_ حاجه إيه يا ثائر
هدأت ملامحه وانفكت عقدة حاجبيه وتابع حديثه بـ جدية طاغية:
_ فاضل طلقك من ما يقارب شهر ونص من بعد ما جيتي البيت باسبوع وأنا خبيت عنك عشان مترجعيش لأني كنت بدأت اطمن بوجودك ومشاعري اتحركت ناحيتك وخوفت إنك تمشي، أنا عارف إني غلطان ومكنش ينفع أخبي عنك حاجه مهمه زي دي بس لما إتأكدت من مشاعري حاجه جوايا قالتلي أخبي عنك لحد ما شهور عدتك تنتهي واقدر اتقدم ليكي..
لما لم تشعر بـ الغضب أو النفور بل شعرت بـ السلام والهدوء والسعادة تتدفق لها، لن تنكر ضيقها من إخفاؤه أمرًا كـ هذا عنها ولكنه بالآخير أخبرها؟! ابتسمت بـ وهن وأردفت بـ ضحكة خفيفه:
_ لو كنت قولتلي الكلام دا قبل دلوقت بـ شهر كنت وقتها هزعق وهصرخ واتهمك بالاستغلال والكذب بس دلوقت أنا مش عارفه إحساسي مش قادرة أحدد شعوري هو راحه ولا غضب بسيط ولا سعادة معاك حق أنا ليا كل الحق اضايق بس يمكن لأني بحبك مش هعمل كدا؟!
توقف الزمن حوله عند اربعة أحرف صداهم حُفر بـ عقله وتوال ترددهم حتى جحظت عيناه وأمسك بـ كفيها وهتف بـ صدمة:
_ أنتِ قولتي إيه في آخر كلامك؟!
ابتسمت « هبه» بـ خجل واحمرت وجنتيها ورغم تشوهها إلا انها ظهرت بديعة وفاتنة بـ عيناه وسحبت كفيها وتنهدت بـ حب هامسة من جديد بصدق:
_ ايوا بحبك يا ثائر، يمكن مش مناسبة ليك ومن حقك تحب واحده من مستواك وجميلة شبهك وتكون على الأقل بنت وتكون أنتَ أول راجل في حياتها وتشكلها على إيدك وتكون قوية زيك بس رغم كدا غصب عني حبيتك، من ليلة ضربك لـ فاضل وقلبي دقلك بس دفنت دا وهربت من مشاعري عشان عارفه عواقب حبي دا لأني خدت نصيبي في الدنيا بتجربة بشعة قبل كدا
حاول « ثائر» قطع سبيل أفكارها ومنعها عن التطرق لتلك النقطه ولكنها أمسكت بكفه لـ منعه وتابعت بـ توضيح:
_ خليني أكمل يمكن متتوفرليش الشجاعة دي تاني، حبيتك رغم كل النتايج اللي عقلي حطها عشان تمنعني أكمل حتى يوم ما استنيت منك كلمة تبرد قلبي ملقتهاش ورغم كدا قلبي حس إنه عاوز يكون جنبك ويتخبي فيك، أنا مش كاملة ولا جميلة ولا عندي ورث كبير ممكن تستفاد منه ولا حتى عندي شيء أقدر أوعدك بيه بس عندي شيء واحد.. عندي قلبي!! قلبي اللي بيحبك ويصرخ باسمك في كل ليلة من وقت ما تاه فيك، عندي روحي اللي اتعودت وجودك رغم غيابك الدايم عنها وهجرك ليها كتير، عندي حبي اللي هيكون مَسكن لـ قلبك ولو بـروحي.
لن يشعر أحداً بـ مقدار سعادته الآن وتراقص قلبه لتفوه تلك الفتاة بل تلك الجميلة عن حبها وعشقها له، كيف ترى نفسها غير مناسبة أو كاملة له؟! كيف ترى أنها ليست جميلة وهي كـ جوهرة نادرة بـ عيناه؟! كيف لم تشعر بـ حنان قلبها الذي يغدق الجميع؟! رفع كفها لـ فمه ولثمه بـ قبله عميقة ولم يُحيد بـ نظره عنها وتمتم بـ عشق:
_ أنتِ كاملة بطريقة كافيه لقلبي وأتمنى محدش يشوفك بالكمال دا غيري عشان محدش يحبك غيري وقلبه يدق ليكي …
***************
بعدما تأكد « راكــان» من غفوتها جلس يقضم أظافره ندمًا على فعلته، كيف طاوع قلبه على المزيد من الكذبات، أغمض عينيه لـ يحظى ببعض الراحة بعيداً عن أفكاره ولكن صورة والدته قفزت بـ عقله فـ نهض لـ يهاتفها…
_ ميار كانت هنا يا أمي
أتاه صوتها القلق من الناحية الأخرى
= حصل إيه وإزاي عرفت إنكوا في الفندق دا يا راكــان
شد «راكــان» خصلاته وكاد وتمتم بـ غضب
_ معرفش أنا صحيت لقيتها كانت هنا وكلمت أثـيـر وقعدت معاها وهددتها وواضح إنها لعبت في راسها
صاحت والدته به بـ حدة ونفاذ صبر
= دي أخرة كدبك مراتك لازم تعرف الحقيقة ومفروض من قبل ما تحطها في الدايره القذرة دي معاك لأنها متستهلش منك كدا دي بنت ناس مش زي الحقيرة التانيه
جلس « راكــان» بـ انهار على المقعد خلفه وفرت دمعة خائنة من عيناه وتمتم بألم
_ عارف والله، أنا اتغيرت وأنتِ عارفه وهي كانت بعدت رجعت ليه بعد ما بنيت حياتي مع الانسانه الوحيدة اللي حبتها وحبتني راجعه تدمرني للمرة التانيه يا أمي
أشفقت والدته عليه وهمست بـ تأكيد ونبرة لا نقاش بها
= لازم مراتك تعرف منك قبل ما تعرف من برا وقتها عمرها ما هتسامحك أبداً ولا قلبها هيغفر ليك لأنك استغليت ضعفها وحبها ليك
دار « راكــان» حول نفسه كأسدٍ جائع ينتظر فريسته وكانت تلك الفريسه هي شفتاه حتى أنه لم يشعر بـ الدماء التي لونت أسنانه وهتف بـ غضب متناسيًا « أثـيـر»
_ اقولها إزاي اقولها إني خبيت عليها إني متجوز واحده أكبر مني بـ خمس سنين وكل مره كنت بتكشف كنت بخبي زيادة وبكدب كدبه جديدة، تفتكري هتسامحني؟! تفتكرني هتقدر تبص في وشي تاني؟! هتكرهني!!!
خارت قواه وهبطت دموعه تحرق وجهه الغاضب وعلت أنفاسه بـ وتيرة عالية وتابع حديثه بألم:
_ هتكرهني يا أمي، أثـيـر هتكرهني ودي حاجه عمري ما هتحملها
***************************
ألقى بهاتفه بـ غضب حتى تهشم غافلاً عن تلك التي افترش قلبها بـ الجحيم وتصاعدت أبخرته وضاقت أنفاسها ولم تشعر بـ خطواتها التي تقترب منه حتى باتت أمامه مباشرة:
_ متجوز؟! متجوز صح؟! أنا سمعت صح؟!
تهالكت أعصابه وعجز لسانه عن النطق بـ موقف كـ هذا بل اعتصر قلبه ألما لـ حالها وشحوب وجهها الذي أفتقد للدماء، دارت « أثـيـر» حول نفسها بـ ضياع كـ من فقد موطنه الوحيد وأضحى بلا هاوية تُذكر ودموعها تتساقط بلا إرادة منها وقلبها يعوي وجعًا وهتفت بـ حرقة:
_ رد عليااااااااا، متجوز عليااااا وواحدهه أكبر منك!!؟؟ خليت واحدهه زي دي تضحك عليا وتسخر مني؟!!! استغليت ضعفي؟!!!! لالا معقول كنت مغفله كدا؟!!! كل دا وأنا عايشه في كدبه؟!!!!
نهض « راكــان» مسرعًا وحاول الإقتراب منها ولكنها نفرت منه بـ حدة فـ ابتعد عنها وأردف بنفي:
_ لا والله لا أنا حبيتك وبحبك بالله غصب عني لا يا أثـيـر بلاش النظرة دي
رفعت كفها المُرتجف وكادت أن تصفعه بحق خذلانها القاسي منه ولكن بقت أصابعها مُعلقة بالهواء كحال قلبها الآن، تساقطت دموعها بغزارة وحُرقة وهزت رأسها بألم وتمتمت بتهكم وكأنها للآن لا تصدق ما سمعت :
_ كُنت تسليه ليك صح ؟… محبتنيش صح ؟!
أشارت لأعلى يسار قفصها الصدري بغضب ودموعٍ مُلتهبة وصرخت بأنينٍ مُتعب :
_ليييييييه … قولي ليييييييي عملت فيا كدا ….. لييييه بعد .. بعد ما قلبي حبك ….. كل دا بتخدع فياااااا… قلبي كان يستاهل قسوتك دي …؟!!! لييييه كدبت عليااااااااا …
حاول الاقتراب منها وتهدئتها عن حالة الغضب التي تلبستها ولكن صُرخها عليه ونفورها البادي على محياها جعلاه يتراجع ويهتف بحُرقة مماثلة لها :
_غصب عنيييي… والله غصب عنيييي …. أنا محبتش قدك ولا حبيت غيرك …. أنا آسف
ضحكة تهكمية صدرت عنها جعلته يُمعن النظر لملامحها المُرعبة التي يختبرها لأول مرة وتلك القسوة التي تجسدت بها، كيف تبدلت لمثل هذا؟! هل هذه من أحب؟! هل ستُعاود نكستها من جديد بعدما علمت ما أخفاه عنها ؟! …..
رفعت رأسها بشموخٍ دب بأواصلها وتحركت مقتربة منه ولم يخفى عليه اشمئزازها منه وأدرفت بقوة :
_مغلطش لما قولتلك إنك شبههم، أنتَ زيك زيهم كلكوا بتقطعوا فيا، كلكوا كسرتوني بس بحييك لأن ضربتك أنتَ جت في هدفها بالتمام وحطمتني بس تعرف أنا ممنونه ليك فعلاً عارف ليه ؟ عشان خلتني قوية كفاية وأقدر أكمل من غيرك من غير واحد كداب زيك ….
أولته ظهرها وكتمت صرختها المُتألمة التي تحرق حلقها بعنف، قبضت على قلبها لتمنع تلك الوخزة التي أصابتها والتي فشلت بتنحيها وتحكمت بدموعها وأردفت بثباتٍ أحرقه :
_ نهايتنا كانت مكتوبه من البداية، أنتَ كدبت وأنا كنت المغفلة اللي صدقت وحبيتك، طلقني يا راكان وأطلع من حياتي …….
يتبع…