
نوفيلا درس العمر بقلم دفنا عمر
الفصل الأول.
______
تَشِب عَلِي قدَّماهَا بِمجْهود وَاضِح تُحَاوِل أن تُعلِّق فَرْع الزِّينة اَلأخِير ، لِتزْفر بِضَجر مُحبَّب لَمِن يُراقبهَا مع قوْلهَا: أوف، مش عارفة اعلق الفرع ده يا عمو، آدم قرب يجي وعايزة اخلص عشان أفاجئه بزينة رمضان.
اِبتسَم العجوز وشاكسهَا: مساكين القصيرين دول بيعانوا، لو كنتي طويلة كانت مشكلتك اتحلت.
رمقتْه بِعتاب مُحَذرَة: والله أزعل منك يا عمو.
أَطلَق ضِحْكاته لِيلاطفهَا بِقوْله: متزعليش بهزر معاكي يا لولو، وسعي انتي وأنا اعلقوا بدالك.
أَعطَته مجالا لِيعْتَلي المقْعد وَيثبِت الفرْع جيِّدًا بِموْضِعه وينْتَهي أخيرًا مِن تَعلِيق الزِّينة بِسائر الجدْران ، فراحتْ تَتَأمَّل تَلألُؤ اللَّمْبات الصَّغيرة الملوَّنة اَلتِي تَضوِي بِتتابع جميل لِتغْمرهَا الفرْحة وَهِي تصيح كأنَّهَا طِفْلَة :: الله يا عمو، الشقة شكلها بقا يجنن ومليانة بهجة ودفى، ده أول رمضان ليا أنا وآدم بعد جوازنا.
تَبسَّم ثَغرُه بِحنان: ربنا يا بنتي يجعله شهر مبارك عليكم ويتق,بل منا ومنكم صيامه وقيامه ويجعلنا من عتقاء النار والمغفور لهم.
_ اللهم امين ياعمو.
أسْتأْذنهَا لِيهْبط شَقتَه فِي ذات البناية ، غاب دَقائِق ثُمَّ عاد وَأَمرهَا بِودٍّ: غمضي عيونك يا ليان.
تعجبت: ليه ياعمو؟
_ غمضي بس ومش هتندمي.
اِمْتثَلتْ لِأمْره مُتَحمسَة لِيصلَهَا صَوْت عَبثِه بِكيس بِلاسْتيك كَأنَّه يَخرُج شيْئًا ( فتحي عيونك يا لولو)
فَتحَت عيْناهَا وشهقتْ فَوْر رُؤيَة فَانُوس كبير أنْواره الخلَّابة خَطفَت اِنْتباههَا وَسرَت قلْبهَا بِشدَّة ، لِتقْتَرب وتتحسَّسه بَيْن يديْهَا بِفرْحة وَاضِحة: الله يا عمو، الفانوس الجميل ده عشاني؟
منحهَا نَظرَة أَبوِية حَانِية: أمال عشان مين غيرك يا لولتي، هو انتي فاكرة نفسك مرات ابني وبس؟ ده انتي في معزة بنتي اللي كان نفسي فيها.
اِنْدفَعتْ تَعَانقَه بِتأثُّر وَمَحبَّة خَالِصة مع قوْلهَا: ربنا يخليك لينا يا عمو، دي أول هدية تجيلي في رمضان بعد جوازي.
_ ربنا يهنيكي بيه وعقبال كل سنة.
واستطرد بمرحه المعهود: والسنة الجاية يبقا معاكي عفريت صغير يبوظلك الزينة اللي تعبتي فيها دي كلها.
ضحكت من قلبها وهي تؤمن: اللهم امين، في حياتك يا عمو، وبدال ماتجيب فانوس واحد يبقوا اتنين.
_وأنا هجيب لأغلى من حفيدي.
واستطرد: أنا هنزل بقا شقتي ياليان عشان ارتاح شوية أحسن انتي هديتي حيلي معاكي في تعليق الزينة.
ضحكت مع قولها: سلامتك ياعمو، طب اوعي تنسى السحور، أول ما ارن على حضرتك تطلع عشان نتسحر كلنا سوا.
_ ماشي يا حبيبتي، ابقي سلميلي على آدم لحد ما اشوفه.
ثم توقف ق,بل أن يبتعد مع تحذيره: أوعي يا لولا تعملي الخشاف، أنا اللي هتسلي فيه بكرة مع باقي العصاير.
_ متقلقش يا عمو، احنا اتفقنا طول رمضان قسم الخشاف والعصاير علي حضرتك،.وأنا عليا عمايل الفطار والسحور.
_________
“ممكن اعرف ليه مش عايزة تفطري معانا أول يوم يا ماما؟”
_ يا حبيبي قولتلك خالتك عازماني ومقدرش اعتذر لها هتزعل مني.
_ بس حضرتك كنتي عارفة أني عازمك اول يوم رمضان.
واستطرد بمكر: عموما أنا عارف ليه بتتهربي من عزومتي يا ست ماما.. مش عايزة تشوفي بابا صح؟
زفرت بحنق: وبعدين معاك يا آدم، مش عايزة اشوفه ليه يعني؟ ده في النهاية والدك وطبيعي نتقابل من وقت للتاني في أي مناسبة.
_ما هي المناسبة جت اهي وحضرتك بتتهربي.
_ ابدا مش بتهرب، بس مش عايزة ازعل خالتك.
ثم لاطفته بربتة حانية علي خده: متزعلش يا حبيبي الأيام جاية كتير، وأعدك مش هعتذر عن عزومتك المرة الجاية.
_ العزومة الجاية مش بعيد أصلا، أنا عازمك تاني يوم رمضان، لأن بعدها حماتي عازماني، هتيجي ولا هتخترعي حجة تاني؟
رضخت لرغبته بالنهاية: خلاص هاجي إن شاء الله.
لثم كفها بتقدير حاني مغمغما: حبيبة قلبي، كل عام وانتي بخير يا أحلي أم في العالم.
منحته ابتسامة راضية: وأنت طيب يا نور عيني.. يلا بقا روح لمراتك، الطريق هيكون زحمة وهتاخد وقت على ما توصل.
_ ماشي، أنا جبتلك كل الياميش وحاجات رمضان، ناقصك أي حاجة تاني؟
_ لا يا حبيبي أنت جبت كل حاجة ربنا يخليك ليا.
_ ويخليكي ياحبيبتي.
__________
بَعْد ساعتَيْنِ وصل لِبنايته وَصعِد لِشقَّته ثُمَّ ولج يُخبِّئ شيْئًا مَا خَلَّف ظَهرُه ، لِيفاجئه اِندِفاع زَوجَتِه لِيَان عليْه بِخفَّتِهَا وَمرحِها اَلذِي يُحبُّه وَهِي تصيح: أخيرا جيت يا حبيبي، أنت أتأخرت اوي يا آدم.
غمرها بنظرة تفيض حبا: معلش يا قلبي، كان في ضغط شغل في مكتبي لازم يخلص ق,بل رمضان، وعديت على ماما أطمن عليها.
اقتربت تلثم خده قائلة: ولا يهمك ياحبيبي، كل عام وأنت بخير ورمضان كريم.
ولم تعطيه مجالا ليرد التهنئة بمثلها وهي تسرع و تجذبه خلفها: تعالي بقا هوريك حاجة هتعجبك أوي.
تَبعهَا وَهُو حريصًا أن يُخبِّئ مَا جَلبَه خَلْف ظَهرِه ، لِيصيبه اِنبِهار حَقيقِي بِزينة رَمَضان المعلَّقة على الجدْران والْهلال والنَّجْمة يتدلَّيان مِن بَيْن اَلفُروع المضاءة لِيعكسان أَجوَاء رمضانيَّة تَشرَح القلْب.
_ أيه رأيك بقا في اللي عملته أنا وعمو؟.
_ يجنن يا لولو، كده حسيت فعلا أننا في رمضان.
_ أمال لو شوفت الركن اللي هناك ده هتقول ايه.
ذهب حيث أشارت ليجدها صنعت ركنًا مميزا يخص الصلاة، مع عبارات ورسومات مجسمة علي الحائط تبرز المناسبة وروحانياتها الدافئة.
التفت لها وقلبه تغمره فرحة عارمة لم يشعر بها من ق,بل وهو يق,بلها مع عيناها هامسًا: كل حاجة بعيشها معاكي لأول مرة ليها طعم تاني يا ليان، ياريتنا أتجوزنا من زمان.
طوقته بحنان: كل شيء في معاده أحلي يا حبيبي، المهم أننا بقينا خلاص مع بعض.
تَنهَّد مع نَظرَة تفيض لَهَا عِشْقًا ثُمَّ أَمرِها أن تُغْمِض عيْناهَا ، فَعلَت ثُمَّ أشْرعتهَا بَعْد لَحَظات ، لِتَجد فَانُوس كبير مُزخْرَف بِألْوَان مُبْهِجة فتصيح بِفرْحة: لا مش ممكن، أنا كده صدقت ماما لما بتقولي دايما أني مرزقة، ربنا بعتلي فانوسين لرمضان في ليلة واحدة ومحدش قدي.
تَلاشَت اِبْتسامته تدْريجيًّا وَهُو يسْألهَا: فانوسين؟ هو في حد جابلك حاجة ق,بلي؟
أومأت له وهي تقول بسعادة: باباك يا آدم، فاجأني بالفانوس الكبير اللي هناك ده بعد ما علقنا الزينة، ماتتصورش فرحت قد ايه..أنا بجد بحبه أوي وأكتر مكسب من جوازنا هو والدك الجميل ده.
اِعْترَاه خَيبَة أمل وَغيْرَة وضيق لِأنَّ والده سَبقَه وأهْدى زوْجته فَانُوسا قِبَله ، كان يُريد أن يَكُون صَاحِب أَوَّل فَرحَة بِهديَّته فِي تِلْك المناسبة اَلأُولى مِن نوْعهَا بَعْد زواجهمَا .
_ شكرا يا حبيبي تعيش وتجبلي يارب.
قاطعتْ أفْكاره بِشكْرِهَا فَمَنحهَا اِبْتسامة دَافِئة وَتَركهَا لِيأْخذ حمامًا دافئًا ويبدِّل مَلابِسه بِأخْرى مُنَاسبَة .
_______
فِي اليوْم التَّالي . سَيطَر الزِّحَام المروريُّ على كُلِّ الطُّرق مع أَوَّل أَيَّام الشَّهْر المبارك ، لِيمْضي آدم وقْتًا لَيْس هيِّنًا وَهُو يسير بِسيَّارته گ السُّلحْفاة مِن كَثرَة اِكتِظاظ السَّيَّارات حَولَه بِذَاك التَّوْقيتِ قُبَيل اَلمغْرِب بِأكْثر مِن ساعتَان ، لََا يَفهَم سِرَّ تِلْك العشْوائيَّة اَلتِي تَحدَّث دائمًا فِي رَمَضان ، وأصْوَات النَّاس العالية حَولَه وأعْصابهم الثَّائرة لِأتْفه الأسْباب أصابَتْه بِالانْزعاج ، نَفْض كُلِّ هذَا وَتَنفَّس الصُّعداء أخيرًا وَهُو يَركَن سيَّارَته أَمَام بِنايَته .
كَانَت تَتَفقَّد الحسَاء فَوْق اَلموْقِد قَبْل أن تَسمَع صَوتَه فِي الخارج فلحقتْ بِه وَعلَى وجْههَا اِبْتسامة بَشُوشَة: حمد الله علي السلامة يا آدم.
_ الله يسلمك ياحبيبتي، عاملة ايه أول يوم صيام؟
_ كويسة بس دماغي شوية مش مظبوطة، لكن ده بيحصلي دايما أول يوم عادي.
_ سلامتك ياقلبي، بعد الفطار خدي مسكن.
واستطرد: امال بابا فين؟
_ لسه نازل، عمل العصاير والخشاف والكنافة كمان ونزل ينام شوية وطالع علي الفطار.
_ ماشي، هروح اخد حمام واتوضى واصلي العصر ق,بل ما يفوتني.
ثُمَّ نَزْع عَنْه قَمِيصَه طالبًا أن تَحضُر لَه غِيارًا مُناسِبًا.
………
صَعَّد والده ولحظَات وانْطَلق المدْفع يتْبعه الأذَان بِصَوت الشَّيْخ مُحمَّد رِفْعتْ ، تَناوُل اَلجمِيع مَشرُوب التَّمْر بِاللَّبن الدَّافئ وَصلُوا صَلَاة اَلمغْرِب فِي جَماعَة ، ثُمَّ تحْلقوا حَوْل مَائِدة الإفْطار العامرة بِأصْنَاف الطَّعَام اَلشهِية وليَّان تَهتِف بِمودَّة: عملت لحضرتك الأكل اللي بتحبه يا عمو، عايزة رأيك بقا.
اِبتسَم لَهَا العجوز بِمحبَّة: ربنا يخليكي ليا يا مرات ابني يا مدلعانى..دس بعض الطعام بفمه يلوكه ق,بل أن يصيح برضا: الله الله تسلم ايدك يا لولو، نفسك في الأكل تحفة، دكر البط بالبرتقان يجنن و بيدوب في البق والمحشي محصلش.
_بالهنا والشفا علي قلبك يا عمو.
لَاحظتْ أنَّ زوْجهَا لَم يَلمِس طعامه فتساءلتْ بِاهْتمام: ايه يا آدم يا حبيبي مش بتاكل ليه؟ الأكل مش عاجبك ولا ايه؟
رمق الطعام أمامه ق,بل أن يهتف بجمود: لأ، مش بحب الأكل ده.
اِصْطدَمتْ لِأَول مَرَّة بِمعْرِفة أَنَّه لََا يُفضِّل هذَا النَّوْع مِن الطَّعَام ، بيْنمَا تَدخَّل والده بِقوْله:
أيوة صحيح، آدم مالوش في البط والمحاشي رغم أنها أكلات لذيذة جدا، للأسف مش طالعلي.
ثم غمغم بتهكم: طالع للست الوالدة اللي عودته على الأكل المايع اللي مالوش فايدة ولا طعم، بانية وبوفتيك وكوردن بلو وشيش طاووك واسامي عايزة كتالوج….
صاح بحنق: بابا لو سمحت، اتكلم عن امي كويس وبلاش تغلط فيها وهي مش موجودة، مش عشان منفصلين يبقا خلاص تطلع فيها العبر كل شوية.
رد ببرود: وأنا غلطت في ايه دلوقت عشان تزعل يا سي آدم؟ انا بقول انها عودتك على أكل معين مالوش طعم وماسخ.
_بس هو ده الأكل اللي بحبه ومش هغيره على فكرة.
ونهض غاضبا لتعترض زوجته منزعجة يوخزها ضميرها: على فين يا آدم؟ ، طب استنى وماتزعلش، أنا هحضرلك أكل تاني في أقل من خمس دقايق والله.
رمقها عاتبًا: ما تتعبيش نفسك.
وتمتم كذبا: أنا هروح افطر عند ماما، عن اذنكم.
سريعًا مَا غادرَهم مُتجاهلا نِدَاء لِيَان عليْه ، فجلستْ بِحزْن تَشتَكِي لِوالِده: شوفت يا عمو؟ آدم مش ادني فرصة اعمله اكل تاني، انا عندي أكل جاهز في الفريزر وكنت هحضره بسرعه.
رَبَّت على ظهْرهَا بِحنان: متزعليش يا بنتي، هو طالع لامه عصبي ونكدي وروحه في مناخيره.
لامت نفسها بحزن: لا يا عمو بس انا برضو غلطانة، افتكرت انه بياكله لأن ماما عزمته عليه ق,بل كده، بس كان لازم أسألوا يحب يفطر ايه.
_هتلاقيه اتكسف ومثل انه بيحبه بس أكل حاجة تانية. “واستطرد” أنا شوفتك متبلة بانيه وبوفتيك، افتكرتك بتحضريه عشانه، لو اعرف كنت نبهتك انه مالوش في البط والمحشي.
قالت بضيق: للأسف أنا كنت بتبلهم عشان افرزهم بالمرة لأي يوم تاني، وافتكرت آدم هيحب الأكل ده زي حضرتك، أنا بجد مش عارفة ازاي مش سألتوا، حاسة اني قصرت في حقه جامد وقلبي ني.
_يا حبيبتي انتوا لسه عرسان مش كملتوا شهرين متجوزين وأغلب أكلكم كان عزايم برة البيت.
وواصل يهون عليها: خلاص متزعليش بكرة تعرفي بيحب ايه وبيكره ايه.. واطمني هو راح لأمه وهي هتظبطه.
تَمتمَت بِمَا أَثَار قَلقُها: بس طنط اكيد هتسخنه عليا، حضرتك عارف انها مش بتحبني وما هتصدق يروح يشتكي مني.
_متخافيش من أنجي بنت صلطح باشا، مش هتقدر تقلبه عليكي، الواد آدم ابني بيحبك وبيدوب في هواكي يا لولو.
اِبْتسَمْتُ بِخَجل لِيضْحك قائلا
يا سلام! كلامي كسفك أوي وخلي وشك زي الفراولة.
ثُمَّ رَبَّت على كَتِفهَا رَبتَه حَانِية: يلا يا بنتي كملي أكلك انتي مش أكلتي حاجة.
_وحضرتك يا عمو مش أكلت وأنت صايم.
_ هاكل لو أكلتي معايا.
حاولتْ أن تَدعِي أمامه أَنهَا تَأكُل ، لَكِن فِي وَاقِع الأمْر لَم تَستَطِع تَناوُل شَيْء بَعْد أن فَقدَت شهيَّتهَا ، وسريعًا مَا اِنتهَى مِن طَعامِه وغادرهَا لِيسْتَعدَّ لِصلاة التَّراويح ، وشرعتْ فِي تَنظِيف الطَّاولة مِن بقايَا الطَّعَام وَهِي شَارِدة الذِّهْن بِزوْجِهَا اَلذِي رحل غاضبًا دُون أن يَأكُل شَيْء .
———–
الفصل الثاني
———-
قاد سيارته دون أن يحدد وجهة معينة يلجأ إليها، خاصتا ووالدته تتناول إفطارها عند خالته، هاتف الأخيرة ليكتمل ضيقه بعد المكالمة وعلمه أن والدته لم تفطر معهم كما أخبرته، توجه لمنزلها وبراكين الغضب تتراقص بعينه.
_ أخبار الفطار عند خالتوا ايه يا ماما؟
تفاجأت من حضوره بهذا التوقيت، دعته يدخل وهي تغمغم متجاهلة تساؤله: أنت ايه جابك في الوقت ده؟ ده الناس لسه بتفطر.
رمقها بحدة ق,بل ان يصيح: ليه يا ماما كدبتي عليا؟ كل ده عشان تهربي من العزومة عندي وماتشوفيش بابا؟.
لامته بقولها: عيب يا ولد متقولش علي أمك كدابة، خالتك فعلا عزمتني والله، بس أنا اعتذرت.
_ طب كنتي عرفيني، معقول تفطري لوحدك أول يوم رمضان؟
_ أنت عارف أصلا اني مش باكل كتير علي الفطار، يدوب شوية عصير وأي حاجة بسيطة معاه.
ثم رمقته بريبة: انما برضو ماقولتليش، ايه جابك دلوقت؟
تذكر غيظه من زوجته وأبيه فصاح بحنق:
مضايق شوية.
استق,بلت ضجره بقلق: مضايق من ايه يا حبيبي، فهمني زعلان ليه؟
تردد قليلا ق,بل أن يبثها شكوته:
زعلان من ليان، تصوري يا ماما تسأل بابا عن الأكل اللي بيحبه وانا مفكرتش تكلف خاطرها وتعرف ذوقه ده هيناسبني ولا لأ؟
وواصل: وكمان بابا فضل يتريق عليا قدامها وعلى أكلي الماسخ اللي مالوش طعم، دمي اتحرق وسبت ليهم البيت وخرجت.
ثارت لأجله: ازاي تعمل كده دي بنت غبية اوي، المفروض انك رقم واحد عندها.
واستطردت ساخرة: أما ابوك متستغربش منه، طول عمره كده قليل الذوق مش بيفهم في الأصول
ثم وجدتها فرصة مناسبة وراحت تنعي حظها العاثر: ياريتني سمعت كلام جدك ومش اتجوزته، انا غلطانة اني مسمعتش كلامه لما حذرني من …
_ماما..الله يرضى عليكي مش وقته خالص جو الأميرة “أنجي” سليلة البشوات اللي ضحت واتجوزت “على” الجنايني..ركزي في مشكلتي من فضلك عشان أنا خلاص هتجنن.
_طب اهدى حقك عليا وماتزعلش، أنا في ثواني هعملك سفرة فطار محصلتش فيها كل الأصناف اللي بتعجبك يا قلب ماما، وهاكل معاك كمان عشان افتح نفسك.
_طيب بسرعة يا ماما هموت من الجوع.
لم يمضي الكثير من الوقت إلا وكانت السفرة عامرة بأصناف الطعام التي يفضلها آدم والذي التهمها بشهية ليهتف أخيرا بمعدة ممتلئة: ياه ده أنا أكلت أكل! تسلم ايدك يا ماما، البشاميل والكوردين بلو والكفتة يجننوا.
ربتت على ظهره بحنان: بالهنا والشفا على قلبك يا حبيب أمك، انا على طول مجهزة الأكل ده في الفريز عشان اي وقت تيجي وتكون جعان اعملك اللي بتحبه.
_ربنا يخليكي ليا يا امي.
ثم تنهد بقوله: ياريت مراتي تبقى زيك وتهتم بيا كده.
_ مفيش واحدة في الدنيا تحبك قدي وتهتم بيك زيي “ثم تحسرت بقولها” أنت اصلا مكانش ليك الجوازة دي يا آدم، لو كنت اتجوزت بنت خالتك كان زمانك..
_تاني يا ماما؟ الله يكرمك بلاش تعيدي نفس موال كل مرة ده، انتي عارفة أني بحب ليان مراتي وعمري ما هندم على اختياري ابدا.
لوت شفتيها باستياء: ياريتها بتحبك زي ما بتحبها كده.
_بتحبني يا ماما.
تهكمت بقولها: واضح، بأمارة ما نزلتك من غير فطار، بنت بتاع المخلل.
صاح بحدة: ماما من فضلك اتكلمي عن مراتي كويس، بنت بتاع المخلل دي مهندسة زيي زيها وتشرف أي حد يتجوزها، سابت شغلها عشان تريحني من غير ما تتردد لحظة واحدة لما طلبت منها ده، فياريت تتكلمي عنها بطريقة أفضل من كده لأن كرامتها من كرامتي وبلاش تستغلي اني فضفضت معاكي بكلمتين، وإلا مش هجيلك تاني.
تراجعت بقلق أمام ثورته خوفا أن يفعلها: خلاص حقك عليا متزعلش، مش هجيب سيرتها، انتوا احرار سوا ماليش دعوة بيكم.
لتهمس لذاتها بصوت خافت:
( مش طايق عليها كلمة كأنها عملاله عمل)
_بتقولي حاجة يا ماما؟
منحته ابتسامة متصنعة: لا مبقولش حاجة يا قلب ماما .هروح اعملك قهوة.
_____________
صوت مزلاج الباب اخبرها عن قدومه، فمشطت هيئتها بنظرة سريعة في المرآه ق,بل أن تلحق به في الخارج.
_حمد الله على السلامة يا حبيبي.
رمقها ببرود دون رد متوجها لغرفته يحل اذرار قميصه متجاهلا إياها تماما، أدركت أنه لا يزال غاضبا فعزمت أن تراضيه بأي طريقة، دنت نحوه تساعده في نزع قميصه هامسة بدلال: كده تتأخر عليا ده كله يا دومي، وحشتني اوي.
لم يتجاوب معها وهو يكمل انتزاع ملابسه ويستبدلها بأخرى، ليندس بعدها أسفل غطائه متظاهرا بالنوم، لم تيأس وهي تندس جواره بالفراش مقحمة رأسها على صدره هامسة: حقك عليا يا حبيبي متزعلش منى، مكنتش اعرف انك مش بتحب الأكل ده والله، بعد كده هسألك كل يوم عن الأكل اللي بتحبه.
بمجهود خرافي منع نفسه عنها محاربا ذراعه كي لا يضمها إليها شارعا بتجاهلها وهو يعطيها ظهرها، أجبرته ليعتدل يواجهها وشفتيها تهديه ق,بلات ناعمة على سائر وجهه ق,بل أن تهتف بخفوت: وحياتي ماتزعل مني يا آدم، انا غلطانة ومش هعمل كده تاني والله العظيم، خلاص بقا مايبقاش قلبك أسود ده انا لولو حبيبتك.
رمقها مليا عن قرب ق,بل أن يهتف بصوت يحمل المزيد من عتابه: بصراحة زعلان منك اوي، كان لازم تهتمي بيا أكتر من كده.
أقرت بخطئها دون تردد: عندك حق، أنا غلطت غلطة كبيرة ومش هتتكرر تاني والله.
لانت ملامحه ثم نظر لملابسها بنظرة شوق هامسا:
هو فاضل كتير علي السحور؟
استق,بلت تساؤله بابتسامة ناعمة تضافرت مع صوتها الهامش بنبرة دلال مهلكة: فاضل ساعتين بحالهم يا دومي.
لم يهدر المزيد من الوقت مطلقًا العنان لعاطفته المتقدة نحوها، لتنتهي لحظات عشقهما بعناق خلى من صخب اللقاء هاتفة له بأمنية: تعرف يا آدم..نفسي زي الأيام دي يكون ربنا رازقنا بطفل يملا علينا حياتنا ويشاركنا كل حاجة حلوة.
لثم جانب رأسها الساكن على صدره: إن شاء الله يا حبيبتي ربنا يرزقنا قريب.
ساد صمت قصير قطعه تساؤلها: هو ممكن أسألك سؤال خاص شوية.
_ أكيد.
_ والدك ووالدتك انفصلوا ليه بعد العشرة دي كلها؟ بجد يا آدم مش قادرة افهم ازاي اتنين بعد سنين كتير كده يقدروا يستغنوا عن بعض؟
تنهد لتشعر بتنهيدته أسفل رأسها ق,بل ان يقول: معرفش سبب محدد لانفصالهم، من كام سنة الاتنين أخدوا القرار فجأة وبلغوني به، حاولت طبعا أعرف السبب وقتها بس هما رفضوا يتكلموا لأني كنت لسه صغير في نظرهم، وأنا بعدين احترمت سكاتهم ومسألتش تاني.
_ بس أكيد زعلت لقرارهم ده صح؟ .
_ طبعا، بس اللي خفف أثره عليا اني كنت متوقعه.
اندهشت لقوله: معقولة؟!
أعتدل ليجلس نصف جلسه محتفظا برأسها علي صدره هاتفا: بابا وماما دايما كان في بينهم مشاكل وانتقاد متبادل بينهم بشكل غريب، أنتي لو سألتيني عن كام مرة شوفتهم رايقين أو سهرانين سهرة حلوة أو حتي بيهزروا مع بعض، هقولك مش فاكر.
_ وليه كانوا كده؟
_ يجوز أختلاف المستوي المادي بينهم كان له عامل كبير، ماما بنت عيلة كبيرة وجد جدها كان باشا من بتوع زمان.. فتلاقيها محبوسة في الفترة دي وبتتعامل مع بابا انه مكانش يحلم يتجوز واحدة زيها..أما بابا راجل بسيط في كل حاجة زي ما انتي شايفة.
ليسترسل لها بتوضح أكثر: باختصار في فجوة بينهم محدش حاول يوقفها أنها تكبر، لحد ما بلعت رصيد كل واحد عند التاني، وانتهت حكايتهم بالطلاق.
_ ياااه.. موضوعهم فعلا معقد.. بس تعرف..أنا حاسة إن لسه جواهم مشاعر لبعض رغم السخرية والعدوانية اللي بيتظاهروا بيها ناحية بعضهم في كل مرة يتقابلوا فيها.
_ الله أعلم، يمكن احساسك صح.
_ طب بقولك ايه، عايزة اعزمها بكرة تفطر معانا، كفاية مش جت انهاردة واتعزمت برة.
_ منا أصلا عزمتها وهتفطر معانا إن شاء الله.
قالت بحماس: ممتاز، يبقا هكلمها واعرف بتحب ايه في الأكل احسن يتكرر اللي حصل معاك، ومامتك مش هتسمي عليا ولا ترحمني.
ضحك بخفوت وغمغم بصوت ناعس:
جدعة ألحقي نفسك.
ثم تثائب متأهبًا للنوم:
أنا هنام ساعة ق,بل السحور وابقي صحيني.
_ ماشي يا حبيبي نوم الهنا، أنا هقوم أخد شاور واحضر السحور وابقى اصحي عمو كمان عشان يطلع يتسحر معانا.
لم يسمعها وقد غط بنومه دون سيطرة منه، لتطبع ق,بلة علي جبينه وتغادر غرفتهما بهدوء.
_________
تشعر بتوتر بالغ وهي تترقب حضور والدته، فالعلاقة. بينهما ليست مثالية وخالية من الود من تلاها، لا تدري لما تأخذ منها موقف عدائي هكذا رغم أنهما لم تجمعهما مواقف تغذي هذا الشعور داخلها، عكس تماما علاقتها بأبو زوجها البسيط المرح الحاني.
_ البنت مربوحة دي قنبلة الموسم.
وصلها صوته لتبتسم وهي تقترب إليه متسائلة: مربوحة مين يا عمو؟
_ دي وجه جديد في مسلسل الكبير أوي، عارفاه؟
_ مش بتاع أحمد مكي؟
_ أيوة، بحب الممثل ده جدا، وبصراحة عرف يرجع بقوة الموسم السادس، وعارفة أحلى حاجة عملها ايه؟
_ ايه يا ترى؟
_ أنه سحب البساط من البرنامج إياه التافه ده اللي بيتصرف عليه ملايين.
هنا تضامنت معه بحماس: أه والله يا عمو البرنامج ده مالوش أي تلاتين لازمة، والحمد لله مش بتابعه.
_ عملتي طيب.
ساد بعض الصمت ولاحظ العم توترها وهي تشخص بعيناها ليهتف لها: متخافيش يا ليان كل حاجة هتبقى تمام واليوم هيعدي علي خير، حماتك مش بعبع يعني.
تنهدت قائلة: نفسي تديني فرصة اقرب منها يا عمو زي حضرتك.
_ ما هي مش زي حضرتي.
وواصل بنبرة جادة: حماتك دي زي البالونة منفوخة على شوية هوا.
وجدتها فرصة لتروي فضولها بشأنهما: عمو، أنتوا ليه انفصلتوا؟ معقول عشرة السنين بينكم مقدرتش تعدي بيكم لبر الأمان وتمنعكم من قرار زي ده؟
تنهيدة طويلة صدرت منه ق,بل أن يغمغم: سؤالك يبان بسيط أوي يا ليان بس إجابته مش سهلة وعايزة وقت وتفاصيل كتير، وأنا بصراحة مش عايز اتكلم في حاجة من اللي عدت، اللي حصل بنا قدر ومكتوب، والحمد لله على كل حال.
_ آدم شكله جه.
هكذا صاحت وهي تتوجه بلهفة نحو باب شقتها لتستق,بل والدته بحفاوة صادقة: يا أهلا وسهلا يا طنط، والله النور زاد بحضورك النهاردة.
اكتفت بتصافح بارد مع قولها المقتضب: ميرسي يا ليان.
ولجت لتجده جالسًا فوق الأريكة، لمعة حنين خاطفة ومضت بعيناها لم تدم غير ثوانِ معدودة وأدتها سريعا مسدلة قناعها البارد، أما هو ما أن رآها حتى وقف قائلا بترحيب يشوبة السخرية: يا أهلا بإنجي هانم سليلة البشوات وصفوة المجتمع الراقي.
آدم وهو يرمقه بنظرة عاتبة محذرة: بابا لو سمحت.!
_ سيبه يا آدم، باباك عمره ما هيغير طريقته دي ابدا، أنا اتعودت علي كده ومش بزعل منه خلاص.
ابتسم بهدوء: فعلا، عدينا من زمان مرحلة الزعل دي يا إنجي.
_ يلا يا جماعة السفرة جاهزة والأذان فاضله دقيقة.
هكذا صاحت ليان لتغلق عليهم دائرة التراشق المشحونة بينهما، صدح الأذان وقاموا بأداء صلاة المغرب جماعة ق,بل أن يستديروا حول المائدة، تعمدت أن تجلس جوارها لتهتم بها جيدا.
_ ان شاء الله الأكل يعجبك يا طنط، دي أول مرة هتدوقي أكلي على فكرة.
منحتها ابتسامة هادئة وتناولت القليل من الطعام الذي ملأ معدتها، ثم مسدت فمها بمحرمة ورقية لتعترض ليان: مش ممكن! حضرتك كده فطرتي؟ ده أكلك زي ما هو يا طنط، شكل أكلي مش عجب حضرتك.
ثم استعانت بزوجها: شوف مامتك يا آدم.
تدخل الأخير: ايه يا ماما لحقتي أكلتي؟ كملي احنا لسه بنبتدي.
منحته ابتسامة ودودة: أكلت يا حبيبي، أنت عارف مش بحب أملى معدتي على الأخر.
واستطردت: والأكل كله حلو، تسلم ايدك يا ليان.
_ بالهنا والشفا يا طنط
تنحت جانبا وتركتهم يكملون إفطارهم، لتجدها فرصة لتتأمل الزينة والأنوار المعلقة علي سائر الجدران، لتنتقد ما تراه بقولها: ايه كل الأنوار والزينة دي يا ليان، هو احنا في مولد؟ بصراحة منتهي الفلح، كان كفاية لمسات بسيطة تعبر عن الأجواء.
احتقن وجه ليان بشدة لما قالته بينما استاء آدم كثيرا من نقد والدته الغير لائق وهم بالرد ليتولى والده الرد عنه: والله يا إنجي كل واحد في النهاية له ذوقه والمفروض نحترم ذوق الناس ونقدره، وده أساس الرقي علي فكرة.
واستطرد بما أثار حنقها بقوة: أما الأنوار الكتير اللي مش عاجباكي دي منتهي البهجة والجمال، بس واضح إن عينك مش قادرة تتحملها، السن له حكم برضو يا أم آدم.
احمر وجهها غضبًا وكادت أن ترد فظاظته بمثلها، لولا تدخل ليان: ربنا يدينا العمر يا طنط ويبلغنا رمضان الجاي، وحضرتك تشاركيني تزين البيت عشان اشوف طريقتك واتعلم منها واستفيد من ذوقك.
اكتفت بإيماءة مع رمقة حانقة من طرف عيناها لطليقها الذي تعمد أن يهديها ابتسامة باردة استفزتها أكثر.
…… ..
بعد قليل كانت تقف تنتظر وصول المصعد لتفاجأ به يقف جوارها يطلق صفيرًا منغمًا ورائقًا من فمه جعلها ترمقه بضيق ق,بل ان تهتف بحدة: من فضلك مش عايزة حد يركب الأسانسير معايا.
تجاهلها مستمرا بصفيره الرائق، لتزفر بغيظ صائحة: طب خليهولك، هنزل على السلم أحسن ما اركب معاك، أنا مش قادرة اتحملك أصلا.
صاح عليها ببرود: بلاش يا انجي هانم، احنا في الدور التاسع وصحتنا دلوقت مش حمل المجهود ده، العضمة كبرت، تعالي اركبي معايا.
صاحت بغيظ: أتكلم عن نفسك، أنا لسه صغيرة و أصبى من عشرة زيك..آل العضمة كبرت آل.
هز كتفيه غير مكترث وتركها تهبط السلم على قدميها، ليصل المصعد وق,بل أن يلجه سمع صياحها الصارخ وهي تستغيث:
ألحقني يا “علي”.!
الفصل الثالث.
________
_ طنط عاملة ايه دلوقت يا آدم؟
تسائلت باهتمام وهي تستق,بله بعد عودته ليجيبها: الحمد لله بقيت كويسة جدا وبتحرك رجلها أفضل من الأول.
_ والله ياريتها فضلت معانا لحد ما تخف، كنت احطها في عيوني.
ابتسم ممتنا: تسلم عيونك يا حبيبتي.
واستطرد: بس أنا عارف طبع ماما، مش بترتاح غير في بيتها.
_ ربنا ما يحرم حد من بيته.
وواصلت: المهم كنت عايزة اقولك إن بابا وماما عازمنا كلنا عندهم الأسبوع الجاي أول يوم العيد.
_ كلنا اللي هو مين؟
_ أنا وانت وعمو علي وطنط انجي.
صمت قليلا ثم قال: والله مش عارف يا ليان بابا وماما هيرضوا يجوا العزومة ولا لأ، أديكي شوفتي نقارهم يوم عزومتنا وكذا مرة كانوا هيتخانقوا.. ماما بالذات ممكن مش تيجي.
عبس وجهها: لازم تيجي يا آدم، مامتك ولا مرة ق,بلت عزومة بابا وماما، كده هيفتكروا انهم مش قد المقام.
انزعج لقولها: ايه الهبل اللي بتقوليه ده يا ليان، الموضوع مش كده خالص.. وعموما يا ستي ولا تزعلي، هقنع ماما تحضر.
صائحة بفرح: بجد؟
_ أه والله، خلاص الموضوع عندي.
_ ماشي يا حبيبي، وأنا هقول لعمو اما يطلع وقت السحور، أكيد مش هيكسفني وهايجي.
_ إن شاء الله يا حبيبتي.
………
“مش هاجي”
هكذا كان ردها ليعاتبها قائلا: كده برضو يا ماما بتكسفيني؟ ده أنا بقولك عشان خاطري.
_ يا آدم أنا مالي بعزومة نسايبك؟ ليه لازم احضرها معاكم؟!
تهكم بقوله: والله السبب بسيط خالص.. حضرتك تبقي أمي والمفروض انك تكبريني قصاد أهل مراتي بأنك ترحبي بعزومتهم وتيجي معايا.
هتفت ساخرة : البركة في باباك هيروح معاك ويعمل الواجب
_ وحضرتك كمان لازم تبقي موجودة.
ثم ترجاها بقوله: عشان خاطري يا ماما لو بتحبيني تعالي، وأوعدك انبه علي بابا مش يستفزك أو يضايقك لما تتقابلوا.
مكثت ترمقه لحظات بغيظ ليرق قلبها بالأخير: حاضر يا آدم، عشان خاطرك بس.
ق,بل رأسها بفرحة: والله كنت عارف إني مش أهون عليكي.
تمتمت بحنان: عمرك ما تهون يا آدم، أنا معنديش أهم ولا أغلي منك.
_ حبيبتي يا أمي، ربنا مايحرمني منك.
________
الدفء الذي لمسه في بيت عائلة ليان جعله يتحسر علي حاله، كم طاق أن يعيش حياة بسيطة كهذه، الضحكة النابعة من القلب لا تنقطع حوله، والابتسامة الراضية تضيء كل الوجوه، المزاح الذي لا ينقص من هيبة أحد بل يزيد المحبة والترابط بينهم، ليصير للعيد معهم طعما جديد ومختلف.
_ والله نورت يا استاذ علي أنت ومدام أنجي، العيد بقا عيدين بحضوركم.
شكره وبادله ترحيبه بالمثل بينما اكتفت أنجي بابتسامة شكر معتدلة ثم راحت ترمق كل شيء حولها بفضول، المكان يبدو شديد التواضع، لا تدري كيف تعيش تلك الأسرة الكبيرة بمسكن صغير هكذا..لا تزال داخلها غير راضية عن زيجة آدم، كانت تطمح أن تزوجه ابنة خالته أو ابنة إحدي صديقاتها ذوات العائلات الغنية العريقة، لكن ماذا تفعل، رضخت لرغبة ابنها الذي يحبها بالأخير.
_ أزيك يا طنط، كل عام وحضرتك بخير.
هكذا رحبت بها شقيقة ليان الصغرى و التي صاحت بانبهار وعفوية: يا بختك يا لولو، حماتك حلوة اوي بصراحة.
راقها إطراء الصغيرة ولمعت عيناها ببعض الغرور لتهتف ليان: أمال يا بنتي، ده لما بنمشي سوا في الشارع بيفتكروها أختي الكبيرة.
نالت من انجي ابتسامة راضية عن قولها، ليميل عليها والد زوجها بالجانب الأخر هامسا: شاطرة يا لولو، حماتك تحب أوي اللي ينفخها ويحسسها انها بنت التلاتينات.. أستمري أنتي ماشية في الطريق الصحيح لترميم العلاقة.
كتمت ليان ضحكتها بأعجوبة وهي تدري أنها ربحت تلك الجولة مع والدة زوجها وكسبت بعض رضاها.
_ يلا يا جماعة السفرة جاهزة.
استجابوا جميعا لدعوة والدة ليان واستداروا حول المائدة لتكون الوليمة مفاجأة غير سارة لآدم ووالدته التي صاحت: هو ايه الأكل ده أنا مش عارفاه؟
ضحكت السيدة وتولت الرد قائلة: ده فاضلة خيرك أكلة العيد الجامدة، كرشة وفشة وممبار وعكاوي اللي هو ديل العجل لا مؤاخذة، وصنية حلويات كدة مشكلة وطواجن لحمة راس وطاجن كوارع مع طواجن لسان..
لتختم قولها بفخر: من الأخر أكلة ملوكي تستاهل بقكم يا أم آدم.. هو أنتوا بتشرفونا كل يوم.
_ لسان وديل ولحمة راس؟!
سعل آدم بقلق من هذا المأزق، فهو ووالدته لا يتناولون تلك الأكلات بل تثير داخلهم شعور التقيء الذي تلبدت به ملامح والدته، فأنقذها مسرعا:
طب معلش يا جماعة هاخد ماما علي جنب أقولها حاجة مهمة.
وجذبها سريعا بغرفة جانبية لتصيح بامتعاض واضح مشيرة لصدرها: أنا أكل الحاجات دي يا آدم؟ أنا عمري ما دخلتها البيت ولا عملتها ولا اعرفها، في حد طبيعي ياكل لسان عجل وراسه وديله ورجليه؟! دول أكيد مش بشر ولا طبيعين، يلا نمشي أنا خايفة.
_ ايه الأفورة دي يا ماما هو احنا معزومين عند مصاصين دماء؟! ده أكل مفضل عندهم.
امتعضت بقولها: يععع هو ده بتسميه أكل؟ مش قادرة خلاص.. مجرد الفكرة هتخليني أجيب اللي في معدتي “ثم صاحت عليه بحدة” قولتلك بلاش أجي، عاجبك كده؟
_ والله يا ماما ما اعرف انهم هيعملوا الأكل ده، ومجاش في بالي أسأل ليان وكنت هتكسف أصلا أسأل سؤال زي ده لأنه مايصحش.
_ لكن مش مكسوف تجبني وتحطني في الموقف السخيف اللي أحنا فيه؟ أنا مستحيل أكل الأكل اللي برة ده.
وواصلت بحدة: وبعدين هي مراتك دي هتفضل كده؟ كان لازم هي اللي تعرف نوع الأكل ايه بدال ما تكرر بغباء نفس الموقف معاك ومعايا المرة دي.
_ مالك يا طنط؟ في ايه يا آدم؟ الأكل هيبرد والكل مستنيكم.
فاجأهم دخول ليان عليهم لتهتف انجي بتهكم:
خليه يبرد مش هتفرق والله.
غطى علي سخرية والدته بقوله:
معلش يا ليان أصل ماما مالهاش في الأكل ده، ولا أنا طبعا، شحب وجهها بصدمة ليتسائل باهتمام: هو انتي كنتي تعرفي ان والدتك عاملة الأكل ده؟
صاحت سريعا: لا والله يا آدم، بس توقعت تعمل صواني بشاميل وجلاش ونواشف.. هي بتعمل كده للضيوف دايما.
واستطردت بمزيد من الخجل: أنا مش عارفة أقول ايه ليك أنت وطنط بجد أنا أسفة، ياريتني سألت ماما ق,بل ما نيجي.
غمم برفق مشفقا عليها: حصل خير يا ليان، أنا هعزم ماما برة مفيش مشكلة، وانتي بس عرفيهم ان معدتها تعبانة شوية وهاخدها للدكتور، وبعدين هرجعلك أنا بالليل أخدك.
” يلا يا جماعة جوعتونا”
وصلهم صياح والدتها لتتبادل ليان معهم نظرة مرتبكة وهي بموقف لا تحسد عليه.
لتفاجأهم والدتها بقدومها تحمل شيئا قائلة:
جبتلك أكلك هنا لتكوني مكسوفة تاكلي برة.
ثم قالت بعشم تلقائي: والنبي لا تدوقي حتة العكوة دي يا أم آدم وتقولي رأيك.
رمقت انجي ما بيدها مذهولة باستنكار ثم شعرت بغتة بالدوار وكادت تقع لولا أن لحقها آدم!
……
_ هي الحاحة أم آدم مالها يا استاذ علي بعد الشر؟
أجابه الأخير وهو يضع المزيد من الطعام في صحنه:
عندها شوية مغص كده ودوخة ماتحطش في بالك، أدم خدها على الدكتور الخاص بتاعها.
ثم تجاهل الأمر برمته صاح بإعجاب: بصراحة يا بختك، أم ليان عاملة الأكلة دي بمعلمة، بقالي سنين مش أكلتها بالحلاوة دي.
فرح الرجل بإطراءه وتمني له أكل شهي ثم راح يقرب له الأطباق مع قوله: أوعي الممبار ينسيك تدوق طاجن العكاوي يا ابو نسب.
علي: عيب عليك يا ابو لولو، ده أنا مخليه للأخر أحلي بيه.
_______
_ مش قادرة ابص للأكل، من امبارح معدتي مقلوبة كل اما افتكر الحاجات اللي كانت علي السفرة.
ضحك رغما عنه لمظهر والدته وقال: والله يا ماما الأكل مكانش بالسوء ده؟
رفعت حاجبيها بريبة: هو أنت أكلت منه؟
أجلي صوته قليلا وقال: بصراحة لما رجعت اجيب ليان سهرت معاهم شوية، وحمايا صمم يدوقني حاجة منهم، لقيتها والله مش وحشة وطعمها عجبني، تقريبا كانت عكاوي.
شهقت بصياح: أكلوك ديل العجل يا آدم؟!
قهقه لرد فعلها وشاكسها وهو يهتف بمبالغة:
وحبسوني في أوضة ضلمة وكانوا هياكلوني يا ماما.
شهقت ثانيا ليزداد ضحكه الذي هدأ مع قوله:
نكلم جد بقا يا ماما، بلاش تزوديها الناس أحرار، كل واحد ياكل اللي يعجبه مش معقول تحكمي عليهم وتقيميهم بذوقهم في الأكل.
واستطرد مبتسما: تعرفي يا ماما لما رجعت وكملت معاهم السهرة، حسيت حقيقي بالعيد، عيلة ليان عيلة بجد جميلة وتتحب، بس انتي ادي نفسك فرصة تعرفيهم صح.
_ ولا أعرفهم ولا يعرفوني، كده حلو اوي، مش هروح عندهم تاني أساسًا.
تنهد بيأس: براحتك يا ماما..المهم أنا همشي عشان عازم ليان علي سهرة برة ومش عايز اتأخر عليها، تحبي تيجي معانا؟
_ لا خليكوا براحتكم، خالتك وبناتها هيعدوا عليا بعد شوية يسهروا عندي.
_ طب عايزة حاجة اجيبهالك؟
_ لا يا حبيبي أنا عملت أوردر بكل طلباتي.
لثم رأسها بحنان: ماشي يا حبيبتي، ابقي سلمي عليهم.
ثم توقف ق,بل مغادرته: ماما من فضلك، أوعي تتكلمي مع خالتو وبناتها عن نسايبي كلام مش لطيف، والله هزعل لو عرفت كده.
زفرت بضجر: يلا أمشي يا آدم.
رفع إصبعه محذرا: برضو هزعل واعرف، ماتزعليش وقتها لو أخدت منك موقف يا انجي هانم.
استعدت لاستقبال ضيوفها بارتداء ثوب مناسب ثم راحت ترص البسكوتات في صحن أنيق واطمئنت علي الوليمة التي اعدتها للعشاء، وجلست بهدوء تنتظر حضورهم.
———
لاحظت أنه يقود سيارته بعبوس شارد فتسائلت بقلق: مالك يا آدم؟
هز رأسه نافيا باقتضاب: مفيش.
_ يا سلام؟! كل ده ومفيش؟ أنا عمالة اكلمك وانت في عالم تاني مش سامعني، وبعدين ركز في الطريق ماينفعش تسرح وانت سايق.
حدثها بحدة: ليان قولتلك مفيش ومركز متقلقيش.
صمتت ترمقه بعتاب ثم قالت: طب لو سمحت روحني البيت.
_ بس احنا اتفقنا نسهر برة وخلاص قربنا نوصل للمكان اللي عازمك فيه.
_ لأ، مش عايزة اسهر مع واحد مكشر وبيتعصب عليا من غير سبب.
أوقف سيارته ومسح علي وجهه يهديء نفسه قليلا ق,بل ان ينظر لها معتذرا: أسف يا ليان، أنا فعلا مضايق شوية.
_ هسامحك لو قلت السبب.
انفجر بقوله: تخيلي أمي أنا يجيلها عريس؟ نازل من عندها لقيت راجل كبير طلعلي معرفش منين بيقولي بتهذيب مبالغ فيه أنه عايز يقابلني ولما سألته ليه، قالي عايزني في حاجة تخص والدتي.
لم تستطع كبت ضحكتها فحدجها بحنق محذرا: ليان.
_ أسفة والله غصب عني، بس تخيلت الموقف ضحكني، واستطردت تحاول التحكم برغبتها بالضحك: طب انت عرفت منين انه عريس؟ مش يمكن عايزك في حاجة تاني؟
صاح بغيظ: منا سألته طبعا، قالي على طلبه باحترام شديد ورخم، حسيته خلاص قرب يقولي يا عمو أنا طالب إيد صاحبة الصون والعفاف والدتك إنجي هانم.
انفجرت ليان تضحك دون تحكم ليغمغم آدم بسخط: شوفتي ليه مكنتش عايز اتكلم؟ أديكي عصبتيني زيادة.
_ خلاص والله حقك عليا، أصل بصراحة تخيلت الراجل ده حسن حسني معرفش ليه فضحكت.
لتستطرد ببعض الجدية: بصراحة يا آدم طبيعي جدا مامتك يجيلها عرسان، دي زي القمر ما شاء الله وتبان أصغر مني، مهتمة بروحها وشكلها بنت أكابر وأنيقة في نفسها، عادي جدا حد يعجب فيها.
_ تصدقي أنا هرجعك البيت واروح عند أمي اسهر معاها هي وخالتو وبناتها أحسن؟
نظرت إليه بعدوانيه: نعم؟ خالتوا وبناتها ولا تقصد بنت خالتك اللي كانت مامتك عايزاك تتجوزها ق,بلي؟
أثار غيظها متعمدا: قصدك بوسي؟ والله ليها وحشة.
اندفعت تقبض على عنقه بعنف صائحة بتهديد:
طب أنا هخلي الدنيا كلها توحشك يا آدم.
قهقهة وحاول التخلص من يدها وهو يسعل: يخربيت جنانك كنتي هتموتيني.
_ وديني عند بابا وماما.
رمقها بتعجب: أنتي بتتكلمي جد؟
صمتت عابسة واغرورقت عيناها ليشعر بتأنيب الضمير بعد مزاحه الثقيل، فضم كتفيها بحنان مع قوله: انتي عبيطة يا لولو، عيونك تدمع عشان هزاز عادي؟
هتفت باكية: لا ده مش هزار، أنا مش ممكن أنسى ان مامتك حاولت تجوزهالك ق,بلي، ما هي أكيد طالعة حلوة لمامتك وخالتك وممكن تفكر فيها.
_ لا بجد انتي مجنونة رسمي يا ليان، أنتي مقتنعة باللي بتقوليه؟
رمقته بلوم حزين ليتنهد ق,بل أن يميل يق,بل خدها برفق حاني مع همسه: هو أنا عيوني بتشوف غيرك ولا أحلي منك يا لولو؟ شكلك متعرفيش بحبك قد ايه، وبعدين يا عبيطة هو انا لو عايز بنت خالتي كان ايه منعني؟ بس هي بالنسبالي أختي وهتفضل كده.
ثم غمزها بعبث: أنت اللي خاطف القلب وساكن فيه.
ابتسمت بعد ملاطفته ثم عاتبته برقة: بس برضو هزارك سخيف وزعلني.
_ حقك عليا يا قلبي.
ثم صاح متذكرا بغتة سبب ضيقه:
خلينا بقا في النصيبة اللي أنا فيها دي، جدو العريس بسلامته مستعجل علي مقابلتي وعايز يعرف رأي ماما، بفكر ارفضه من غير ما حد يعرف.
_ بالعكس دي فرصة لازم نستغلها.
_ نستغلها ازاي مش فاهم؟
لمعت عيناها بمكر: هقولك.
_________
“خد رأيي باباك”
نظر لها باستنكار قائلا: يعني ايه يا ماما، حضرتك بتفكري توافقي على الراجل ده؟ عايزة تتجوزي يا أنجي؟
هزت كتفيها بغرور: وليه لأ؟ أنا لسه صغيرة ومطلوبة.
_ صغيرة؟ ماما انتي عديتي خمسين سنة.
_ ولد احترم نفسك وانت إش عرفك؟ أنا لسه خمسة واربعين سنة وفي عز شبابي.
_ عز ايه؟
ثم مسح علي وجهه قائلا بلطف قدر استطاعته:
يعني افهم من كده انك موافقة استق,بل المومياء اللي هربان من عصر الفراعنة ده واقوله انك موافقة عليه؟
لمعت عيناها بغموض وهي تخبره:
قلت أعرف رأي باباك الأول وبعدها هقولك رأيي النهائي.
…… .
“يعني أمك جايلها عريس؟”
_ أيوة يا بابا، وهي عايزة تعرف ري حضرتك ق,بل ما توافق.
_ يعني بتفكر توافق؟
ليان متدخلة: وليه لأ يا عمو، طنط بصراحة لسه قمر
وتستاهل الرجالة تعجب بيها.
زغر لها آدم فقالت بحرج: أقصد تستاهل فرصة تانية، تتجوز وتعيش حياتها مع إنسان يحبها، ولا ايه يا رأيك يا عمو؟
دار عليهما بنظرة باردة ق,بل أن ينهض قائلا بجمود: لو أمك فعلا بتفكر توافق يا آدم، قولها بابا بيقولك مبروك وهو اللي هيشهد على عقد جوازها على المرحوم.. قصدي العريس.
وغادرهم لينظر آدم بأثره متعجبا: ألحقي ده وافق!
مش قولتيلي هيضايق ويغير عليها؟ .
_ ما هو ده اللي حصل يا ذكي، انت مش شايف كان بيتكلم ازاي وبيداري عصبيته.
_ لا ما شوفتش حاجة.
_ تبقا مش لماح، لعلمك ده زمانه هيتجنن دلوقت وغيران على مامتك جدا.
_ ولما هو هيتجنن وغيران يا فالحة ليه مش فكر يرجعها؟ وهي ازاي تشترط موافقته؟
_ طنط أصلا مش هتوافق، هي عايزة تثير غيرة باباك مش أكتر.
شعر بالحيرة ليهتف بحدة: ايه لعب العيال ده! هما صغيرين؟
صاحت تؤيده بضجر: بصراحة يا آدم عندك حق، باباك ومامتك دول مش عاقلين ولا عارفين مصلحتهم.
رمقها مضيقا عيناه باستنكار فصاحت سريعا:
سوري يا دومي.
_______
_ أنتي صحيح هتتجوزي يا انجي؟!
ابتسمت متهكمة: جواز ايه يا نجلا انتي اتجننتي؟
لو عايزة جواز من الأول كنت عملتها من زمان.
_ أمال ليه طلبتي تعرفي رأي علي طليقك.
ابتسمت بمكر دون ان تجيب لتهتف شقيقتها:
عايزاه يغير عليكي؟ لسه شاغلك بعد السنين دي كلها؟
اختفت ابتسامته ليحل محلها شرود حزين وشقيقتها تواصل: انتي محبتيش ولا هتحبي غير علي يا انجي، لو كنتي اتنازلتي عن كبريائك واعتذرتي زمان يمكن كنتم فضلتوا سوا، بس انتي دماغك ناشفة، طول عمرك فيكي الشيء وعكسه، حنينة بس ساعات تكوني في قمة القسوة، طيبة وفجأة تقلبي للشر، ياما اتصرفتي تصرفات وندمتي عليها، كتلة متناقضات مش مفهومة.
_ يااه! أنا كل ده يا نجلا؟ طب لو سمحت أنا عاجبة نفسي كده، مفيش داعي لرأيك ده، خلاص كل شيء انتهي ومالوش معني الكلام.
لم تستسلم وهي تواجهها بالحقيقة: أنجي انتي وعلي لسه بتحبوا بعض بس بتكابروا، وبعدين انتي غلطتي وجرحتيه يومها وكان لازم…
_ قولتلك اسكتي يا نجلا ومتتكلميش في حاجة ماتت ولا تتدخلي..أنا راضية بحياتي زي ما هية ومش ندمانة على حاجة.
من فضلك بلاش تفكريني بالسخافات دي مرة تانية.
_______
“ندمانة انك اتجوزتيني يا انجي”
تساؤل استحضره عقله بصوت الذكرى البعيدة، لم يكن مجرد تساؤل بقدر ما كان قرار أخذه بينه وبين نفسه حينها، وجاءت إجابتها الصريحة القاسية المهينة له تدفعه دفعًا لهذا القرار “انتي طالق يا انجي”
لم يحصد الراحة بعدها وحبها ظل يعربد في قلبه، لكنه حافظ علي كرامته التي لم يكن لديه أهم منها، ولا ينكر اليوم احتراقه بالغيرة وهي ترسل له من خلال ابنهما أنها تفكر بالزواج..الحمقاء.
يدري أنها لن تفعلها، هي مثله لم تنساه، ورغم كل عيوبها لا تق,بل بديلا عنه.. يدرك هذا جيدًا.
انتبه بغتة لبركان القهوة الذي أغرق وجه الموقد ليزفر بحنق: كانت ناقصاكي انتي كمان، طب والله منا شاربك.. هعمل كباية شاي برقبتك.
________
بعد ستة أشهر.
التقاعد.
مرحلة قاسية لم يكن يعمل لها حسابًا بأخر العمر، ظن أنه سوف يصبح استثناء من تلك القاعدة السخيفة وذاك القانون المجحف في حق من مثله، لما يحرمونه ممارسة دوره في الحياة ولا يزال قادرًا علي العطاء أضعاف ما مضى؟ لما يحكمون عليه بالنبذ ويسلمونه تسليمًا غادرًا لشعور مميت بالعجز والوحدة وأنه لم تعد له فائدة أو قيمة؟ الخيبة تشق قلبه وتجرح مشاعره، عاد لبيته مثقلًا بالهموم، مكث وقتًا ليس قصيرًا يطالع السقف بشرود، دوى صوت الأذان فاستعاذ من الشيطان بضميره وقرر أن يحارب كآبته بالصلاة لعل الله يشرح بها صدره، وبالفعل غمر روحه الكثير من السكينة وتغلغلت في قلبه بعض الراحة بعد أن ناجى ربه سرًا بسجوده أن يعينه علي أيامه القادمة.
الفصل الرابع.
________
“الحياة تبدأ بعد الستين يا بابا”
هكذا مازحه آدم ليهون عليه أثر ذاك القرار عليه، لتدخل ليان بقولها المؤازر: ده انا لو منك يا عمو أفرح اني هبتدي مرحلة جديدة في حياتي واعمل كل اللي نفسي فيه بدون تقيد من مواعيد عمل وضغط شغل.
وامارس هوايات تسعدني وتملى وقتي.
وواصلت: وبعدين ياعمو فراغ ايه اللي بتتكلم عنه، أمال أنا وآدم روحنا فين؟ أحنا مش هنسيبك وعلى قلبك ليل نهار.
أيدها آدم بقوله: لولو عندها حق يا بابا، ارجوك بلاش تزعل نفسك وتكبر الموضوع، بص للجانب الإيجابي انك اتحررت من قيود الوظيفة وتقدر تمارس اي حاجة بتحبها، تسافر مثلا أماكن جديدة، تقرأ كتب مختلفة، تختم القرءان باستمرار، وحاجات كتير جدا ممكن تتعمل وتستمتع بيها.
منحهما نظرة حانية ممتنة لمحاولاتهما التسرية عنه وتخفيف أثر التقاعد علي نفسه ليهتف بصدق: يمكن أكون مش أهلت نفسي للقرار ده عشان كده أتأثرت به، بس طول ما انتوا جنبي يا ولاد هعدي أي حاجة..ربنا يخليكوا ليا يا حبايبي.
_ويخليك لينا يا بابا ويبارك في عمرك.
_________
“أبوك ده غريب أوي، طبيعي كان يجي وقت ويطلع معاش”
ارتشف بعضًا من فنجان قهوته مع قوله: أيوة يا ماما بس برضو الموضوع مش سهل، أنا حطيت نفسي مكانه وعذرته بصراحة.
_ أمال أنا اعمل ايه؟ هو على الأقل ساكن معاك في نفس عمارتك انما أنا بعيدة ولوحدي.
غمغم بحنان: بس أنا عندك دايما يا أمي مش بسيبك.
غمرته بنظرة حانية: ربنا يخليك ليا يا حبيبي.
واستطردت بتمني: كان نفسي توافق تسكن معايا بعد جوازك، الشقة هنا واسعة وفي مكان راقي، أنت عارف انها ميراثي من جدك الله يرحمه، وفي النهاية هتكون ليك.
لثم يدها بتقدير هاتفًا: أولا ربنا يديكي طولة العمر يا أمي وتفضلي منوراها، وثانيا كان من حق مراتي تعيش في شقة لوحدها، عشان كده هي رفضت الفكرة وأنا احترمت رأيها.
واستطردت بقوله: وثالثًا يا ست الكل، بابا معايا هناك متونس بيا انتي عارفة إن مالوش حد، عكس حضرتك خالتو بينك وبينها يدوب شارعين، وخالو كمان قريب منكم، يعني مش لوحدك وفيه اللي يسأل عنك.
ليختم بقوله: أعتقد كده قسمة العدل.
أبتسمت وهي إليه برضا قائلة: عندك حق يا آدم، وأنا مبسوطة إن والدك قريب منك ومسنودين ببعض.
أومأ اها متفهما ليرمقها بنظرة شاردة ق,بل أن يفيض بما في خاطره: ماما، ليه ماترجعيش انتي وبابا لبعض؟
لم يفاجأها ما قاله، لقد قرأت رغبته هذه بعيناه كثيرا، لكن هي تعلم أن الخيط الذي بينها وبين والده انقطع في ذاك اليوم منذ سنوات، حين تحكم بها غرورها وحماقتها بذات الوقت وأهانته دون قصد بأخر تجمع عائلي مع أسرتها، وهي تقارن عائلته البسيطة بتاريخ عائلتها هي وكيف زحف خلفها لتتزوجه، بمزاحها الثقيل أشعرته بالدونية فأخفى جُرحه وحرجه وتفاعل بالمزاح الظاهر معهم، وحين عادا للمنزل كان هادئا هدوء يسبق عاصفة وشيكة، سألها ببساطة ماذا كانت تقصد بتقليلها من شأنه أمام الجميع؟ وهل تندم علي زواجها منه؟
لتكون إجابتها صريحة حد جرح الكرامة، أخبرته أنها حقا تشعر بالندم لأنها شيدت حياتها على أفكار وردية ساذجة بأن الحب أهم شيء، لتكتشف بالتجربة ان الفقر والحب لا يجتمعان سويا، وأنه حين منعها من مساعدة والدها لها بعد الزواج بحجة أنه رجل لا يق,بل مساعدة من أحد كان ظلما منه لها بجعلها تعيش حياة قحط لا تليق بها.
لم تتخيل أن جوابها الأحمق هذا سوف تدفع ثمنه غاليًا.. طلاق لم يتردد به “علي” لحظة واحدة ثأرًا لكرامته، ربما لو اعتذرت عما بدر منها لعالجت الأمر في مهده، لكن منعها كبريائها من جديد، واجهت الأمر بتماسك عجيب أمام الجميع وهو أولهم، لكن داخلها كانت روحها هشة متصدعة، الحزن غزاها و كل نور داخلها، تشابهت الأيام بعده وأصبحت باردة، افتقدته ولا تزال تذوق مرارة فقده كل ليلة، لكنها لا تعترف ولن تفعلها.
_ ماما، حاولي تبادري وترجعي لبابا، يمكن يكون منتظر منك تشجيع على الخطوة دي، أنتي عارفة أنه طيب ودلوقت محتاجك اوي، وانتي كمان اكيد تعبتي من الوحدة، ولو عايزاني أنا اللي أتدخل بينكم مستعد بس اوعديني بالموافقة.
_ هو أنت روحت أنت ومراتك للدكتور زي ما قولتلي؟
أدرك مرواغتها له وعدم رغبتها بخوض نقاش معه فقال بقلة حيلة: أيوة، واطمنا إننا كويسين والموضوع مسألة وقت وهيحصل.
ابتسمت وعيناها تلمع بحنين: ما تتصورش ابنك أو بنتك لما يجوا هيفرقوا معايا ازاي، نفسي يا آدم أعيش شعور أن عندي حفيد، متهيئلي حياتي هتتغير بعدها.
تبسم رابتا كتفها بحنان: إن شاء الله يا حبيبتي قريب تبقي أحلي تيتة في الدنيا.
واستطرد: هسيبك بقا يا ماما وهعدي عليكي بالكتير بعد بكرة، عايزة حاجة ق,بل ما امشي؟
_ سلامتك ياحبيبي.
___________
ولج بيته ليصله على الفور صوت ضحكات صاخبة تتبعها ليجد زوجته وأبيه يجلسان بأريحية والأولى تصيح فور رؤيته: آدم جه أهو.
ثم نهضت نحوه: كويس انك جيت دلوقت عشان تشهد على عمو اللي بيغشني في الكوتشينة.
قهقهه أبيه قائلا: أنتى اللي مش عارفة تلعبي يا لولو ومحتاجة تدريب كبير عشان تقدري تسدي قصادي.
ثم أشار لأبنه: يلا يا آدم غير هدومك وتعالى لاعبيني طاولة، انت حريف واللعب معاك ممتع.
تجعد وجهها بغضب طفولى: كده برضو يا عمو، قصدك أن اللعب معايا مش حلو، طب انا مخصماك، وهسيبكم واروح أحضر الغدا وخلي أبنك ينفعك.
شيعها بقهقهته الرائقة بينما ظل آدم شاردًا بعض الشيء ليتسائل والده بقلق: مالك يا حبيبي سرحان ليه؟ في حاجة مزعلاك؟
مكث يتأمله برهة، يريد أن يخبره بأمنيته أن يعود لوالدته، لكن شعور اليأس تملكه، والده أكثر عندا منها ولن يثمر حديثه إلا مزيد من الإحباط، فنفض أفكاره وقال: لا يا بابا مفيش حاجة اطمن.
اقترب أبيه ومال عليه هامسًا: أوعى يكون شاغلك موضوع الخلفة ده! ليان حكيتلي ان الدكتورة طمنتكم، مفيش داعي تقلق، كله بأوانه يا ابني.
ابتسم مع قوله: لا اطمن مش قلقان والله، أحنا مش كملنا سنة جواز يعني وبجد مش مستعجل على الخلفة خالص، بالعكس حاسس ان مش وقتها أصلا.
واستطردت مشيرًا بمغزي ما: على الأقل أنا ومراتي نفهم بعض أكتر عشان يوم ما ربنا يرزقنا مانظلمش ابننا معانا وندفعه تمن خلافتنا.
وصلته رسالة ابنه الخفية و العاتبة، فتجاهلها وهو يعود لجلسته قائلا بمرح: طب يلا استعد عشان نلعب دورين طاولة سوا.
أومأ له بطاعة: حاضر، بس بعد اذنك هاخد “شاور” واغير هدومي واجي.
__________
بعد شهران.
“آدم، محتاجينك تقوم بدور الحكم”
قالتها بحماس وهي تشرح له تحدي أبرمته مع والده:
أنا وعمو داخلين تحدي قصاد بعض.
آدم بتهكم: أوعي يكون إن كل واحد فيكم ياكل بطة ولا ديك رومي مع حلة محشي زي ما بيحصل الأيام دي، بابا صحته مش حمل أكل زي ده.
قهقه أبيه معلقًا وهو ي بفخر صدره بقبضته: مين قالك كده، أبوك معدته تهضم الزلط يا ولد.
ليان: ربنا يديك الصحة يا عمو.
وواصلت تشرح لزوجها: بص يا آدم أحنا عملنا صنفين حلو مختلفين، ودورك يا استاذ تدوق الأتنين وتقول أنهي أحلى من غير ما تعرف كل صنف يخص مين فينا عشان الشفافية، والكسبان هياخد من التاني مبلغ اتفقنا عليه.
أومأ وقد بدأ يبادلهم الحماس: والله حلوة الشغلانة دي، بس المهم تكون حاجة بحبها.
_ أطمن، دول من حلوياتك المفضلة.
سريعا ما وضعت أمامه صحنان وشرع آدم يتذوقهما بتركيز واهتمام ليهتف بقوله: بصراحة الأتنين طعمهم حلو جدا، الكنافة بالقشطة تحفة والبسبوسة تهبل، بس في صنف فيهم بيتفوق بميزة عن التاني.
أبيه: ايه هي الميزة دي؟
_ الكنافة سكرها أقل أو نقول معتدل بالنسبالي، انما البسبوسة سكرها زيادة شوية.
انقلب وجه ليان بخيبة أمل بينما ضحك أبيه صائحا بانتصار: أنا اللي كسبت.
ليان بحزن مصطنع: يا خسارة، يعني اللي عملته وتعبت فيه مش عجبك يا آدم.
أسرع يطيب خاطرها: بالعكس يا حبيبتي أنا قلت ان الأتنين حلوين والله “ثم مال ملثما رأسها بحنان” تسلم ايدك يا شيف لولو.
_ أختشي يا ولد، طب أستني أما انزل.
ضحك مازحا: معلش يا بابا، أصل مقدرش اسيب لولو زعلانة.
لمعت عيناها فرحا ورضا ليغمغم أبيه وهو يعطيها بضع ورقات من النقود: اتفضلي يا ستي جايزتك.
تعجبت قائلة: جايزة ايه يا عمو ده أنا الخسرانة والمفروض حضرتك اللي تاخد مني.
ابتسم لها بمحبة وحنان قائلا بعمق أحساسه بها:
مين قال إنك خسرتي يا ليان، أنتي كسبتي رضايا يا بنتي، كسبتي دعوة خالصة ليكي من قلبي لأنك عرفتي تهوني عليا وتخليني اتخطي موضوع التقاعد ومليتي فراغي وصالحتيني على أيامي اللي كنت خايف معرفش اعيشها..عرفتي بقا مين فينا اللي كسب.
تدفقت الدموع بعيناها وقد أرجف قلبها حديثه الصادق عنها، لمست حبه لها وأيقنت أنها بالفعل ربحت رضا هذا الرجل الحنون الذي لا يقدر بثمن.
_ ايه ياجماعة انتو هتقلبوها دراما ليه كده، وأنا اللي كنت منتظر فنجان قهوة عشان افترس الكنافة والبسبوسة بتاعتكم لوحدي.
ضحكت وهي تجفف دموعها: من عنية يا آدم، حالا هعمل قهوة لينا كلنا.
وق,بل أن تغادرهما مالت تق,بل رأس أبيه مع قولها: أنا بحبك أوي يا عمو، ربنا يخليك لينا.
منحها ابتسامة حانية وآدم يراقبهما حتى ذهبت تعد القهوة، لينظر لأبيه بنظرة مطولة ق,بل ان يتمتم: مبسوط يا حاج “علي”؟ أديك أكلت مني الجو وخليت مراتي تحبك أكتر مني.
ابتسم لدعابته بذات النظرة الحانية:
ربنا يخليهالك يا ابني ويسعدكم، مراتك دي لو لفيت الدنيا مكنتش تلاقي ضفرها.
_ عارف يا بابا.. ونفسي ماما تعرف هي كمان.
_ أطمن، أنا واثق في ليان وفي ذكائها أنها هتعرف تكسب والدتك وتجبرها انها تحبها في يوم من الأيام.
_ يسمع منك ربنا.
_ القهوة وصلت.
التفتوا لها ليصيح والده: ما تيجو نتفرج علي فيلم كوميدي عشان القعدة تحلى يا ولاد.
ليان بدعم: موافقة يا عمو، وأنا اللي هختار فيلم على ذوقي.
رمقهما آدم بنظرة محبطة وتخطيطه مع زوجته تلك الليلة كان مختلفًا بعد مغادرة والده، خاصتا أن الوقت ليس باكرًا، لكن يبدو أن السهرة سوف تصبح عائلية، سريعا ما اختارت ليان فيلم مناسب وجلسوا يتابعون باهتمام مع ضحكات يتشاركون بها كل حين، وهو جوارهما لا يشاركهما الحماس.. بل سيطر عليه شعورًا مبهمًا بالضيق وروتين حياته يتغير يوم بعد يوم منذ تقاعد والده دون إرادته..وبطريقة لا تروقه.
_______________
ايه رأيك يا لولو بما إني أجازة بكرة، نقضي اليوم كله برة ونكسر الروتين؟
راقها اقتراحه بشدة: ياريت يا آدم، بقالنا كتير مش بنخرج برة، نفسي أغير جو.
استغل الفرصة ليلفت نظرها دون توضيح: والله التقصير مش مني، أنتي اللي مشغولة عني طول الوقت مع بابا، يومك كله بقا معاه، تنكري إن كذا مرة اعزمك وانتي ترفضي عشان بابا؟.
قهقهت وهي تقرص خده: أنت هتغير من عمو يا دومي، ما انت عارف اني بحبو اوي.
_ بتحبيه أكتر مني؟
هكذا همس لها وهو يجذبها نحوه بتملك، لتبرق عيناها عشقا وهي تحوط وجهه بكفيها مغمغمة بصدق: حبي لعمو سببه انه والدك، هو السبب بعد ربنا انك جيت الدنيا دي وبقيت ليا يا آدم.
نجحت بالتأثير عليه فغمرها بنظرة دافئة، لتغيب معه بعناق أغرقها بعاطفته، ويصيح بعدها:
خلاص يا حبيبتي، من الصبح حضري نفسك، حتي الفطار هيكون برة، مش هتتعبي في أي حاجة بكرة.
صفقت بطفولة: الله، كمان الفطار برة؟ شكلك هتدلعني علي الأخر وهبقا هانم بكرة.
رمقها بحب يقطر من عيناه: أنتي ست الهوانم كلهم في عيني يا لولو.
رفرف قلبها لإطراءه فمالت تلثم خده مع همسها:
بحبك يا دومي..ربنا يخليك ليا.
………
انتقت ثوب مناسب لتقضي به مع زوجها نزهتهما خارج البيت بيوم عطلته كما اتفقا بالأمس، وق,بل ان تكمل استعدادها فاجأهما قدوم أبيه مبكرا.
_صباح الخير يا ولاد عاملين ايه؟
تبادلت مع زوجها نظرة متوترة خاصتًا مع استرسال أبيه: انهاردة الجمعة قلت اطلعلكم بدري نفطر سوا وبعدين اروح مع آدم المسجد عشان الصلاة واقضي باقي اليوم معاكم.
ثم أشار لحقيبة بلاستيكية بيده: جبتلك حبة سمك بلطي طازة للغدا هيعجبوكي اوي يا لولو، موصي عليهم من يومين.
لاحظ نظرات ابنه المتجهمة فاسرع يخبره وهو يظنه مستاء من اختياره: عارف عارف يا سي آدم، مبتحبش السمك البلطي زي امك.. قصدي الست والدتك عشان متتعصبش، بس أنا عامل حسابي وجبت جمبري وسبيط من اللي بتحبهم..خدي يا حبيبتي حطيهم في التلاجة واطمني هما متنضفين وفلة، وانا بعد ما ارجع من صلاة الجمعة انا اللي هعملكم أحلى غدا من إيدي هتاكلوا صوابعكم وراه.
………
مضى اليوم باكمله مع والد زوجها واخيرا تركهم بعد أن تأخر الليل هابطا لشقته بنفس البناية، توجهت لآدم تشعر بالقلق الشديد، لم يكن راضيا عن مسار يومهما، وجدته محبطا عابسًا طيلة الوقت، توجهت نحوه تتأهب جيدا لثورته المرتقبة بعد ان أفسد والده دون قصد تخطيطهم لليوم خارج البيت.
_آدم.
_نعم؟
رده كان مشحونًا بحدة فاقتربت تحدثه برفق: طب قولي كنا نعمل ايه ووالدك طالع وعشمان يقضي معانا اليوم كله؟ اطرده يعني؟ ده برضو ابوك، ومفيش حد يسليه غيرنا.
_والله في حاجة اسمها قهوة يقابل عليها أصحابه اللي في نفس ظروفه، يروح نادي، يقرأ حبة قرءان زي كتير في سنه، يقرأ كتاب يسليه، مش كل اليوم عندنا بالشكل ده وتقوليلي عشم، ده مش مراعي ابدا اني من حقي اخد مساحة من الخصوصية في بيتي علي الأقل في يوم اجازتي..من نفسه رسم هنقضي يوم أجازتنا ازاي، مجاش في باله ابدا يكون لينا رأي تاني؟ حتى نوع الأكل فرضه علينا.
ليصمت ملتقطا انفاسه من فرط غضبه مستطردا: ولو بابا معذور، انتي عذرك ايه؟
قابلت عتابه الثائر بدهشة: أنا؟ وانا ذنبي ايه طيب؟
هدر بحدة: ذنبك انك مطاوعاه في كل حاجة يا ليان.
ثم راح يغير صوته يقلدهما بسخرية لاذعة:
نلعب دورين كوتشينة يا لولو؟ ماشي ياعمو وهغلبك..
نتفرج علي فيلم حلو يا لولو؟ الله دي فكرة حلوة ياعمو وهختارلك فيلم يجنن وتجري تعملي فشار وعصير واحتفالات ولا كأنك في العيد..معطلك عن حاجة يا بنتي؟ لا خالص يا عمو انا فاضية ومش ورايا حاجة، كل يوم ينتهي وانتي معاه وحواليه زي النحلة كأن هو اللي جوزك، انا مش في حساباتك اصلا.
واستطرد بثورة لم تهدأ: أنا اما طلبت منك تسيبي شغلك بعد الجواز وتتفرغيلي كنت اقصد تتفرغيلي أنا مش ابويا، بجد دي مش عيشة.
لتجده بغتة يبحث عن شيء ما حتى وجدته يلتقط ورق الكوتشينة ويمزقه قطع صغيرة مفرغا به طاقة غضبه، ثم رمقها بنظرات حانقة وتركها مغادرًا البيت.
_________
الفصل الخامس
________
لم تجد أحدًا تلجأ إليه سوي والدتها التي صاحت عبر الهاتف بقلق: طب صلي على النبي وبطلي عياط وفهميني بالراحة، جوزك ساب البيت زعلان ليه؟
حاولت ان تهدأ وهي تحدثها، قصت عليها كل ما حدث، ليكون رد والدتها: لا حول ولا قوة إلا بالله، بصراحة وضع يحير فعلا، من ناحية جوزك مفتقدك وعايزك تهتمي به أكتر، وفي نفس الوقت حماكي زي أبوكي ولازم ياخد واجبه مهما كان.
غمغمت من بين دموعها: طب قوليلي اعمل ايه يا ماما؟ ازاي اراضي آدم ومجرحش عمو وازعله؟
_ بالذكاء والحيلة يا بنتي.
_ مش فاهمة يا ماما.
_ يعني مثلا لما تلاقي حماكي طالع عندك زي انهاردة كدة وانتي عايزة تقصري معاه بشياكة عشان تخرجي مع جوزك تبسطيه، قوليلي تصور ياعمو ماما كلمتني وقالتلي عايزاكي تيجي انتي وآدم تتغدوا معانا، هتلاقيه هو من نفسه بيقولك انزلي روحيلها وهيفهم انكم مشغولين ويسيبكم من غير ما يكون في إحراج لحد فيكم، ساعتها هيشوف أي طريقة تاني يقضي بيها يومه بعيد عنكم بدون مايحصل زعل.
لتواصل: هو ده يا بنتي الذكاء اللي اقصده، أخرجي من المواقف حتي لو بكدبة بريئة عشان تسعدي جوزك ويحس ان له أولوية عندك، ده حق أي راجل يا حبيبتي.
_ بس يا ماما أنا برضو مستغربة من عصبية آدم، المفروض يبقى فرحان إني بحب والده وبهتم بيه.
_ ومين قالك انه مش مبسوط؟ بس المثل بيقولك اللي يزيد عن حده يتقلب ضده، وشكل طبع جوزك مختلف شوية، أنتي اهتميتي بوالده علي حسابه هو، وأي راجل في الدنيا بيبقي من جواه زي الطفل، بيغير ويحب يحس انه الأول عند اللي بيحبه.. انتي جيتي شوية علي حقه يا ليان من غير قصد طبعا.
تنهدت وهي تعترف لها: بصراحة يا ماما وحضرتك بتتكلمي افتكرت كذا موقف كدا بينا، حسيت فعلا اني قصرت معاه، أنا حاسة انه فضل ساكت لحد ما انفجر.
_ بالظبط، وانتي شطارتك تحتوي كل ده بحنانك واهتمامك.
أومأت براحة وهي تجفف دموعها: فعلا يا ماما عندك حق، أنا اللي لازم اتصرف وأكسب الكل.
ثم غمغمت بمحبة خالصة: ربنا يخليكي ليا يا أمي وتفضلي دايما في ضهري وعيوني اللي بتنور طريقي.
_ ويهدي سرك يا نور عيني، يلا روحي رتبي نفسك ق,بل ما آدم يرجع عشان تصالحيه.
________
عاد متأخرا وما أن ولج لبيته حتى لاحظ العتمة الشديدة، تعجب داخله فزوجته تهاب العتمة ولا تطفيء الأنوار بأكملها هكذا، بحث عن ذر الإضاءة ليجد بصيص نور طفيف يأتي من غرفة نومه، توجه نحوه بحذر ليفاجأ بشموع مشتعلة ومتراصة أرضا بترتيب جذاب، وهي مقدمة عليه بطلة مبهرة خطفت بصره وقلبه معا، أراد قول شيء فمنعته وهي تمسد شفتيه برقة: بعدين نتكلم، دلوقت وقت الحب وبس.
رغم غضبه الذي لم يخمد داخله بعد، أطاعها مسحورًا تاركا طوفان مشاعرهما يبحر بهما كيفما شاء، لتنقضي بينهما ليلة لن يبالغ لو قال أنها من أجمل لياليهما سويا، نججت ليان بتذويب كل غضبه وضيقه وبددتهما لسعادة غمرته بها حتي ذاب بين ذراعيها وكان نومه هانيء وهو راضيٍ عنها.. وهذا أكثر ما أرادته تلك الليلة.
………
وعد جديد أبرمته معه أنها سوف تعالج أمر والده بحكمة ولن تجور على حقه بها بعد الأن، حاول تصديقها وانتظر ليرى قولها فعلا.
…….
” هعملك انهاردة أكلتك المفضلة يا دومي، صنية لازانيا بحشوة جديدة هتاكل صوابعك وراها انت ولولو”
قالها وهو يضع المكونات أمامهما مستطردا:
حضري الكوتشينة يا لولو عشان بعد ما اخلص نلعب دورين واغلبك زي كل يوم.
ترقب آدم كيف سوف تعالج هذا الأمر مع والده بعد أن مزق أوراقها بالأمس من فرط غضبه، ليجد وجهها يكسوه الأسف مع قولها: والله مش عارفة اقولك ايه يا عمو، أصل أختي واخويا الصغير عدوا عليا شوية الصبح بدري، ومن غير ما اخد بالي الولد قطع ورق الكوتشينة كله، حضرتك عارف شقاوته.
أنتظر آدم رد فعله والده الذي قال ببساطة: ومالوا يا بنتي ده عيل مش فاهم حاجة، واستطرد: انزل يا آدم هات كوتشينة جديدة علي ما اخلص اللازانيا واحطها في الفرن، وبعد الغدا نتفرج علي فيلم حلو.
حاول كتم غيظه وهو يغمغم باقتضاب:
حاضر، عن إذنكم.
سريعا ما غادر وأبيه يؤگد عليه ألا ينسي شراء طلبه، لتمكث هي شاردة الذهن شاعرة بالفشل في تنفيذ نصائح والدتها، لم. تستطع معالجة الأمر كما وعدت.
طال غياب زوجها فأدركت أنه لن يأتي وربما لجأ لوالدته كعادته كلما أساءه شيء.
_ آدم أتأخر أوي يا ليان الأكل اللي بيحبه برد،
اتصلي يا بنتي شوفيه فين؟
فعلت لتعود وتخبره: معلش يا عمو بيقول وهو في الطريق طنط كلمته وكانت عايزاه ضروري، فاضطر يعدي عليها وبيقول هيتأخر شوية.
أومأ بتفهم: مفيش مشكلة مادام والدته محتاجاه
وواصل بحماس: خلاص تعالي نشوف أنا وانتي ندوق اللازنيا أحسن مش قادر أصبر وعايز اعرف رأيك.
ابتسمت نصف ابتسامة وفعلت ما أراده، أثنت على وصفته بعد تذوقها ثم جلست جواره شاخصة البصر بحال زوجها، ينتابها خوف أن تفسد العلاقة بينهما، كما تخاف أن يشعر والده بشيء.. صراع احتد داخلها لينتهي الفيلم المعروض أمامها دون أن تعي منه شيء.
غادرها أبيه بعد أن يأس من حضوره أبنه، بينما ظلت هي تترقب عودته بقلق، ولم تعمل حسابا لسلطان النوم الذي داهمها، غرقت بنومها دون الشعور بمجيئه متأخرا في الليل.
استيقظت تبحث عنه ولم تجده، هاتفته ليرد برسالة قصيرة ” أنا مشغول دلوقت، هكلمك لما افضى”.. تنهدت بضيق توبخ نفسها علي نومها ق,بل مجيئه ومصالحته، وراحت تفكر كيف تجد حلا جذري لما يحدث، دون جرح مشاعر الرجل الذي تعتبره مثل أبيها.
مر الوقت ولم يصعد والد آدم گعادته، مما أثار تعجبها، ليس بعادته ألا يأتيها بمجرد أن يستيقظ من نومه، للحظة رق قلبها وكادت أن تهبطت إليه تتفقده، لكنها اضطرت لتجاهل الأمر خاصتا وزوجها علي وشك العودة، ولا تريد صدام جديد معه.
عاد للمنزل بوجه مكفهر ملقيا عليها سلاما باردا، تفهمت سبب ضيقه وقررت أن تتحدث معه بعد تناول الغداء.
_ عملتلك أكلة بتحبها أوي، غير هدومك لحد ما…
_ مش جعان، عديت علي ماما اتغديت معاها.
رمقته بانزعاج حقيقي وكل تعبها بوليمة الغداء لأجله ضاع هباءً، فقالت بنبرة غارقة بالحزن والعتاب: براحتك يا آدم، بس ياريت لو هتتغدا مع طنط بعد كده تبقى تعرفني، على الأقل أوفر مجهود الساعتين اللي وقفتهم في المطبخ على الفاضي.
تهكم بقوله: ليه هو بابا راح فين؟ البركة فيه واخد مكاني في كل حاجة، دلوقت يطلع يتغدا معاكي ويشغلك عني بقيت اليوم بفيلم ولا دورين كوتشينة ولا وصفة سخيفة جديدة.
ازداد الضغط النفسي داخلها فاغرووقت عيناها وهي ترمقه دون كلمة لينفعل عليها دون سيطرة: أنتي كمان زعلانة؟ أنا بجد مش عارف اعمل ايه معاكي؟
لأول مرة ت عليه بانفعال هادرة: وأنا ذنبي ايه في كل ده يا آدم؟ عايزني اتصرف ازاي ووالدك مش لاقي سبيل غير بيت أبنه يتسلي فيه بعد ما طلع معاش وبقا حاسس بالوحدة؟.. في ايدي ايه قولي.
_ في ايديك كتير يا ليان، أنتي بتطاوعيه في كل حاجة وأي اقتراح يقوله وبتهتمي به زيادة عن اللزوم، بجد دي مش عيشة..أنا مش لاقيكي..وبابا مش قادر يفهم انه بيدمر حياتي بالطريقة دي، لازم يفهم اني محتاج شوية خصوصية في بيتي وحياتي، لازم يشوف حاجة تاني تسليه غيرك.
قالت بجمود : خلاص أنا لما يطلع والدك بعد كده هطرده برة البيت واقوله ابنك مضايق من وجودك باستمرار معانا، وأننا عايزين نعيش براحتنا..ده هيريحك يا آدم؟
باغته قولها وتلجم لسانه دون رد وهو يرى بما قالته للتو صورة حقيقة لما يدفعها لتفعله، هل حقًا يريدها أن تفعل بوالده هذا؟ وهل يرضاه عليه إن فعلته؟
ولم يشعرا بتلك الخطوات الثقيلة التي عادت أدراجها مخذولة هابطًا صاحبها بوهن بعد أن سمع قدرًا من جدالهما الصارخ الذي خدش قلبه ق,بل أذنيه، أثر الرحيل عنهما عازما ألا يطأ بيتهم مرة أخرى، تكدست الدموع بعيناه وصارت الرؤية ضبابية أمامه وكادت قدمه تتعثر ويسق..ط فوق الدرج، لكنه تماسك وأعتصر دموعه العالقة بأهدابه حتي دلف لبيته، مكث ينظر للسقف بشرود وما سمعه كان خناجر طعنت قلبه وأدمته، نعم يعلم أنه ربما أثقل عليهم بوجوده الدائم بينهما، لكن ماذا يفعل والوحدة ت روحه يوم بعد يوم، كلما جلس وحيد شعر بالاختناق فيهرب إلي بيت أبنه ظنا أنه لن يضيق به أبدا، لكنه كان واهما ومخطئا بعشمه الزائد، فليلزم بيته بعد الأن مهما نهشته الوحدة، وعليه البحث عن سبيلا أخر يبدد به وحدته.
_____
يومان مروا منذ صدامهما الأخير وهما يتفادان الحديث معًا، فتعمدت أن تتركه ليعقل الأمر ويزنه كما يريد، لكن نهشها القلق مع غياب العم الذي لم يطأ منزلهما كعادته كل يوم، ما أثار قلقها وقررت أن تهبط إليه وتطمئن ق,بل مجيء زوجها.
طرقت الباب عدة مرات دون أن يستجيب، فأخرجت من جيب عباءتها نسخة المفتاح الأخرى التي أعطاها لها تحسبا لأي طاريء، وق,بل أن تقحمه بالمزلاج أشرع بابه وطل عليها بوجه شاحب ولحية نامية بإهمال، فصاحت بقلق: مالك ياعمو أنت تعبان؟ وفينك مش باين بقالك كام يوم ولا بتعدي عليا؟
ابتسم وهو يدعوها لتدخل مغلقا الباب خلفها.
_ تفطري معايا؟
أومأت له بالقبول وهي تحاصره بنظرات تتفحصه مليا شاعرة بتغير ما به ولا تدري كنهه، تظاهر أمامها بالمرح وهما يتناولان الأفطار وأصرت بعدها أن تصنع هي قدحان من الشاي وجلست معه والهدوء يسود للحظات ق,بل ان تسأله: بقالك يومين مش بتطلع زي عوايدك يا عمو، ممكن اعرف السبب؟
ارتشف رشفة ساخنة من قدحه وهو يطالع أمامه متمتما: عادي، حابب افضل لوحدي شوية.
زاد يقينها بتغيره لتهتف بريبة: بس حضرتك مش بتحب تفضل لوحدك يا عمو، دايما تقولي أنك بتحب الونس.
ابتسم بمرارة قائلًا ولا يزال ينظر أمامه بشخوص طفيف: بس الونس طلع مش بيحبني.
عقدت حاجبيها والريبة. تتفاقم داخلها: مش فاهمة حضرتك تقصد ايه؟
زفر زفرة طويلة محملة بخيبته وهو يلتفت إليها ليفاجأها بقوله: ليان، أنا سمعت كلامك أنتي وآدم وعرفت اني بدون قصد يا بنتي كنت متقل عليكم بزياراتي كل يوم وحارمكم من الخصوصية وبسرق يومك وبسببي أهملتي جوزك.
شهقت من فرط المفاجأة وتلجم لسانها للحظة وهي ترمقه غير مصدقة ق,بل ان تندفع بقولها: والله يا عمو انت فهمت غلط، آدم مايقصدش اللي وصلك، كل الحكاية انه…
_ أنه مش مرتاح بسببي يا بنتي.. مفيش حكاية تاني تتقال، أنا فعلا زودتها معاكم (ثم تهكم بقوله) ده حتي المثل بيقول يابخت من زار وخفف، وأنا بصراحة تقلت أوي أوي عليكم.
بدأت تبكي وهي تجلس القرفصاء أمامه ملتقطة كفيه تق,بلهما برجاء: أرجوك ياعمو متقولش كده تاني، ربنا يعلم بحبك قد أيه، وآدم كمان بيحبك ومايطقش يبعد عنك.
لم يجيبها سوي بابتسامة ساخرة رغما عنه، ثم ربت علي رأسها مازحا بزيف: طب قومي يلا شوفي اللي وراكي ومتعطلنيش، أصلي عندي مشوار مهم.
هزت رأسها بعناد: لأ مش هتخرج لمكان، هتطلع معايا وتقضي اليوم كله عندي، هنطبخ سوا ونشوف فيلم حلو و..
_ أنسي.
قالها بنبرة حازمة مستطردا: خلاص يا ليان مش هينفع ارجع زي الأول، واوعي لحظة تفتكري اني زعلان منكم
، يابنتي ده حقكم الطبيعي وأنا كنت غلطان.. كان لازم اراعي ان ليكم حياة ماينفعش افرض نفسي عليها زيادة عن اللزوم، البني آدم مننا تقيل مهما كان .
بكت تهز رأسها بالنفي صائحة: لا يا عمو متقولش كده وت قلبي بكلامك ده عشان خاطري.
_ سلامة قلبك من ال يا حبيبتي.
واستطرد يطمئنها: صدقيني يمكن اللي حصل ده إشارة اني اغير حياتي واني بقضيها غلط، أنا خلاص عرفت ازاي هحارب الملل والوحدة، في واحد صاحبي عنده محل أدوات كهرلائية، هشتغل عنده واظبطله الحسابات، أهو اعمل حاجة مفيدة.
_ هتشتغل يا بابا؟ معقولة؟!
_ وليه لأ يا ليان، الشغل مش عيب، وكان لازم اعمل كده من الأول مادام لسه قادر وبصحتي وعندي طاقة.
وواصل بتنهيدة: ربنا مش بيعمل حاجة وحشة ابدا، لولا اللي سمعته مكنتش غيرت تفكيري، صدقيني أنا كده هعيش اللي باقي من عمري صح، وكمان قررت اهتم بالقرءان شوية، مش هتكسف اقولك علي تقصيري في حق ربنا، شوفتي بقا ازاي الموقف كله اتقلب لصالحي وعاد عليا بفايدة؟ عشان كده مش عايزك تزعلي وتحملي همي، روحي شوفي حالك وحياتك واطمني عليا.
ثم نهض ليستعد لخروجه لتضطر أن تغادره ودموعها لم تتوقف حتي صعدت شقتها، لتتبدل نظرتها وتتجمد دموعها بعزم وهي تقسم لنفسها بخفوت:
وحياتك عندي يا عمو لاخليك تعرف غلاوتك عنده واعلمه درس عمره ما ينساه وبنفسه هيعتذرلك ويبو,,س ايدك..
___________
“لما يطلع والدك بعد كده هطرده واقوله ابنك مضايق من وجودك باستمرار في بيته، وأننا عايزين نعيش براحتنا”
حديثها يدوي بعقله ويعذبه منذ أخر جدال بينهما، شعر أن ها كان صفعة على وجهه أعادت له وعيه، تخيل مجرد التخيل أن تفعل هذا فشعر بغصة تمزق قلبه، هو أبيه رغم كل شيء ويحبه ولا يق,بل أن يجرحه أحدا ، كل ما يريده بعض الخصوصية لا أكثر، فهل هو مخطيء؟ تنهد بحزن وفكر أن يحدث والدته لكنه تراجع عن فكرته، فهي لن تنصفه وسوف تعطيه محاضرة بالذوق والأصول الذي لا يتبعها أبيه، وسوف تشعله نحوه أكثر وهذا ما لا يريده.
فك ذر قميصه وشعر بأنفاسه تضيق.
الغريب أن أختفاء والده من تفاصيل يومه منذ يومان أورثه فراغا يتعجبه ولا يفهمه، ألم يكن هذا ما يتمناه؟ ألم يثور مع زوجته مرارا لأنها مشغولة به؟ ما الذي تغير الأن داخله؟ يشعر بالذنب، نعم هذا هو وصف حالته الأن، راح يتسائل في نفسه ماذا لو علم أبيه أنه يضيق بوجوده؟ يحمد الله أنه لم يسمع الهراء الذي هدر به وهو ثائرا فاقدا عقله..أمسك هاتفه وهم بالاتصال ليتوقف مفضلا ان يذهب إليه أفضل فور مغادرته من عمله.
……
كرر الرنين والطرق على بابه دون استجابة، فتوجس أن يكون مريضا، صعد لمنزله يحضر نسخة المفتاح التي بحوزته.
_ فين مفتاح شقة بابا يا ليان؟
_ عايزه ليه؟
أخبرها بقلق: رنيت عليه جرس الباب كتير مش بيرد، وبقاله يومين مش بيطلع عندنا زي عوايده.
_ أطمن يا حبيبي عمو خلاص مش هيطلع عندنا تاني.
قالتها ببساطة وهي تقلم أظافرها بهدوء، ليرتاب بأمرها متسائل ودقات قلبه تتسارع من ظنونه : يعني ايه مش فاهم؟
تركت ما بيدها و دنت إليه مطوقة عنقه بدلال:
يعني أنا يا حبيبي عملت اللي كان لازم اعمله.
قطعت رجل والدك من البيت.
الفصل السادس
______
“أنا يا حبيبي عملت اللي كان لازم اعمله.
قطعت رجل والدك من البيت”
طنين كلماتها تدوي برأسه يحاول استيعابها فضلًا عن تصديقها، ماذا فعلت زوجته بأبيه؟! لتأتيه الإجابة علي لسانها وهي تواصل:
طلع من يومين زي عوايده يفطر معايا، بس أنا بقا مش اديته وش، قابلته مقابلة مش ظريفة، كل اما يطلب حاجة اقوله مش فاضية، مش هينفع، مصدعة وعايزة أنام، أخر ما زهق نزل وسابني، وتاني يوم طلع برضو وجايب معاه أكل للغدا، قولتله أننا هنتغدا برة ومش هنكون في البيت، وخلاص من وقتها مطلعش تاني.
لتستطرد متفاخرة أمامه بما أنجزته: شوفت بقا أزاي مراتك شاطرة وعرفت اعالج موضوع باباك ده خالص.. أهو مش هيطلع تاني ولا يفرض نفسه علينا.. أنا بقيت متفرغة ليك أنت لوحدك وبس، مش ده اللي كنت عايزه يا آدم؟
كان الذهول يقطر من ملامحه وتعابير وجه تتلون بغضب فاقدًا النطق للحظات، ق,بل أن يدفع ذراعاها بعيدا عنه بعنف قابضًا عليها بقسوة مع صياحه: أنتي أتجننتي يا ليان؟ أزاي تعملي كده مع بابا؟ أزاي تتصرفي بقلة الذوق دي؟!
صاحت بثبات وقوة وهي تنظر لعيناه كأنها تصفعه من جديد بنفس العبارة: مش ده اللي كنت عايزه يا آدم؟ مش قولتلي اني بطاوعه في كل حاجة و مخلياه ليل نهار في البيت وانت مش واخد راحتك؟ أديني عملت اللي يرحك، قطعت رجله من البيت ومش هتشوفه هنا تاني.
اجفلها بصفعة مباغتة وهو ي عليها: أخرسي. لتبتعد عنه بقولها الذي في ظاهره استنكار وعتاب: بتني يا آدم؟ بتني عشان والدك؟
هدر عليها: وأكسر دماغك.
ليصمت مطرقًا رأسه بخزي وهو يهمس لنفسه: أنا كمان محتاج نفس القلم يفوقني، أنا ولد عاق.. أنا عاق.
ثم بدأ يهذي وهو يلوم نفسه: أنا الغلطان مش انتي، أنا الغلطان ومش عارف ازاي هسامح نفسي.
لم يري ابتسامتها الدامعة وقد نجحت بمسعاها ونالت بغيتها، بعد أن عاهدت نفسها أن تثير مشاعر زوجها الفطرية تجاه أبيه، وها هو لم يق,بل عليه ما قالت أنها فعلته كذبا، ولن يبقا إلا أن يلمس والده مشاعر آدم الحقيقية نحوه، هكذا تكون أوفت بقسمها الخفي لنفسها بأن تعيد علاقتهما لنصابها الصحيح.
_ هاتي المفتاح.
منحته إياه فأسرع لشقة والده يتفقده لم يجده، حاول الاتصال به فلم تستجيب الشبكة، قرر أن يظل حتي عودته، يجب أن يصلح ما أفسدته زوجته..أو بالأحرى ما أفسده هو.
بعد وقت صدح رنين هاتفه ليجده أبيه.
_ بابا أنت فين.
_ حضرتك أستاذ آدم؟
تعجب الصوت الغريب الذي أجابه فقال بقلق: أيوة أنا، مين حضرتك وليه بابا مش بيرد علي تليفونه؟
_ الحقيقة والد حضرتك في المستشفى ياريت تيجي بسرعة.
________
مثل الطفل الصغير يقف منزويا بخوف يحتل سائر ملامحه، ينتظر خبرا يطمئنه علي أبيه، بعد أن استق,بله رجلا يقول أنه رفيقًا له، أخبره أنه أتاه ليعمل معه وكان اليوم هو يومه الأول، ليتفاجأ به ي بغتة قابضا صدره ثم فقد وعيه بعدها، فأسرع بإحضاره هنا ليتم إنقاذه.
لأول مرة يختبر موقف گهذا معه، لأول مرة يشعر انه يحبه هكذا، يخاف فقده، يخاف غضبه، يخاف أن تضعه الحياة بتجربة قاسية لو تسبب بموته، كيف يعيش بهذا الشعور لو حدث له مكروه؟ هو السبب بما وصل له أبيه، الجرم جرمه هو وحده، والذنب ليس لسواه.
وبينما هو يصارع أفكاره السوداء تمكث هي على مسافة منه ترمقه بشفقة وخوف وحزن، ربما يظنها سببا بما حدث لوالده لأنها عاملته معاملة لا تليق به فأورثته قهرا وصل به لما صار، ليته يعلم انها ما ادعت كل هذا إلا كي تحيي علاقتهما بعد أن رآت نظرة الخذلان والحزن بعين والده، نظرة جعلتها تقسم ألا تصمت أو تعدم طريقة ليعود الوصال بينهما افضل مما كان، لكنها لم تعمل حسابا لوعكته الصحية هذه، تبتهل داخلها لله أن يسلم هذا الرجل الطيب من كل شر، هي تعتبره أبًا ثانِ لها.
_ أبوك ماله يا آدم.
صوت والدته اللاهث المصدوم جعله يلتفت نحوها بعين أسفة ليغمغم: لسه مش عارف حاجة، الدكاترة بيفحصوه بقالهم شوية.
بدا صوتها متهدج على حافة البكاء وهي تتساءل: وايه وصله لكده؟ ده عمره ما اشتكى من حاجة.
رمقها مليًا وقلقها يثير داخله الدهشة، لم يذكر انه رآها مرة واحدة تخاف علي أبيه هكذا، همسة ساخرة دوت بضميره، دائما لا نعرف قيمة من نحب حتى نصبح علي مشارف فقدهم فننتبه أننا نحتاجهم ولا نريد خسارتهم.
أجابها بصوت حزين: أنا اللي وصلته لكده يا أمي، أنا السبب.
عقدت حاحباها بقلق: ايه اللي بتقوله ده يا آدم؟ أنت السبب ازاي يا ابني؟
أطرق رأسه يخفي دموعه: بعدين يا أمي، مش قادر اتكلم في حاجة دلوقت، كل اللي محتاجة أطمن على بابا.
ربتت علي كتفه بمؤزارة حانية:
أطمن يا حبيبي إن شاء الله ربنا هينجيه ويطمنا عليه، لتهتف بعدها بسخط نبع من خوفها : أكيد اللي حصله ده بسبب أكله الغريب اللي بياكله، لا بيراعي سنه اللي كبر ولا مرضه.
ابتسم رغما قساوة الموقف وهو يسألها بخفوت: خايفة على بابا بجد يا أمي.
حدجته بعتاب: أزاي بتسأل سؤال زي ده يا آدم؟، أبوك ده عشرة عمري، والراجل الوحيد اللي دخل حياتي، أبوك هو أيامي الحلوة وذكراياتي وشبابي.
_ ولما هو كل ده ليه سبتوا بعض؟
تنهدت تنهيدة طويلة وشردت دون أن تجيبه، ليجفلهما صوت ليان خلفهما بصياحها: الدكتور يا آدم.
اسرع إليه يتسائل بلهفة: طمني علي بابا يا دكتور ارجوك.
_ أطمن، هي كانت بوادر جلطة والحمد لله قدرنا نلحقها في الوقت المناسب وندوبها بالأدوية.
واستطرد بعملية: بس هو هيفضل معانا كام يوم تحت الملاحظة عشان نظبط مستوايات الضغط والسكر عنده، وطبعا والدك محتاج نظام غذائي صحي يمشي عليه بعد خروجه، ويبعد تمامًا عن أي دهون في أكله.
_ هعمل كل حاجة تخلي صحته أفضل يا دكتور بس حضرتك عرفني المفروض اعمل ايه.
أومأ الطبيب بتفهم: أكيد هقولك على نظام يناسبه مع الأدوية المهمة طبعا.
_______
عبر لغرفته بخجل وعيناه تغيم بالعبرات وهو يقترب منه ملتقطا كفه الساكن جواره فوق الفراش، مال يلثمه هامسا بصوت باكي: سامحني يا بابا أنا غلطت في حقك.
ثم اختنق صوته ببكاء مكتوم ودموعه تسيل بغزاره ليهمس من بين نحيبه: أنا السبب في كل اللي حصل، ليان مالهاش ذنب، هي نفذت اللي دفعتها تعمله، أنا غلطت في حقك يا بابا وخليت الشيطان يتحكم فيا، سامحني واوعي تسبني، أوعي ت قلبي وتعاقبني العقاب ده، أنا مقدرش اعيش لو حصلك حاجة.
ثم رفع وجهه لأبيه الغائب عن الوعي واقترب يق,بل بين عيناه ق,بلة أودع بها كل محبته وحنانه وخوفه ورجاءه أن يعود له سالمًا، ثم غادره بخطاوي ثقيلة وقلب يتألم لأجله.
………
حاول أن يظل معه في المشفى ليفاجأ بوالدته تصر أن تبقا هي جواره كمرافقة له طوال فترة إقامته في المشفى وتركها معه لترعاه، فلم يجادلها آدم كثير شاعرا أنه يحتاج بعض الراحة والخلوة ليبتهل إلي خالقه كي يتم شفاء والده بأسرع وقت.
ولجت لغرفته، كان غافيا بسلام، ملامحه متعبة، اقتربت ورفعت يدها ببطء لتتحسس جبينه بحنان ثم دنت نحوه هامسة بأذنيه: أنا ممكن أتحمل إننا في لحظة غضب وغباء ننفصل وكل واحد فينا يقرر يعيش بعيد عن التاني، لكن اللي مش ممكن اتحمله انك متبقاش موجود يا علي، مقدرش اتخيل الدنيا وانت مش فيها، كفاية اعرف انك بخير حتى لو بداري أهتمامي عنك وبظهر العكس، أنت عارف ومتأكد من اللي جوايا ناحيتك، أرجوك تفضل بخير عشاني أنا وأبنك.
رمشت أهدابه بضعف ق,بل أن يفتح عيناه بصعوبة ويرمقها بابتسامة بالكاد تُرتسم على شفتيه وهو يهمس لها بوهن متقطع: لسه بتحبيني.. وخايفة عليا يا ام آدم؟
أُجفلها عودة وعيه بغتة وسماعه لما قالت، فتنحنحت بحرج قائلة: أنا كنت فاكراك نايم.
ابتسم ثانيا مع قوله الخافت: سمعت صوتك كأني بحلم.. بس طلعت مش بحلم..طلعتي فعلا جنبي وبتكلميني.
ليواصل همسه بصوته الضعيف المتقطع من أثر وعكته: تعرفي يا أنجي، لو كنتي قولتيلي.. كلمتين حنين زي دول.. وحسيت ولو مرة واحدة اني مهم.. وانك بتحبيني وتخافي عليا.. مكناش اطلقنا.
عاتبته بنظرتها ق,بل قولها: يعني أنت مكنتش عارف مشاعري؟
_ وهعرف ازاي.. وانتي طول عمرك.. بتعامليني عكس اللي جواكي..كبريائك الغبي..كان دايما يغلب قلبك الطيب يا انجي.
_ حتى وانت تعبان لسانك طويل يا علي؟ مش هتتغير ابدا
_ عمري ما هتغير..لو اتغيرت.. مش هكون علي اللي حبتيه.
ليكتسب صوته المزيد من عتابه الحاني: علي اللي سبتبه للوحدة ته من غيرك.
اغرورقت عيناها: شكلك نسيت إن فراقنا كان قرارك.
_ ومين اللي دفعني لقراري ده؟
صمتت دون رد ليشفق عليها بقوله الخافت: خلاص مبقاش له معنى العتاب دلوقت، أنسي.
أغمض عيناه كأنه بذل مجهودًا ويترجى بعض الراحة، لتتأمله ودموعها تسيل فوق خديها، لتعترف له بصوت باكي: على فكرة أنا كنت زيك، الوحدة تعبتني وحياتي كانت وحشة أوي من غيرك.
لتميل عليه وتمسك كفه تحدثه برجاء من تخاف فقده: عشان خاطري يا علي خاف على نفسك شوية وراعي صحتك، أنا وآدم منقدرش نعيش من غيرك، أحنا عايشين على حسك.
تغلبت عليه روحه المرحة بقوله:
بس أنا مقدرش أمنع نفسي من أكل العكاوي والكوارع ولحمة الراس.
شهقت باستنكار: حرام عليك يا أخي، حتى وانت تعبان مش عايز تتوب؟ ده أساميهم لوحدها تجيب المرض.
لتعود لها طبيعتها الساخطة: أنت مبقتش صغير، راعي سنك شوية ده انت عديت الستين.
لاعب حاجبيه يشاكسها رغم وهنه: فشر.. أنا أصبى منك أنتي وابنك وصحتي بمب.
عبست ترمقه بغيظ ق,بل أن تنفجر ضحكًا رغما عنها :
مفيش فايدة فيك يا علي، أنت مش معقول.
_ أخبار مريضنا أيه دلوقت؟ شكلك فايق وزي الفل.
قالها طبيب يبدو صغير السن ولج الغرفة بغتة وخلفه أحدهم يسوق جهاز قياس نبض القلب للداخل، والطبيب يواصل: هنعملك رسم قلب ونطمن كمان على قياس الضغط والسكر.
مكثت تراقبهم بصمت واهتمام حتى انتهوا من عملهم، وطمأنها الطبيب ق,بل مغادرته أن كل شيء تحت السيطرة.
_ مش قولتلك صحتي بمب؟
هزت رأسها بيأس وهي تعيد ترتيب الغطاء حوله، ليصمت لحظات يتأملها ق,بل أن يغمغم بحنان: أنجي، رغم إني مبسوط انك معايا، بس روحي بيتك أفضل وتعالي الصبح، أنا عارف طبعك كويس، انتي مش هترتاحي ولا هتعرفي تنامي هنا.
وكأنه أمرها بالعكس وهي تجذب مقعدا تقربه من فراشه هاتفة: عايزني أمشي عشان تعاكس الممرضات الحلوين اللي هنا براحتك مش كده؟
_طول عمرك فهماني يا أم آدم.
رمقته بعدوانية دون كلمة ليستطرد مازحا: انتي عارفة لو فضلت هنا أسبوع تحت رعاية المزز القمرات اللي هنا؟ كل أمراض الدنيا هتروح مني وهبقا الواد أحمد عز في نفسي.
زفرت بضجر وهي تغمغم: اللهم أطولك يا روح..شكلها هتبقا ليلة زي الفل.
_____________
“زعلان مني؟”
قالتها وهي تجاوره بجلسته الصامتة ق,بل أن تقرر خرقها بسؤالها الخافت، ليجيبها بحزن: زعلان من مني مش منك..أنا السبب في كل اللي حصل لبابا، أنت عملتي اللي أنا دفعتك تعمليه، اللوم عليا لوحدي وعمري ما هسامح نفسي ابدا.
_ بس أنا معملتش حاجة يا آدم.
ألتفت نحوها بتساؤل لتخبره ببعض ما يجب أن يعلمه، مسقطة من استطرادها أن والده سمع حديثه القاسي عنه حين كان ثائرًا منذ أيام، هو دون شيء. ي نفسه لومًا ولا يتحمل المزيد من تعذيب الضمير.
_ أنت عارف إن معزة والدك عندي زي ما هي عندك وأكتر، أنا اضطريت أكدب عليك واقولك اني عاملته وحش عشان أحطك في أختبار حقيقي مع مشاعرك الحقيقية ناحيته، مشاعر عمرها ما تتمحي في قلب أبن لأبوه، كان رهان كسبته مع نفسي لأنك متحملتش اللي قولته.
لتقترب إليه وعيناه ممتلئة حبًا وفخر: صدقني القلم اللي ادتهوني يا آدم كبرك في نظري لأنه كان دليل إن جواك خير وحب لوالدك، أنت صحيح حبتني، بس حبك لأبوك لما حسيت انه اتهان كان أكبر، وده أكتر شيء يخليني اطمن معاك.
يحاول استيعاب ما تقوله زوجته بدهشة سيطرت عليه ليتحرر منها أخيرا مع قوله: يعني بابا مش زعلان مني ولا منك؟
_ لا يا حبيبي مش زعلان، والدك بيحبك وعمر قلبه ما يطاوعه يزعل منك ابدا.
_ طب ليه مكانش بيطلع أخر كام يوم؟
_ عادي مجرد تغير مش أكتر، فكر يشتغل ويسلي وقته.
_ يشتغل؟!
_ أيوة، عمو قالي انه هيشتغل في الحسابات لمحل واحد صاحبه عشان يملى وقته، وانه زهق من روتين حياته وعايز يغيره، وأنا شجعته، بس مكنتش اعرف انه هيتعب بالشكل ده من أول يوم.
_ يعني بجد بابا مش زعلان مني ولا غضبان عليا يا ليان؟
تمتمت بعين دامعة: أبدا يا حبيبي.
تنهد وكأن جبلًا أنزاح عن صدره.. عانقها بقوة راجيًا الراحة والسلام بعد أن طحنته أفكاره السوداء الساعات الماضية، لتتلقفه ليان بذراعيها وهي تطوقه وتهدهده برفق وتمسد جبينه بشفتيها هامسة: حاول تنام وترتاح للصبح عشان من النجمة نروح عند عمو، طنط أكيد مش هتعرف تنام هناك وهتحتاج ترتاح شوية بالنهار، وانا هجيبها علي هنا مش هسيبها.
__________
“متخافش يا آدم، أبوك لسه دوره مجاش”
نغزه قلبه لما قاله ليهتف بلهفة حقيقية: بعد الشر عنك يا بابا، ربنا يديك طولة العمر ويخليك لينا، أحنا من غير ولا حاجة
ابتسم له بحنان وهو يتأمله، الحب الذي لمسه في قلب أبنه ربما لم يشعر به من ق,بل، أحيانًا كان يظنه قاسي القلب ولا يفرق معه في شيء، لكن ما يراه الأن عكس ما ظنه، آدم يحبه ويخاف عليه، ليت أصابه المرض منذ زمن كي ينعم بهذا الشعور.
_ أنت زعلان مني يا بابا؟
امتدت كفه لتحوط جانب وجهه برفق وعيناه يتدفق منها الحنان قائلا: عمري ما ازعل منك يا ابني، أنا راضي عنك ليوم الدين يا آدم.
ترقرقت عين الأخير وهم أن يقول شيئا، ليقاطعه دخول ليان بمرحها المعهود: هو فين ابننا الشقي اللي جايبلنا الكلام وبيمثل علينا التعب؟
انتعش قلبه وبرقت عيناه برؤيتها: وحشتيني يا لولو.
اقتربت إليه: أنت اللي وحشتنا اوي يا عمو.
واستطردت بمزاح: ينفع كده تخلي طنط تتعصب منك؟ عمال تعاكس الممرضات اللي هنا قدامها ومش سايب واحدة فيهم.
ضحك ضحكة قصيرة: أعمل أيه كلهم حلوين، وأنا احب الجمال.
_ طب متزعلش بقا من اللي طنط هتعمله فيك، عمالة تشتكيلي منك وأنا بصبرها.
قهقه بفخر: أحسن خليها تتغاظ.
تنحنح آدم: براحة على ماما يا سي بابا دي غلبانة وكانت هتتجنن عليك والله، وصممت هي اللي تفضل معاك تراعيك.
_ أه والله يا عمو، وتخيل بقولها نرجع البيت ترتاح شوية وتيجي تاني بالليل، رفضت وقالت مش هتسيبك غير لما تخرج من المستشفى.
صمت متأثر بحديثهما و ومض بعيناه وميض رضا وسعادة لم تخفى عن آدم وزوجته، لينبت داخلهما أملًا قويًا بعودة محتملة يترجوها بيوم قريب.
_____________
الفصل السابع والأخير
______
بِكلِّ الطُّرق يُحَاوِل التَّكْفير عن ذَنبِه المسْتتر بِحقِّ وَالدِه وتعْويضه عن مَا قَالَه حَتَّى لَو لَم يَعلَم بِه ، مُنْذ خُروجه مِن المشْفى بِالْأَمْس وَهُو يُحيطه بِرعاية واهْتمام شديد ، فقد أصرَّ أن يَعُود معه على بَيتِه هُو ، وقد أعدَّ لَه غُرفَة مُنَاسبَة زوَّدهَا بِشاشة ورادْيو كيْ لََا يَشعُر بِالضَّجر .
_ يا ابني مفيش لزوم لكل ده، خليني أنزل شقتي وانت ومراتك تبقوا تطمنوا عليا كل شوية.
هتف بعناد: مستحيل، هتفضل عندي لحد ما اطمن عليك واشرف بنفسي علي نظام أكلك.
ليان متدخلة: عمو بلاش جدال علي الفاضي.
ثم مازحته: أعتبر نفسك مخطوف عندنا.
ثم قالت بمكر: وعلى فكرة طنط إنجي جاية تزورك انهاردة بعد العصر.
_ بجد انجي جاية؟
قالها بلهفة واضحة ليضحك آدم معلقًا: شوفي وشه نور ازاي، شباب أخر زمن.
_ أخرس يا ولد أنت هتتريق على أبوك.
وواصل آمرًا: انزل يلا هاتلي الترنج الأزرق بتاعي، هدومك ضيقة عليا وبصراحة مش براند.
للحظة لم يصدرا رد فعل ق,بل أن ينفجر هو وزوجته ضحكًا والأخيرة. تقول:
ألحق يا آدم، عمو بقى عارف كلمة براند.
رد من وسط ضحكه: المصيبة إني أنا اللي جايبله الترنج البراند اللي بيتنك عليا بيه.
_ وبعدين معاك أنت وهي، أمك قربت تيجي وانت مسخسخ أنت ومراتك من الضحك؟ طب أنا هنزل شقتي.
أسرع يلحقه: خلاص يا بابا اهدي مالك زربون كده ليه انت اتعديت مني؟
ثم مال عليه يهمس له: وعشان تتبسط أنا هعمل معاك واجب، هظبطلك شعرك واحلقلك دقنك واخليك قمر.
راق لوالده اقتراحه فزاد عليه بطلبه:
وبعدها ابقي حطلي من الريحة الحلوة بتاعتك دي يا واد يا آدم، هتعجب امك أوي.
_ سوري يا بابا دي براند وعلى قد استخدامي.
________
لََا تَدرِي مَا هَذِه المشاعر اَلتِي يعْتريهَا ، كأنَّ مشاعرهَا المكْبوتة تَفجرَت دُفعَة وَاحِدة بَعْد مَرضِه ، لَم تَعُد تُسيْطِر على خوْفهَا ولهْفتهَا عليْه ، الأيَّام اَلتِي قضتْهَا بِصحْبَته فِي المشْفى نَسفَت اَلكثِير مِن الحواجز بيْنهمَا ، وَأَثارَت بيْنهمَا الذَّكرايات البعيدة وَهمَا يتذكَّرانهَا بِحنين ، تَشعُر كأنَّهَا عَادَت الفتَاة الصَّغيرة اَلتِي بِنَبض قلْبهَا الأخْضر لِرجلِهَا الأوَّل والْأخير . . كَانَت تَفتقِده سابقًا لَكِن الآن اِفْتقاده أَكثَر قَسوَة وقد عاد بيْنهمَا الوصَال ، لِذَا هاتفتْ زَوجَة اِبنهَا واسْتأْذنتْ لِزيارته ، لَن تَصبِر على رُؤْيته والاطْمئْنان عليْه أَكثَر مِن ذَلِك .
________
أنتهي من تهذيب شعر وذقن والده لينظر له برضا:
شوف نفسك بعد ما روقت عليك بقيت ازاي؟ ولا كريم عبد العزيز.
قيم وجهه بنظرة فاحصة ق,بل ان يغمغم بمرح:
شغلك مش بطال يا واد يا آدم، كل أسبوع ظبطني وأنا هبقا اشوفك بقرشين.
ابتسم له وراح يتأمله صامتًا بنظرة حانية طالت ليتسائل والده: مالك بتبصلي كده ليه، أوعى تكون غيران عشان أنا أحلى منك؟
احتفظ بنفس نظرته المحبة له ثم مال ملثمًا كف أبيه متمتما: عارف يا بابا لما تخيلت للحظة إنك ممكن متبقاش معايا حسيت بأيه؟ حسيت بخنقة غريبة، بصيت للدنيا حواليا لقيتها مالهاش طعم ولا تسوى من غيرك، أنا يمكن ساعات بكون عصبي زي ما بتقول ويجوز مكنتش قريب منك الأول، بس أوعدك يا بابا هبقا معاك شخص تاني خالص.
ثم غمره بنظرة راجية تغيم بالدموع: بس عايزك تسامحني من قلبك يا بابا علي كل مرة زعلتك فيها بقصد او بدون قصد، قولي إنك راضي عني.
كان يعلم جيدا بما يؤرق وحيده، ضمير أبنه يعذبه رغم أن ليان لم تخبره انه سمع ما قاله، وقد أصابت بكذبتها البيضاء هذه، يكفيه هذا الحب الذي ينضح من عين صغيره، يكفيه أنه لمس مشاعره الحقيقية وعلم بقيمته لديه، لقد سامحه ولم يعد بقلبه نحوه إلا الرضا، لذا امتدت كفيه تحوط وجهه بحنان وهو يقول: في يوم من الأيام يا آدم هتخلف وتجرب يبقا ليك أبن، ساعتها هتتأكد إني مفيش في قلب الأب لأبنه غير الحب والرضا، وأنت حتة مني مهما حصل مقدرش ازعل منك ولا أغضب عليك يا حبيبي.
ثم تنهد وهو يأخذ رأس علي صدره قائلا:
أنا بشكر ربنا علي كل حاجة حصلت وفرحان كمان عارف ليه؟ لأن كل بحبهم كانوا حواليا وأولهم أمك.
ثم خبط جبينه بغتة وهو يبعد آدم عنه بعجلة من أمره: أحنا نسينا، إنجي هانم زمانها جاية، قوم ساعدني عشان اجهز.
ضحك وهو يحدثه بحماس: متقلقش، دقايق واخليك ولا أوزجان دينيز في زمانه.
_ أوزجان دينيز بالترنج؟
_______
بطريقها أبتاعت علبة شيكولاه فاخرة كي لا تزور بيت ابنها فارغة اليد، كان استقبال ليان لها شديد الدفء وهي تعانقها قائلة: البيت نور يا طنط إنجي والله، ماتتصوريش ازاي فرحانة بزيارتك.
منحتها ابتسامة راضية: ميرسي يا ليان كلك ذوق.
ثم. راحت تبحث بعيناها عن شيء مع قولها: أمال فين…
قاطعتها: هناك في أوضة عمو، أتفضلي حضرتك.
توجهت خلفها لتجده بطلة مهندمة جذابة وآدم يصيح بعد ترحيبه الحار بها: شوفتي بابا وأناقته يا ماما، ولا كأنه كان تعبان ومموتنا رعب عليه.
ابتسمت لتتسع ابتسامتها مع دعابة “علي”:
مالك منبهر كده ليه، ده العادي بتاعي يا ابني، أنا طول عمري أنيق وجذاب.
إنجي ممازحة: منا واخدة بالي يا علي.
ثم قالت بود: عمومًا حمد الله على سلامتك، أن شاء الله متتعبش تاني ابدًا.
أجابها مبتسمًا: اللهم امين يا إنجي.
ثم لمح ما بيدها متسائلا لفضول:
أنتي جايبالي ايه معاكي؟
_ علبة شيكولاه من اللي بتحبها.
ثم حذرته بقولها: بس مش مسموح ليك غير بقطعة واحدة بس عشان…
لم تكمل وشهقت وهو يباغتها بالتقاط العلبة ويخبئها خلفه مع قوله الطفولي الذي لا يخلو من المرح:
هي مش العلبة دي علشاني؟ يبقي أنا حر فيها ومحدش هيدوقها أصلا.
ليان باستعطاف: ولا حتى لولو حبيبتك يا عمو.
_ ولا أنتي، هتتخني وآدم هيزعل، أنا خايف عليكي.
صفقت انجي كفيها بقلة حيلة: مفيش فايدة فيك.
_ بقا كده يا عمو؟ وأنا اللي كنت هقولك على حد مهم جدا سأل عنك من شوية.
_ مين يا لولو؟
_ مش هقول.
لتدخل إنجي بفضول:
مين المهم ده اللي سأل عن عمك؟
_ نانسي، الممرضة اللي كانت بتقيس لعمو الضغط كل يوم الصبح.
انجي بحنق: ودي أخدت رقمك بتاع يا ليان؟
_ والله يا طنط أنا اللي كنت واخدة رقمها عشان اطمن علي عمو، وشكلها اتعلقت به اوي واتصلت تطمن وبتستأذن كمان تزوره.
_ يا مرحب بيها، والله بنت فيها الخير.
التوت شفتي انجي بامتعاض: لا والله؟!
تجاهلها بتساؤله: وهيفاء اتصلت يا لولو؟
_ هيفاء مين يا عمو؟
_ صاحبة نانسي.
ثم انفجر يقهقه على دعابته وهو يلاعب حاجبيه لانجي التي صاحت بحنق: أظاهر ابوك مخه اللي بقا تعبان يا آدم، ومش هيعقل ابدا.
وغادرت الغرفة ساخطة لتلحقها ليان تكتم ضحكتها، ليقترب هو من أبيه قائلا: وبعدين يا حاج “علي” هتجنن أمي معاك مش كده.
رد ببراءة: ليه يا ابني هو انا غلطت في حاجة؟ هي امك اللي بتقفش بسرعة ومالهاش في الهزار.
_ أمي اللي بتقفش برضو؟
_ أيوة، روح بقا هات تليفون مراتك واحفظلي الرقم.
_ رقم مين؟
_ نانسي.
——-
“علي فكرة يا طنط عمو بيهزر معاكي”
_ هزاره سخيف.
ابتسمت ق,بل أن تخبرها: تعرفي حضرتك لما عرف انك جاية، وشه نور وبقي فرحان اوي.
_ بجد؟
_ أه والله يا طنط، أنتي غالية اوي عند عمو، طب عارفة لما عرف من فترة ان جالك عريس، كان هيموت من الغيرة عليكي.
_ عرفتي منين يا ليان انه غار؟
تساءلت بلهفة واهتمام لتجيبها: كان عصبي وبيحاول يبين انه مش مهتم، بس غيرته كانت باينة اوي، حتى أسألي آدم.
ابتسمت برضا وتغزوها فرحة مراهقة تتذوق مشاعرها للمرة الأولى.
_ طنط.
التفت لها فواصلت:
ليه حضرتك مش ترجعي لعمو؟ أنتوا محتاجين بعض أكتر من الأول.
تنهدت قليلا ق,بل أن تخبرها: تفتكري ينفع نرجع بعد العمر ده كله؟
_ وليه لأ؟ حتي لو زمان كان في خلافات بينكم اعتقد دلوقت مبقاش لها معنى، افتحوا صفحة جديدة وعيشوا الدنيا سوا وشوفوها بنظرة جديدة مليانة نضوج ومحبة وود، اتهنوا بأيامكم وفرحونا بيكم، صدقيني يا طنط آدم نفسه ترجعوا، وأنا كمان نفسي ولادي أما يجوا للدنيا يلاقوا جدهم وجدتهم في مكان واحد مفيش حاجة مفرقة بينهم.
غمرتها أم زوجها بنظرة تفيض احتراما وألفة لتخبرها بصدق: تعرفي انك طلعتي طيبة اوي يا ليان؟ معذور آدم لما حبك.
_ ونفسي حضرتك كمان تحبيني يا طنط، أنتي وعمو بالنسبالي زي بابا وماما بالظبط، ربنا يعلم إني بحبكم، كفاية انكم أم وأب أغلى إنسان عندي.
ربتت علي خدها بحنان قائلة: أنتي مش لسه قايلة. نفتح صفحة جديدة؟ أنا بقا هبدأها معاكي أنتي يا لولو.
رمقها بدهشة مختلطة بفرحتها وهي تغمغم: لولو؟ أول مرة حضرتك تقوليلي كده.
_ ومش أخر مرة.
ثم عانقتها برفق لتهتف ببعض المرح: يلا بقا نجهز الغدا أنا جعانة ومش فطرت.
صاحت بحنان وسعادة: من عيوني يا طنط، دقايق والسفرة هتكون جاهزة.
_________
بدا عليه الضيق وهي تهم بالمغادرة، وآدم وزوجته يترجوها لتبقى، فكان ردها:
معلش يا ولاد كفاية كده، أنا طول اليوم معاكم.
ثم نظرت له وقالت: علي، مش هوصيك تاني، عشان خاطري أهتم بصحتك وبلاش تلخبط في حاجة، الولاد مش هيقدروا يراقبوك طول الوقت، خليك انت رقيب علي نفسك.
_ هتيجي تاني أمتى يا أنجي؟
_ بكرة يا بابا.
تفاجأت من رد آدم الذي استطرد:
ماهو مش معقول تسيبي خالو وخالتو يجوا لوحدهم بكرة يطمنوا على بابا، لازم. تيجي معاهم.
ثم نظر لأبيه: هما اتصلوا وحضرتك نايم، وبلغوني انهم جايين عندي.
لمعت عين أبيه بغموض: وأنا منتظرهم.
________
تحسست بطنها بشرود قاطعه آدم:
لولو، بسألك هتعملي ايه بكرة عشان اجيبلك طلباتك كلها بدري.
انتبهت له مبتسمة: هكتبلك كل حاجة عايزاها واتس عشان مش تنسى.
_ وأنا يا ستي هعمل معاكي واجب جامد، مش رايح شغلي بكرة، هساعدك في كل حاجة عشان مش تتعبي، العدد هيبقا كبير لأن ولاد خالو وبنات خالتو كمان جايين بكرة.
ارتفع حاجباها بدهشة: معقولة؟ طب كويس انك عرفتني يا آدم، كده لازم استعد، ثم نظرت حولها بتوتر: في ناس كتير كده اول مرة تزورنا بكرة ولازم اجهز البيت واغير الملايات و..
_ ليان اهدي مالك كبرتي الموضوع كده ليه، قولتلك أنا معاكي وبعدين شقتنا زي الفل مفيهاش حاجة، واللي جاي مش غريب.
_ أيوة بس برضو.. طب بص أنا هتصل بماما تبعتلي أختي تساعدني.
_ لأ، طبعا أهلا بأختك في أي وقت، بس مفيش داعي تتعبي حد، أنا مش هخليكي تتعبي في حاجة متخافيش والله، أعتبريني الفلبينية بتاعتك بكرة، وهنعمل بروفة دلوقت.
ثم نهض ملتقطًا وشاح يخصها ولفح رأسه مقلدًا صوت فتاة: أنا خدامتك الجديدة يا لولو هانم، أنا لهلوبة في المطبخ والتنضيف واعجبك.
قهقهت ليان بشدة وقالت من بين ضحكها: هنشوف، روحي يلا اعمليلي فنجان قهوة مظبوط.
رمقها آدم محذرا وقد عاد له صوته: أنتي متأكدة؟ عشان متقوليش مش حذرتك.
ضحكت أكثر ونزعت عنه الوشاح وطوقته:
نسيت أنك أسوأ واحد في العالم ممكن يعمل قهوة.
قهقه وهو يضمها: أنا ممكن اعمل بشاميل بس معرفش اعمل قهوة.
ضحكت قليلا ثم مكثت تنظر إليه بنظرة حانية بادلها إياها ق,بل أن يهمس لها: أنا بحبك أوي يا ليان، عمري ما هنسي موقفك الأخير، أنتي علمتيني درس العمر.
ق,بلت بين عيناه مغمغمة: أنا وانت مراية لبعض يا آدم، اللي يشوف عيب في التاني لازم يقومه بكل قوته، أي محنة أو مشكلة مهما كانت هنعديها سوا.
_ إن شاء الله يا حبيبتي.
ثم تنهد وهو يغمسها بصدره: عارفة يا ليان، عندي إحساس غريب إن بكرة هيحصل حاجة حلوة وهيكون يوم مختلف.
لم يري ابتسامتها الغامضة فوق صدره وهي تغمغم:
أنا كمان حاسة بكرة هيكون يوم مختلف.
__________
الأجواء كانت مثالية بقدوم الجميع لبيت آدم الذي استق,بلهم خير استقبال هو وليان التي نالت هي الأخري فرصة لتقوية علاقتها بأهل زوجها، تعترف أنها كانت تهابهم من ق,بل، لكن ليس بعد الأن.
_ يا جماعة الكل يسمعني عايز اقول حاجة مهمة.
انتبه الجميع لهتاف آدم بفضول فواصل وهو يقترب ويضم والدته نحو والده بنظرة تفيض لهما حبًا:
بابا، ماما.. أظن كفاية كده العمر اللي ضاع وكل واحد فيكم بعيد عن التاني مسلم نفسه للعند والكبر..أكيد كل واحد فيكم اتعلم درس من اللي فات وراجع تصرفاته ميت مرة وعرف غلط في ايه، كفاية فراق مالوش أي داعي وأنا متأكد إن لسه جواكم مشاعر احترام ومحبة لبعض، أنا محتاج أوي أشوفكم سوا، محتاج أحس أنكم معايا طول الوقت، ده حقي اللي مش هتنازل عنه مهما عاندتم.
_ ومين قالك إني هعاندك يا ابني؟
هكذا قاطعه أبيه الذي استطرد وهو ينظر لزوجته السابقة: صحيح المبادرة جت من ابننا يا إنجي، بس الحقيقة إني سبقته بخطوة.
رمقته بحيرة ليتدخل شقيقها بقوله:
ده حصل فعلا، علي فاتحني في رغبته إنه عايز يرجعك يا إنجي، والمفروض كنت لسه هاخد رأيك، بس ابنك اللئيم سبقني.
ضحك آدم تغمره سعادة طاغية وهو يمازح أبيه:
والله طلعت مش سهل يا حاج علي.
ثم دني لوالدته راجيًا: قلت أيه يا أنوج، أبننا علي طالب القرب، نوافق ولا نقوله معندناش بنات للجواز.
ابتسمت بخجل والجميع يترقبها بفضول وفرحة، لتصيح ليان.
_ أوعدكم لو طنط وافقت هقولكم خبر حلو.
_ خبر ايه يا ليان؟
باهتمام تسائل آدم لتجيبه بعناد:
مش هقول غير لما طنط تقول أنها موافقة.
ولكي تتخلص من تلك النظرات المسلطة عليها، قالتها بصوت هاديء رغم الفرحة التي تعبث بقلبها: موافقة.
زغاريد الفرحة صدحت من إحدي بنات الخالة، لتهتف ليان: كده أقدر اتكلم وأقولكم اللي عندي.
وهنا دنت من زوجها ونظرت إليه بعين دامعة ق,بل أن تقول: فاكر لما قولتلك إني حاسة ان في هيكون مختلف؟
صمت وعيناه تترقبها بلهفة لتغمغم أخيرا:
أنا حامل..عملت أختبار الصبح وأتأكدت.
لوهلة لم يصدر منه رد فعل، ليتحرر من ذهوله ويحملها بغتة وهو ي: أنا هبقا أب، هتبقا جدو يا بابا، هتبقي تيتة يا ماما زي ما كان نفسك.
ألتف الجميع حولهما يغمرانهما بالتهنئة بينما هي تبكي جواره ليهمس لها: أيه لازمة الدموع دي يا أنجي، المفروض تفرحي.
قالت بصوت باكي: من فرحتي يا علي.
جفف عيناه وهو يخبرها: أنا كمان مش مصدق اللي بيحصل ده، معقول ربنا يديني الفرحة دي كلها مرة واحدة، أنا لحد وقت قريب أوي كنت مكتئب إني لوحدي وخايف أموت ق,بل ما..
_ علي.
قاطعته عاتبة: بلاش تبوظ فرحتي بكلامك.
منحها نظرة حانية وقال: عندك حق، مش هسمح حاجة تعكر علينا الفرحة دي ابدا، أنا وانتي هنرجع تاني نتلم في بيت واحد وننتظر حفيدنا اللي جاي.
همست بحنين: ياااه.. أنا من دلوقت هعد الأيام.
ولأن طبيعته مرحة أخبرها بخفوت:
بس مش عايز الفرحة تنسيكي حاجة مهمة.
عقدت حاجبيها: حاجة ايه؟
_ أنا بقيت راجل صحتي على قدي وماشي بعلاج.. من الأخر بقيت بربع حصان.
شهقت وهي تضع كفها علي فمها بخجل لمقصده، لينفجر ضاحكًا، فينتبه له الجميع خاصتًا آدم الذي صاح: أنا سامعك وعيني عليك.
ثم اقترب يهمس بأذني والده:
ربع حصان ايه يا راجل يا طيب متقولش كده.
الدهن في العتاقي برضو يا حاج.
قهقهة أبيه: عندك حق يا واد يا آدم، هي بس حماتك تعملي أكلة كوارع وعكاوي وفتة ولحمة راس زي اللي عملتها في العيد، وأنا هبقا بسرعة ميت حصان.
_ تاني يا علي؟! عكاوي ولحمة راس تاني؟
______
بعد عامين.
ولج البيت يزفر بضجر لتسأله بقلق:
مالك يا آدم داخل تنفخ ليه؟
صاح يشكوها بسخط:
بابا ده خلاص هيجنني.. طول الوقت مستولي على ابني تحت ومش راضي يسيبه، أنا مش عارف ألعب معاه ساعة على بعض.
_ تاني يا آدم؟!
مفيش فايدة فيك مش هتتغير أبدًا.
وبدأت تستمع لوصلة شكواه الساخطة والطفوليه وهي تحتويه بصبر وداخلها تعتقد أن زوجها ربما يحتاج درسًا جديدًا.
______
تمت بحمد الله.