
الفصل الأول..
مع إشراقة هذا الصباح بداية، للخريف المشرق التي تنتظره تلك الأشجار العملاقة بفارغ الصبر، لتتخلص من ورقاتها البائسة كالمرء التعيس الذي يتخلص من أحزان قلبه الغائمة، مثل حال صاحب ذلك القصر العريق، الأربعيني المرغوب من أغلب النساء لما يملكه من ثروةٍ كد بها حتى وصل لعمره هذا، لا يعلمون بأنه يعيش حياة عسكرية، بقوانينٍ وضعها لقصره، فيتحكم بقواعده بحزمٍ وصرامة، يحاول من خلفهما أن يخبئ قلبه من حرقةٍ لا يقو عاشقاً على تحملها.
تسللت خيوط الشمس من خلف الستار الداكن لتنير غرفته ذات الطلاء الأسود ، ليكسر صمتها المخيف صوت رنين المنبه المعتاد سماعه بالنسبةٍ إليه، فرفع يديه ليوقف رنينه المزعج، ثم أزاح غطاء الفراش لينهض عن سريره الوثير، ومن ثم إتجه لحمامه الخاص، فوقف مقابل مرآته ليزيل شعر لحيته الزائد، ومن ثم صفف شعره الأسود الذي يكسوه بعض الخصلات البيضاء التي زادت من وسامة وجهه القمحي، وعينيه البنية التي كانت تتوهج بتحدٍ سافر لضوء الشمس المذهب، فكانت تحاوط حدقتيه البنية خط خفيف من العسل المسكوب، انتهى”عاصي”مما يفعله ثم خرج ليختار إحدى بذلاته الداكنة المعتادة بالنسبةٍ إليه، ثم هبط ليترأس سفرته الكبيرة بمفرده، لم يشعر يوماً بمللٍ يهاجمه، وهو يعيش بمثل ذلك القصر بمفرده لأعوامٍ، في عزلةٍ إختارها هو لذاته، إنتهى من تناول طعامه في تمام الثامنة والنصف كالمعتاد اليه ثم إحتسى فنجان قهوته بالتاسعةٍ الا ربع مثلما إعتاد، ليغادر قصره في التاسعةٍ متجهاً إلى شركته،وما أن وصل السائق لمحل عمله، حتى هبط “عاصي” من سيارته ذات الطراز القديم ليتجه لمكتبه، فهرع إليه السكرتير الخاص به وهو يفتح مفكرته الصغيرة ويخبره بمواعيده الهامة:
_صباح الخير يا فندم، عند حضرتك إجتماع مهم النهاردة بعد ساعتين مع السيد “قاسم خلدون” .
أومأ بخفة برأسه وهو يشير له بحزمٍ:
_خلينا منضيعش وقت، هاتلي الملفات المهمة على مكتبي.
أجابه على الفور:
_حالاً هجبهم لحضرتك.
وكاد بالمغادرة ، ولكنه توقف فور سماعه سؤال سيده:
_”غيث” وصل ولا لسه؟
إستدار تجاهه ثم أجابه:
_ وصل مكتبه من شوية ، تحب أبلغه بحاجة؟
هز رأسه وهو يكمل طريقه لمكتبه:
_لا، روح أنت إعمل اللي قولتلك عليه.
إنصاع إليه ثم أسرع لمكتبه ليختار له الملفات الهامة قبل أن يغادر الشركة.
******
العينين أحياناً تعكس ما بالقلبٍ، ربما تنم عن وجعٍ متعلق بماضٍ ترك أثره مع تلك الأيام التي نختبرها، وربما مازال يلاحق مستقبلك المرهون بتلك اللحظة التي إندث بها الألم ليترك أثراً لن يمحى بتلك البساطة، شرفة عينيه المنطفأة فصحت عما يحبسه خلف رومادية عينيه الداكنة، يحمل أعباء عالم بأكمله على كتفيه، فإنطفئت معالم وجهه الجذاب،ليصبح بلا روح ولا حياة! من الصعب تصديق أن من يقف أمامك شاباً لا يتعدى عمره السادسة والعشرون عاماً، وكأن أحزانه أضافتله عمراً فوق عمره، إستقام بحركةٍ جسده المائل على مقعده المريح،فور سماعه دقات متتالية على باب غرفة مكتبه، فردد بعمليةٍ باحتة:
_إدخل.
إنفتح باب الغرفة ليظهر “عاصي” من أمامه بقوامه الممشق، فقطع المسافة التي تفصله بينه وبين المقعد المقابل إليه، ليجلس بصمتٍ تام دام لأكثر من خمس دقائق، فإرتبك من يجلس أمامه بصورةٍ ملحوظة، حتى أنه فتح حاسوبه وألهى نفسه بتفحصه، ثم قال بصوتٍ حاول إخمد أوجاعه خلفه نبرته الثابتة:
_كنت لسه هعدي عليك، عشان أقولك أن العملا بتوع ألمانيا كلموني النهاردة وآآ..
قطع “عاصي” حديثه، وكأنه يقطع عليه حجج تهربه من الحديث المفترض عليهما الحديث به، فقال:
_ هتهرب لحد أمته من الإجابة على أسئلتي يا غيث!
ترك ما يحمله عن يديه، ثم زفر وهو يجيبه بضيقٍ:
_لحد ما تقدر تستوعب إن اللي بيني وبينها خلاص إنتهى، ومستحيل نرجع زي الأول.
تعمق بنظراته تجاهه، وكأنه يحاول إستكشاف حقيقة الأمر، فتهرب الأخير من هذا اللقاء ربما لأنه ليس مستعداً لتلك المواجهة التي ستفضح حبها الذي يحاول التخلص منه بشتى الطرق، فسحب نفساً مطولاً قبل أن يخرج ما به من ألمٍ يتعمق بنفسه:
_”عائشة” نهت كل شيء كان جميل بينا يا “عاصي”، فالطلاق هو حلنا الوحيد.
انعقد حاجبيه بضيقٍ من إصراره على الطلاق، وكأنه أمراً سلسل بالنسبةٍ إليه، فقال بإنفعالٍ:
_أنا مش فاهم أنت إزاي عندك القدرة إنك تتكلم عن الطلاق بالبساطة دي ومراتك حامل، وكل ده ليه يعني عشان حصل مشادة في الكلام بينها وبين والدتك!
نهض” غيث” عن مقعده، ليرد عليه بعصبيةٍ كبتت بداخله كثيراً وحان وقتها:
_أنت مشوفتهاش كانت بتتكلم معاها إزاي، كان فاضل إنها تمد إيدها عليها لولا أنا اللي دخلت في الوقت المناسب.
ثم إستطرد بعتابٍ قاسي يحمله تجاهه:
_وبعدين أنا شايفك بتدافع عنها وكأن الست اللي إتهانت دي متبقاش خالتك!
أجابه بهدوءٍ:
_أنا مش بدافع عنها ولا واقف في صفها يا “غيث”، أنا عايزك على الأقل تحاول تسمعها، وتبطل تبقى مندفع وعدواني بالطريقة دي.
إرتسمت على وجهه إبتسامة شبه ساخرة:
_أنا مش طايق أشوف وشها عشان أسمعها من الأساس!
ثم عاد ليجذب حاسوبه ليتابع عمله من جديدٍ، فلم يستسلم”عاصي” وقال:
_أنا حزين عليك، صدقيني هيجي الوقت اللي هتندم فيه على اللي بتعمله ده.
رفع عينيه عن حاسوبه ليرد عليه بألمٍ:
_أنا لو حسيت بالندم فده لإني مسمعتش كلام والدتي من البداية وسمحت لواحدة عاشت عمرها كله في ملجأ إنها تدخل حياتي.
هز رأسه وهو يردد بإستسلامٍ:
_النقاش معاك طريقه ملوش رجوع.
وتركه وكاد بالمغادرةٍ فإستدار ليخبره على مضضٍ:
_متنساش المعاد اللي بينا وبين “قاسم خلدون”.
وتركه وغادر دون أن يستدير خلفه مجدداً، يعلم بأنه يحترق بعشقها، ومع ذلك يرفض أن يمنحها فرصة واحدة، فرصة يستمع بها إليها، ليته يمتلك تلك الفرصة لتعود معشوقته من الموت لأحضانه التي باتت مهجورة من دونها!
******
إتجه “عاصي سويلم” بكامل هيبته لمكتبه الخاص، فوضع حقيبته المصنوعة من الجلد الأسود على المكتب ومن ثم ألقى بثقل جسده الرياضي على مقعده وعينيه تبحران بهيامٍ بتلك الصورة الصغيرة المعلقة على طرف مكتبه الخاص، لم تكن مجرد صورة عادية بل سجنه الذي يتسع به عاماً بعد الأخر حتى بات يعتاد ظلامه القاسي، قرب “عاصي” الصورة إليه وعينيه البنية تتعلق بتفاصيل وجهها الذي يحفظه عن قلبٍ هام بها لأعوامٍ، أدمعت عينيه وهو يدفنها بصدره بشوقٍ يقتله رويداً رويداً، يتمنى إن مازالت لجواره تشاركه عشقه القاتل بين أضلاعه، ولكنها أمنية من المستحيل تحقيقها، نعم غادرت تاركة عذاب يبتلعه يوماً عن يوم حتى نقم رغبة الإقتراب من أي إمرأة سواها، لذا أصبح رجل الاعمال الاعزب المرغوب من الفتيات، والاغلب يظنون بأنه يطمح بالمزيد من الثروة والمال لذا استكفى بوحدته ليحقق طموحاته الصاعدة، لا يعلم أحداً بانه فقد قلبه مع من رحلت من ذلك العالم، فتح عينيه على مهلٍ وهو يهمس لصورتها بابتسامةٍ يجاهد لرسمها:
_صباح الخير يا عمري،النهاردة شايف إبتسامتك جميلة وكأنك حاسة إن النهاردة عيد ميلادي الأربعين!
وتمعن بالتطلع لملامحها الرقيقة ثم عاد ليستطرد بحزنٍ:
_النهاردة كملت أربعين سنة، وبالتحديد تمت عشر سنين من غيرك.
لم يشعر بتلك الدمعة الخائنة التي انسدلت على وجهه، فأخرج ما يضيق بصدره:
_عشر سنين وإسبوعين وتلاث ساعات تقريباً، العمر بيعدي ببطء وأنا بعد الأيام عشان ربنا يجمعني بيكِ يا نور عيوني.
واستكمل بصوتٍ مختنق بالدموعٍ :
_أحياناً بسأل نفسي لو مكنش قتل النفس محرم كنت هعمل أيه؟ ، يمكن ذكرياتك هي اللي بتديني القوة عشان أبدأ من جديد.
ومرر اصابعه على شفتيها قائلاً:
_وحشتيني،كل ثانية بتعدي وأنتي بعيدة فيها عني قلبي بيتجلد من الوحدة، بس اللي مصبرني إني حاسس إن لقائي بيكِ قرب يا روح قلبي.
وترك الصورة عن يديه ثم ارتدى نظارته الطبية ليبدأ عمله الذي إنتهى بعدما أنهى إجتماعه الهام بموظفين شركته، ومن ثم إتجه لسيارته ليعود للقصر حتى يبدل ثيابه لاجل موعده المسائي، فما أن صعد “عاصي” لسيارته حتى أخرج هاتفه الذي دق للمرة الثالثة، فابتسم حينما رأى اسم رفيق دربه وزوج اخته الوحيدة، فما أن فتح الهاتف حتى إستمع لصوته المتعصب:
_أنا عايز أعرف أنت بتشيل تليفونات ليه وأنت في الأساس بتتجاهل أي مكالمات تجيلك؟
ابتسامة ماكرة زينت وجهه الجذاب، ومن ثم اتبعها قوله الخبيث:
_ أنت بتبالغ صح! أنا عارف إنك كلمت “مصطفى” السكرتير وقالك أد أيه مشغول يبقى لزمتها أيه اللف والدوران ده!
أتاه رده اللازع:
_أيوه طبعاً كلمته عشان أساله عنك، ده أنا بقيت بكلمه أكتر ما بكلم مراتي، مهو صاحبي مغرور ومش مهتم بيا ولا بمكالماتي المهمة.
إحتضن مقدمة أنفه بيديه وهو يجاهد الصداع الذي سيتسبب له، لذا قال بصرامةٍ:
_قولي اللي عندك يا “عمر” عشان نخلص من محاضراتك..
تنحنح وهو يردد بمرحٍ:
_ممكن أكون بالغت شوية بس ميهمنيش، المهم أختك عايزة تفاجئك في عيد ميلادك وأنت ولا كأني قولتلك حاجة.
ابتسم ساخراً:
_أنا شوفتك فين قبل كده!
ثم استطرد بمللٍ:
_هرتب نفسي الأول وبعدين نشوف.
وأغلق الهاتف وهو يردد ساخراً:
_غبي!
ثم جذب حاسوبه ليلتهي به قليلاً، فإبتسم حينما وجد صورتها تستحوذ على حاسوبه الخاص كما تستحوذ عليه هو شخصياً، فغامت عينيه بذكراها التي لم يمل منها يوماً.
##
_قولي أنت أمته هتفضالي!، أنت دايماً مشغول يا “عاصي”.
ابتسم وهو يخبرها بحنانٍ:
_إزاي أنشغل عنك وأنتِ على طول بتقتحمي أوضة الإجتماع والغضب مسيطر على عنيكِ لدرجة أن الموظفين أخدوا على كده فمبقاش حد فيهم بيقفل الباب!
لوت شفتيها وهي تخبره بسخطٍ:
_أحسن خليهم يتعودوا، مهما هيقسموني فيك بعد الجواز..
تعالت ضحكاته الرجولية وهو يشير لها بمكرٍ:
_ثواني بس، أنا شامم ريحة حريق جاية من عندك، خلينا نروح للدكتور ونطمن إنك بخير.
جزت على أسنانها غضباً ومن ثم جذبت أوراق الملفات التي تملأ مكتبه لتلقيها بوجهه وهي تردد بعصبيةٍ:
_النار دي هتحرقك إنت يا”عاصي”.
حاول حماية وجهه من الأوراق المتطايرة، فجذبها لأحضانه وهو يردد بخبثٍ:
_هتحرقنا مع بعض يا عمري.
عاد من شروده حينما تساءل السائق بإستغرابٍ لبقائه المطول بالسيارةٍ:
_وصلنا يا باشا، ولا حضرتك تحب نروح مكان تاني!
أفاق من دوامة ماضيه والبسمة الفاترة مازالت مرسومة على وجهه، فهبط ليتجه لغرفته، ومن ثم إختار بذلة سوداء أنيقة، وإغتسل ليستعد للقاء “قاسم خلدون” رجل الاعمال الشهير، فتلك الصفقة تعد من أهم ما ستحققه شركات “عاصي سويلم” وخاصة بالشراكة معه، وقف أمام مرآته المطولة ليعدل من جرفاته الرمادية، ثم نثر البرفنيوم الخاص به على بذلته، ولحيته النابتة، ليلقي نظرة أخيرة على ذاته قبل أن يتجه للاسفل، فجلس ينتظر ابن خالته، زفر “عاصي” وهو يتفحص ساعة يديه بضيقٍ، فإتصل به وحينما لم يجد رداً،همس بسخطٍ:
_متأخر ومبيردش كمان عظيم!
وجذب كوب قهوته الذي وُضع من أمامه ليرتشفه على مرتين، عله يكبت غيظه، فمرت أكثر من نصف ساعة ثم إستمع لصوت سيارته،فخرج ليجده يقف من أمامه، هبط الدرج بثباتٍ حتى بات يقف مقابله، فقال بغضبٍ:
_لو مكنتش حابب تيجي كان ممكن تبلغني بده، مش تسبني بستناك لحد دلوقتي وأنت عارف إني مبحبش أتاخر عن مواعيدي.
تحكم “غيث” بإنفعالاته بصعوبةٍ، ثم قال بسكونٍ عجيب:
_أنا معرفش نسيت المعاد إزاي.
لانت معالمه حينما شعر بحالةٍ التخبط التي يختبرها، فصعد بالمقعد الأمامي المجاور له ثم قال:
_طيب يالا عشان منتأخرش أكتر من كده.
إنصاع إليه ثم صعد ليحرك به على الفور للفندق المنشود، فما أن وصلوا حتى وجدوا “قاسم” باستقبالهم هو وأبيه وعمه، والجميع يرحب به بهيبةٍ وقار، ليشير له “قاسم” على تلك الطاولة الضخمة التي أعدت خصيصاً إليه، ليجذب الجرسون أحد المقاعد التي إحتلها بهيبته الوقورة، ولجواره جلس “غيث”، فلس الاب والعم و”قاسم” مقابله ليبدأ بالحديث:
_مبروك علينا شراكة زي شراكتك يا عاصي باشا.
إكتفى برسم إبتسامه صغيرة له، فإستكمل” قاسم” قائلاً:
_عشان كده هستغل المناسبة المهمة دي، ويبقى الإحتفال إحتفالين بخطوبتي أنا و”لوجين”..ولا أيه رأيك يا عمي؟
بدأت الصدمة جلية على وجه عم “قاسم”، فإبتلع ريقه بصعوبةٍ ملحوظة، ومع ذلك حاول السيطرة على إنفعالاته وهو يجيبه:
_زي ما تحب يا إبني… هروح أبلغ “لوجين” عشان تستعد.
شعر “عاصي” بأن هناك خطباً ما بين العم وابن أخيه، ولكن لم يعنيه الأمر كثيراً، فالمهم بالنسبة إليه أنه تمم الصفقة الهامة، فأراد أن يغادر لذا إنحنى برأسه تجاه “غيث” ثم همس إليه:
_العقود كلها تمام، ملهاش لزمة قعدتنا هنا.
أجابه “غيث” وهو يتفحص من جواره حتى لا يستمع إليهما أحداً:
_شكلها مش هيبقى ظريف لو مشينا دلوقتي، خصوصاً إنه قالك بنفسه!
ثم استطرد بعد لحظات إستكشف فيها ردة فعله:
_خلينا شوية ولما يعلن خطوبته نبقى نمشي على طول.
هز رأسه بإقتناعٍ، ثم جلس باستقامةٍ تليق به، فنهض “غيث” عن مقعده ليشير إليه وهو يهم بالإبتعاد:
_ثواني وراجع.
مرت دقائق بسيطة إنتاب الحفل حالة من الهرجٍ والمرج، الجميع يركض هنا وهناك، وعبارة واحدة تتردد على الألسنة”اختفت العروس! “.
كان الأمر غريباً بعض الشيء وبالأخص برود “قاسم” الذي بدى للجميع إعتياده على هروبها الدائم من خطبته التي ألغيت أكثر من مرة، فرفع “عاصي” كوب العصير ليرتشف منه، لعل ريقه الجاف يزداد رطوبة قليلاً، فتوقف بحلقه في صدمةٍ مما شعر به، فإتجهت عينيه لاسفل الطاولة حينما شعر بيد تشدد على بنطاله، فوزع نظراته حوله بتفحصٍ، وما أن تأكد بإنشغال الجميع بالبحث عن العروس، حتى رفع بمقدمة حذائه غطاء الطاولة الأبيض الطويل، ليتفاجئ بمن تختبئ أسفلها!، وجد فتاة تجلس أسفل طاولته، عينيها تشبه الليل الساكن في ليلة سمائها صافية، خصلات شعرها البنية القصير يلتف حول رأسها على شكل دائري فيمنحها مظهر بريء ، وبالرغم من جمال تلك الحورية ذات الجمال الرقيق الا انه لم يرمش له جفن، وكأنه مسحور تجاه إمرأة أخرى، فرفع عينيه ليتابع المارة بنظرةٍ متفحصة قبل أن يعود لسؤالها:
_أنتِ مين؟ وبتعملي أيه هنا؟
أجابته بصوتٍ هامس، وكأنها تخشى أن يستمع إليها أحداً:
_زي ما أنت شايف مستخبية تحت التربيزة عشان “قاسم” الغبي ميشوفنيش، أما إجابة سؤالك الأول مقتصرة على الأجابة الأولى أنا العروسة اللي قالبين عليها الدنيا.
إبتسم رغماً عنه على جملتها الأولى وسبها لابن عمها دون خوفاً، فعاد ليسألها من جديدٍ:
_وإشمعنا تربيزتي أنا بالتحديد؟
أجابته بإبتسامةٍ واسعة رسمتها بلباقةٍ، إستطاع أن يلمسها “عاصي” بحديثها:
_مش عارفة ، يمكن لإن شكلك راجل شهم، وهستساعدني بالهروب من هنا، يعني مش من المنصف بالنسبالك إن بنت تتجوز راجل مبتحبوش غضب عنها وقلبها ملك لشخص تاني.
سألها ساخراً:
_والشخص ده فين!
رفعت كتفيها وهي تجيبه بطفوليةٍ:
_ مش عارفة المفروض إنه يكون هنا عشان نهرب، ولحد ما ده يحصل المفروض متتخلاش عني.. أرجوك ساعدني بالخروج من هنا.
تقوس جبينه بحيرةٍ مما يستمع إليه، فلم يكن ينقصه سوى تلك الكارثة، فقال بتأففٍ:
_وهعملها إزاي دي!
أجابته على الفور، وكأنها تعرف السؤال من قبل أن يطرحه:
_كل اللي عايزاه منك جاكت بدلتك الجميلة دي، وبعدها هطلع معاك على برة وكأني كنت جاية معاك من البداية.
جز على شفتيه السفلية بأسنانه وهو يهمس بسخطٍ:
_بتهزري صح! أنتي عارفة أنا مين؟
ضمت شفتيها معاً بحيرةٍ، فأعاد غطاء الطاولة سريعاً حينما عاد “غيث” لمقعده،فضيق عينيه بإستغرابٍ حينما وجده يتطلع إليه بملامحٍ جامدة، فتساءل بدهشةٍ:
_في أيه؟ هي الخطوبة لسه مبدأتش!
هز رأسه نافياً وهو يخبره بسخريةٍ:
_هتبدأ إزاي والعروسة هربت.
صعق “غيث” مما إستمع إليه، فردد بذهولٍ:
_هربت على فين!
أشار بعينيه تجاه قدميه بإستهزاءٍ، فانعقدت معالمه بدهشةٍ، فرفع غطاء الطاولة ليكسو وجهه صدمةٍ وخاصة حينما ترجته “لوجين” بألا يصدر أي ردة فعل قد تدلهم على مكانها، فأعاد الغطاء مرة أخرى،ثم رسم إبتسامة مصطنعة حتى لا يلفت إنتباه أحداً إليه، كبت “عاصي” ضحكاته بصعوبةٍ ثم قال:
_ابتسامتك الجميلة دي اللي هتفضحنا.
تجاهل سخريته اللازعة،ثم سأله بجديةٍ:
_ناوي تعمل أيه!
رفع كتفيه باستسلامٍ للمصير الذي ألقاها في طريقه، فقال الأخير بإنزعاجٍ:
_لا أوعى تعملها يا “عاصي”، أنت متعرفش”قاسم خلدون” ممكن يعمل أيه!
أدلت برأسها من خلف الغطاء وهي تنهره بشدةٍ:
_ممكن متتدخلش في موضوعنا يا حضرت، الإستاذ هو اللي هيساعدني مش أنت.
صعق “غيث” من حدة لسانها السليط، أما “عاصي” فإبتسم وهو يردد ساخراً:
_وأنتي قررتي بالنيابة عني!
هزت رأسها عدة مرات، فدفع “غيث” رأسها للأسفل حينما دنا منه “قاسم”، الذي أشار لهما بحرجٍ:
_”عاصي” باشا، أنا بعتذر من حضرتك على اللي حصل ده، أنا عارف إن في عقود متوقعتش لسه بس حضرتك بنفسك شوفت اللي حصل.
ربت على كتفيه بهدوءٍ ثم قال:
_بعدين هنتكلم المهم دلوقتي تدور على بنت عمك الأول.
أجابه باستياءٍ حينما تذكرها:
_ البنت دي هتجنني أكيد، كل ما بأعلن عن خطوبتنا بتختفي زي الشبح!
كبت “عاصي” ضحكاته وهو يرأها تدلي برأسها من أسفل الطاولة وترمقه بنظراتٍ قاتلة، فسأله “غيث” بإهتمامٍ :
_هي هربت قبل كده؟
رد عليه بضيقٍ:
_من كتر ما الهروب بقى عادة عندها مبقتش عارف عدد المرات.
ابتسم “عاصي” وهو يخبره :
_طيب ليه مش بتدور على ست غيرها تقدرك وتكون عارفة قيمتك!
أجابه بابتسامةٍ نبع بها العشق المجنون:
_ياريت كنت أقدر، أنا محبتش ولا هحب غيرها.
ضحك “عاصي” بصوته كله وهو يراها تحمل سكيناً التقطته من أعلى الطاولة وتشير به على عنقها وهي تردد بصوتٍ استمع له جيداً:
_الموت رحمة ليا منك يا غبي.
تعجب من ضحكه الغير مبرر بالمرةٍ، فاستوعب الأخير الأمر، وسرعان ما إستعاد ثباته سريعاً وبملامحٍ جادة قال:
_بتمنى أنك تلاقيها في أقرب وقت ويمكن بعد كده تكتسب خبرة في التعامل مع هروبها ده.
ودعه وهو يهم بالخروج للبحث عنها، وما أن غادر “قاسم”، حتى عاد” عاصي” ليجلس محله من جديدٍ، وهو يهمس بصوتٍ منخفض لغيث:
_راح يدور على المشاغبة اللي مطلعة عينه وهي مستخبية زي القطة تحت التربيزة!
أخرجت رأسها إليه وهي تشير له باستعطافٍ:
_الفرصة دلوقتي مناسبة، هات بقا جاكيتك.
إحتدت نظراته تجاهها، فقالت بحزنٍ مصطنع:
_ساعدني ومش هوريك وشي تاني والله، خرجني بس من هنا وأنا هتصرف.
منحه “غيث” نظرة تحمل معاني الاستغاثة والتوسل بالا يرتكب هذا الفعل المتهور، فخذله بنظراته، فلم يعتاد يوماً التخلي عن أحداً يطالبه بالمساعدة، لذا رضخ لها وخلع جاكيته ليكوره بغيظٍ وهو يقدمه لها، فلم يعتاد ابداً على خلع جاكيت بذلته بمكانٍ هام كذلك، لا يعلم بأن تلك المشاغبة جعلته يجتاز فقط أول قوانينه أما القادم فسيجعله في حالةٍ عدم استيعاب، إرتدت “لوجين” الجاكيت، فإبتعد عنهما “غيث” ليراقب الطريق، بينما تنحى “عاصي” بمقعده للخلف، ليشير لها:
_ إخرجي يالا.
خرجت من أسفل الطاولة لتقف جواره ومن ثم تعلقت بيديه وخطاهما السريع يدنو من سيارة “غيث” المصفوفة بالخارج، فصعدت جواره بالخلف، فقاد “غيث” سيارته مسرعاً بالإبتعاد عن الحفل، ومازال لا يستوعب كيف حدث ذلك؟ وماذا سيحدث لو كشف “قاسم” ما حدث هنا!
فلم يجده الوقت المناسب للتفكير، لذا انطلق على الفور، فما أن إبتعدت سيارته عن الفندق بمسافةٍ معقولة، حتى إنطلق صوته الصارم يؤمره:
_وقف العربية يا “غيث”..
إنصاع إليه وتوقف بالسيارة، فإستدار تجاهها ليشير لها ببرودٍ :
_بقيتي في أمان، يالا إنزلي.
لعقت شفتيها بارتباكٍ وهي تسأله بصدمةٍ:
_أنت هتسبني هنا لوحدي!
استدار تجاهها ثم قال بسخريةٍ:
_وأيه اللي المفروض أعمله تاني؟
رفعت كتفيها ببراءة مصطنعة:
_مش عارفة.
ثم قالت:
_بس على الأقل اعطيني تليفونك إتصل عليه عشان يجي.
جز على اسنانه بعصبيةٍ بالغة، على تلك الكارثة التي بلى نفسه بها، فجذب هاتفه من جيب بنطاله ليضعه أمامها بضيقٍ:
_إتفضلي..
تناولته منه وهي تردد بابتسامةٍ عابثة:
_شكراً يا آ…
ثم تساءلت باستغرابٍ:
_أنت إسمك أيه؟
قال بسئمٍ:
_مش مهم.
رددت بغضبٍ:
_أنت قليل الذوق بس أنا أفضل منك..
ثم مدت له يدها وهي تقول بابتسامةٍ سحرته:
_أنا “لوجين”.
ابتسم وهو يردد ساخراً:
_متقلقيش الحفلة كلها عرفت إسم العروسة الهربانة..
كبتت غضبها غيظاً، فكادت بأن تتحدث مجدداً فقطعها حينما ألقى هاتفه بوجهها وهي يشير لها:
_إتصلي بيه وخلصيني، أنا عندي معاد مهم.
جذبت الهاتف منه ثم بإرتباكٍ، فحاولت الاتصال برقمٍ كتبته بعشوائيةٍ وهي تراقب انفعالات وجهه ثم قالت بايتسامة واسعة حينما استمعت لصوت المتصل:
_أهلاً، أنت “وسيم”؟
انعقدت تعابيرها بغضبٍ وهي تستطرد:
_إنت وقح أوي على فكرة، أنا مش بعاكسك أنا بسألك عن إسمك بس.
وانتظرت لسماع الطرف الاخر ثم قالت بتعصبٍ شديد:
_خلاص إقفل التليفون والا هقطع رقبتك يا بجح.
وأغلقت الهاتف ثم دفعته تجاه” عاصي” الذي يتطلع لها هو و”غيث” بصدمةٍ، فقالت وهي تتطلع له بخجلٍ:
_في الحقيقة يعني أنا معنديش حبيب أهرب معاه، أنا قولتلك كده عشان تهربني من المكان ده..
احتدت معالمه بغضبٍ، بينما جحظت عين “غيث” في صدمةٍ حقيقية، وهو يرى تلك الفتاة القصيرة تتلاعب “بعاصي سويلم”، الذي لم يجرأ أحداً على فعلها من قبل، فراقب ما يحدث بالخلف عبر المرآة بإهتمامٍ، ليجده يشير على الباب وهو يردد بصوتٍ حاد:
_إنزلي من العربية حالاً.
تطلعت ليديه المشيرة على الخارج ثم قالت بحزنٍ مصطنع:
_بتتخلى عني بالسهولة دي، كنت فاكراك رجل شهم وهتساعد بنت بريئة لجأت ليك بس أنت في النهاية طلعت زي”قاسم” الغبي، متفرقش عنه كتير.
ثم تركته وهبطت من السيارة لتقف جانباً وهي تتصنع البكاء، مما جعله يلكم نافذة السيارة وهو يردد بضيقٍ شديد:
_هو يوم باين من أوله.
وفتح باب السيارة مجدداً، ثم هبط ليقترب منها قائلاً باستسلامٍ:
_طيب خلاص هساعدك، بس مش هقدر أسيبك في بيتي غير تلات أيام بس تكوني دبرتي فيهم أمورك..
ورفع أصبعيه ليشير لها بتحذيرٍ حينما رأى الفرحة تتسلل إليها:
_ومتحلميش بأكتر من كده.
صفقت بيدها كالطفلة الصغيرة وهي تخبره بفرحةٍ:
_حلوين هكون دبرت أموري..
أومأ برأسه ثم قال بهدوءٍ وهو يتحاشى نظرات “غيث” المندهشة:
_إركبي..
صعدت “لوجين” للسيارة بإبتسامةٍ نصر، فوزع نظراته بينهما مجدداً ليجد “عاصي” يشير إليه:
_إطلع يا “غيث”، قبل ما حد يأخد باله من البلوة اللي معانا.
كتم غيظه تجاه ما يحدث ثم سأله بحدةٍ:
_على فين!
حك مقدمة رأسه بضيقٍ، حينما تناسى أمر”عمر” وشقيقته، لذا قال على مضضٍ:
_إطلع على بيت “إيمان”.
لم يناقشه فيما قال،وتحرك به تجاه وجهته،لتتوقف السيارة أسفل أحد البنايات الراقية، المطعم لونها بالأبيض والرمادي، فقالت “لوجين” وهي تتطلع لاعلى البناية باعجابٍ:
_إنت ساكن هنا!
لم يجيبها، بل قال بصرامةٍ:
_لسه محتاجة الجاكت في حاجة!
فهمت مغزى حديثه، فخلعت جاكيته ثم منحته إياه، فإرتداه على الفور، لينحني تجاه نافذة السيارة ثم قال بصوتٍ منخفض:
_متفكرش كتير كان لازم نساعدها.
حدجه “غيث” بنظرةٍ ساخرة ثم قال:
_ساعدها وإخسر صفقات بالملايين.
إبتسم وهو يجيبه بثقةٍ:
_إحنا اللي مكسب ليهم مش هما.
ثم أشار له بيديه:
_أشوفك بكره، تصبح على خير.
وإنتصب بوقفته ليغادر “غيث” على الفور، وتحرك هو ليصعد الدرج متجهاً للطابق العلوي، فصعدت “لوجين”، دق الجرس مرتين متتاليتين، ثم وقف ينتظر إجابة أحداهما فقالت بإستغرابٍ:
_أنت مش معاك مفتاح ولا أيه؟
لم يجيبها وظل صامداً كشموخ الجبل،حتى فتح رفيقه باب المنزل ثم قال بصوتٍ مرتفع حتى تسمعه زوجته:
_”عاصي” أنت إتاخرت كدا ليـــــه!
أنا مش مكلمك وقايلك تعالى ندردش شوية مع بعض، جايلي نص الليل!
لم يجيبه بل دفعه بالقوةٍ للداخل، حتى يسمح لمن تقف خلفه بالدلوف للداخل، فوقفت “عمر” وشقيقته يتطلعون لمن تقف خلفه بصدمةٍ، وبأنٍ واحد قالوا:
_مين دي!
……….. يتبع……..
#الأربعيني_الأعزب_ببقلمي_ملكة_االابداع_آية_محمد_رفعت.
موعدنا يوميًا الساعة السادسة مساءًا… متنسوش دعم اللايك والكومنت لانه بيحمسني في بداية كل رواية ❤
الفصل الثاني.
إزدحام إشارة المرور جعله في حالةٍ من الفتورٍ، فأسند رأسه على مقعد السيارة في مللٍ، فمر من جواره دراجة نارية تحمل رجلاً وعلى ما يبدو بأن من تجلس خلفه زوجتـ,ـه، إنتبه “غيث” لبطنها المنتفخة، وتمسك يدها بحافةٍ الدرجة خشية من أن تسقط من فوقها فيتأذى جنينها، حتى زوجها كان يراقبها بين الحين والأخر بقلـ,ـقٍ، حتى خف الإزدحام من أمامهما فقاد على مهلٍ، مراعاة لحملها، سيطرت عليه في تلك اللحظة غيمة من الحزنٍ على حاله، يلوم نفسه أحياناً بأنه سمـ,ـح لقلبه أن يحبها، وكعادته كلما يأتـ,ـي ذكرياتها يحاول أن يهرب منها حتى لا يضعف، فأمسك بمقودٍ سيارته ثم تحرك بها، حتى وصل للبناية التي يقطن بأحد زقاقها، فصف سيارته ثم صعد للأعلى وهو يدعو الله أن لا تكون والدته مازالت مستيقظة، فخطى الدرج مسـ,ـرعاً للطابق الرابع، ولكنها كعادتها فتحت باب شقتها وأوقفته حينما نادته قائلة:
_إتاخرت كده ليه يا حبيبي!
جز على أسنانه بغيظٍ، فكم لعن نفسه بأنه إستأجر شقـ,ـة في نفس العمارة التي تسكن بها والدته، فإستدار تجاهها وهو يرسم إبتسامة هادئة:
_كنت مع “عاصي” يا أمي.. وراجع تعبـ,ـان وحقيقي مش قادر أقف.
عقدت “سمية” حجابها حول رأسها بإهمالٍ، ثم أسـ,ـرعت تجاهه لتسأله بلهفةٍ عما انتظرته لأجله:
_طب قولي عملت أيه في الموضوع اللي كلمتك عنه؟
جز على شفتيه السفلية بقوةٍ، ثم مرر يديه على خصلات شعره الطويلة نسـ,ـبياً قبل أن يجيبها بضيقٍ:
_أنا قولت لحضرتك قبل كده أنا مبفـ,ـكرش في الجواز تاني.
إنكمشت تعابيرها الباسمة بحزنٍ، لتردد بعصبيةٍ:
_أوعى تكون لسه بتفكر في تربية الملاجئ دي، والله يا “غيث” لو رجعتها تاني لا تبقى ابني ولا أعرفك.
زفر بحنقٍ، وهو يوضح لها سريعاً:
_يا ماما أنا لا هرجعها ولا هتجوز تاني، أرجوكي سبيني أطلع إرتاح بقا.
سكن السرور والفرحة خلاياها، فربتت على كتفيه برضا:
_إطلع يا حبيبي، ونبقى نكمل كلامنا بعدين.
تماسك بصعوبةٍ وهو يستمع لإصرارها بالحديث عن أمر زواجه للمرة التي تعدت الثلاثون، ولكنه الآن لا يملك طاقة لخوض مجادلة عصيبة معها، فإستكمل طريقه للأعلى بصمتٍ تام، حتى وصل لشقته أخيراً، فدث مفاتحه بالباب ثم كاد بفتحه، ولكن سماعه لصوتٍ مألوف إليه جعل يديه تتجمد أطرافه المتمسكة بالمفتاح، وخاصة حينما عادت لتناديه مجدداً:
_”غيث”.
القرار الذي سيتأخذه تلك المرة صعب للغاية، إن إلتفت تجاه مصدر الصوت القادم من الدرج الجانبي ربما سيرى صاحب الصوت، أيعقل أن يكون يتوهم ذلك!
مهلاً أذنيه تلتقط صوت شهقات خافتة لبكاءٍ، علها حقيقة ستستهدف غضبه المحتبس بداخله طوال تلك الأشهر، لعق شفتيه بلسانه ليمنحهما رطوبة تزيل قسوتهما، قبل أن يستدير ليصبح مقابلها، نعم وجدها تجلس على الدرج وعلى ما يبدو بأنها هنا منذ فترة طويلة، إستندت بيدها على دَرْبَزِين الدرج، حتى استقامت بوقفتها، كان يعتقد بأنه سيندفع بالسباب العنيف فور رؤياها، كان يستعد لذلك قبل لحظاتٍ، ولكنه فور أن رأها سُلبت الكلمات منه، ربما عينيه تشتاق لرؤياها، وقلبه لسماعٍ دقات قلبها، وجسده يتلهف لقربها منه، فإزدحمت رغباته لتهاجمه بضمها بتلك اللحظة، أصبحت هزيلة كثيراً عما كانت، ويبدو عليها إرهاق الحمل الذي ترك أثره أسفل عينيها السوداء، إنخفضت عينيه تدريجياً تجاه بطنها المنتفخة، الآن هي بشهرها الثامن، نعم يعلم ذلك ويعد لها باليوم، مازال يتذكر اليوم الذي علم به بحملها، ولكن خانته تلك الفرحة فتسببت له بوجعٍ بعدها بإسبوعٍ واحد حينما عاد مبكراً من العمل ليراها ترفع صوتها على أمه حتى أنها كادت برفع يدها عليها، إستحضاره لذلك المشهد الذي لم ينساه أبداً جعل عينيه يستحوذهما شرارة مخيفة، بترت كل ما يحمله تجاهها من شوقٍ دفن مع الذكريات الجميلة التي جمعتهما سوياً، فتحرر لسانه ناطقاً بقسوةٍ:
_جاية ليه؟
فركت يدها وهي تقترب منه بإرتباكٍ، وبصعوبةٍ قالت:
_آآنا… كنت… آآ..
قاطعها بجفاءٍ، وكأنه لم تجمعهما علاقة يوماً:
_الإيجار اتدفع ومصاريف الشهر اتبعتتلك وبزيادة، مش شايف مبرر لزيارتك دي!
إنهمر الدمع من حدقتيها التعيسة، فخرج صوتها مختنق بالدموعٍ:
_أنا مش عايزة الشقة ولا فلوس.
رفع حاجبيه وهو يتساءل ساخراً:
_أحب أسمع اللي عايزاه.
أزاحت العبارات اللامعة بأهدابها قبل أن تجيبه بقوةٍ تحاول التمسك بها:
_عايزاك تعرف الحقيقة مش أكتر.
رد عليها بنفس حالة الجمود التي تستحوذ عليه:
_اللي هي!
رغم جفائه بالحديث معها، الا أنها لم تتوقع الا ذلك، فالتقط نفساً مطولاً قبل أن تخوض معه تلك الحرب التي ستستنزفها نفسياً:
_من أول ما دخلت البيت ده ووالدتك مش متقابلة وجودي، كل ما بتشوفني تحت بتقولي كلام صعب على أي حد يستحمله وفي اليوم ده قالتلي آآ…
قطع حديثها حينما إقترب ليصبح قريباً منها، فارتدت للخلف بخوفٍ، فحدجها بنظرةٍ قاتلة قبل أن يلحقها صراخه:
_وده يديكي الحق إنك تحاولي تمدي إيدك عليها، أنا اللي غلطت من البداية لما دخلتك البيت اللي عمرك ما كنتي تحلمي بيه، أنا السبب في الغلط ده وأنا اللي هصلحه..
ثم أشار لها بيديه وهو يستطرد بإنفعالٍ:
_أوعي تفكري إني عشان لسه مطلقتكيش لحد دلوقتي أبقى لسه باقي عليكي، أنا مستني اللحظة اللي تولدي فيها وأخد ابني بعد كده متلزمنيش.
طعنها بخنجرٍ سن نصله واستهدف صدرها ليصل لقلبها، شعرت في تلك اللحظة بدوارٍ مفاجئ يهاجمها، فخشيت أن تفقد وعيها أمامه فيظن بأنها تستعطفه، لذا تركته وهبطت أول درجات الدرج، فإحتد بها الدوار حتى أنها خشيت السقوط عن الدرج فتفقد الرابط الوحيد الذي يجمعها به، لذا إختارت حل وسط لتكون منقذ لها، فجلست محلها على الدرج لتسبح في غياهب الظلام التي إبتلعتها، ذابت طبقة البرودة التي يتخفى خلفها، حينما رآها مغيبة عن الوعي، فأسرع تجاهها ثم حملها بين ذراعيه، ليتجه لشقته مجدداً، فحرر المفتاح العالق ببابه ثم ولج بها للداخل، ليضعها على الفراش، وجذب هاتفه ليطلب الطبيب على الفور.
بمنزل “عمر”.
إستحوذت الصدمة عليهما، فلأول مرة منذ سنوات يصطحب “عاصي سويلم” فتاة معه، كانت “هند” الإمرأة الاولى والوحيدة بحياته، وكلما حاولت شقيقته “إيمان” أن تجد له عروس مناسبة إليه، ولكنه رفض في كل مرة أتت له بفتاة مختلفة، وأخبرها بأنه لا يفكر بالارتباط بعد موت خطيبته وحبيبته “هند”، وهي الآن تراه يقف أمامها وبصحبته فتاة جميلة للغاية، تجاهل”عاصي” السؤال المطروح، فعادت شقيقته لتسأله من جديدٍ:
_مين دي يا”عاصي”؟
ابتسمت وهي تقترب منها، لتجيبها بابتسامةٍ عذباء:
_أنا”لوجين” ، وأنتي إسمك أيه؟
انتقلت نظراتها المتعجبة تجاهه، ومن ثم أشارت له هامسة:
_قولي يا “عاصي” مين دي؟
جذبهما برفقٍ للغرفة القريبة منه، وأغلق بابها ليلتفت إليهما ومن ثم قص على مسماعهما ما حدث، فقال “عمر” بصدمةٍ:
_سيبني أركز بس في اللي قولته، يعني البنت اللي برة دي تبقى خطيبة “قاسم خلدون” اللي المفروض في صفقة هتم بينكم في نفس اليوم اللي كان فيه خطبتهم، فخطفتها أنت لأنها مش عايزة تتجوزه، أيه الورطة السودة دي!
ابتسمت “إيمان” لتقطع حديث زوجها بحماسٍ بعد تفكير جعلها تنجرف بعيداً:
_ كل قصص العشق والغرام بتبدأ بأحداث زي دي بالظبط، أنا دلوقتي متفائلة بالبنت دي وحاسة إنها هتعمل اللي فشلنا إحنا فيه.
استدار تجاهها”عاصم” ثم صاح بها بانفعالٍ:
_إهدي يا “إيمان”،مفيش حاجة من اللي بتقوليها دي هتحصل، قولتلك ألف مرة إن قلبي مات في اللحظة اللي “هند” ماتت فيها..
ثم تركها وخرج من الغرفة ليجلس على الاريكة مقابل”لوجين” التي تنتظرهما بالخارج، فما أن جلس جوارها حتى قالت بخجلٍ:
_أتمنى أني مكنش سببتلك إحؤاج مع عيلتك .
لمس بحديثها خجل يتخفى خلف نبرتها الهادئة، وها قد إستكشف بها جانب جديد جوار مشاكستها وجرائتها التي أثارت اعجابه، لم ينكر بأن تلك الفتاة بها شيئاً يثير إعجابه، ولكنه علل لذاته بأنه لم يتخلى عن أحداً قط حتى يتخلى عنها وهي بحاجة لمساعدته، فقال بصوته الرخيم:
_لا أبداً… إختي كانت عايزة تطمن عليا بس.
قاطع “عمر” الهمس المتلهف بينهما، حينما قال بترددٍ:
_إتفضلوا جوه..
لم يفهم “عاصي” لماذا يريد منه الدخول، فغمز بعينيه وهو يخفض من صوته خشية من أن تستمع له زوجته:
_المفاجأة اللي قولتلك عليها، أنت لحقت تنسى ولا أيه؟
إبتسامة شبه ساخرة رسمت على محياه على طريقته بالحفاظ على سر زوجته، فنهضت “لوجين” عن مقعدها وهي تشير إليه بحماسٍ:
_مفاجأة أيه دي،قولي بسرعة.
أشار لها بأن تتبعه، فأتبعته للداخل ومن خلفهما “عاصي”، فوجد شقيقته قد زُينت الغرفة بأكملها بالبلالين الحمراء، والشموع، ووضعت طاولة كبيرة بمنتصف الغرفة، تحوى قالب عملاق من الكعك المغرق بالشوكولا الشهية، وكتبت على سطحها بالكريمةٍ
“عيد ميلاد سعيد عاصي”…
تطلع تجاهها وهو يمنحها ابتسامة حنونة، فلم يعد يملك بهذا العالم سواها هي وأصدقائه”غيث” و”عمر”، لا يعلم ماذا كان سيفعل بدونهما!
ساد الصمت بينهم حتى طوت صفحته صفقات تلك الفتاة واتبعها صياحها:
_أنا هنا في الوقت الصح، يالا نقطع الكيك لأنه شكله يجوع بصراحة.
ابتسمت لها “إيمان” بلطفٍ، ثم قالت:
_تعالي نجيب السكينة وأطباق..
أومأت برأسها بخفةٍ ومن ثم اتبعتها للمطبخ ومازالت نظرات “عاصي” تتبعها بدهشةٍ،فسرعان ما تأقلمت مع إناس تراهم لأول مرة، تتابعتها نظراته حتى خرجن من الغرفة، فأسرع “عمر” تجاهه ثم جذبه على الأريكةٍ ليردف بشكٍ:
_إنت هتقولي الحقيقة ولا أجيبك يوم عندي في عيادتي ووقتها مش هتخبي حاجة، فتعالى دغري كده وقولي مين البت دي؟
أبعده “عاصي” عنه ثم قال بسخريةٍ:
_فاكر إن كلامك الساذج ده هيجيب معايا نتيجة زي ما بيجيب مع المختلين اللي بتعالجهم لا فوق.
رد عليه بضيقٍ:
_وظيفتي اللي مش عجباك دي بتجبرني أنبش في ماضي الناس وحاضرهم يا أسناذ، لإني دكتور في النهاية.
دفعه بشراسةٍ قبل أن يجيبه:
_يبقى تمارس مهنتك الغبية دي بعيد عني والا هقطع رقبتك،فاهم يا دكتور!
إبتعد عنه ببعض الخوف:
_إهدى، ده مجرد نقاش عادي، إنت انزعجت ليه كده!
إستقام “عاصي” بجلسته ثم عدل من قميصه، لينتبه كلاً منهما لصوت الضحكات المرتفع الذي يقترب، حتى بات بالغرفة نفسها، فما كانت سوى ضحكات “إيمان” و”لوجين”المرحة بعدها تعرفت كلا منهن على الاخرى، فكونت صداقة سريعة بوقتٍ لم يستغرق الثلاث دقائق!
إنتهى الطبيب من فحصها، ثم جذب دفتره الخاص ليدون بالرُوشِتّة بعض الأدوية، ثم قدمها إليه وهو يخبره بعمليةٍ:
_الدوخة اللي عندها دي سببها الإجهاد وسوء التغذية، عشان كده كتبتلها شوية فيتامنيات، والأفضل إنها ترتاح خالص وتنام على السرير لحد ما تدخل في التاسع على الأقل.
شكره “غيث” وقدم له مبلغ من المال، وإتبعه للخارج، ثم طلب الدواء من الصَّيْدَلَةِ القريبة منه هاتفياً، وما أن أغلق هاتفه حتى ألقى بثقل جسده على أحد المقاعد، يحاول التفكير في مخرج لهذا الأمر، فهي وحيدة بهذا العالم، لا تمتلك أماً ولا شقيقة، حتى ابنة خالته وصديقتها الوحيدة تخوض نفس المعاناو مع حملها المرهق، هل سيزيد مسؤولياتها بمسؤولية زوجته، ربما يحتمل المخاطرة بها حينما تعود لشقتها التي إستأجرها لها ولكن كيف سيخاطر بإبنه الذي تحمله بأحشائها!
الأمر ليس سهلاً، لذا لم يملك أي خيارات قد تخرجه من مأزقه، لذا نهض ليتجه للمطبخ ثم أعد لها بعض الطعام الطازج، ليحمله ويتجه لغرفة نومه مجدداً، فوضعه على الكومود المجاور لها ثم جلس على المقعد القريب منها، ينتظر لحظة إفاقتها، فكانت تلك المدة ثقيلة على قلبه النازف،يرى معشوقته أمامه ويحارب عينيه أن لا تعانقها، من أصعب المعارك التي قد توجهها يوماً،معركة كان الخصم فيها القلب والعقل، فالعقل يستحضر كل لحظة سوء وضغينة حملها تجاه هذا الشخص فيمقت رؤياه وقربه،أما القلب فلا يستحضر سوى ذكراه الطيبة وكلما خفق لجواره يذكره بأقصوصة العشق الذي شهد عليها،ودونها بداخله، إستقام “غيث” بجلسته حينما وجد “عائشة” تسترد وعيها تدريجياً، فجاهدت لرفع جفن عينيها الثقيل، فبدت الرؤيا مشوشة عليها قليلاً، حتى استطاعت استعادته بشكلٍ كامل، فصُدمت حينما وجدت نفسها بداخل شقتها وبغرفتها التي إشتاقت إليها، خاضت عينيها بتفاصيلها التي إشتاقت لها، فتصلبت نظراتها حينما وقعت على من يجلس بالقرب منها، تنشطت ذاكرتها، فانتباها الأمل مصاحب لفرحةٍ غمرتها، مساعدته لها يعني بأنه مازال يحمل حباً تجاهها حتى وإن كان مبهماً، إتكأت “عائشة” على معصمها، ثم أخفضت ساقيها لتهم بالوقوف، فإستوقفها صوته الخشن:
_رايحة فين؟
رفعت رأسها الذي يدور بتعبٍ، وهي تجيبه:
_همشي عشان مسببلكش مشاكل مع والدتك.
حدجها بنظرةٍ حادة،وكأنها أخطئت بحقها، وبصرامةٍ لا تحتمل نقاش قال:
_إنتي مش هتخرجي من هنا لحد ما تولدي، بعد كده إبقي روحي في المكان اللي يعجبك بس لوحدك من غير ابني.
زداد من وجعها وجعاً، فشددت من ضغطها على فستانها الزهري وكأنها تحاول إستجماع شجاعتها فيما ستقول:
_يعني أيه هتحبسني هنا!
ترك مقعده ثم دنا ليصبح مقابلها:
_سميها زي ما تحبي.
ضمت شفتيها معاً بإرتباكٍ، فقربه يزيد من رجفة شوقها إليه، تود إن تمرمغ رأسها بأحضانه، فكم قست ليالي دونه بجفاءٍ، فبات نهارها شبيه بعتمةٍ الليل الكحيل، وكأنه سحب نورها وتركها تنازع حتى الرمق الاخير، لقاء الأعين القصير دفعها لخوض تجربة حالمة، تتمنى بها إن لم يحدث ما حدث بينهما، ليتها لم تفترق عنه، ولكنه لم يمنحها فرصة حتى لتدافع عن نفسها فبنهاية الأمر لعبت حماتها لعبة ذكية من الصعب الشك بها، أزالت رداء الصمت الذي إستحوذ عليها حينما همست برجفةٍ تصاحب كلماتها المذبذبة:
_أنا مش هتخلى عن ابني يا “غيث”.
أفترت شفتيه عن إبتسامة شبه ساخرة، فتعمد قطع المسافة التي تفصلهما وهو يهمس بشرٍ يلاحق وعده:
_مش بمزاجك.. إنتي غلطتي ولازم تتحملي العواقب.
وإستدار للخلف وهو يشير بيديه على الصينية الموضوعة على الكومود، ثم قال بصرامةٍ:
_كلي وخدي أدويتك.
ثم خطى خطوتين تجاه باب الغرفة، إستعادهما ليقف مقابلها من جديدٍ:
_ده مش عشانك عشان ابني اللي في بطنك.
ثم تركها وغادر من أمام عينيها، فسمحت لنفسها بالإنهيار أرضاً، بكت لتفرغ ما بداخلها من همومٍ وأوجاع كان من إنتشالها منهما السبب بها الآن، ظلت “عائشة” في حالتها تلك ما يقرب النصف ساعة، حتى إستعادت جزء من عزيمتها، فنهضت لتتدلف حمام الغرفة، ثم خلعت حجابها وتوضأت لتلجئ لمن يشهد على ما بصدرها.
بمنزل “عمر”
ناولت “إيمان” زوجها السكين، وهي تشير إلى قالب الكعك من أمامه :
_يالا يا “عمر” قطع التورتة..
كاد بأن يلتقطها منها، فقاطعتهما “لوجين”، حينما جذبت منها السكين سريعاً ثم قالت بدهشةٍ:
_إستنوا،هو إنتوا هتقطعوا التورتة بالسرعة دي!
تساءل “عاصي” باستهزاءٍ:
_وأيه اللي المفروض نعمله؟
منحته نظرة ماكرة، قبل أن تدور حول الطاولة وهي تدندن بدلالٍ:
_happy birthday عاصي….
دارت عدة مرات وهي تغني بصوتها العذب، لتتوقف بعد فترة قصيرة لتشير لمن يرمقها بنظراتٍ حادة، تحثها على التوقف عما تفعله، ولكنها لم تبالي، بل أشارت له بمرحٍ:
_مش هتطفي الشمع!
إنتقلت نظراته تجاه أخته وزوجها فوجدهما يتطلعون لبعضها البعض،وأفواهما يكاد يصل للأرضٍ من شدة الصدمة، فكان “عمر” أول من تماسك ليعود لثباته في لحظاتٍ، فدفع بكتفيه “عاصي” برفقٍ وهو يخبره مازحاً:
_مستني أيه، ما تسمع الكلام وتطفي الشمع يا أبو نسب!
تحولت نظراته القاتمة تجاهه وإنذار خفي يعلو صوته داخل أذن “عمر”، فأسرع بإبعاد يديه عنه وهو يردد بخوفٍ:
_أعمل اللي تحبه، إعتبرني مش موجود البيت بيتك.
راقبت “لوجين” ما يحدث بينهما ثم تساءلت باستغرابٍ:
_في أيه؟ انتوا كويسين؟
جذب “عاصي” السكين منها ثم قطع الكعك، ليضعه بالاطباق، ومن ثم ناول “عمر” إحداهما وكلماته تخبره بتهديدٍ صريح:
_خد الجاتو بتاعك وإقعد في جنب.
منحه إنذار بأن يكف عن الحديث، فجذب زوجته ثم جلس جانباً، أما “لوجين” فجلست على المقعد تتناول ما قدمه لها بشراهةٍ، وخاصة الشوكولا، فتأملها بتعجبٍ لحقه بقوله الساخر:
_مش عارف انتي جايلك نفس تأكلي إزاي،و انتي هربانه من عيلتك وقاعدة عند ناس المفروض إنك متعرفيش عنهم حاجة.
رفعت “لوجين” رأسها تجاهه، ثم قالت وهي تلوك قطعة الشوكولا بفمها:
_لا متخفش أنا دايماً عاملة حسابي وجاهزة لأي حاجة.
ضيق عينيه بذهولٍ، فتساءل بإهتمامٍ:
_ إزاي؟
بإبتسامةٍ واسعة قالت:
_هقولك.
ثم لعقت أصابعها التي تحمل بقايا الشوكولا، والأخر يراقبها بتقززٍ، فحاولت فتح حقيبتها الصغيرة، لتخرج منها زجاجة صغيرة للغاية، وجهاز متوسط الحجم، فأمسك به وتفحصه وهو يردد بإستغرابٍ:
_ده أيه؟
جذبته منه ثم قالت بفخرٍ:
_ده كهربا زيادة بعد عنك وعن السامعين فولتها زايد حبتين، حاسب لتعورك.
قرص أرنبة أنفه وهو يراقب أخته وزوجها، ويدعو بداخله إن لم يرى ما تحمله أحداً وخاصة حينما جذب الزجاجة الصغيرة، لتشير له بابتسامةٍ شيطانية إتبعها قولها المشاكس:
_أكيد عارف ده أيه صح!
رفع كتفيه ساخراً:
_في الحقيقة مش واخد بالي، بس ده ميمنعش إني أستفاد من خبرتك.
راق لها كلماته فقالت بغرورٍ:
_هتستفاد متقلقش.
ثم أشارت على محتوياتها قائلة:
_دي شطة حمرا من اللي قلبك يحبها، عشان لو حسيت بأي حركة غدر أستهدف العين على طول، خدت بالك؟
ضحك بصوته الرجولي، وهو يردد من بين ضحكاته:
_أنا واخد بالي من حاجات كتيرة أوي.
على مسافةٍ ليست ببعيدةٍ عنهما..
قال لزوجته وهو يوزع نظراته بينهما:
_أنتي شايفة اللي أنا شايفه!
أجابته “إيمان” بإبتسامةٍ مشرقة:
_صدقتني أما قولتلك إن الأمل في البت اللي لسه لاقيها صدقة دي.
انتقلت نظراته تجاهها، ثم قال بإستهزاءٍ:
_أنا مقلق من أخوكي، ليكون البت دي مدياله حاجة كده ولا كده.
اتنقلت نظراتها المحتقنة تجاهه، ثم قالت بغضبٍ:
_أنا موافقة تديله حاجات بس يقرر يتجوز بقا ونخلص.
إرخي جسده على المقعد بإريحيةٍ:
_عندك حق، عايزين نخلص من العانس ده في أقرب وقت.
*******
بفيلا “قاسم خلدون”
ساعات متواصلة من البحث المتواصل، ولم يستطيع أحداً الوصول لشيء قد يفيدهم بمعرفةٍ مكانها، وكأنها إبرة رفيعة غرقت بكومة من القشٍ، تمرد غضب “قاسم” ليصيح برجاله بشراسةٍ:
_إقلبوا الدنيا لحد ما تلاقوها، حتى لو إضطريتوا تفتشوا بيت بيت، أنا عايزاهت واقفة قدامي هنا في أقرب وقت.
أومأ الرجل رأسه بخوفٍ:
_تحت أمرك يا باشا.
وأسرع للخارج ليتبعه رجاله للبحث عن العروس التي إنشقت الأرض وإبتلعتها، أما “قاسم” فجلس على البارٍ الصغير الموضوع بإحدى الزوايا، فإقترب منه عمه وهو يخبره بتوترٍ ملموس بنبرته:
_هترجع يا “قاسم”، هتروح فين يعني!
توقف عن إرتشاف المشروب، ثم إستدار بطرف عينيه تجاهه، ليشير له بغضبٍ:
_إدعي ربنا إنها ترجع ده لمصلحتك والا يا عمي متلومنيش في اللي هعمله فيك وفيها.
وتركه وجذب علبة السجائر الموضوعة على رخامٍ البار، ليتجه للأعلى تاركاً الأخير يلتقط نفسه بصعوبةٍ.
مرت ساعة كاملة قضاها “عاصي” بالحديث مع “عمر”، وحينما شعر بالفتورٍ خرج للشرفة ليضع قهوته جانباً والحزن يسيطر على معالمه، مازال يتذكر وجودها لجواره بمثل هذا اليوم الذي بات أتعس يوماً بالنسبة إليه، كل مناسبة تخصه باتت نقمة عليه بدونها، لا يعلم كم ظل على هذا الحال، ساعة أم ساعتين قضاهما وهو يتطلع للنيل بشرودٍ، فأفاق من غفلته حينما وجد أخته تقترب منه بحزنٍ إتبع لهجتها:
_مالك يا “عاصي”؟ إنت لسه منستهاش؟
نظراته الضائعة إليها كانت بمثابةٍ إجابة صريحة لها، فربتت على يديه الممدودة على السور بحنانٍ:
_حاول تنساها، عشر سنين وأنت لسه زي ما أنت كأنها ماتت إمبارح، العمر بيجري يا”عاصي” إمتى هيبقالك ذكريات جديدة متعلقة بيك!
زفر ليخرج العالق برئتيه ومن ثم قال بصوتٍ موجوع:
_مش عايز أتكلم في اللي فات يا “إيمان”.
تحطم قلبها لأجله، لا أحداً يشعر به أكثر منها، فحاولت أن تغير حديثها، فسألته بلهفةٍ:
_عملت أيه في موضوع”عائشة” ، البنت منهارة يا “عاصي”، ” غيث” ظالمها.
رد عليها بضيقٍ برز بإنفعال نبرته:
_حاولت أتكلم معاه أكتر من مرة بس عنيد واللي في دماغه في دماغه.
سكن الحزن قسماتها، فأجلت أحبالها الصوتية:
_مش قادرة أصدق إن خالتي تعمل كل ده عشان تخليه يطلقها.
استدار بجسده تجاهها، ثم قال:
_لإنها من البداية مكنتش موافقة على جوازه منها يا “إيمان”.
رددت بصدمةٍ:
_تقوم تعمل كده!
أجابها بتهكمٍ:
_تصرفها غلط بس هي عمرها ما هتشوفه كده، خليها تتفرج على ابنها الوحيد وهو بيضيع قدام عنيها بسبب اللي عملته.
وتطلع لساعة يديه بإنزعاجٍ:
_الوقت إتاخر، وأنا ورايا شغل كتير بكره، يلا تصبحوا على خير.
وتركها وولج للداخل فوقف مشدوهاً حينما رأها غفلت محلها كالطفلة الصغيرة التي إتبعت أبيها لمشوارٍ هام ثم غلبها النوم، فمرر يديه على طول شعره وهو يردد باستياءٍ:
_أهو ده اللي كان ناقص!
بصدمةلفه بالدلوف للداخل، فوقفت “عمر” وشقيقته
الفصل الثالث.
كظم غيظه بصعوبةٍ، فوزع نظراته بينها وبين ما تحمله بيدها، فإنحنى ليجذب أدواتها العظيمة التي ظنت بأنها ستحميها في وقتٍ لجأت به للنومٍ من الأساس، وضع “عاصي” ما بيدها جانباً، ثم أخفض يديه أسفل قدميها ليحملها، وقف محله مشدوهاً للحظاتٍ، فأخر من حملها بين ذراعيه كانت معشوقة قلبه، حينما وجدها ساكنة كالجثة الهامدة بغرفتها، قاوم “عاصي” ما يهاجمه من ذكرياتٍ مؤلمة، ثم إتجه لباب الشقة، فتطلع لمن يقف أمامه بضيقٍ، فشل “عمر” بفهم ما يريد، فإتجهت نظراته تجاه الباب، ففتحه على الفورٍ وهو يردد بسخريةٍ:
_نفتحه حاضر.
هبط بها “عاصي” للأسفل، ليجد سائقه الخاص في إنتظاره، ففتح باب السيارة الخلفي فور أن رأه، فوضعها بالمقعد الخلفي بحرصٍ شديد، ثم عاد ليجلس جواره بالأمام، خطف السائق نظرات خاطفة لمن تقبع بالخلف بدهشةٍ، فلأول مرة يصطحب سيده أحد النساء، فإحتدت نبرة “عاصي” وهو يشير إليه بغضبٍ:
_هنفضل واقفين كده كتير.
إعتدل في جلسته الغير متزنة، ثم أسرع بالسيارة على الفور..
*
أغلق “عمر” باب الشقة بعدما تأكد من رحيله، فوجد زوجته تتمدد على الأريكةٍ بتعبٍ بدى له مصطنع للغاية، وتأكد حدثه حينما قالت وهي تمسد بيدها على بطنها المنتفخة بصوتٍ تصنع الوهن:
_”عمر” نضف المكان لإني تعبانة أوي ومش قادرة أقف.
رمقها بنظرةٍ منزعجة، ثم إنحنى ليجمع الكؤؤس وبعض الأطباق، ليحملهما للمطبخ، وعاد مجدداً حاملاً لأحد الأكياس، فجمع به المهملات ثم أعاد ترتيب الصالون والردهة، وحينما إنتهى عاد ليجلس جوارها، ثم جذب ريموت التلفاز ليلهي نفسه قليلاً، وخاصة حينما وجدها مشغولة بقراءةٍ إحدى الكتب، تفاجئ “عمر” بها تضع قدميها على قدمه، ثم تخبره بدلالٍ:
_تدليك بقا لحسن الحمل تعبني أوي.
ألقى الريموت لجواره بتعصبٍ أخرجه من سكينته:
_وبعدين معاكي بقا يا “إيمان”.. هو مفيش حد في العالم حامل غيرك!
أغلقت الكتاب ثم تركته جانباً، لتستقيم يجلستها قبل أن تهاجمه بكلماتها:
_كل ده عشان بتساعدني شوية ما أنت طول الليل بره البيت وسيبني هنا زي أي جهاز موجود في الشقة، وبالرغم من كده عمري ما اتكلمت.
إبتلع ريقه الجاف بصعوبةٍ، فعلى ما يبدو بأنه فتح لنفسه باب من جحيمٍ، لذا كان عليه أن يسرع في إغلاقه، فجذب”عمر” ساقيها، ثم أخذ يدلكها برفقٍ، وهو يردد بإبتسامةٍ واسعة:
_وعلى أيه يا روحي الطيب أحسن.
عادت لتسترخي بجلستها، ثم جذبت الكتاب لتعود لرحلةٍ قراءتها، هامسةٍ بغرورٍ:
_ناس مبتجيش غير بالعين الحمرا.
عاد بها “عاصي” لمنزله، فصعد للطابق الأعلى ثم إختار أحد الغرف ليضعها على فراشها، كان قريباً منها بدرجةٍ أربكته، فإبتعد عنها سريعاً حينما إنتصب بوقفته، فأبت عينيه التخلي عن تأملها، إبتسم حينما وجدها تحتضن الوسادة بطفوليةٍ غريبة، ثم فردت ساقيها على طول السرير الضخم، وكأنها في معركةٍ حاسمة تخوضها بنومها، فخرجت نبرته المنخفضة ساخرة:
_مش طبيعية أكيد مجنونة!
ثم غادر لغرفته بعدما أغلق الضوء وتركها تنير ذاك الجانب البائس من قصره الذي إعتاد على صحبته هو فقط.
رفع الليل جلبابه الأسود القاتم، فكان لشروق شمس هذا اليوم إختلافاً عن المعتاد كثيراً، وكأن بوجود تلك الفتاة ذات الثلاثة والثلاثون عاماً جعل القصر الكئيب مفعم ببريقٍ من الأملٍ، فتسللت أشعة الشمس لداخل الغرفة بحريةٍ وكأنها تعلن عن بداية يوماً هام، وخاصة مع بداية استيقاظ تلك الفتاة التي يصغرها شكلها رغماً عن سنها المعترف به، عبثت “لوجين” بعينيها وهي تحارب نومها العميق الذي يسحبها بأحضانه، فأتكأت بمعصمها على الفراش الناعم حتى استقامت بجلستها، فركت عينيها بعبثٍ وهي تتلفت بالمكانٍ باستغرابٍ، فحاولت بقدر الإمكان تذكر ما حدث بالأمس، مر على مخيلاتها هروبها من الحفل بصحبة ذلك الرجل الوسيم، وبقائهما بمنزل شقيقته من أجل احتفاله بعيد ميلاده الأربعون، تذكرت كيف غفلت على الأريكة ومن ثم وجدت ذاتها هنا، فربما وضعها بأحدى الغرف، نهضت عن الفراش ثم اتجهت لباب الغرفة ففتحته وخرجت لتتصنم محلها في ذهولٍ تام، حينما وجدت نفسها بقصرٍ ضخم ، يملأه الأثاث الوثير والانتيكات الباهظة، أغلب ما يشمل لونه الكحلي الداكن، مشطت بيدها خصلات شعرها وهي تردد بحيرةٍ:
_أنا فين؟ وهما راحوا فين!
_صباح الخير يا أنسة.
انتبهت “لوجين” لصوت الخادمة القادم من خلفها، فانتفضت بفزعٍ، ومن ثم هدأت من روعها لتجيبها بلهفةٍ:
_قوليلي أنا فين؟
لمست من تعابير وجهها القلق، فقالت:
_إهدي بس، إنتي هنا بقصر الباشا “عاصي سويلم”.
ارتسمت ابتسامة حالمة على وجهها:
_بجد!
هزت الاخيرة رأسها بتأكيدٍ، ثم قالت باهتمامٍ:
_هحضرلك الفطار..
قالت بلهفةٍ:
_ياريت بسرعة لحسن أنا واقعة من إمبارح ومحدش سأل فيا.
ضحكت وهي تهم بهبوط الدرج الضخم، فلحقت بها “لوجين” للأسفل وهي تتطلع لكل ركناً بزواية القصر بإهتمامٍ، فجذب انتباهها الصور الموضوعة بكل مكانٍ بباحته له ولفتاةٍ غريبة بملامح هادئة، جدائل شعرها الاسود منسدل على ظهرها بخفةٍ، عينيها كحبات الزيتون اللامع، وعلى ما بدى لها بأنها زوجته، خاصة بوقفتها لجواره بحريةٍ كبيرة، أفاقت “لوجين” من شرودها على صوت الخادمة وهي تخبرها:
_إتفضلي الأكل جاهز .
سألتها ويديها تشير على الصورة:
_هي مين دي؟
راقبت الخادمة الطريق من حولها قبل أن تجيب على السؤال المطروح بحزنٍ ظاهر:
_دي “هند” هانم زوجة “عاصي” باشا سابقاً.
ضيقت “لوجين” عينيها بذهولٍ، فلم تشبع إجابتها المختصرة فضولها، لذا عادت لتتساءل من جديدٍ:
_يعني أيه سابقاً هما إنفصلوا؟
هزت رأسها بالنفي، ثم قالت بتوضيحٍ:
_توفت قبل الفرح بأسابيع، لأنها كانت بتعاني من مرض خبيث عفانا الله.
حزنت لما استمعت إليه، فرفعت رأسها تجاه الصورة مرة أخرى، لتردف بلهجةٍ مختنقة:
_وجع الفراق محدش يعرفه غير اللي عاش معاه، اللي مخليني مستغربة في اللحظة دي هو إزاي قدر يتجاوز كل ده بالبساطة دي!
ردت عليها الخادمة بشفقةٍ تجاه سيدها:
_للأسف مقدرش يتجاوزه، من اليوم اللي توفت فيه والقصر ده إتحول لسجن إتحبس جواه طول السنين دي، حتى إنه مفكرش في الجواز من بعدها.
استندت بذراعيها على مقدمة المقعد المقابل لها، لتهيم بحديث الخادمة الذي زرع الإعجاب بقلبها تجاهه، أعجبت بتفانيه بحبها حتى بعد وفاة من أحبت، وبشهامته واصراره على مساعدتها رغم استغلالها له وكذبتها المتعلقة بأمر حبيبها، وُلد بداخلها رغبة بسماع كل شيء يخص هذا الأربعيني الوسيم، فلامست بيدها خصلات شعرها المتدلية على وجهها،وعينيها تراقب ملامحه المتغيرة، فعلى ما يبدو بأن تلك الصورة منذ أعواماً والذي أثار دهشتها جاذبيته التي ازدادت كلما كبر عاماً، فهمست بصوتٍ غير مسموع:
_هو العمر بيتقدم معاه ولا بيرجع لورا سنة، غريبة!
قطع حساباتها المعقدة وحالة صدمتها المؤثرة صوت البيانو القادم من إحدى الغرف بالطابق الأسفل، تتبعت “لوجين” الصوت كالدمية المسحورة التي تحركها الساحرة الشريرة، حتى وصلت لأحدى الغرف المغلقة، حررت بابها بربكةٍ غامضة تطرق أبواب قلبها لأول مرة، وخاصة حينما وجدته يجلس على البيانو، يحرك أصابعه على أزراره بحرافيةٍ ومهارة، حتى وعينيه مغلقة، وقفت مقابله تراقبه وتستمع لعزفه الساحر بصمتٍ، مظهره المرتب ببذلته الرمادية الآنيقة، حتى تصفيفة شعره المرتب وعطره الذي يتسلل إليها بالرغم من المسافةٍ بينهما،وكأنه يضع الزجاجة بأكملها، ظنت ببدء الأمر بأنه لم يراها لذا استرقت النظر إليه باستمتاعٍ لعزفه المميز، فكسر صوته الرخيم قواعد الصمت المخيمة بالغرفة:
_لو خلصتي مراقبة تقدري تدخلي وتقعدي على الكراسي بدل ما رجلك توجعك من الواقفة.
انفرجت شفتيها بصدمةٍ، فبللتهما لتمنحها ترطيب بعد أن جفت مثل حلقها، ثم قالت بارتباكٍ:
_آآ.. أنا كنت بدور على مكان المطبخ لإني جعانة فبالصدفة سمعت صوت البيانو وبصراحة العزف الرائع اللي جذبني لهنا.
أغلق باب البيانو الصغير، ثم نهض ليقترب منها، قائلاً بهدوءٍ:
_تعالي ورايا.
إنصاعت إليه، فاصطحبها لمطبخ القصر الرئيسي، ثم أشار بعينيه لأحدى الخادمات، فأتت مسرعة حاملة صينية دائرية الشكل، تحوي أنواعاً متعددة من الطعامٍ الشهي، فوضعتها على الطاولة المستطيلة الموضوعة بالمطبخ، فجلست تتناول طعامها وعينيها تراقبه، فجذب “عاصي” أحد المقاعد المقابلة لها، ثم جلس يتطلع لها بنظراتٍ ثابتة، قضمت أحدى الشطائر ثم بدأت بالحديث الذي لم تكف عنه منذ أن راته:
_أنت عايش هنا لوحدك؟
رفع حاجبيه ساخراً:
_لازم يعيش معايا حد!
ردت عليه بمرحٍ:
_أكيد طبعاً.
وتطلعت للخادمة المنشغلة بإعداد للقهوة ثم أشارت بيدها له بأن يقترب ليستمع لما تود قوله، ابتسم “عاصي” على طريقتها الطفولية، ثم قرب وجهه منها، فهمست بخوفٍ اتبع صوتها:
_سمعت إن الأشباح بيسكنوا الأماكن اللي زي دي وبالذات لو قصر كبير وقديم، فأنت لازم تأخد بالك وتجيب حد يحصنلك المكان.
رفع حاجبيه متصنعاً الدهشة:
_معقول!
أومأت برأسها عدة مرات، ثم استكملت حديثها:
_إسمع أنت لازم متنامش لوحدك في القصر الكئيب ده ، أنصحك إنك تتجوز عشان مفيش واحدة من الجنيات تعشقك وساعتها مفيش حد هيعرف يخصلك.
أخفى ضحكاته، وبدى جادياً:
_ومين اللي هتقبل تتجوز صاحب القصر المسكون؟
وضعت طرف الملعقة في فمها وهي تفكر قليلاً، فارتسمت على وجهها ابتسامة واسعة وهي تجيبه:
_إحنا ننظم حملة دعايا نطلب فيها عروسة تناسبك.
ضحك بصوتٍ مسموع ولأول مرة، فتابعه الخدم بصدمةٍ، أظلمت ابتساماته مع ظلام ذاك القصر المظلم وها قد أضاءتها تلك الفتاة مجدداً، نقل نظراته لساعة يديه، ثم جذب الجاكيت الموضوغ خلف مقعده، ليشير لها ساخراً:
_هسيبلك حرية التصرف لإني عندي إجتماع مهم كمان ساعة، عن إذنك..
واستكمل طريقه للخارج، وقبل أن ينهي خطاه تجاه الرواق إستدار تجاهها يذكرها بما قد غفلت عنه:
_ومتنسيش معتش ليكي غير يومين بس، استغليهم كويس ودوري على سكن يكون مناسب ليكي
وضعت الملعقة عن يدها، ثم قالت بتأففٍ:
_نفسي إتصدت.
غادر “عاصي” والابتسامة التي صنعتها على وجهه مازال يتحلى بها، حتى إنه لم يستغل وقت القيادة للعمل بالحاسوب مثلما يفعل كل يوم، بل صفن بها طوال الوقت.
بشقة “غيث”
على الرغم من حزنها الشديد وإنكسار قلبها، الا أنها ولأول مرة تحظى بفترة مريحة من النوم الذي حرمت منه، وكأن بوجودها بغرفته، وبفراشه جعلها تشعر بأنه لجواره يحتضنها ويمنحها الأمان الذي حرمت منه، فرائحته مرتبطة بكل شيء تلامسه بالغرفةٍ، حتى الوسادة التي تضع رأسها فوقها، فتحت “عائشة” عينيها بتكاسلٍ حينما شعرت بحركةٍ خافتة جوارها، فتعلقت نظراتها بمن يقف أمام الخزانة يرتدي قميصه الأبيض، وجرفاته الأسود ثم جذب الجاكيت أخيراً ليرتديه على عجلة منه، ثم وقف أمام المرآة ليستكمل إستعداده للرحيل، فرآها تختلس النظرات إليه عبر صفحة المرآة التي تريه إنعكاس ما يحدث خلفه بصدقٍ، حاول التعايش مع هذا الإحساس الرائع القصير، ولكنه جلد نفسه فأفاقها قبل أن تذوب بعشقها الذي بات إليه مخادعاً، فأجلى أحباله الصوتية:
_الأكل في التلاجة والدوا عندك خديه بإنتظام.
إرتبكت حينما علم بأنها مستيقظة، فرمشت بعينيها بتوترٍ، وخاصة حينما إستدار ليكون مقابلها، ليقطع عليها مفرها بالهروب، جلست باستقامة على الفراش، فإنسدلت خصلات شعرها الأسود من أسفل حجابها الغير مرتب، تعلقت عينيه بها لدقيقةٍ، إسترجع بها نفس المشهد المعتاد كل صباح كانت تستيقظ به وخصلات شعرها تنهمر خلفها كالشلال، جز على أسنانه بغضبٍ لمجرد السماح لنفسه بتذكر شيئاً متعلق بها، فاستدار مجدداً ليلهي نفسه بتصفيف خصلات شعره، ثم قال بحدةٍ لازعة اتبعته:
_ياريت محدش يحس بوجودك هنا وبالأخص ماما.
نهضت “عائشة” عن الفراش، ثم دنت منه وهي تتساءل بإستغرابٍ:
_إزاي ده!
أجابها بصرامةٍ:
_زي ما سمعتي، لو حد رن متفتحيش الباب، ومتفتحيش شباك أو تخرجي في بلوكونة.. أظن إن كلامي مفهوم ومش محتاج توضيح.
لمع الدمع بعينيها، فأومأت برأسها بإنكسارٍ وهي تراه يغادر لعمله، يعاملها وكأنه تزوجها بالسر، وليس زواج رسمي حضره المئات من الأهل والأصدقاء، تعلم بأنه يفعل كل ذلك لأجل إرضاء والدته التي كانت سبباً فيما تعانيه الآن، ولكنها ليست مستعدة لخوض مجادلة منتقصة، يكفيها قربها منه بالبدايةٍ وحينما سيحين الوقت الذي ستجده مناسباً ستتحدث معه وتخبره الحقيقة التي مازال لا يصدقها.
بالشركة..
كان “عاصي” شارداً أغلب الوقت، لا يعلم كيف أنهى إجتماعه الذي إستغرق ثلاث ساعات كاملة ، وبالكد حصل على فترة استراحة بمكتبه، ليجد هاتفه يضيء بعدد مكالمات تصل لعشرون مكالمة جميعها من “عمر”، فحرر زر الاتصال به، ولكنه وجده يكنسل مكالماته جميعاً، فعلم بأنه بطريقه إليه..
بالخارج..
وصل”عمر” للشركة، فتوجه لمكتب “غيث” أولاً، وما أن أعلمته السكرتيرة بوجود رفيقه حتى سمح له بالدخول على الفور، فما أن ولج “عمر” للداخل حتى صاح بمشاكسةٍ:
_مساء الخير على العالم اللي مبتسألش ولا كأن في عيش وملح جمعهم في يوم من الأيام.
إبتسم “غيث” كعادته حينما يرى صديقه المرح الذي يزرع الإبتسامة والبهجة دوماً على وجهه، فمد يديه ليبادله السلام وهو يجيبه:
_أنت عارف المشاغل والظروف اللي بمر بيها، فالمفروض دلوقتي مين فينا اللي يسأل يا دكتور!
جلس على المقعد المقابل له، ثم قال بمكرٍ:
_أمال أيه سبب وجودي هنا وفي الوقت ده.
رفع حاجبيه بشكٍ، فاستطرد “عمر” بمرحٍ:
_أنت سبب من أسباب زيارتي النهاردة.
تساءل “غيث” بفضولٍ:
_وأيه السبب التاني؟
أشار بعينيه تجاه الحائط:
_أخينا اللي جنبك.
قال بعدم فهم:
_ماله “عاصي”؟
طرق المكتب بيديه وهو يصيح بإنفعالٍ:
_جايلي البيت إمبارح مع بنت بيقولك خطفها من حفلة خطوبتها.
ظهرت إبتسامة ساحرة على وجه”غيث” وهو يقول:
_تقصد “لوجين”.
ضيق عينيه بذهولٍ:
_أيه ده؟ إنت تعرفها.
هز رأسه وهو يضيف:
_مهو أنا كنت معاه في نفس الحفلة وشريك معاه في عملية التهريب دي.
جحظت عينيه بدهشةٍ:
_هربتها معاه! ده بدل ما تعقله.
ضحك وهو يراقب انفعالاته التي سرعان ما هدأت وإتبعها نصيحة وإنذار زرع بحديثه:
_هو حد بيعرف يعقل” عاصي” لما يطلع في دماغه حاجة يعملها.
إرتخت ملامح وجهه تدريجياً، فردد بإحباطٍ:
_على رأيك.
ثم استطرد بجديةٍ تامة:
_الكلام أخدنا ونسيت أكلمك في الموضوع اللي جايلك عشانه.
لمح “غيث” فتيل ذاك الموضوع الهام الذي أتى به إلى هنا، فقال بنفورٍ:
_لو هتفتح نفس الموضوع اللي مفيش غيره يبقى وفر مجهودك.
ثار عليه منفعلاً:
_وأخرة عنادك ده أيه يا “غيث”،” عائشة”بتحبك وأنت عارف كده كويس.
ببسمةٍ تهكم أجابه:
_واللي يحب حد يهين والدته بالشكل ده!
رد عليه “عمر” بعد فترة من الصمتٍ:
_أحياناً اللي بنشوفه بيكون خادع بالدرجة اللي تخلينا منقدرش نشوف الحقيقة يا “غيث”.
عقد حاجبيه وهو يتساءل بتشتتٍ:
_قصدك أيه؟
كان صريحاً في رده:
_قصدي إن في حاجات بيحاول “عاصي” و”إيمان” يوصلوهالك بس مش بيقدروا لأن والدتك بالنهاية تبقى خالتهم.
كاد أن يتساءل عما يقصده مجدداً، فقاطعه “عمر” بعدما أوضح مقصده:
_والدتك مكنتش موافقة على جوازك من “عائشة” في البداية، لانها متربية في ملجئ وأنت حاولت معاها لحد ما في النهاية رضخت ليك ووفقت، ده ميدلكش أي شك إنها مثلاً مكنتش متقبلاها من البداية وبتحاول بكافة الطرق تبعدكم عن بعض!
هاجت العواصف بحدقتيه الرومادية التي سيطرت عليها حمرة لا تنذر بالخير، فنهض عن مقعده وهو يصيح به:
_”عمر” أنا مسمحلكش إنك تتكلم عن والدتي بالطريقة دي، وبدون أي دليل.
وقف مقابله ثم قال:
_دليلك هو كلام مراتك اللي هتلاقي فيه الحقيقة اللي مبتحاولش تتقبلها.
أعمته قسوة قلبه فجعلته كالبركان المشتعل، فقال بعد صمت قاده لتفكيرٍ أعمق:
_أنا ممكن أخمن من كلامك ده إنها إتكلمت مع “إيمان” مراتك وحكيتلها اللي بيحصل في بيتي ودي جريمة أبشع من قبلها!
لم يصدق ما بات عليه رفيقه، فخرج عن هدوئه حينما قال بغضبٍ:
_إنت بقيت مش طبيعي، عنادك وغرورك دول هيقضوا عليك وعلى الحب اللي بنيته في سنين، وبكره هتندم على كل ده لما تلاقي ابنك وحيد، وأكيد في يوم من الأيام هيحملك نتيجة قرارك ببعده عنك أو عنها.
وتركه وتوجه للمغادرة، فأسرع “غيث” خلفه حينما شعر بجفاء أسلوبه، فجذبه وهو يشير إليه بإبتسامةٍ صغيرة:
_طب ممكن تسيبنا بقا من الكلام في الموضوع ده وتقعد نتكلم شوية.
منحه نظرة متعصبة قبل أن يجيبه:
_لا معلش،ورايا شغل كتير النهاردة هعدي على “عاصي” قبل ما أرجع العيادة.
وقبل أن يخرج من مكتبه وضع يديه على كتفه ثم قال بحزنٍ:
_راجع نفسك يا “غيث”، قبل فوات الأوان… كلنا بنواجه حروب شبيهة من دي بس الذكي اللي يقدر يكسب أمه ومراته في نفس الوقت.
وغادر من أمامه ليتركه في دوامة تعصف به، ما بين حديثه وحديث”عاصي” الذي مازال يلاحقه.
بمنزل “عاصي”.
قضت أغلب يومها في إستكشاف القصر، فراق لها كثيراً غرفة مكتبه الخاص، لونها كان مثيراً، وضخامة المكتب الخشبي الموضوع بمنتصف الغرفة منحها هيبة خاصة، تحركت”لوجين” تجاه المقعد الخاص به، فجذبته لتجلس عليه بإريحيةٍ تامة، ثم حررت ساقيها التي تلامس الأرض لتدور به وصوت ضحكاتها يسود بالأرجاء، توقفت عن الدوران حينما تعلقت نظراتها بدفتر غريب موضوع على حافةٍ المكتب، فجذبته بإعجابٍ شديد، فكان جلده سميك للغاية ومصنوع من الجلد البني، وبالأسفل يحمل نقوش لأحد الخيول الأصيلة، ودت لو تمكنت من إلقاء نظرة للداخل، فلم تستطيع كبت فضولها وفتحت أول صفحاته، فوجدته يكتب بأول صفحاته.
«عاماً أخر مضى بدونك “هند” ، ولست أعلم كيف سأتخطى ألم الفراق الذي يمزق قلبي؟ أتعلمين حبيبتي مازالت أتذكر هديتك المميزة لي في عيد ميلادي، كنت تختارين دفتر مميزاً وتقدمينه لي حتى أبدأ من بعدها بتدوين ما حدث لي بالعام الجديد الذي أختبره، لا تعلمين ما أتحمله من وجعٍ حينما أذهب لشرائه بنفسي، ولكن لا بأس مازال هناك قوة تدفعني للمضي قدماً، وربما سر تلك القوة ذكرياتك التي حفرت بقلبي البائس، فبات يدون اليأس بين السطور، وربما فتيل الأمل سيشعل قريباً حينما ألتقي بكِ.. أعلم بأنكِ تحترقين شوقاً لتلك اللحظة التي سيجمعني الله بكِ، فأنا لم أطلب شيئاً بدعائي سواكِ حبيبتي…»
طبعت دمعاتها على الصفحات البيضاء، فحملت تذكار لشخصٍ ثالث يشهد على قصة عشقهما، أزاحت “لوجين” دمعاتها وهي تردد بتأثراً:
_معقول في حد بيحب حد بالطريقة دي!
_في يا “لوجين”.
انتفضت من مكانها بفزعٍ فور سماعها للصوت القادم تجاه الباب الخارجي، فإلتقطت أنفاسها على مهلٍ حينما وجدتها” إيمان”، فأغلقت الدفتر ثم أعادته محله قائلة بحرجٍ:
_أنا بعتذر لوقاحتي، بس شكل الدفتر عحبني أوي وغصب عني لقيت نفسي بفتحه.
إقتربت منها “إيمان”، بخطواتٍ متهدجة حتى باتت تقف مقابلها، فرفعت يدها على معصمها ثم قالت بإبتسامةٍ صغيرة:
_مفيش داعي تعتذري، أنا عارفة إنك مكنش قصدك حاجة.
ثم أشارت لها على الأريكة القريبة منها، فجلسوا سوياً لتبدأ بالحديث بصوتٍ مختنق بالدموع:
_”عاصي” كان بيحب “هند” جداً، وكان بيحلم باليوم اللي هتتزفله بالأبيض، بس يا قلبي مكنش متوقع إنها هتتزف لقبرها.
إنسدلت دمعات “لوجين”، وهي تستمع بتركيزٍ لما تخبرها به” إيمان” وخاصة حينما قالت:
_إكتشفت بعد كتب كتابها إنها عندها كانسر في المخ، وبالرغم من كده “عاصي” رفض إنه يتخلى عنها، وكان بيحارب معاها وجواه أمل إنها هتخف وهتبقى كويسة بس للاسف الأمل ده اتدمر لما الأجهزة وقفت والروح فارقت جسمها.
وسحبت نفساً مطولاً قبل أن تستكمل ببكاءٍ:
_من وقتها وحياة “عاصي” واقفة، كأنها أخدت كل حاجة معاها، فرحته وقلبه وحياته، عشر سنين ولسه مملش من حبها ولا من الوحدة اللي هو عايش فيها.
وتطلعت تجاهها وهي تشير إليها باسمة:
_عملت كل حاجة ممكن تتخيليها عشان أقنعه بالجواز بس هو رافض الموضوع من الأساس.
كسرت حزن وجهها وبكاء عينيها بإبتسامةٍ رقيقة تتبعها قولها المتعجب:
_يا بختها بحبه ليها، شخص بالإخلاص ده نادر الوجود فعلاً.
إبتسمت “إيمان” ثم أزاحت العالق بأهدابها وهي ترد عليها:
_نادر فعلاً ومش بعيد متلقيش نسخة متطابقة أساساً.
أجابتها بمشاغبةٍ:
_ده الواحد من دول ما بيصدق مراته تتكل عشان يجدد ويعيش حياته، بصراحة أخوكي ده راجل جنتل عشان كده أنا هساعدك وهشوفله العروسة المناسبة.
زارتها فرحة عارمة، فقالت بعدم تصديق:
_بجد يا “لوجين”.. طب إزاي!
ردت عليها بإبتسامةٍ خبيثة:
_لا دي تسبيها عليا ومتحمليش هم.
ضحكت على طريقتها بالحديث، ثم جذبت حقيبتها ونهضت قائلة:
_خلاص سبتها عليكي.
نهضت”لوجين” خلفها وهي تتساءل بضيقٍ:
_أيه رايحة على فين؟
قالت وهي تغلق حقيبتها الصغيرة:
_أنا كنت عند الدكتورة بشوف هتحددلي معاد الولادة ولا لا، وأنا راجعة قولت أعدي عليكي أشوفك لسه هنا ولا رجعتي لخطيبك.
انكمشت تعابيرها بغضبٍ:
_متجبليش سيرة المدلوق ده، أنا أموت نفسي ولا إني أرجعله.
تعالت ضحكات “إيمان” لتعصبها الشديد، فقالت وهي تلوح لها:
_خلاص أنا همشي عشان إتاخرت وهبقى أجيلك يوم بحاله تقعدي وتحكيلي عن المدلوق ده.
ودعتها بمحبةٍ، على وعد جمع الإثنتان باللقاء قريباً.
الفصل الرابع..
البوح صداه في أضلاعها يضيق ومن غير روحها ترتجي وصلا، وكيف ببقائها تقنعه بعدم الرحيل، تعلم بأن بلوغ غايتها درب طويلاً، والأماني بينهم تبعثرت، فباتت لا تعلم كيف عن هجرها تمنعه، ولم تعد جفونها لغيره تبصر في المدى، فدمعاتها هي من تأنَّس وحدتها، تناست “عائشة” ما يؤلمها، وما أن فرغت من صنع الطعام أسرعت لرص الأطباق على الطاولةٍ قبل عودته من العمل، وفور إنتهائها راقبت الساعة، فإبتسمت حينما وجدت أنها إنتهت في الوقت المناسب، فجذبت إحدى المقاعد ثم جلست تنتظر عودته مثلما كانت تفعل من قبل، خفق قلبها بربكةٍ خافتة حينما وجدت باب الشقة يفتح من أمامها، فأسرعت أليه لتخبره بإبتسامةٍ عذباء:
_حمدلله على السلامة.
حانت منه نظرة جانبية تجاهها، قبل أن يستكمل طريقه تجاه غرفته متعمداً تجاهلها، راقبته بحزنٍ شديد وتبعته للداخل، فوجدته يبدل ثيابه في ثباتٍ تام، فقالت والخوف يسكن أضلاعها:
_أنا حضرتلك الغدا.
لم يكلف نفسه العناء بالرد عليها، بل توجه لفراشه فتمدد عليه بإنهاكٍ، إنهمرت دمعاتها تباعاً وهي ترى الحالة التي وصلوا إليها بسبب والدته، فإقتربت منه “عائشة” ثم إختارت الجلوس أرضاً جوار فراشه، وتمسكت بيديه ففتح “غيث” عينيه ليجدها تجلس هكذا، وقبل أن يصدر أي رد فعل سبقته بالحديث:
_والله العظيم أنا محبيت في حياتي كلها قدك، وبحترمك وبحترم أي حد من عيلتك، بس أنا مش عارفة أعمل أيه عشان أخليك تصدقني وتصدق اللي حصل، أنا أه إتربيت في ملجأ بس أنت عاشرتني وعرفت طبعي.
ورفعت أصابعها لتزيح دمعاتها البائسة وهي تستطرد بإنكسارٍ:
_ومستعدة أنزل معاك حالا وأعتذرلها وأبوس رأسها كمان لو ده هيرضيك.
وقالت كلماتها الأخيرة وإنفطرت بالبكاءٍ، فإستقام “غيث” بجلسته ثم جذبها لتجلس لجواره، فحارب مشاعره القاسية، في محاولةٍ منه لإيقاظ قلبه الغافل، رفع كفه ليقربه من وجهها، فإحتضن خديها بحنانٍ، خفق قلبها بعنفٍ فرفعت يدها تحتضن يديه التي تلامس وجهها، ثم قبلتها بفرحةٍ، جذبها “غيث” لأحضانه فتشبثت به وشهقات بكائها المكبوت تعلو رويداً رويداً، كأنها تشكو إليه قسوة قلبه، وجفاء هجرانه الذي طال لشهورٍ، فأبعدها عنه ثم قال بحزنٍ:
_أنا مكنتش عايز أشوفك كل المدة دي عشان كنت خايف أضعف زي ما حصل دلوقتي.
وتنهد بوجعٍ بدى بخشونة صوته:
_أنا إتحرمت من أبويا وأنا عندي سبع سنين يا “عائشة”، والدتي كانت كل حاجة في حياتي، رفضت تتجوز بعده عشاني، بحاول على قد ما أقدر أعوضها عن كل اللي شافته في حياتها وإستحملته عشاني.
وإستدار بوجهه للجهة الأخرى يزيح تلك الدمعة العزيزة التي تلألأت بحدقتيه، ثم عاد ليستطرد بتأثرٍ:
_وقفت قدامها وعارضت قرارها لأول مرة عشان أتجوزك، كنت فاكر إن الأمور هتبقى أفضل بعد الجواز، بس للأسف إتعقدت أكتر وكل يوم خناقات بينكم وأنا مش عارف أقف في صف مين،كذه مرة بحاول فيها أتغاضى عن اللي بيحصل،بس لما أدخل وأشوفك بتهنيها بالشكل ده فأكيد مش هقف وأتفرج عليكي يا”عائشة”.
قالت بصوتٍ متقطع من أثر البكاء:
_لأن اللي قالتهولي صعب.
وضغطت على شفتيها السفلية بقوةٍ،تحاول التحلي بها للحديث عن ذلك الأمر،والخوف يضـ,ـربها في مقتل، تخشى أن تفصح عما يزعجها فيبتعد عنها مجدداً، ولكن عليها ذلك، فقالت بقهرٍ:
_والدتك مش بتفوت فرصة إنها تعايرني بالمكان اللي إتربيت فيه، وأخر مرة دخلت فيها علينا كانت طالبة مني إني أعمل آآ…
ضيق عينيه بذهولٍ من إرتباكها الغريب، فعبثت بأصابعها بتوترٍ منعها عن الحديث، فتساءل”غيث”:
_تعملي أيه!
تعمقت بالتطلع لعينيه قبل أن تنطق بما يؤلمها:
_DNA.. لانها شاكة في نسب اللي في بطني.
جحظت عينيه في صدمةٍ حقيقية، فشدد على معصمها بيديه وهو يسألها بحدةٍ:
_أيه الهبل اللي بتقوليه ده، أمي عمرها ما تقول كده.
استندت بيدها الأخرى على صدره ثم قالت بتوسلٍ:
_والله ده اللي حصل، وبعد ما أنت مشتني من هنا جتلها كذة مرة وإترجتها إنها تصلح ما بينا قالتلي إني لو عايزاها ترجعني ليك لازم أعمل الإختبار.
كاد أن يجن في تلك اللحظة، فجذب الإسدال الموضوع على المقعد القريب منه، ثم ألقاه في وجهها وهو يشير إليها بصرامةٍ:
_إلبسي.
قالت بقلقٍ وهي تتفحص ما بيدها:
_هنروح فين؟
لم يجيبها ونهض ليبدل ثيابه، وما أن ارتدت ملابسها حتى جذبها “غيث” للخارج، فدفعها برفقٍ تجاه باب شقة والدته، وقبل أن يدق جرس بابها وقف مقابلها ثم همس لها:
_كنتي عايزة فرصة إني أسمعك وأنا سمعتك دلوقتي دورك تخليني أصدق اللي قولتيه.
لم تستوعب ما قاله الا حينما طرق جرس الباب ثم صعد الدرج سريعاً، ليختبئ خلف الدرابزين يراقب ماذا سيحدث، فما أن فتح الباب حتى صاحت والدته بضيقٍ:
_إنتي تاني، أنا مش قولتلك متعتبيش هنا تاني!
نقلت “عائشة” نظراتها المتعلقة بمكان “غيث” لتتطلع لمن تقف أمامها بتوترٍ، ليس أمامها فرصة سوى التي منحها إياها، والا سيحرمها من ابنها الذي تحمله بأحشائها، والأهم من ذلك خسارتها لحب حياتها، لعقت شفتيها الجافة وهي تحاول إختيار ما ستقول:
_أنا مش عارفة ليه حضرتك بتعامليني بالطريقة دي، إعتبريني زي بنتك ترضي حد يعاملها كده!
قالت بقسوةٍ أوضحت عدم رحمتها:
_معنديش بنات بيتربوا في ملاجئ يا حبيبتي، ثم إني قولتلك قبل كده خليكي ماشية ورايا عشان متخربيش على عشك وإديكي شوفتي بعينك لما مسمعتيش الكلام حصل أيه؟
إنسدلت دمعاتها بضعفٍ،فقالت بإنكسارٍ:
_أسمع كلامك إزاي وإنتي بتشككي في أخلاقي، وبتطلبي مني اللي مفيش ست تقبله على كرامتها.
رفعت يدها لتستند على حافة الباب المطول، ثم رددت بسخريةٍ:
_ لا شريفة أوي يا بت، خوفك ده بيثبتلي إن اللي في بطنك ده مش من ابني.
صرخت “عائشة” بكل ما إمتلكته من قوةٍ:
_حرام عليكي أنتي شوفتي عليا أيه عشان تقولي كده؟
خرجت لتقف أمامها، ثم جذبتها من حجابها الذي كاد بخنق “عائشة”:
_هشوف عليكي أيه أكتر من إن أبوكي وأمك إتبروا منك ورموكي في ملجئ، والله أعلم بقى مين اللي رباكي ولا ربوكي إزاي، بس أكيد تربية بنت أبلسة عشان تعرفي توقعي ابني وتخليه يتجوزك بالسرعة دي، بس وربي ما ههنيكي بيه وهجوزه ست الستات اللي تستهله.
تردد بالأرجاء صوت حذاء يهبط الدرج بخطواتٍ بطيئة، جعلت نظراتهن تتركز تجاه من يهبط للأسفل، تركتها على الفور وهي تراقبه بصدمةٍ، إختلطت بكلماتها الغير مرتبة بالمرةٍ:
_”غيث” حبيبي إنت رجعت أمته؟ تعالى شوف الزبالة اللي جاية تهددني في بيتي.
وقف مقابلها وعينيه تلمعان بالدمع، فطوى صفحة صمته التي طالت:
_أنا لأخر لحظة كنت بكدبها لإني حاسس إنها بتتكلم عن واحدة معرفهاش!
سقط القناع عما كانت تخفيه، فباتت متخبطة لا تعلم ماذا تقول أو تفعل؟ ، فاستدارت تجاهها ثم كادت بمهاجمتها وهي تصيح بإنفعالٍ:
_إنتي عملتي كل ده عشان توقعي بيني أنا وابني يا لمامة.
حال “غيث” بينهما، ليكن عائق بطريقها لأول مرة، تشبثت به زوجته بضعفٍ، وكأنها تستنجد به فنقلت له رجفة أصابعها ما تعرضت له، ألا يكفيه صدمته بوالدته، فلأول مرة يستحقر نفسه لتلك الدرجة، وجدها تمسك يديه وتجذبه تجاه شقتها وهي تردد ببكاءٍ:
_سيبك منها يا ابني دي حية وعايزة توقع بيني وبينك.
جذب يديه منها ثم سألها بذهولٍ:
_إنتي لسه مصدقة نفسك؟ ومتوقعة إني هسمعك تاني..
وأخرج ما كبت بصدره بصراخٍ مؤلم:
_أنا بسببك خسرت حياتي وكنت هخسر ابني وكل ده ليه، ليه بتعاقبيها وبتعاقبيني على حاجة ملناش ذنب فيها، كان ممكن إنتي أو أنا نكون مكانها في يوم من الأيام.
وحاول السيطرة على إنفعالاته قبل أن يتساءل:
_قوليلي كنتي بتحسي بأيه وإنتي شايفاني بعاني من غيرها، إزاي بنيتي سعادتك على تعاستي وإنتي عارفة هي بالنسبالي أيه؟
أجابته بجحودٍ بدى بما قالت:
_حياتك مع واحدة زي دي مش حياة، أنت تستحق بنت ناس وتكون بنفس مستواك الاجتماعي على الأقل، أنت متعرفش أنا بيحصلي أيه لما حد يسألني ابنك إتجوز بنت مين!
فقد القدرة على النقاش أمامها، كيف سيجادلها وهي ليست مقتنعة بأنها مخطئة، مازالت تدافع عما فعلته وكأنها على حق وهو على باطل، لم يكن “غيث” بأفضل حال ليواجه تلك المعركة التي إستنزفته صدماتها، لذا جذب “عائشة” برفقٍ، ثم قال بشفقةٍ:
_أنا حزين على طريقة تفكيرك..إنتي بذلتي جهدك عشان “عائشة” تخرج من هنا وده هيحصل فعلاً بس وأنا معاها.
وخطى بها تجاه الدرج ليغادر المبني بأكمله تحت نظرات صدمتها، ففقدت القدرة على النطق والحركة، راقبته وهو يبتعد بزوجته تجاه سيارته وهي عاجزة عن فعل شيء.
عاد “عاصي” للقصر في تمام الساعة الثامنة مساءٍ مثلما إعتاد، فتعجب حينما وجد الأنوار تملئ المكان بأكمله على غير عادته، والأغرب من ذلك سماعه لصوت البيانو الخاص به بلحانٍ قريب لما يعزفه، إتجه “عاصي” تجاه غرفة مكتبه فوجد “لوجين” تجلس محله وتحاول بكافةٍ الطرق تقليد لحانه الذي إستمعت إليه بالصباح، لاحت على وجهه الوسيم إبتسامة جذابة وهو يراقبها تبذل ما بوسعها لتتذكره، فإقترب منها ثم ضغط على لوحته، ففتحت عينيها على مصرعيها لتتفاجئ به يجلس جوارها ويحرك أصابعه ليشاركها في تذكر اللحن، منحته “لوجين” إبتسامة تسللت لأعماق ظلمته ثم تابعت بتعلم اللحن حتى باتت تتقنه بحرفيةٍ، وإنتهوا منه سوياً، فأنثى عليها “عاصي” قائلاً:
_براڤو، حفظتيه بسرعة.
إبتسمت وهي تشير له بغرورٍ:
_لا أنا أعجبك أوي، ميغركش سذاجتي دي.
ضحك على ثقتها الزائدة بذاتها، فقال بشكٍ:
_غرور ولا ثقة؟
أنفضت طرف فستانها الأزرق وهي تجيبه بعَنْجَهيّةٍ:
_الإتنين بإذن واحد أحد.
هز رأسه بسخطٍ ثم نهض ليتجه للخارج، فلحقت به وهي تسأله بإستغرابٍ:
_على فين إنت لسه راجع!
إستدار تجاهها بعدما كاد بتسلق الدرج، ثم أجابها ساخراً:
_إنتي هنا ضيفة ولا هتعيشي دور المفتش!
حكت رأسها وهي تفكر فيما قال:
_تمشي معاك فضولية شوية!
حرر جرفاته التي كادت بخنقه مثلها، ثم قال:
_أوكي نمشيها.
ثم أشار على الطابق العلوي وهو يوضح لها بإبتسامةٍ مصطنعة:
_هطلع أغير هدومي عشان معاد العشا بتاعي ده لو معندكيش مانع.
نفت ذلك بحركةٍ جسدها ثم قالت:
_وأنا هحاول أسلي وقتي لحد ما تنزل، أصلي بصراحة بحاول ألقى بشر في المكان ده أو أي شخص فاضي مش لقية.
عقد حاجبيه ساخراً:
_وحالياً أنا الشخص ده!
أومأت برأسها بتأكيدٍ، فضم شفتيه معاً بإستهزاءٍ:
_عظيم!
وتركها وصعد لغرفته، فجهز ما سيرتديه ثم توجه لحمام غرفته، ولكنه توقف فور سماعه لرنين هاتفه، تعجب “عاصي” حينما وجده “غيث”، فرفع الهاتف لأذنه وهو يخلع حذائه، وإستمع لصوت ابن خالته الغريب نسبياً لنبرته المعتادة وخاصة حينما قال:
_كان عندك حق في كل كلمة قولتلها يا” عاصي”، كنت بتحاول تفهمني إن الغلط من عندها هي مش من مراتي وأنا كنت غبي ومتسرع.
إنتصب بوقفته ثم أمسك بهاتفه جيداً وهو يسأله بإهتمامٍ:
_أيه اللي حصل؟
أتاه صوته التعيس يجيبه عن سؤاله:
_سمعت بودني الحقيقة.
خيم عليه الحزن وهو يتخيل ما الذي أصابه حينما علم بما فعلته خالته، فقال:
_طب إنت فين دلوقتي؟
=في الشقة اللي كنت واخدها إيجار لعائشة.
_إبعتلي الموقع في رسالة وأنا شوية وهكون عندك أنا و”عمر”.
أجابه بترددٍ:
_بلاش يا “عاصي”، أنا مش حاسس إني أقدر أتكلم مع حد في الوقت ده، ويمكن كمان مجيش الشركة بكره، بس ممكن أجيب”عائشة” وأجيلك بكره بليل.
إحترم “عاصي” رغبته بالإنفراد بنفسه، فقال:
_خلاص زي ما تحب وأنا هبقى أخلي “عمر” و”إيمان” يجوا ونتجمع كلنا.
وأغلق الهاتف ثم جذب ملابسه، وولج لحمامه الخاص.
******
ليت الهواء البارد يتسلل لداخله ليطفئ لهيب النيران المشتعلة، إحساسه بالخذلان يستهدفه بلا رجعة، لا يحتمل ذاك الشعور القاتل بكونه جلاد ظالم لأكثر إنسانة أحبها بصدقٍ وإختارها زوجة له، لم يصدق حرفاً واحداً مما قالته عن والدته رغم أنه يعلم جيداً بأنها ليست كاذبة، قضى “غيث” وقته بالشرفةٍ بمفرده، وبالرغم من تشديده عليها بتركه الا أنها إقتربت لتقف على مسافةٍ منه تراقبه بحزنٍ وبكاء جعله يشعر بوجودها، فإستدار ليجدها تراقبه بخوفٍ، حزن في تلك اللحظة على طريقة معاملته معها، فقال بصوته الرخيم:
_تعالي يا “عائشة”.
سماعها لإذنه بالإقترابٍ كان أسعد لحظاتها، فهرولت إليه بخطواتٍ سريعة، وما أن وقفت أمامه حتى قالت ببكاءٍ:
_أنا مكنتش عايزة أسببلك مشاكل مع والدتك أنا كنت عايزاك تعرف بس اللي حصل في الوقت ده وآآ..
وضع أصبعه أمام شفتيها ليقطع حديثها عن الأمر، ثم قال بندمٍ:
_متعتذريش يا”عائشة” ، أنا اللي لازم أعتذرلك ألف مرة، أنا موفتش بوعودي ليكي وتصرفاتي كلها كانت أبشع من بعض، محاولتش أسمعك أو أعرف اللي حصل.
أزاحت دموعها، ثم قربت رأسها منه لتستند على صدره الذي عاد ليخفق بحبها من جديدٍ:
_أنا مش عايزة أي حاجة من الدنيا غيرك أنت.
طوفها بذراعيه، ليغمس رأسه بين خصلات شعرها يشم عبيرها الذي حرم منه، فأبعدها عنه وعينيه تذوب في نظراتٍ عانقت حدقتيها، فإنحنى ليحملها بين ذراعيه برغبةٍ يتدفق بها الشوق بين طياتها، وإتجه بها لعشٍ هجره لثمانٍ شهور متتالية، لتلتقي الروح والجسد وثالثهما العشق.
هبط “عاصي” للأسفل، فوجد الخادمة أعدت الطاولة بعشائه المفضل، وبنهايةٍ الطاولة وضعت عشاء مختلف عن طعامه خصيصاً لها، فجلس محله ثم أخذ يتناول سلطاته المفضلة من الأفوكادو، وبعض ثمرات الفاكهة الطازجة، كان يعم الأجواء هدوء إعتاد على مصاحبته في قصره، وفجأة وجد صوت صاخب يسوده، فما كان سوى صوت تلك المزعجة التي إستضافها:
_العشا جهز ولا لسه يا “جومانة”؟
أجابتها الخادمة بأنها وضعت بالفعل العشاء على الطاولة، فما أن ولجت حتى وجدته يجلس على مقدمة الطاولة، وطعامها موضوع على نهايتها، فجذبت طبقها وكوب العصير الخاص بها، ثم أسرعت لتجلس جواره قائلة بضيقٍ:
_حتى وأنا بأكل هقعد لوحدي، أيه الملل ده!
إبتسم”عاصي”، ثم قال وهو يلوك ما وضع بشوكته:
_الضيف مبيغيرش قواعد البيت يا”لوجين”، بيطبع عليها الفترة اللي هيقعدها وبعد كده بيرجع لنظام حياته.
لأول مرة تشعر بتميز إسمها، ربما لأنه يناديها به لأول مرة، تغاضت عما قاله ثم تفحصت ما يتناوله لتسأله بدهشةٍ:
_هو فين أكلك؟
وزع نظراته بين طبقه وطبقها الممتلئ بقطع اللحم والسجدق، مجرد التطلع لما ستتناوله إزعج نظراته فقال بتقززٍ:
_لا أنا كده تمام، خليكِ إنتي في طبقك.
لوت شفتيها بسخطٍ:
_إنت فاكر يعني إني مقدرش أكل الأكل ده.
ضحك على تحديها له، فمسح فمه بمنديلٍ ورقي ثم قدم لها طبقه، فأبعدت طبقها من أمامها ثم تناولت من نفس طبقه وهي تحدجه بنظرةٍ ساخرة، فتابعها بإبتسامةٍ صغيرة، إنتهت من تناول الطبق ثم وضعت الشوكة بمنتصف الطبق الفارغ، ليعم عليها صمت دام لدقائقٍ لتقطعه وهي تهمس بحزنٍ:
_بس أنا لسه جعانه، إنت جايبني هنا عشان تموتني من الجوع ولا أيه؟
ضحك حتى كشف عن أسنانه فبدى وسيماً للغاية، فجذب الطبق مجدداً ثم وضعه أمامها ليشير إليها:
_لا طبعاً، تقدري تكملي أكلك بس أرجوكي بعد كده متتدخليش في شيء يخصني وبالذات الأكل.
رفعت يدها بإستسلامٍ:
_تمام يا “عاصي” باشا، بس أنا مش قاعدة كتير فمن الناحية دي إطمن.
مجرد التفكير في أمر رحيلها جعل الحزن يتغلب على إبتسامته، فكيف إعتاد عليها وساعات قليلة تجمعهما، إنتهت “لوجين” من تناول طعامها، فوجدته يتأملها، تنحنح بحرجٍ ثم قال:
_طب مش هتقوليلي ناوية تعملي أيه بعد كده عشان “قاسم” ميوصلكيش.
تهجم وجهها بغضبٍ:
_لازم تفكرني بالملزق ده لما بفتكره نفسي بتصد عن الدنيا والإنتحار.
عادت الضحكة لتنير وجهه الرجولي، فقال بصعوبةٍ بالحديث:
_معلش بس لازم نتكلم.
ذمت شفتيها وهي تفكر فيما ستفعل، وبعد وقت ليس بطويل قالت:
_والله ما عارفة، أنا حاولت أهرب قبل كده لأي دولة بس كان بيجيبني ابن الملزق.
تعالت ضحكاته بعدم تصديق، فاستطردت بإنزعاجٍ:
_أنا فعلاً معتش لقية حل، حتى لما فكرت أنتحر أنقذني يعني ورايا ورايا حتى لو داخلة القبر.
ونهضت عن مقعدها ثم قالت بنومٍ غلبها:
_أنا أكيد يعني هفكر في حل وهبلغك بيه، بس أنا دلوقتي عايزة أنام بدري عشان ورايا بكره شغل مهم..
عقد حاجبيه بدهشةٍ:
_شغل أيه ده؟
ابتلعت ريقها بتوترٍ ملحوظ، فرسمت ابتسامةٍ غريبة:
_لا متشغلش بالك، هتتفاجئ بالنتيجة بس.
همس بقلقٍ بعدما إختفت من أمام عينيه:
_ربنا يستر.
الفصل الخامس..
حاولت “لوجين” النوم كثيراً، ولكنها لم تستطيع فهبطت للحديقة تتمشى جوار حمام السباحة، عل الهواء المنعش يساعدها على التفكيرٍ، فالمهلة أوشكت على الإنتهاء وعليها اللجوء لخطةٍ بديلة تحميها من “قاسم”، زفرت بضيقٍ فكلما شعرت بأنها وجدت الحل المناسب يسده عليها من جميع الإتجاهات، وكأن جميع العالم يصب لمصلحته، مرت أكثر من ساعتين ومازالت تجلس على الأريكةٍ المسطحة القريبة، حتى غفلها النوم فإستسلمت له وتمددت محلها، فإبتسم من يراقبها من الاعلى بسخريةٍ، ثم ولج لغرفته وجذب وسادة وغطاء، ليهبط إليها، فرفع”عاصي” رأسها ثم وضع الوسادة أسفلها، وداثرها بالغطاء جيداً، ثم جلس على الأريكة المجاورة لها يتأملها بشرودٍ قذفه لبقاعٍ الماضي المؤلم.
##
_”عاصي” أنا حاسة إن كده خلاص.
قالت كلماتها المتقطعة ببكاءٍ حاولت السيطرة عليه، ولكنها فشلت بذلك، فإحتضن يدها بين يديه وهو يعنفها:
_قولتلك ألف مرة متتكلميش كده تاني، إنتي هتقومي يا “هند”، هتخفي وهعملك فرح الدنيا كلها تحكي وتتحاكى عنه، فاهمة؟
أغلقت جفن عينيها بقوةٍ، وكأنها تحاول تحمل الآلآم التي تضـ,ـرب جسـ,ـدها الهزيل، فإرتعشت أصابعها المتعلقة به، فحاولت الحديث رغم إرهاقها:
_كان نفسي أحقق كل أحلامي وأنا جنبك يا”عاصي”، بس الموت سبقني وخطفني.
لمعت عينيه البنية بالدموعٍ، ومع ذلك يحاول السيطرة على نفسه، ليبدو صامداً أمامها:
_هترجعي تتكلمي في اللي ينرفزني تاني يا” هند”.
نهج صدرها بإندفاعٍ، وإحتدت حدقتيها التي باتت يكسوها حمرة مخيفة، فإلتقطت نفسها بصعوبةٍ وقد شحب وجهها للغاية، حتى جسدها هاجمته برودة غريبة، إتجهت نظراتها تجاهه وكأنها تودعه الوداع الأخير الذي شعر به “عاصي” فضمها لصدره وهو يبكي كالطفل الصغير، فمنح قدرة غريبة لحثها على نطق الشهادة، حينما هزها بين يديه وهو يردد بدموعٍ تسبقه:
_رددي الشهادة يا حبيبتي.
نطقتها بأحرافٍ متقطعة لحقها صمت جاف، وبعدها برودة قاسية إستهدفت جسدها وجسده، لتظل تلك الذكرى المؤلمة تلاحقه حتى تلك اللحظة.
إستند “عاصي” على جسد الأريكة وهو يزيح دمعات تذكرها، فكلما يتذكرها يدعو لها بالرحمة والمغفرة، ويتسابق لفعل المشاريع الخيرية لأجلها، فمن قال أن وصال الحب ينقطع بموت من أحببت، بل يظل حياً يرزق بداخلك، تستحضره أينما يريد فيتجسد أمامه كأنه روحاً من لحم ودم!
توسطت الشمس كبد السماء، فتسللت خيوطها الذهبية لتنسدل على سطح المياه فمنحته مظهر خلاب، فتعالى صوت زقزقة العصافير لتزعج تلك الناعسة، ففتحت جفن عينيها الثقيل بتكاسلٍ، رفعت “لوجين” يدها لتعصب عينيها من شدة الضوء التي تعرضت إليه، فبدءت تستوعب مكان نومها رويداً رويداً، فتذكرت جلوسها هنا بالأمس ولكن ما تعجبت لأمره ذاك الغطاء الموضوع من حولها، فاستدارت على يسارها فوجدته نائم على الأريكةٍ المقابلة لها، تأملته “لوجين” بإبتسامةٍ ساحرة، فاسندت وجهها على كفة يدها وهي تتأمل معالم وجهه الرجولي بوضوحٍ، ذلك الأربعيني الأعزب إكتسب إعجابها منذ موقفهما الأول، مجرد تخيلها لوجوده جوارها طوال الليل جعل وجهها يكسوه حمرة طفيفة، إختفت إبتسامتها الحالمة حينما وجدته يستيقظ من نومه، فأستدارت بوجهها بالإتجاه الأخر، نهض “عاصي” عن محله وهو يردد بصوتٍ ناعس:
_أنا نمت هنا إزاي؟
تطلعت إليه وهي تجيبه بسخريةٍ:
_وأنا هعرف منين وأنا سبقتك!
رمقها بنظرةٍ ساخطة، تتبعها قوله المستهزأ:
_ما أنتي السبب، ضاقت في وشك يعني وملقتيش غير المكان ده اللي تنامي فيه!
إقتربت منه لتشير له بغضبٍ:
_أنا حرة أنام في الحتة اللي تريحني أنت اللي جيت هنا ليه!
مشط شعره بتشتتٍ، فربما بحث عن إجابة يرد بها عليه، ولكنه لم يجد، فتهرب حينما تطلع لساعة يديه:
_أنا إتاخرت على الشركة ولأول مرة بسببك.
لحقت به وهي تردد بذهولٍ:
_ليه هو أنا اللي قولتلك نام جنبي هنا!
لم يجيبها “عاصي” وإستكمل طريقه حتى ولج لغرفته، فجذب بذلة رسمية، ثم إستدار ليتجه لحمامه الخاص، فوجدها خلفه، تساءل بدهشةٍ:
_إنتي بتعملي هنا أيه؟
تطلعت حولها بتفحصٍ، فتملكتها الحيرة التي لحقت بربكتها:
_معرفش أنا كنت ماشية وراك وفجأة لقيت نفسي هنا!
حك طرف أنفه وهو يجيبها بسخريةٍ:
_وماشية ورايا ليه عيلة صغيرة إنتي!
إدلت شفتيها السفلية بضيقٍ من لهجته، ثم قالت:
_كنت عايزة لاب أو موبيل، أي حاجة أسلي بيها وقتي.
جز على أسنانه بضيقٍ، ثم إتجه لخزانته الشخصية ليعود إليها بعد قليل بجهاز حاسوب وهاتف، حملتهم منه بإبتسامةٍ واسعة:
_متشكرة جداً ومتقلقش يا باشا هسلمهولك لما هجي أمشي زي مهما.. كن مطمئن.
ضحك رغماً عنه، ثم حاول رسم الجدية بأمره الصارم:
_طب ممكن بره بقى مش عايز أتأخر أكتر من كده.
إحتضنت ما تحمله بطفوليةٍ، ثم تخفت من أمام عينيه والبهجة والسرور تنير وجهها، تاركة بسمة هادئة دوماً ما تنجح برسمها على وجهه.
بشقة “عمر”.
إنتهى أخيراً من جلي الأطباق، ثم خلع مريول المطبخ ليتفحص هاتفه الذي عاد ليدق للمرة الثالثة، ففتحه وهو يرد على مضضٍ:
_أيه يا”سالي” نازلة رن رن في أيه!
أتاه صوت الممرضة التي تستغيث:
_إنت فين يا دكتور “عمر”، في مرضى كتير هنا وأنا عمالة أقولهم على وصول لما قربوا يخنقوني.
زفر بضيقٍ شديد:
_هعمل أيه بس ورايا مسؤوليات بالنسبة للمدام أهم من تاريخي الطبي كله.
ثم استطرد بإنفعالٍ:
_إقفلي نصاية وجاي، ولو إتاخرت عن كده إتصلي بالبوليس.
وأغلق الهاتف ثم توجه لغرفته فأسرع بتبديل ملابسه، وجذب مفاتيح سيارته ليتجه للمغادرة، فلحقت به”إيمان” لتناديه بتعبٍ بدى عليها:
_”عمر” أنا هسبقك عند “عاصي” ، متنساش تيجي عشان نشوف موضوع “عائشة”.
أومأ برأسه بخفةٍ ثم غادر على الفور قبل أن توقفه مجدداً.
بفيلا” قاسم خلدون”
فشل رجاله بالعثور عليها جعل غضبه ينفرد بنيرانه التي كادت بحرق كل من يقترب منه، فصرخ بعصبيةٍ مخيفة:
_بقالكم يومين بتحاولوا توصلوا ليها ومش عارفين، أنا لو مشغل معايا بهايم كانوا نفعوني أكتر منكم.
الصمت كان سجنهم ليحتموا من غضبه الشرس، فقطع أحد رجاله جلسته الخاصة، حينما هرع إليه ليضع من أمامه جهاز حاسوب صغير الحجم، ليعرض مقطع فيديو قصير، فتساءل “قاسم” بإهتمامٍ:
_ده أيه؟
أجابه الرجل سريعاً حتى يتلاشى غضبه:
_ده تسجيل للكاميرات الخاصة بالعمارة اللي قدام القاعة يا باشا.
ثم ضغط على زر التشغيل فوجد “عاصي” يصعد سيارته وبصحبته “لوجين”، سيطرت الصدمة عليه، بالدرجة التي جعلته لم يصدق ما تراه عينيه، فجذب شاشة الحاسوب تجاهه ليعيد عرض الفيديو مجدداً، فاشتعلت حدقتاه على الأخير ليصيح بإهتياجٍ أشد:
_إزاي يعمل كده!
قال أحد رجاله دون تفكير:
_” عاصي سويلم” مش من طباعه إنه يعمل كده.
زم “قاسم” شفتيه مؤكداً:
_فعلاً، الا لو هي أقنعته إني هتجوزها من غير رضاها..
وردد بنفس الصوت الهادئ:
_لازم أخد حذري في دخلتي ليه، ووقتها هفهم دماغه فيها أيه؟
حل المساء سريعاً، وإجتمعوا سوياً أخيراً بالحديقة الخلفية لقصر “عاصي”، فقال “عمر” بحنينٍ للماضي:
_بقالنا كتير متجمعناش كده.
زوى “غيث” حاجبيه بضيقٍ مصطنع:
_على أساس إنك قاطع فينا أوي، إنت ليل نهار عندنا في الشركة يا ابني!
امتعض وجهه وهتف محتجاً:
_خلاص يا عم الاسطوانة اللي حمضت دي.
ازدرد “عاصي” ريقه متسائلاً في جدية، وقد ترك محله ليكون في مواجهة ابن خالته:
_سيبك منه وقولي عملت أيه إمبارح مع خالتي!
وكأنه نزع فتيل قنبلة ثورته، فانفجر هادراً بغضبٍ وقد انتفخت أوداجه:
_متفكرنيش باللي حصل يا “عاصي” ، أنا لسه لحد الآن مصدوم في اللي شوفته وسمعته!
تساء مستفهماً وهو لا يستطيع إخفاء دهشته:
_حصل أيه!
رد هامساً من بين شفتيه المضغوطتين:
_سمعتها وهي بتطلب من “عائشة” إختبار الDna.
برقت عينيه وهو يعاود التحديق نحوه بعدم تصديق، فكان يظن بأن المشاكل بينهما لن تصل لذاك الحد، صدمته في خالته وطلبها كان عظيماً، فشعر الآن بما يخوضه “غيث”، فسأله”عمر” بعينٍ تطالعه في قلقٍ:
_طب وناوي تعمل أيه؟
رد بعبوسٍ:
_والله ما أنا عارف يا”عمر”، الموضوع فعلاً صعب.
عاد السكون يغلف الأجواء للحظاتٍ، فمزقه “عاصي” حينما قال بشفقةٍ على حاله:
_فكر كويس قبل ما تأخد أي قرار تندم عليه بعدين يا “غيث”، متنساش إنها في النهاية والدتك.
ثم حثه على المشي لجواره وهو يشير إليه:
_يلا عشان الأكل هيبرد كده.
لحق بهما”عمر” للداخل، فوجد زوجته تجلس جوار “عائشة” بالصالون القريب من المائدة، تتهمسان كعادتهن كلما تجمعن بمكانٍ واحد، فإبتسم “غيث” وهو يردد ممازحاً:
_رجعيتوا إتلمتوا على بعض!
هز “عمر” رأسه في استنكارٍ، ليعلق على حديثه:
_ربنا يستر من اللي جاي، مش بتفائل بالحزب ده.
استفزتها كلماته، فدفعها لثورةٍ محتجة ولكن بصوتٍ خفيضٍ:
_ بقى كده يا “عمر”، ماشي..
تراجع على الفور مصححاً قبل أن يندلع غضبها:
_لا يا قلبي أنا أقدر، أنا أقصد إن التجمع ده بيبقى كله خير مش كده ولا أيه يا”غيث”.
كبت ضحكاته وهو يهز رأسه:
_بالظبط.
ثم تركه يواجه حربه بمفرده، وجلس جوار زوجته ثم قال وعينيه تفترسها:
_فين الأكل لحسن أنا واقع من الجوع.
أخفض”عاصي” سماعة أذنيه بعدما تأكد من إنتهاء ثورة المشاكسة بينهما:
_دقايق وهيكون على السفرة.
تفحصت “إيمان” الردهة من حولها، فقد أنستها رفقة صديقتها الوحيدة عدم وجود “لوجين” ، فسألت أخيها بذهولٍ:
_فين “لوجين” يا “عاصي”؟
طوف المكان بنظرةٍ متفحصة قبل أن يجيبها:
_معرفش جايز في أوضتها!
إتجهت لتصعد الدرج وهي تخبره:
_هطلع أشوفها.
وضعت”عائشة” كوب العصير عن يدها، لتسأله بدهشةٍ:
_مين “لوجين” دي، أنت إتجوزت ولا أيه يا “عاصي”؟
أومأ برأسه مؤكداً في لؤم خبيث:
_أيوه في السر ومعزمتش حد!
ضحك”غيث” على بلاهةٍ زوجته، فعلق عليها بتهكمٍ قاصداً التلميح بما يراود عقله:
_بندعي كلنا من قلبنا إننا نوصل حتى لمرحلة الإشاعات دي.
إستفرض “عمر” بالفرصةٍ حينما أضاف:
_والله تبقى مراتك جابت البشارة يا “غيث”.
نظر لهما “عاصي” شزراً، فقال “عمر” رافعاً كفه في لهواء موجداً لنفسه المبررات الواهية:
_ مش ده شرع ربنا يا ابني، هتحرمه كمان!
مال عليه “غيث” ناصحاً:
_كفايا زودت الدور ونهايتك هتبقى مخيفة.
تنحنح وهو يعتدل بجلسته، ليهمس إليه:
_كويس إنك نبهتني.
بالأعلى.
طرقت عدة مرات على باب غرفتها، فولجت حينما استمعت لآذن الدخول، راسمة إبتسامة مشرقة على وجهها:
_الجميل صاحي ولا نايم؟
تركت “لوجين” الحاسوب من يدها، لتردد بفرحةٍ:
_”إيمان” أيه المفاجأة الجميلة دي.
وإحتضنتها بحبٍ، فربتت الأخيرة على ظهرها بحنانٍ، ثم عاتبتها قائلة:
_طب أما هي مفاجأة جميلة منزلتيش ليه تقعدي معانا تحت!
تجسد الخجل بوجهها، فجاهدت للحديث:
_كان نفسي والله بس أنا معيش هدوم كويسة..
وأكملت حديثها بمشاغبةٍ:
_أنا كل مرة بعمل حسابي وأنا هربانه من الملزق ده بس المرادي خدني على خوانة.
كركرت “إيمان” ضاحكاً، ثم قالت:
_ مش ممكن يا لوجي إنتي دمك شربات.
إكتفت برسم بسمة صغيرة، فغابت عنها ثم عادت بعد قليل حاملة فستان أسود ضيق من منطقة البطن ويتسع من الأسفل، فوضعته بيدها ونظراتها بدت مريحة نوعاً ما:
_لو كنتي قولتيلي كنت جبتلك حاجة من لبسي وأنا جاية، أو على الأقل كنا نزلنا عملنا شوبنج وجبنا الحاجات اللي على مزاجك، بس معلش تتعوض، حاولي تمشي نفسك بده.
جذبته منها ثم وقفت تقيسه على جسدها أمام المرآة، فسألتها بترددٍ:
_ده بتاع “هند” صح؟
زوت حاجبيها متسائلة بخوفٍ:
_هو مش عجبك!
ردت مؤكدت دون أن تهتز لها جفن:
_لا والله جميل، بس أنا خايفة “عاصي” ينزعج لما يشوفني لبساه.
عقبت على ما قالته:
_لا طبعاً أيه اللي هيضايقه، هدومها مركونة هنا وبعدين أكيد هيجي اليوم اللي هتسكن فيه القصر وقلبه واحدة غيرها.
حملقت فيها كالمبهوتة لثوانٍ، تستوعب ما قالته فشعرت بمسؤولية غريبة تجاهها وتجاه رغبتها الحالمة، تركتها “إيمان” لتبدل ثيابها ثم هبطت لتنتظرها بالأسفل.
وضع الطعام الشهي على السفرة التي جمعتهم بعد وقتاً طويل، فوزعت “إيمان” الأطباق على الجميع، وشرعوا بتناوله في جو من الألفة والمحبة المتبادلة فيما بينهم، فإنتبهوا لمن تهبط الدرج محدثة بحذائها صوت لفت إنتباههم، إستدار “عاصي” تجاه الدرج، فتعلقت عينيه بما ترتديه، كان مألوفاً بالنسبة إليه، فتجسدت أمامه “هند”، وكأن هناك من استحضرها لتسكن هذا الجسد، هامت عينيه بها وهي تتبادل السلام مع”عائشة” وخاصة بعد أن عرفتها “إيمان” عليها، شعرت “لوجين” بالحرجٍ من نظراته حتى أن الجميع لاحظ ذلك، فتمنت لو إنتهت تلك الزياردة سريعاً حتى تبدل ثيابها، وبعد دقائق إنصرف كلاً منهما لمنزله بعد أن إتفقت “إيمان” مع “عائشة” للخروج بالغد للتنزه قليلاً وشراء بعد المستلزمات الخاصة بولادتهن.
وما أن تأكدت “لوجين” من مغادرة الجميع حتى إتجهت لمكتب “عاصي” بعدما فضل الجلوس به بمفرده، دقت على الباب قبل دلوفها رغم إنه كان مفتوح، فقال دون أن يرى من الطارق:
_تعالي يا “لوجين”.
خطت للداخل بإرتباكٍ، فكانت تقدم قدماً وتؤخر الأخرى، فجلست أمام مكتبه وبعد صمت طال بها أجلت حبالها التي علقت به الكلمات:
_أنا أسفة إني لبست من لبسها، بس”إيمان” والله اللي ادتهوني لإني مكنش عندي لبس أنزل بيه تحت.
توقعت أن تواجه غضب منه أو حتى عتاب، ولكنها وجدته يمنحها إبتسامة تذهب العقل، ليجيبها بصوته الرخيم:
_وأيه ممكن يزعلني في كده!
ثم نهض عن مقعده وإتجه ليجلس على المقعد الذي يقابل مقعدها:
_أنا فاتني الحتة دي بس إن شاء الله نجيبلك لبس يكون خاص بيكي أنتي.
أسرت بذوقه وإبتسامته الجذابة، فقالت بإرتباكٍ:
_مفيش داعي، أنا لسالي يوم واحد وهوفي بوعدي لاني مش عايزة أسببلك مشاكل مع “قاسم”.
بلل شفتيه السفلى بلعابه ثم قال:
_لا مش هتمشي من هنا.
تطلعت له بذهولٍ، فإستطرد بتوضيحٍ لها:
_لإنه عرف إنك عندي فعلاً.
اتسعت حدقتاها في عدم تصديق مرددة باستنكارٍ:
_إزاي!
رد مؤكداً:
_بعتلي رسالة بيطلب فيها يقابلني بكره، ومن طريقة كلامه فهمت إنه عرف.
هربت الدماء من وجهها ونظرت له بعينين متسعتين في توترٍ:
_طب هعمل أيه دلوقتي؟
علق مبتسماً قبل أن يترك مقعده ليتجه للأعلى:
_سيبي الملزق ده عليا.
وإستكمل طريقه وهو يشير إليها:
_روحي نامي يا”لوجين” ومتفكريش في حاجة تانية.
كلماته منحتها أمان لطالما إفتقدته بوجود عائلتها التي تهاب “قاسم” ورجاله، وبالرغم من خوفها الشديد الا أنها إبتسمت على وصفه بالكلمة التي تنسبها إليه كلما لعنته أو نال منها معزوفة من الردح الخاص به، فعبثت بخصلات شعرها بشرودٍ في ذلك الأربعيني الذي بدى خطراً على قلبها ومشاعرها التي باتت تنجرف تجاهه، فنهضت “لوجين” عن مقعدها ثم إتجهت لتجلس على مقعده الأساسي، فمددت جسدها عليه بأريحيةٍ والابتسامة تزين وجهها، فإحتضنت سطح مكتبه ومازالت كلماته تحاصرها فصنعت لها سحر إستحوذ عليها.
الفصل السادس..
أباد ضوء الشمس الساطع ظلمة الليل الكحيل، وحينما احتضنت عقارب الساعة السادسة صباحاً، حتى إستيقظ “عاصي” ليركض بحديقة القصر مثلما اعتاد وفور إنتهائه إتجه لغرفة مكتبه من الباب الزجاجي الخارجي، فوجدها تستكين على مقعده كالملاك، اقترب منها “عاصي” وعقله مشدوهاً بها، فزارت شفتيه إبتسامة شبه ساخرة، فمن يرى جمالها الهادئ لا يصدق بأنها تلك المشاغبة التي أضافت شيئاً لحياته، مسح وجهه بيديه ثم اقترب منها ليرفع صوته حتى يزعجها:
_”لوجين”.
فتحت نصف عين، وهي ترد بنومٍ:
_ها.
سيطر على ضحكاته بصعوبةٍ، ليشير إليها بحزمٍ:
_ورايا شغل لازم أخلصه قبل ما أروح الشركة.
أتاه صوتها المنزعج:
_ما تخلصه أنا مسكتك يا عم!
إنتصب بوقفته ثم هز رأسه ساخراً:
_هخلصه إزاي وإنتي تقريباً نايمة على اللاب!
وجدت ما يقوله غريباً بعض الشيء، ففتحت عينيها لتتأمل المكان الذي غفلت به، فنهضت عن مقعد مكتبه وهي تلملم خصلات شعرها المبعثرة بحرجٍ:
_أنا مش عارفة نمت هنا إزاي!
حدجها بنظرةٍ مشككة، قبل أن يتبعها خشونة نبرته:
_إنتي أي حتة بتنامي فيها!
زمت شفتيها وهي تجيبه:
_لما ببقى عايزة أنام مبيفرقش معايا أنا فين؟
ضحك رغماً عنه، ثم أشار لها تجاه الدرج بمزحٍ:
_أوكي، إطلعي السلم هتلاقي أوضتك على الشمال وإتاكدي من الأوضة لأطلع ألقيكي نايمة المرادي في خزنة هدومي.
رسمت ضحكة مستهزئة رغم حدة نظراتها الشرسة تجاهه:
_مبتضحكش على فكرة، أنا مش مسطولة للدرجادي يا حضرت.
وأبعدت المقعد عنها فوجدته يعيق طريقها بوقفته القريبة منها، فأشارت له بضيقٍ:
_وسع كده.
رفع يديه للأعلى وهو يتراجع للخلف بخوفٍ مصطنع، حتى مرت من جواره وصعدت للأعلى بعصبيةٍ كادت بإبادته، فردد بعدم تصديق والإبتسامة مازالت مرسومة على وجهه:
_مجنونة!
عبقت رائحة القهوة التي يعشقها من صنع يدها منزله، فنهض “غيث” ليجدها تصنع له الطعام بحبٍ لطالما عهده منها، راقبها ببسمةٍ عشقت تفاصيلها، فشعرت من توليه ظهرها بوجوده، وكأنه مرهون بدقاتٍ قلبها النابضة داخل صدرها، إستدارت “عائشة” للخلف ببسمةٍ رسمت برؤياه:
_الفطار جاهز.
سؤاله المعتاد في كل صباح جمعهما، فكانت تسرع دوماً بإجابته مثلما فعلت اليوم، تحرك “غيث” تجاهها ليضمها من الخلف، ثم همس لها بإنفاسٍ كادت بحرق رقبتها:
_الأهم من الفطار إني أشوفك قبل ما أنزل كل يوم الشغل.
دفعته بعيداً عنها وهي تشير إليه بتحذيرٍ:
_على فكرة أنت إتاخرت ولازم تنزل بسرعة.
اقترب ليسد طريقها وهو يغمز بخبثٍ:
_مش مهم.
إنحنت “عائشة” من أسفل ذراعيه ثم أسرعت تجاه الطاولة:
_أنا لازم أنزل حالاً عشان رايحة مع “إيمان” و”لوجين” نشتري شوية حاجات للبيبي.
مرر يديه على ذقنه النابتة بضيقٍ:
_لحقتوا تتفقوا على خروجات من دلوقتي!
ضحكت وهي تجذب المقعد للخلف لتجلس جواره:
_وده يضايقك في أيه بس ما أنت بتكون في الشغل وأنا لوحدي.
غمس قطعة الخبز بالجبن ثم تناولها قبل أن يشدد عليها:
_روحي بس خلي بالك من نفسك.
وضعت يدها بين يديه الموضوعة على الطاولةٍ وبحبٍ أظهرته إليها بحدقتيها قالت:
_بأحب خوفك عليا ونفس الكلمة اللي بتقوليهالي كل ما بقولك إني خارجة.
قرب يديه الأخرى ليحتضن كفها،وعينيه تغمز لها بمكرٍ:
_في كلام تاني كتير محوشه ليكي بس أنتي اللي مش مدياني الفرصة.
سحبت يدها سريعاً، ثم جذبت كوب الحليب لترتشفه في محاولةٍ للهرب من نظرات رغباته التي تفضحه، وحينما وجدته مازال يتطلع لها غمغمت وهي تشيح بوجهها بعيداً عنه:
_بعدين يا “غيث”.
عاد ليتناول طعامه ببسمةٍ هادئة تلاشت تدريجياً حينما قرب شاشة هاتفه إليه ليرى من يتصل به بالصباح الباكر، خمنت”عائشة” كناية المتصل، فتساءلت بإرتباكٍ:
_ماما؟
أجابها باقتضابٍ عابس:
_أيوه.
كظمت إنزعاجها، فرغماً عنها تتذكر ما فعلته بها لتنهي هذا الزواج بالرغم من أنها بذلت ما بوسعها لتنال حبها، ولكنها كانت تكن لها كراهية وعداء لا تعلم “عائشة” سببه، فكانت تظن بأنها ستلين حينما تجدها تعاملها بلطفٍ، فسيطرت على التغير الجذري الذي طرأ على تعابير وجهها فور تأكدها بأنها المتصلة ثم أضافت متسائلة:
_طب أيه مش هترد؟
صمته المطول جعلها تستميله بحديثها:
_دي مهما كانت والدتك يا “غيث” ، رد عليها يمكن في حاجة مهمة.
حملق فيها بصدمة مذهولة حتى إن تفكيره إضطرب كلياً، فردد في عدم تصديق:
_بعد كل اللي عملته فينا وعايزاني أرد!
هزت رأسها محتجة:
_أنا بس كنت آآ..
بتر كلماتها على لسانها حينما نهض عن مقعده الذي سقط أرضاً من قوة دفعه له:
_أنا مش عايزك تتدخلي في الموضوع ده تاني يا “عائشة”، سامعة؟
أومأت برأسها دون أن تنطق بحرفٍ واحد، فعاد ليكمل بنفس اللهجة المتعصبة:
_ أنا اللي يطعن في شرف مراتي كأنه طعني أنا ويارتها كانت من حد غريب!
وتركها وإتجه لعمله دون أن ينبس بحرفٍ واحد..
استشاطت “سمية” غضباً من تجاهله لمكالماتها فصاحت بتهورٍ بعدما جرفتها مشاعر السخط تجاهها:
_أكيد هي اللي ملت دماغه من نحيتي بعد ما نصبتلي الفخ.
وضغطت على شفتيها بقسوةٍ وهي تردد بوعيدٍ لها:
_طب والله لأوريكي يا لمامة يا تربية الملاجئ، إما خلتك تقولي حقي برقبتي!
على صوت جرس بابها، فحواطتها مشاعر متدفقة بالسرور والبهجة، لظنها بأن ابنها قد أتى إليها، فنهضت عن الأريكة بسرعةٍ لا تتناسب مع عمرها، ثم إتجهت لتفتح بابها، حافظت “سمية” على إبتسامتها وإن كانت شبه مصطنعة حينما خاب أملها بالطارق، فرددت بترحابٍ زائف:
_”عاصي” تعالى يا حبيبي.
وتنحت جانباً حتى مر للداخل، فتبعته للداخل ثم أشارت له بالجلوس:
_إقعد يا حبيبي بقالي كتير مشفتكش.
جلس “عاصي” بهدوءٍ رغم شعوره بالنفورٍ مما فعلته خالته، فساد بينهما صمت على غير عادتهما باللقاء، فكان يبحث عن كلمات لائقة لا تجرحها، أما هي فتتهرب من مواجهة حتماً ستحدث بينهما، إلى أن قرر قطع حبال الصمت المطولة:
_أنتي أكيد عارفة أنا جاي هنا النهاردة ليه يا خالتي، فمفيش داعي إني ألف وأدور عليكي.
وفرت عليه ما سيقول وقالت مباشرة:
_لو جاي عشان تدافع عن تربية الملاجئ إنت كمان يبقى بلاش تتكلم يا “عاصي”.
رد عليها بتعابير مشدودة:
_لا مش جاي أتكلم عن تربية الملاجئ، أنا جاي أتكلم عن بني أدمة زيك وزيي، وتبقى مرات ابنك وأم حفيدك اللي أنتي مشككة في نسبه.
ردت عليه بنزقٍ:
_ليا حق أشك في نسبه مهو في النهاية ابن واحدة ملهاش لا أب ولا أم.
أخرج زفيراً مطولاً من صدره قبل أن يرد عليها:
_هو أحنا اللي بنختار حياتنا، محدش بيختار لنفسه الوحش يا خالتي.
ثم استكمل بصوتٍ حزين:
_بلاش تخسري ابنك الوحيد بسبب عمايلك دي.. إنتي أكتر واحدة عارفة اد أيه هو عنيد.
أتاه ردها فاتراً:
_وأنا أعند منه ومش هتقبل اللي في بطنها غير لما تعمل التحليل.
أوشك على فقدان آخر ما تبقى بطاقة صبره، وبصعوبة شديدة كبح إنفعالاته:
_يبقى هتخسري وهتخسري كتير.
زمت شفتيها معلقة في سخطٍ:
_ده ابني، يعني مهما عمل في النهاية مستحيل هيتخلى عني.
أجابها بعقلانية بعدما استقام بوقفته ليستعد للرحيل:
_ابنك مبقاش صغير بقى راجل والراجل أكتر حاجة توجعه إن حد يطعنه في عرضه وشرفه.
نظرة مترددة تكونت في عينيها، أخافها بما قال عن عمدٍ بما قال ليتنحنح بعدها مردداً بهدوءٍ:
_فكري كويس قبل ما تضيعيه من إيدك.
وتركها شاردة بما قال ثم هبط ليصعد لسيارته التي كان سائقها بإنتظاره، ليتجه به للشركة على الفور.
فتحت الحاسوب بلهفةٍ لترى نتائج ما فعلته بالأمس، فارتسمت إبتسامة رضا على وجهها حينما رأت نتائج مبهرة لما فعلته، فصفقت بيدها وهي تمدح نفسها:
_براڤو “لوجي”.. كده بقى ضميري هيكون مرتاح من نحيته!
فرحتها كانت غامضة وغير مفهومة، ولكن بعد ساعات مبسطة صارت علني للجميع على وسائل التواصل الإجتماعي، مما جعل”عمر” يسرع بالإتصال “بغيث”، فأخبره بما حدث ثم أكد عليه قائلاً:
_بلغه بسرعة بكلامي ده وخليه يتصرف بسرعة قبل ما نتفضح.
أجابه”غيث” بنبرةٍ ساخرة:
_أبلغ مين أنت مصدق إنه يعمل الهبل ده!
_”غيث” الموضوع مش هزار، إلحق بسرعة بلغ “عاصي” يمكن يتصل باللي نشر الكلام ده ويتراجع.
ببسمةٍ خبيثة أخبره:
_أنا أفضل إنك تبلغه بنفسك.
وأغلق الهاتف وهو يراقب ما أرسل إليه بصدمةٍ وعدم إستيعاب لما سيحدث حينما يعلم “عاصي” بالأمر.
******
بمكتب “عاصي”..
إنزعج من الإتصالات المتعددة التي يتلاقها هاتفه من”عمر”، فرفعه وهو يجيب على مضضٍ:
_ كل دي مكالمات على الصبح!
أتاه صوته الذي بدى إليه منصدماً بعض الشيء:
_أنا عارف إنك بتمر بأزمة عاطفية من وقت وفاة” هند” وكلنا كنا بندعيلك إنها تعدي على خير، وتقطع وعدك بالعزوبية وتتجوز بس اللي أنت عملته ده كان صدمة بكل المقاييس!.
واستكمل ساخراً:
_أنا قولت لأختك أكتر من مرة إنك خبيث بس هي مكنتش مصدقاني، بس أكيد لما تشوف اللي شوفته هتصدق كل حرف قولتهولها.
مرر يديه على جبينه ليحارب صداع رأسه الذي يهاجمه فور سماع صوته، ثم قال بفتورٍ:
_يا ابني والله ما فايق لألغازك دي على الصبح، إنجز وقولي مالك؟
أجابه بحدةٍ، وكأنه لا يصدق بأنه لا يعلم مغزى حديثه:
_بعتلك الخبر على الواتس روح وشوف بنفسك.
أغلق”عاصي” مكالمته ثم فتح لينك الموقع الذي قام “عمر” بإرساله إليه، فقرأ بعدم إهتمام المدوت من أمامه، جحظت عينيه في صدمةٍ حقيقية، فاعتدل بمقعده سريعاً ليعيد القراءة مرة أخرى ببطءٍ وإهتمام
«رجل الأعمال الشهير “عاصي سويلم”، يبحث عن فتاة أحلامه، ويضع شروط خاصة لذلك، فمن ترى نفسها تليق بالأربعيني الأعزب الوسيم تملي تلك الاستمارة وسيتم اختيار عدد لمعاينة مقابلة سريعة في قصره الخاص»
فتح الاستمارة الموضوعة أسفل الإعلان، فصعق حينما وجدها عبارة عن أسئلة متعلقة بالوزن والطول، ولون البشرة وطول الشعر وآخرى متعلقة بالعلاقات السابقة والمؤهلات التعليمة، أغلق الهاتف وهو يردف بتعصبٍ شديد:
_” لــــــوجين”… عملتي أيه يا مجنونه!
ونهض عن مقعده ثم جمع ملفاته الهامة ليسرع بالخروج، فوجد أمامه السكرتير يسرع بإخباره حينما وجده يستعد للخروج:
_”قاسم” باشا بره من فترة وعايز يقابل حضرتك.
إتجه للدرج وهو يشير إليها بإنزعاجٍ:
_مش فاضيله دلوقتي، بلغي “غيث” وخليه يقابله مكاني.
وهبط للأسفل سريعاً، ليتجه بسيارته للقصر على الفور، والدماء تفور داخل أوردته، فما أن توقفت السيارة حتى أسرع بالهبوط ومن ثم ولج للقصر باحثاً عنها بغضبٍ عاصف، فإهتدت عينيه على الخادمة التي تنظف الطاولة القريبة منه، فصاح بصوتٍ جمهوري:
_فين المجنونه دي؟
ارتعبت الخادمة من ملامحه المتعصبة، فأسرعا بالإشارة بإصبعها المرتجف تجاه مكتبه، تجهمت معالمه وهو يتساءل بدهشةٍ:
_بتعمل أيه لسه في مكتبي؟
عادت لتشير بكتفيها بقلة حيلة، فتركها واستكمل طريقه للداخل، فتفاجئ بها تجلس على مقعد مكتبه وتضع قدميها على حافته ، وبين يدها ثلاث من هواتفه الهامة، فبدت حائرة بالرد على أي منهما، فرفعت سماعة إحداهما ثم قالت بابتسامةٍ واسعة:
_أهلاً بكي في قصر الاربعيني الاعزب، أنا “لوجين” سكرتيرته الخاصة… وأنتي مين؟
انصتت للجهة الاخرى بعنايةٍ، فإنتفضت بجلستها وهي تردد بصدمةٍ:
_ أيه 120كيلو، لا يا حبيبتي أنا بقترح عليكي تعملي ريجيم قاسي، وبدل ما تتصلي بينا إتصلي بنادي رياضي ينفعك.
وأغلقت الهاتف وهي تهمس بسخريةٍ:
_دي عايزة حزام ناسف مش عريس!
وأمسكت القلم من أمامها ثم وضعت علامة «×» أمام الاسم المطروح أمامها، وعادت لترفع السماعة المجاورة لها لتستقبل مكالمة أخرى، فإرتسمت إبتسامة مصطنعة وهي تردد:
_الصوت مبشر بس قوليلي بسرعة كده وزنك أد أيه؟ لو طلع أزيد من 100هزعل.
ارتخت تعابير وجهها الرقيق حينما استمعت لما قالته، ثم قالت بحماسٍ:
_طبعاً بعد اللي سمعته ده تقدري تيجي بكره لمقابلة “عاصي سويلم”..
وأغلقت الهاتف بإبتسامة متعجرفة ثم رددت بثقةٍ:
_حاسة كده إن مشكلة المعقد على وشك أنها تتحل.. ويمكن لما نعالج مشكلته حال القصر الكئيب ده يتعدل لما يتجوز بنت كويسة.
_وأنا كنت إشتكيتلك!
كلمات انطلقت من فاهه بعصبيةٍ شديدة، جعلتها ترتد عن مقعدها بفزعٍ، فرفعت يدها على صدرها وهي تتحكم بدقاتها المتسرعة:
_خضتني، إنت متعرفش تتكلم بصوت واطي أبداً!
أنهى المسافة بينهم، حتى أصبح قريباً منها وبصوتٍ كالرعد قال:
_هو أنتي لسه شوفتي حاجة، اللي جاي أبشع من اللي بيحصل هنا دلوقتي.
ومن ثم جذبها من تلباب قميصها الوردي وهو يصرخ بانفعالٍ:
_قوليلي حالاً أيه الجنان اللي أنت عملتيه ده، وعروسة أيه اللي بتدوري عليها دي!
قالت بابتسامةٍ واسعة:
_أنت متعرفش حاجة عن حل الامور المعقدة اللي أنت بتمر بيها، أنت محتاج بنت عشان تقدر تتخطى أزمتك دي، بنت تكون جميلة ورقيقة كده هي اللي هتقدر تساعدك وتصنع المعجزات..
جز على أسنانه ومن ثم شدد من ضغطه على خصلات شعره قبل أن يقول:
_وانتي اللي هتقرري بدالي أيه اللي محتاجله!
أجابته بكل غرور:
_أيوه أنا.
لعن ذاته في تلك اللحظة على تقديمه المساعدة لتلك الحمقاء، فتشبث بأخر ذرة أعصاب يمتلكها ثم قال:
_اسمعيني إنتي هنا ضيافة فإتصرفي على الأساس ده، ولأخر مرة هقولك متتدخليش في حياتي الشخصية لإن ده مش من إختصاصك.
وكاد بالخروج من الغرفة، فاتبعته وهي تشير له بحماسٍ:
_اختيار شريكة حياتك مش أمر خاص بيك لوحدك، سيبلي المهمة دي وأوعدك أختارك بنت كويسة تليق بيك يا وسيم..
استدار تجاهها ليحدجها بنظرةٍ قاتلة، فجذبت لوحة الاسماء ثم جلست تتابع عملها وهي تردد بصوتٍ منخفض بعض الشيء:
_أنت ساعدتني إني أتخلص من “قاسم” الملزق ده عشان كده لازم أساعدك إنك تتخلص من عقدتك دي وتتجوز في أسرع وقت.
أطبق على شفتيه بقوةٍ كادت بأن تبترهما، فاستكمل طريقه للاعلى هامساً بحنقٍ:
_أنا اللي عملت في نفسي كده.
*******
بعيادة الدكتور “عمر أيوب” الخاصة بالعلاج النفسي.
ارتشف كوب قهوته التي تعدت السابعة، وهو يتأمل خبر الموقع للمرة التي نسى عددها، ليهمس بقلقٍ:
_يا ترى أيه اللي حصله؟
وأردف بعد مهلة من التفكيرٍ:
_أكيد البت الغريبة دي هي السبب في جنونه،عشان كده بقى بيدور على عروسة علناً بعد ما كان عامل إعتصام عشر سنين.
وأغلق حاسوبه وهو يدندن بسخريةٍ:
_مراتي دايماً شايلة هم أخوها العانس وهو قايم بالواجب وبيدور على عروسة على النت، حاجة بجد يدعو للفخر.
وجذب الهاتف الموضوع لجواره ثم صاح بضيقٍ:
_هاتيلي فنجان قهوة كمان ودخلي أول حالة.
وبالفعل سمحت بدخول أول حالاته، فتمدد المريض على السرير المريح ومن ثم بدأ بأول جلساته، فأذا بضوضاء تأتي من الخارج ليتبعه صوت اصطدام قوي، تعجب “عمر” فحاول التعرف على مصدر الصوت فلم يكن سوى باب المكتب الذي دفعته “إيمان” بقوةٍ، لتدنو من زوجها الماسد جوار مريضه ثم صاحت بحدةٍ:
_قول للممرضة الهبلة دي متمنعنيش تاني من الدخول، أنا أجيلك في الوقت اللي أنا عايزاه أنت فاهم؟
تحولت نظراته لتلك الممرضة البائسة التي تعاني من تسلط هرمونات زوجته التي توشك على الولادة، وكلما شعرت بتعبٍ بسيط هرعت اليه وكأنه طبيب متخصص بالنسا والتوليد، وضعت “إيمان” يدها حول خصرها وهي تتأوه بألمٍ:
_أنا مش عارفة أنت هتحس بيا وبالتغب اللي أنا فيه أمتى؟
سلطت نظراته على المريض المستلقي أمامه، ثم قال بحرجٍ من طريقتها:
_وطي صوتك يا حبيبتي، هتضيغي مسيرة سنين دراستي بالطب بسبب أفعالك الجنونية دي!
لوت شفتيها بسخطٍ، وهي تصرخ بوجهه:
_ده كل اللي يهمك؟ شهاداتك والمرضى!
هز رأسه بخفوتٍ، فجزت على أسنانها بغيظٍ، ثم تركته واتجهت للتخت لتلكز المريض بغضبٍ:
_أنت إتعميت زي الدكتور بتاعك، نايم ومتهني ولا كأنك شايف قدامك ست حامل وعلى وش ولادة، خلي عندك دم وقوم.
ودفعته بعيداً عن الفراش ثم تمددت وهي تشير لزوجها المنصدم مما يحدث:
_إكشف عليا بسرعة وقولي مالي؟
وتنهدت ببطءٍ وهي تخبره بوجعٍ:
_حاسة إن ابني مش كويس وبالذات لما خلصت غسيل الهدوم اللي كل بقعة فيها أد كده بسببك..
عبث بعينيه وهو يجيبها بإستهزاءٍ:
_متقلقيش يا روح قلبي أنا هبطل ألبس هدوم خالص، هعلم نفسي إني أتكيف على المشي عريان عشان سلامتك إنتي والولد.
وسألها بثباتٍ مصطنع:
_مبسوطة كده؟
أومأت برأسها بابتسامةٍ نصر، ثم قالت:
_بدأت أبقى مبسوطة، ودلوقتي بقى إطلبلي عصير عشان أهدي أعصابي لحسن حاسة إني مش تمام.
تحكم بانفعالاته الثائرة، ثم أشار للممرضة بابتسامةٍ يرسمها بالكد:
_هاتيلها كوبيتين عصير يا “سالي” ، وأوعي تتأخري لحسن تبلعني وأنا واقف بالبلطو كده.
كبتت السكرتيرة ضحكاتها وهي تسرع بالخروج لتنفذ طلبه، فجذب “عمر” المقعد ثم قربه منها وهو يناديها بخوفٍ:
_بقيتي كويسة دلوقتي؟
هزت رأسها بابتسامة واسعة، فلعق شفتيه الجافة بارتباكٍ مما سيقول:
_طيب يا حبيبتي، أنا عايزك تسمعيني كويس بس بقلبك، لو فضلتي تجيلي هنا كتير وتطردي المرضى بالشكل ده هنجمع فلوس ولادتك منين!
ضيقت عينيها بضيقٍ من حديثه، ثم قالت:
_يعني أعمل أيه يا “عمر”، لما بحس بوجع بخاف يكون معاد ولادتي قرب عشان كده بجيلك جري..
اصطنع ابتسامته، ثم قال بهدوءٍ:
_يا روحي إتصلي بيا بس وأنا أوتدك هسيب كل حاجة في إيدي وهجيلك جري بدل الفضايح اللي بتحصل هنا دي.
احتدت نظراتها الشرسة تجاه، فصرخت بعصبيةٍ:
_أنت تقصد أيه بكلامك ده، أنا اللي بعملك فضايح!
ابتلع ريقه بخوفٍ وهو يجيبها:
_لا يا حبيبتي انا بس كنت آآ..
ابتلع كلماته حينما وجدها تحتضن بطنها وتصرخ بجنون:
_آآه.. “عمر” ، بطني مش قادرة..
واتبعها صرخة أكثر ارتفاعاً وقولاً يلاحقه:
_الحقني يا “عمر” أنا بولد .
حملها “عمر” ثم هرول للاسفل ركضاً، فوضعها بسيارته ثم حمل هاتفه ليطلب “عاصي” الذي أجابه بتأففٍ:
_أيه تاني!
أتاه صوته المتقطع من فرط أنفاسه اللاهثة:
_أنا أسف لو بزعج جناب الاربعيني الأعزب الوسيم، والله ما عايز أعطلك عن مقابلاتك الهامة اللي تخص مستقبلك الوردي بس كنت عايز أقولك إن أختك بتولد، فلو عرفت تيجي يبقى ده كرم منك كبير.
رد عليه بنبرة حادة حملت وعيداً سيحققه ذات يوماً:
_سقتلك في يوم من الأيام، خليك فاكر ده كويس.
ثم أغلق الهاتف بوجهه وهو يلعن هذا اليوم الغامض في حياته الذي بدأ بما فعلته تلك الحمقاء وانتهى بشقيقته وزوجها، فجذب جاكيته وأسرع للدرج ليتجه بالهبوط، فتفاجئ بها تختبئ خلف أحد المقاعد وهي تشير له بالأقتراب، أطبق شفتيه ببعضهما بغيظٍ، فإنحنى إصبعها تجاه الطابق السفلي وهي تهمس برعبٍ:
_”قاسم”..
الفصل السابع..
لم يتفاجئ “عاصي” بوجود “قاسم” بمنزله، فهبط للأسفل بثباتٍ، متجاهلاً ندائها المتكرر بصوتها الشبه مسموع، فكان ردة فعله بالنسبة إليها غريباً، كانت تظن أن الإختباء هو الحل الأمثل في تلك المواقف، ولكنها وجدته يهبط لمواجهته، تسللت “لوجين” لحافة سور الدرج، ثم مدت رأسها من خارج أعمدته المعدنية لتراقب ما يحدث بوضوحٍ، إتجه “عاصي” لمقعده دون أن يعبئ بيديه الممدودة لتبادل السلام فيما بينهم، فسحبها بغيظٍ وهو ياول الحفاظ على هدوئه بشتى الطرق، فبدأ بالحديث أولاً:
_أنت أكيد بلغك إني روحتلك الشركة وحاولت أقابلك أكتر من مرة ولما معرفتش النهاردة جيتلك لحد عندك ومن الواضح إنك عارف سبب زيارتي ليك.
تعمق بنظراته تجاهه، ليجيبه بعنجهيةٍ:
_حبيت إنك صريح من البداية لإني في الحقيقة معنديش وقت ولازم أخرج.
إبتلع تلك الإهانة عن قصدٍ، ثم سأله بشكلٍ صريح:
_فين “لوجين” يا “عاصي”؟
رفع حاجبيه باستغرابٍ، وبمكرٍ قال:
_مين ” لوجين”، آه دي عروستك اللي هربت يوم الخطوبة!
ظهرت تكشيرة جانبية على شفتيه وهو يقول باستنكارٍ:
_قصدك اللي أنت خطفتها.
رد عليه دون مراوغة وقد إحتدت نبرته:
_إنت متأكد إني عمري ما أنزل لمستواك الوضيع ده ، أنا إتصرفت زي أي راجل شايف بنت محتاجة مساعدة.
إحتد الحديث بينهما فلم يصبح للين طريقاً بينهما، وخاصة حينما أهدر”قاسم” بتهديدٍ صريح:
_لا لما تخرج معاك بالطريقة الغريبة دي يبقى خطف وأنا عايزك تعرف إن اللي عملته ده هيوقعك في مشاكل أنت مش أدها، ممكن ببساطة أرفع عليك قضية وإتهمك بخطف خطيبتي ولو الإعلام شم خبر مش هيتوصوا وده هيأثر عليك وعلى شغلك.
تجهمت ملامح “عاصي” حينما إستمع لتهديده الجريء، فضبط أنفاسه المندفعة ليقول بخشونةٍ:
_أعلى ما في خيلك إركبه، القضية اللي بتهدد برفعها دي مش هتاخد بيها حق ولا باطل وخصوصاً بعد شهادة خطيبتك اللي هتبين للصحافة أد أيه أنت معندكش كرامة وبتجري ورا واحدة مبطقش تبص في خلقتك.
ورفع صوته الماكر متابعاً توبيخه:
_يعني الليلة دي إنت اللي هتشيلها مش أنا.
ثم إنتصب بوقفته،ليتابع حديثه بإهانة تعمدها:
_ياريت بعد كده متجيش هنا من غير ما تاخد معاد..
ثم أشار بيديه تجاه الخادمة التي أسرعت لترى ماذا هناك، فأمرها بصرامةٍ:
_مع الباشا.
وقفت إهانته كالشوكة العالقة برئتيه، فنهض عن المقعد ثم وقف مقابله ورفع عينيه إلى وجهه يتحداه بتصميمٍ:
_إنت اللي بدأت بالحرب يا باشا.
وإتبع الخادمة حتى وصل لباب القصر الداخلي، فغادره بخطواتٍ سريعة، والنيران تكاد تحرق وجهه، فما أن صعد إلى سيارته حتى أخرج هاتفه ليملي أوامره بتحذيرٍ صريح:
_ راقبه كويس وكل تحركاته تبقى عندي أول بأول.
إنفرجت شفتيها على مصراعيها في صدمةٍ مما حدث، فأسرعت بالهبوط للأسفل، فابتلعت ريقها ببطءٍ لتمنح نفسها الفرصة حتى تستجمع جأشها ثم نطقت في ترددٍ قلق:
_عرف إني هنا!
لاحت على وجهه إبتسامة ساخرة:
_أمال هو جاي ليه!
تساءلت بخوفٍ وهي تتنفس بصعوبةٍ بالغة:
_إنت مش هتسلمني ليه يا “عاصي” صح؟
قطع المسافة بينهما، ثم مال نحوها برأسه، لتشعر بأنفاسه قريبة منها وهو يؤكد لها بهمسٍ جاد:
_أنا عمري ما هتخلى عنك يا “لوجين” وقولتهالك أكتر من مرة.
رفعت عينيها التائهة تجاه، فالتقت بنظراتٍ عينيه العميقتين التي تبث لها الأمان منذ أول لقاء جمعهما، فكأنها نفذت لداخلها لتحتضن خوفها، هو بالنسبة لها كالبطل الخارق، فمنذ طفولتها وفرض عليها “قاسم خلدون” رغماً عن أنفها، فلم تشغل ذاتها يوماً بأن تترك لقلبها حرية الاختيار مواصفات الرجل الذي تتمنى الزواج منه يوماً، فكيف ستحلم بالزواج من فارس الأحلام وهي مقيدة بسجن هذا المستبد؟ ربما ما يحدث لها الآن جعلها تعشق سمات هذا الرجل الأربعيني الذي أثار دهشتها بتصرفاته التي لا تنبع سوى من رجلٍ نبيل، انسحبت “لوجين” من هذا اللقاء الذي استهدف مشاعرها ليبرك حواسها تجاهه، فسألته لتهرب من محاصرة هالته التي تفرض ذاتها بحضرته:
_أنت رايح على فين؟
اهتدى لوجهته بعدما تناسى تماماً إلى أين سيذهب، فقال وجسده ينحني تجاه الطاولةٍ ليجذب هاتفه ومفاتيح سيارته:
_”إيمان” بتولد ولازم أكون جنبها.
عقدت حاجبها وهي تتساءل بدهشةٍ:
_معقول دي لسه مكلمني من ساعة وحضرت نفسي عشان هخرج معاها هي و”عائشة”!
بسخريةٍ أجابها:
_الحاجات دي مفهاش ترتيب ولا إتفاقات.
وكاد بالتحرك فاستوقفته حينما صاحت بلهفةٍ:
_ثواني.
استدار تجاهها فوجدها تهرول للأعلى، لتعود إليه بعد لحظاتٍ حاملة بين يدها حذائها، بطريقة مضحكة وكأنها طفلة صغيرة تخشى أن يتركها والدها ويرحل دون أن يصطحبها معه، دنت منه وهي ترتدي حذائها على عجلة لتشير إليه:
_أنا جاية معاك.
حك ذقنه النابتة بإنزعاجٍ من طريقتها، فمنحته نظرة حادة توحي بما سيحدث له إن رفض الأمر، لذا أرغم على قبول دعوتها الإجبارية، فأشار بيديه تجاه الباب الخارجي:
_إتفضلي.
ابتسمت وهي تتجه للخارج بانتصارٍ، فصعد لسيارته ليتحرك بها تجاه المشفى ومن خلفهم رجال “قاسم خلدون”.
صراخها تسبب له بحالة مزمنة من الصداعٍ، فأعدل من وضع الكمامة الطبية على فمه وهو يصيح بها بانفعالٍ:
_إهدي يا حبيبتي كده مش هينفع صدقيني.
أمسكت برقبته وهي تصرخ بألمٍ:
_بالله عليك يا عمر ساعدني، أنا حاسة إن في سكينة بتقطع بطني.
تأوه ألماً من غرس أظافرها في جلد رقبته، فردد بصوتٍ متقطع من الغضب:
_قولتلك أكتر من مرة أنا متخصص بالأمراض النفسية والعقلية، ممكن أساعدك لما تخفي وتقومي على رجلك أعالجك من حالة الجنان دي لكن حالياً انتي محتاجة دكتور نسا وتوليد.
ازداد حدة صوتها، فنزع يدها التي تستهدفه رقبته ثم قال بتعصبٍ شديد:
_أنا هطلع أستنى بره أحسن ما رقبتي تطير.
وتركها وغادر للخارج يلهث وكأنه ركض لمسافاتٍ طويلة، وما أن وصل “عاصي” و”لوجين” للمشفى، حتى علموا من الاستعلامات بمكان الجناح الخاص بالنساء والتوليد، فصعدوا سوياً للاعلى، ليجدوا “عمر” يجلس بالخارج على أريكة معدنية قريبة من غرفة العمليات ولجواره إحدى الممرضات التي تضع اللاصقات الطبية على رقبته وتقوم بمعالجته، والأخر يصرخ ألماً ويهمس بصوتٍ واهن:
_حطيها براحة الله يكرمك.
ثم تطلع لها متسائلاً بخوفٍ:
_رقبتي اتبهدلت جامد؟
نفت ذلك بهزات رأسها المخادعة، فمنحها إبتسامة خبيثة قبل أن يتغزل بها :
_شكراً على اهتمامك بيا وبجرح رقبتي.
وكاد باستكمال كلماته اللطيفة، ولكنه انتفض حبيما استمع لنداء يعلم صاحبه جيداً:
_عمـــــــــــــر!
نهض من جوارها سريعاً ثم اتجه ناحية “عاصي” الذي يناديه بعصبيةٍ، فلعق شفتيه وهو يردد بارتباكٍ:
_أنت جيت يا “عاصي”.
ثم تطلع جواره وهو يرسم ابتسامة بلهاء:
_إزيك يا” لوجين”… عاملة أيه؟
منحته إبتسامة ساخرة قبل أن تمتم باستهزاءٍ:
_أنا كويسة، إنت اللي شكلك متبهدل خالص!
وبخبث استطردت:
_بس أنا شايفة إن الممرضة عالجتك على أكمل وجه، متفانية في شغلها أوي الولية دي.
أصبح وجهه قاتماً بصورةٍ ملحوظة، فقال بتلعثمٍ ونظراته تراقب رد فعل “عاصي”:
_دي كانت بتطهرلي جرح رقبتي، لحسن”إيمان” أحياناً لما بتتعصب بافقد التحكم في أعصابها.
ضحكت بصوتٍ مسموع جذب انتباه عاصي إليها بشكلٍ أدهش “عمر”، فشعر بأن رفيقه على وشك الوقوع بالحب للمرة الثانية، قطعت تلك اللحظة خروج الطبيبة من غرفة العمليات، فدنت من”عمر” لتخبره:
_دكتور” عمر”، الولادة الطبيعية هتكون صعبة عليها،فأنا شايفة إننا نلجئ للقصرية أفضل.
قال بقلقٍ شديد:
_إعملي اللي أنتي شايفاه صح يا دكتورة بس أهم حاجة “إيمان”تكون كويسة.
أكدت له برفقٍ:
_متقلقش هتقوم بالسلامة إن شاء الله.
وعادت لغرفة العمليات مرة أخرى، ليتبعها “عمر” بعد أن صمم الانضمام اليهما، ففي طبيعة الحال زوجته في سبات عميق بفعل المخدر، فلن تستطيع إلحاق الأذى به مجدداً.
بالخارج
إختار “عاصي” الجلوس على الأريكة القريبة من الجناح المتخصص للجراحة، فجلست “لوجين” لجواره حينما ألمتها قدميها من الوقوف، أصبح المكان فارغ من حولهما، يسوده صمت قاسي وكأن المكان لا يوجد به سواهما، فحانت منه نظرة جانبية تجاهها، تخفي حولها تردد بما يود قوله، إلى أن قال بثباتٍ تام:
_إنتي ليه بتكرهي “قاسم” ؟
رفعت حاجبيها بدهشةٍ من سؤاله، فأوضح مقصده حينما قال:
_أقصد إنه مفهوش عيوب خطيرة، رجل أعمال ناجح وابن عمك وفوق كل ده بيحبك بجنون..
ابتسامة شبه ساخرة رسمت على محياها، فتحررت كلماتها التي اصطحبتها وابل من الدموعٍ جعلته في حيرةٍ من أمرها، وخاصة بأنه إعتاد على تلك الإبتسامة التي ترسمها دوماً على وجهها:
_يمكن لأنه مش سايبلي حرية الإختيار ودايماً بيفرض نفسه علي، ومن وأنا صغيرة وهو دايماً بيتسببلي بالإحراج قدام أصدقائي، لو شافني بتكلم مع حد بيكسره رقبته وبيأذيه بكل السبل، وأخرهم كان دكتور جامعي كان متقدملي فقولت أدي لنفسي فرصة ولأول مرة كنت بفكر أرتبط بشكل جدي، ولما روحت الجامعة تاني يوم إتفاجئت إنه توفى في حادث غامض وطبعاً مش محتاجة أقولك مين اللي ورا الحادثة دي!
لمس “عاصي” جزء من معاناتها المخبأة خلف وجهها البريء، وخاصة حينما استكملت حديثها بوجعٍ ينطوي خلف رقة صوتها:
_حتى بابا كل ما بقوله إني بكرهه ومش عايزاه كان بيحرص إنه كل مرة يشرحلي إني لو متجوزتهوش أيه اللي هيحصل فينا، لأن كل حاجة في إيده هو وعمي، فالجوازة دي بتصب في مصلحة العيلة اللي لازم أفكر فيها ومفكرش حتى في نفسي!
ومسحت دموعها بأطراف يدها وهي تستطرد بإنكسارٍ:
_يمكن يكون فعلاً مش وحش للدرجة دي، بس هو اللي زرع الكره جوايا بسبب أفعاله الاجرامية، وحبه إنه يتملكني بأي طريقة كانت وكأني سلعة رخيصة بتتباع وتشتري.
وبعزمٍ شديد أضافت:
_مش هو ده الشخص اللي أنا عايزاه، مش مناسب ليا ولا عمري هحبه ولا هحترمه في يوم من الأيام.
ومسحت العالق بأهدابها وهي ترسم إبتسامة صغيرة:
_سيبك مني،وقولي أيه السر ورا تعلقك بحبيبتك حتى بعد ما ماتت إزاي قدرت تفضل مخلص ليها كل السنين دي؟
نغز صدره بوخزاتٍ مؤلمة، فور تذكره زوجته وحبيبته الراحلة، فالتقط نفساً مطولاً حبسه داخله لفترةٍ طويلة قبل أن يجيبها بكلمات تشتق معاني العذاب بأكملها:
_عشقها زي المخدر اللي بيكون صعب التخلص منه، مجرد تردد ذكرياتها بعقلي بيخليني أحس دفء بيديني القوة إني أواجه برد مشاعري القاسية.
تحمل الألـ,ـم الذي يضـ,ـرب قلبه واسترسل بصوته الرخيم:
_وجع فراقها مكنش بنفس حدة وجع قلبي وأنا بشوفها بتواجه الموت كل يوم ، وخاصة بعد ما إتغلب السرطان على جسمها كله، ومعتش عندها طاقة إنها تحاربه.
انسدلت دمعاتها على وجهها وهي تستمع لكلماته الصادقة التي نقلت لها صورة مصغرة عما خاضه، فتغلبت عما يحاربها من حزنٍ عميق ثم قالت:
_إدي لنفسك فرصة أن تدخل حياتك بنت تنور عتمة قلبك اللي عايش حبيس ليها.
ابتسم وهو يجيبها ساخراً:
_تفتكري إني محاولتش أعمل كده!، فكرت كتير في فكرة الإرتباط كل ما بكبر في السن بس للاسف مقدرتش ، وأحياناً بفكر بتمعن في عمري اللي قضيته بالشغل عشان أوصل للي وصلتله وبسأل نفسي مين اللي هيورث كل ده بعد موتي! والأهم من ده كله إزاي هخلد إسم عيلتي؟
ورفع كتفيه باستسلامٍ:
_حاولت بس مقدرتش، لإني بمجرد ما ببص لأي ست بحس إني ارتكبت جريمة عقابها أسوء مما أتخيل!
ابتسمت “لوجين” ثم أخبرته بإعجابٍ شديد:
_ياريت قدري يجمعني براجل يحبني زيك.
رفع عينيه تجاهها فصفن بها لدقائقٍ، شعر بهما بأنه استعاد جزء من حياته، تلك الفتاة غامضة بكل ما تحمله معنى الكلمة، من يراها يظنها طفلة ساذجة رغم عمرها المعقول، وأحياناً يشعر بأنها امرأة ناضجة تمتلك من الحكمة والعقل ما يجعلها تحكم عالمه، انقطع فترته الوجيزة بتأملها حينما تسلل لمسماعهما صوت بكاء رضيع، وبعد قليل خرج “عمر” يحمله بين ذراعيه بابتسامةٍ يتخلالها دمعات الفرحة والسعادة، ليضعه بين يد “عاصي” الذي فشل بالتعامل معه، وكأنه يحمل شيء رقيق يخشى أن ينكسر بين يديه الخشنة، فحملته عنه “لوجين” وهي تهمس بفرحةٍ:
_جميل أوي ما شاء الله، هتسميه أيه يا “عمر”؟
انتقلت نظراته تجاه رفيقه ليجيبها دون تردد:
_أنا و”إيمان” إختارنا الاسم قبل كده .. هنسميه” عاصي”.
اتجهت نظراته المندهشة لرفيقه، فربت بيديه على كتفيه وهو يردد بحنانٍ:
_بتمنى يكون زيك في يوم من الأيام.
منحه ابتسامة هادئة وقال بتمني:
_ربنا يباركلك فيه ويحفظه من كل سوء.
انقطع الحديث بينهما حينما خرجت “إيمان” من غرفة العمليات، فتتبعوها لغرفتها، لتدنو منها “لوجين” ثم قالت بلهفةٍ:
_حمدلله على سلامتك يا حبيبتي..
ابتسمت رغم محاربتها للألم:
_الله يسلمك يا روح قلبي.
ثم نقلت نظراتها لأخيها لترغمه باشارتها على التطلع تجاه “لوجين” التي تحمل الصغير بكل حب وحنان، لتعود لترشيحاتها الصامتة من جديد، هز رأسه باستسلامٍ لعدم تغيرها بعد، وإنحنى ليطبع قبلة صغيرة على جبهتها وهو يهمس باستهزاءٍ:
_حتى وإنتي تعبانه وبتموتي بتفكري في الموضوع ده!
همست بتعبٍ بدى بنبرتها المتقطعة:
_بالي مش هيرتاح الا لما تتجوز، فإتعود بقا على طريقتي اللي مش عجباك دي لحد ما تفرح قلبي ببنت الحلال اللي تستاهلك..
انحنى “عمر” تجاههما ليتساءل بقلقٍ،ونظرات شكوكه تتوزع بينهما:
_في أيه؟
دفعه “عاصي” وهو يشير له بصرامةٍ:
_موضوع خاص بين الأخت وأخوها مالك بيه!
حدجهما بنظرةٍ منفرة، ثم غادر للخارج وهو يردد بسخطٍ:
_خدوا راحتكم، وأنا هروح أشوف الدكتورة هتخرجها النهاردة ولا بكره.
وفور خروجه استأذنت”لوجين” هي الاخرى بحجة رغبتها باحتساءٍ كوب من القهوة، ولكنها بحقيقة الأمر فضلت الانسحاب حينما شعرت بحاجة “إيمان” بالحديث مع أخيها على انفراد… فهبطت لكافيه المشفى الخاص، لا تعلم بأن هناك من تلقى الأوامر بخطفها حينما تسنح لهم الفرصة بذلك، ومنحتهم تلك الفرصة ببقائها بمفردها دون “عاصي”.
بالأعلى.
فور خروج “لوجين”، استغلت “إيمان” بقائها بصحبة أخيها بمفردهم، لذا استدعت الحزن ليتبع نبرة صوتها:
_هتفضل لحد أمته تتجاهل طلبي وأمنيتي يا “عاصي”؟
زفر في سئمٍ من عودتها لنفس الموضوع الذي لا ينتهى أبداً، فقال بانزعاجٍ:
_إنتي مش بتملي من الكلام في الموضوع اللي مش بيتقفل ده؟
انجرف تفكيره تجاه نقطة هامة، فاسترسل حديثه بعد فترة من الصمت:
_استني استني، في العادة بنقطع الكلام في الموضوع ده فترة متقلش عن سنة أو أكتر، أول مرة تتكلمي عن جوازي في نفس الأسبوع تقريباً.. قوليلي في أيه؟
ابتسامة رقيقة رسمت على محياها قبل أن تخبره:
_يمكن لإني لقيت العروسة اللي تليق بيك بجد المرادي، ومن اللي أنا شوفته إنت مش بتعترض على وجودها جنبك أغلب الوقت.
ضيق عينيه وهو يتساءل بذهولٍ:
_تقصدي مين ؟ ” لوجين”!
هزت رأسها بتأكيدٍ وقد ازدادت ضحكاتها، فرمش بعينيه عدة مرات وهو يردد بعدم تصديق:
_مش مصدق اللي بسمعه ده، إنتي شايفة المجنونة دي لايقة عليا!
قالت والضحك يتابعها بحديثها.:
_لا شايفاك مهتم بيها، ومديها الفرصة إنها تقرب منك ويمكن ده لأنها مسيطرة على مكانة خاصة بقلبك.
كور يديه بعصبيةٍ حتى أبيضت من فرط ضغطه عليها، فعادت لتستعطفه لكلماتها من جديدٍ:
_أنا عارفة إنك هتفضل تحب”هند” لأخر نفس خارج منك، بس أيه المشكلة لما تحتفظ بحبها جواك وفي نفس الوقت تسمح لواحدة تانية إنها تدخل حياتك!
نهض “عاصي” عن مقعده ثم هم بالخروج وهو يردد ساخراً:
_إنتي لسه مرجعلكيش وعيك بالكامل، هرجعلك تاني بس لما تأثير المخدر يخرج من جسمك كله.
وأغلق الباب من خلفه، ثم ألقى بثقل جسده على أقرب أريكة استراحة قريبة من غرفة شقيقته، فعلى الرغم من تماسكه الشديد أمامها الا أن قلبه رق لحديثها، وكأنه لمس شيء كان يجهله، نعم هي تمتلك جزء من الحقيقة فمازال يتساءل ماذا فعلت به تلك الفتاة في أيامٍ معدودة!
كيف استطاعت أن تجبره على مساعدتها والأغرب من ذلك كيف صرح لها عن وجع قلبه بمنتهى البساطة في حين أنه لطالما حرص على دفنه بداخله، وكأنه لا يخص أحداً سواه هو، ثمة شيئاً غامض يجذبه تجاهها، شيئاً لم يعد يفقهه أو يعلمه!
الفصل الثامن.
طلبت “لوجين” كوب من القهوة، وقررت الجلوس بالمقهى حتى تنتهي من تناولها، فجذبت أحد المقاعد ثم جلست تتفحص إحدى المجلات الموضوعة من أمامها لحين أن ينتهى النادل من إحضار قهوتها، التهت بتفحص الأخبار الشيقة التي كتبت عنه المجلة فشردت، وكأنها ببقعةٍ منعزلة عن الجميع، وفجـ,ـأة ضـ,ـرب رأسها دوار عنيف استهدفها، فغلبها نوماً بدى غريباً إليها بهذا الوقت، وألقت بثقل جسدها على الطاولةٍ المقابلة لها، وسرعان ما تخدر جسدها، فاستغل من يراقبها سكينتها، وإقترب منها ليجذبها سريعاً ثم وضعها على المقعد المتحرك ثم إتجه بها لباب الخروج، فبدى الأمر طبيعي بالنسبةٍ لوجودها بالمشفى، وما أن خرج بها حتى توقف أحد الرجال بالسيارة، فحملوها بحرصٍ ومن ثم وضعوها بالمقعد الخلفي.
إتجه “غيث” للمشفى بصحبة “عائشة” فور سماعهما بولادة “إيمان” الطارئة، فأوقف سيارته بمحاذاة الرصيف، ثم كاد بتتبع زوجته التي تركته وأسرعت تجاه باب المشفى، فتعجب “غيث” حينما وجدها تتباطئ بمشيتها حتى توقفت عن الحركةٍ، فسألها باستغرابٍ:
_في أيه؟
أشارت “عائشة” بإصبعها تجاه إحدى السيارات ثم قالت بحيرةٍ:
_مش دي “لوجين”؟
إتجهت نظرات”غيث” تجاه ما تشير إليه، فانعقد حاجبيه بدهشةٍ مما رآه، وعلى ما بدى إليه بأنها مخدرة كلياً وقد اتضحت شكوكه حول ما يحدث حينما وجد الرجال يسرعون بالتحرك حتى لا ينتبه إليهم أحداً، فركض “غيث” تجاه سيارته، ليتبعهما على الفور، بينما أسرعت “عائشة” للأعلى، لتخبر “عاصي” بما حدث، فهبط بصحبة “عمر” ليستقل سيارته ثم إتبع الطريق الذي أرسله إليه “غيث”.
بغرفة”إيمان”
لحظات مختلسة من القلق قضتها “عائشة” أمام النافذة وهي تراقب الطريق من أمامها، تنهدت بعمقٍ ثم أخذت نفساً عميقاً كأنما تلفظ حياة وتستقبل أخرى، فحاولت “إيمان” الإعتدال بمرقدها، وهي تسألها بنظرةٍ مشككة:
_في أيه يا “عائشة”؟ وقولتي أيه “لعاصي” خلتيه يجرى هو “وعمر” بالشكل ده!
قطرات عرق خفيفة تكاثفت فوق جبينها، وهي تهاجم تلك الهلاوس الافتراضية تجاه ما سيحدث لزوجها على يد هؤلاء، فبحثت عن إجابة ستقطع شكوك رفيقتها، لتريح بالها وهي بتلك الحالة المضطربة، فأنتهى عنائها حينما فُتح باب الغرفة، وكأنه يقطع حيرتها في إنتقاء ما ستقول، عبس وجهها حزناً حينما رأت حماتها تقف من أمامها، فمنحتها الأخيرة نظرة تشتعل بالمزيد من الضيق، ثم تجاهلتها عن عمدٍ وإختارت الجلوس جوار ابنة شقيقتها، فأجلت أحبالها المنقطعة:
_حمدلله على سلامتك يا حبيبتي؟
ما تفعله لم يلقى استحسانها، ولكنه مجبرة على إحترامها فبنهايةٍ الأمر هي خالتها، لذا أجابتها بودٍ:
_الله يسلمك يا خالتي، تعبتي نفسك ليه بس.
قالت بطيف حمل بعض الفظاظة المستهينة وهي تلوح بسبابتها:
_تعبي في سبيل إني اتطمن عليكي راحة يا حبيبتي، ده أنتي بنتي اللي مخلفتهاش.
كانت تعلم جيداً بأنها تستهدف “عائشة” لتضايقها، فقالت بلهجةٍ مهذبة:
_أمال أيه يا خالتي، أنا و”عائشة” بناتك وملناش غيرك.
كزت على أسنانها بقوةٍ تكاد تحطمها، لتجيبها بنبرةٍ تنضح سخرية قاسية:
_بنت الملاجئ دي عمرها ما تتساوى بيكِ يا “إيمان”.
تعقد طيف حاجبيها وهي تشعر بأنها تواجه كياناً غريباً، أفكارها تزلزل أرضاً ثابتة:
_أنا بحاول أستوعب طريقة تفكيرك دي مبنية على أي أساس بس صدقيني مش بلاقي أجوابة.
شعرت”عائشة” بالحرج كونها تتسب بالمشاكل الدائمة بينها وبين أفراد عائلتها، لذا أرادت الإنسحاب حتى لا تسمح لشجارهما بالتطور أكثر من ذلك، فمنعتها “إيمان” من الهروب تلك المرة حينما قالت بإنفعالٍ:
_مش هتخرجي من هنا يا “عائشة”، إحترامك من إحترامنا كلنا، وإهانتك من إهانتنا كلنا.
دمعت عينيها بمزيجٍ من الرهبة والعاطفة تجاه كلماتها التي طيبت جرحها، ولكن مع نظرات عين حماتها الحاقدة جعلت قلبها ينشطر قهراً، وخاصة حينما أهدرت بجمودٍ:
_اللي زي دي متستحقش إحترام من حد، دي قومت عليا ابني وخليته يسيب البيت ويمشي!
وحملت حقيبة يدها ثم اتجهت للخروج وهي تسترسل بقبيح الشتائم والتهديدات الصريحة لما تنوي فعله لإبعادها عن ابنها، فما أن رحلت حتى هوت”عائشة” على الأريكة ذات الجلد الاسود الداكن بتعبٍ شديد، وكأنها زهدت حركتها، شعور الخيبة لديها يفوق شعور الألم، أدمعت عين “إيمان” تأثراً بها، فخالتها تنجح دائماً بكسر قلبها، لم تشعر يوماً بالشفقة تجاهها، ألا يكفيها وحدتها!
ألا يكفيها كونها يتيمة، وحيدة، لا سند لها بتلك الحياة سوى زوجها الذي أرادت تفريقها عنه!
شعرت وكأن ليس هناك من الكلمات المناسب لمواستها به في ذلك الموقف، ففضلت تركها في ظلمتها التي تشتد بالابتلاء بطغيان خالتها الذي لا يتوقف، وعلى ما يبدو بأنها ستستمر على ذلك المنوال!
تثاقل رأسها إختفى رويداً رويداً، فحاولت “لوجين” رفع جفن عينيها، فإستمعت لصوتٍ شبه مألوف بالنسبة إليها وربما يكون أكثر ما تمقته في الحياةٍ:
_كنتي فاكرة إنك هتقدري تهربي مني ومش هعرف أجيبك!
ازدادت ضـ,ـربات قلبها المرتجف خوفاً، وهي تستكشف صاحب الصوت، فاستدارت بوجهها تجاه الصوت القريب منها، لتتمكن من رؤية من يجلس أمامها بوضوحٍ، أنهت الصراع القائم بداخلها فرأته يجلس أمامها ببرودٍ منتاهي، ومن خلفه يقف رجلين من رجاله، ابتلعت ريقها بصعوبةٍ وهي ترسم دور الثبات المخادع عليه:
_ عايز مني أيه يا “قاسم”؟ أنا قولتلك ألف مرة إني مستحيل هتجوزك غصب عني.
ابتسامةٍ ساذجة رسمت على محياه قبل أن يتحرك لسانه ناطقاً:
_ده اللي هيحصل فعلاً يا حبيبتي.
رفعت حاجبيها وهي تتساءل بدهشةٍ:
_تقصد أيه؟
اتاها رده الصريح:
_هتجوزك غصب عنك، ودلوقتي بالتحديد.
ثم أشار لرجاله الذين هموا بالاقتراب منها ثم قيدوها، ليجبرها على التحرك معه للخارج، فصاحت بانفعالٍ شديد:
_سبني، أنا مبحبكش أنت أيه مبتفهمش!
لم يستمع اليها أحداً، وكأنهم رجال يحركهم”قاسم” كالألي، صرخت في محاولاتٍ بائسة منها عل أحداً يستمع إليها، وحينما فشلت بذلك، صاحب به بشراسةٍ:
_”عاصي” مش هيسيبك.
استفزته جملتها، فرسم ابتسامة ساخرة فوق شفتيه وهو يرد عليها:
_ أنا مش عارف أنتي أقنعتي”عاصي” يساعدك بالهروب من الحفلة إزاي، بس متقلقيش أنا رفعت عنه الإحراج إنه يستمر في مساعدتك.
علمت بأنها تلك المرة لن تستطيع الفرار منه بعد أن قرر أن يتزوج منها عنوةٍ، فثارت بحركاتها وباتت تركل بقدميها من يحملها على كتفيه، فأصابته إصابة بالغة بحذائها ذو الكعب العالي، فحررها ليتركها أرضاً فركضت “لوجين” حائرة بذلك المكان الغامض، حاولت استكشاف مخرج يقودها للنجاة من هذا المأزق ولكن باتت محاولتها بالفشل، فكان المكان محكماً للغاية، يطوفه رجال “قاسم” من جميع الإتجاهات، تراجعت بظهرها للخلف حينما رأتهم يحاوطنها، فأجبروها على التراجع للخلف، ومن ثم على الجلوس على المقعد المجاور له والمقابل للمحامي الذي يستعد بأوراق الزواج، رفعت “لوجين” نظراته عنه بإحتقارٍ، فبداخلها غصة مريرة بإنتصاره الذي سيحققه بزواجه منها رغماً عن أنفها، فبالنهاية هو الذي إنتصر عليها وستكن حقيقة تبزغ كالشمس بين ضلوعها، لا تعلم لما استجمعت شتات تركيزها لتفكر به بذلك الوقت، الأربعيني الذي سيطر على خفقات قلبها فتصبح عاجزة حتى على التحكم بها، فكل ذرة بعقلها تناشدها بالتفكير به، كأنه مغناطيس يجذب كل أقفال روحها نحوه، وسيم بطريقته الخاصة، ويمتلك غرور وكبرياء يخصه هو، تشتاق حقاً لنبرته الرخيمة التي تضيف لصوته الرجولي سحراً خاص، فجعلت همساتها تحفزها على القادم:
_”عاصي” وعدني إنه هيخلصني منه، مستحيل هيسيبني ليه أكيد هيمنعه..
تمنت بتلك اللحظة لو كانت تمتلك فانوس سحري يحقق أحلامها، فتتحقق أمنيتها برؤيته في تلك اللحظة، انقبض قلبها رهبةٍ حينما صاح المحامي بجديةٍ:
_الأوراق كلها جاهزة يا باشا وواقفة على أمضتك.
جذب “قاسم” أحد الأقلام ثم وقع على عقد الزواج الرسمي، ليضع القلم على الأوراق بقوةٍ جعلت جسدها ينتفض رعباً لما ستلقاه، فاحتدت نظراته تجاهها وهو يؤمرها بحدةٍ:
_وقعي.
ازدردت ريقها الجاف، لتلتقط القلم بأصابع مرتجفة وهي تتطلع على إسمه المدون بنظرةٍ ساخطة، سيغلب عنادها في تلك اللحظة التي ستضع إسمها جواره، وربما سيقتل ذاك الحب الذي نبض بداخلها تجاه هذا الأعزب، لا لن ترضى أبداً بأن يحطم عزيمتها ويكسر عنادها، كسرت القلم بين يدها ثم نهضت لتردد بكل ذرة شجاعة إمتلكتها يوماً:
_مستحيل هقبلك زوج ليا حتى لو كان ده أخر يوم في عمري يا “قاسم”.
نهض وهو يحدجها بنظرةٍ بدت وكأن شياطين الدنيا بأكملها تتصارع على وجهه، فبسط كفيه فوق كتفيها متعمداً غرس أظافرها بلحمها وهو يجبرها على الجلوس:
_مش بمزاجك يا حبيبتي، إنتي عارفة كويس أنا أقدر أعمل أيه فيكِ وفي أبوكي.
_على جثتي أتجوزك يا ملزق.
تمتمت بها _سراً_ وهي تحاول كتم غيظها، فدفعت يديه بعيداً عنها ثم تهتف بفظاظةٍ:
_أنا يوم ما هتجوز هتجوز أكيد هتجوز راجل يحترمني ويقدرني مش هتجوز إنسان قذر زيك.
اقترب منها “قاسم” تلك المرة، ليهوى على وجهها بصفعةٍ قوية وهو يردد بغضبٍ قاتل:
_غرورك ده هكسره بإيدي يا “لوجين” والنهاردة قبل بكره.
إرتدت على أثر صفعته أرضاً أسفل أقدام من تمنت وجوده، فهمست بدمعاتٍ لحقت عينيها الحزينة:
_عـــاصـــي!
رفعت رأسها إليه تاركة دموعها تشكو إليه قلة حيلتها، وكأنها تستنجد به من هذا اللعين الذي يريد أن يتزوج بها رغماً عنها، وكأنها سلعة تباع وقد كانت من حظه هو، لطالما كانت تتهرب منه على أمل أن يشعر برفضها التام إليه، ولكنه كان يصر على طلبه أكثر من سابق، إنحنى”عاصي”ليعاونها على الوقوف، فهمست بصوتٍ باكي:
_”عاصي”
منحها نظرة شملت حنان ودفء استطاعت لمسه بها، فرفعها بيديه برفقٍ لتقف خلفه ليكون هو من أمامها كالسد المنيع، إرتبك “قاسم” من وجوده فحانت منه نظرة جانبية متفحصة، استطاع بها رؤية “غيث” و”عمر” يتغلبان على رجاله وكأنهم فئران تم احتجازهما داخل مِصْيَدة فئران، وبالرغم من ذلك سيطر على انفعالاته ليبدو أكثر إتزاناً:
_ أنا حقيقي بعتذرلك على لك الإزعاج الذي إتسببت فيه خطيبتي، لسه مش قادرة تستوعب إنها مينفعش تستخدم دلعها ده مع الناس الغرب اللي أكيد هيملوا من مساعدتها وخاصة لو الموضوع شخصي وحساس زي ده.
ثم استطرد بمكرٍ:
_أنت عارف أنا لما شوفتها خارجة معاك في التسجيل اطمنت لأنها خارجة مع راجل نبيل زيك.
ثم نقل نظراته تجاهها ليشدد على حديثه بغيظٍ:
_بس العتب في النهاية عليها، لأنها لسه فاكرة نفسها عيلة صغيرة.
خرج ” عاصي” أخيراً عن صمته، حينما قال بصوته البارد الذي يثير الرجفة في القلوب ليمتقع وجه “قاسم” الذي يتابع ما يقول :
_حتى الطفلة بيحترم قرارتها وبيكون ليها الحرية في الاختيار، أنت شايف نفسك مسؤول بالدرجة اللي تخليك تصدر القرار بالنيابة عنها ومش مستني حد يعارضك!
لعق شفتيه بارتباكٍ مما استمع إليه، فاستكمل “عاصي” حديثه بصرامةٍ:
_اللي بتعمله ده مش منصف بحق رجولتك يا “قاسم”…سبها في حالها وإتجوز ببنت تناسبك والأهم إنها تكون فعلاً عايزاك.
قطع”قاسم” المسافة القصيرة بينهما، حتى بات لا يفصلهما كثيراً، ليخبره وعينيه تحدجها بنظرة استحقارٍ:
_أنا شايف إنها سيطرت عليك لدرجة إنك واقف وبتناطح صاحبك وشريكك، نجحت توقعك في شباكها!
وبنظرةٍ مشككة إتبعها قوله الماكر:
_قولي يا”عاصي”، أنت حبيتها إزاي بالسرعة دي ولا يمكن عشان هي سمحتلك تقربلها طول الفترة اللي قضتها في قصرك!
اتفرجت شفتيها في صدمةٍ مما يلقيه على مسمعها من تهمة مهينة، وخاصة حينما استطرد بقلقٍ وحدسه ينبئه بخطرٍ يتدفق من عين “عاصي” المتوهجة بشراسةٍ قد تطيح برأسه لتفصلها عن جسده:
_الغريبة إن واحدة زيها المفروض تفرح إن حد عايز يستر عليها ويتجوزها وبالرغم من كده شايفة نفسها.
لم تحتمل سماع تلك السهام الصائبة لعفتها وشرفها المصون، فصرخت في وجهه بعصبيةٍ كاد باستهداف طبلة أذنيه:
_إخرس يا حقير، أنا أشرف منك ومن عيلتك كلها يا قذر.
اشتعلت نظراته حنقاً، وجز على أسنانه بغيظٍ فحاول جذبها من معصمها وهو يهدر غضباً:
_خلينا نمشي من هنا ونروح بيتنا وهتشوفي القذر ده هيعمل معاكي أيه؟
وكاد بأن يلامسها في محاولةٍ منه لجذبها بعيداً عن” عاصي” الذي منع يديه من الوصول إليها، فضغط بكل قوته على معصمه الذي تهشم عظامه بين يديه مصدرة صوتٍ طقطقة، ولاحقها صوت صراخه الهيستري مما دفع أحد رجاله للتدخل، فحاول أحداهما إستهداف وجهه، فتفادى”عاصي” يديه، ومن ثم رفع جسده للأعلى ليركله ركلة أبعدته مسافة عنهما ليصبح أسير يد “غيث” التي ألقنته درساً قاسياً ، وكلما حاول أحداً التدخل كان يمنعه “عمر” و”غيث” من لمسه، فسدد “عاصي” له عدد من اللكمات القاسية حتى إنتهى بركله فأصبح “قاسم” طريح الأرض من أسفل قدميها ، ثم إنقض عليه وحبس مجرى تنفسه بيديه، ليكيل له ضـ,ـربة تلحقها قوله الشبيه بالسواطٍ:
_عديم الرجولة والنخوة هو اللي بيستغل ضعف واحدة ست وبيجبرها إنها تتجوزه بالغصب.
واصطحبها لكمة أشد عنفاً وسباب مهين:
_أنت إنسان مريض، بتبرر ضعفك بأنك تطعنها في شرفها يا رخيص…. أنت عار على الرجولة.
إحتبس جلد رقبته أسفل يديه، فحارب لالتقاط نفسه المتقطع بصعوبةٍ، وفي تلك اللحظة أتى “عمر” مسرعاً ليبعده عنه وهو يصيح بها بحدةٍ:
_إبعد يا “عاصي” هيموت بين إيدك.
لم يتركه بل ازداد من إحكامه على عنقه، وكأنه ختم قراره بقتله وتخليص تلك الفتاة البريئة من مصائبها، فتدخل “غيث” على الفور حينما وجده يصارع الموت بكل ما أوتي من قوةٍ، فدفعه بيديه معاً للخلف وهو يناديه بانفعالٍ:
_”عاصي”… هيموت إبعد.
ابتعد عنه، فتفحص “عمر” نبضه، ليجده مازال على قيد الحياة، فعاد الهواء لينعش رئتيه ليستعيد “قاسم” وعيه تدريجياً، فإتكأ على معصمه حتى إعتدل بجلسته، وإلتقط أنفاسه بصوتٍ مسموع، وحينما استمد جزء من قوته قال بلسانٍ يتقطع كلماته:
_متنساش إنك بخسارة شراكتي هتخسر ملايين مش هتعرف تعوضها يا “عاصي”.
عاد إليه مجدداً وتلك المرة فشل “غيث” بإيقافه، فناوله لكمة قوية اتبعها صيحاته المندفعة:
_خسارة ثروة بأكملها أهون من إنها تتجوز من شيطان لعين مثلك..
ثم أشار له بشراسةٍ وبتحدٍ سافر:
_ولو كنت خايف بجد على حياتك غور من هنا ومتورنيش وشك ده تاني والا ما تلومش الا نفسك..
زحف على ظهره للخلف، ثم نهض على قدميه ليتبع رجاله للخارج وهو يردد بوعيدٍ:
_أنت اللي بدأت الحرب يا “عاصي”..وهتشوف جحيمها بعنيك.
وغادر من أمامه على الفور، فما أن إختفى من أمامهما حتى إسترخى جسد”لوجين” براحةٍ، فكانت تخشى أن ينجح في إقناعه فيتخلى “عاصي” عنها، ولكنها مازالت لا تنكر إعجابها الشديد بشخصه المميز، من الذي سيتخلى عن صفقة بملايين لأجل فتاة لا تربطها به أي علاقة، بالطبع كان اختيارها له من البداية موفق، ولكن الذي تخشى البوح به لنفسها حتى بأنها قد وقعت في حب الأربعيني الوسيم!
توقف بها الزمن وهي تراه يقترب منها، وكأن العالم إنقرض ما به من أناس ولم يصبح فيه سواهما، تراه مع كل خطوة يصبح قريباً منها، بينما هي تقف محلها ساكنة، لا تعرف كيف المفر من ذاك العشق الغامض!
هل باتت حمقاء لتقع في حب رجلاً قدم لها المساعدة مرتين؟ أم أنها معجبة بأدق تفاصيله الغامضة بما يخص حبه المخلص لتلك المرأة التي فقدها منذ سنوات!
انقطع بها حبال الوصال، حينما رأته يقف أمامها، ويتساءل بكل لهفة امتلكه وعينيه تتفحص براءة وجهها الساحر:
_أنتي كويسة؟
هزت رأسها والابتسامة الصغيرة تلاحقها:
_ مش عارفة ، بس أنا بقيت كويسة في الوقت اللي أنت جيت فيه تخلصني منه.
عيناه تغافلانه وتتلكآن فوق ملامحها، جف حلقه وهو يشعر بأنه يفقد السيطرة على نفسه، فقال بصوتٍ متحشرج عمل مزحاً متخفي: :
_يلا نمشي قبل ما نواجه بلاوي تانية في المكان الغريب ده!
اتسعت ابتسامتها فقالت وهي تسرع بخطواتها تجاه سيارته:
_بسرعة قبل ما الملزق ده يرجع تاني.
رأها تصعد بالمقعد الخلفي وتنتظره، بينما وقف يتأملها بنظرةٍ غامضة، ازدادت حدتها حينما اقترب منه “عمر” ليوزع نظراته بينه وبين من يتأملها، ثم قال بشكٍ :
_حاسس إن في حاجات غايبة عني ولازم أعرفها، عشان كده بقترح عليك تيجيلي بكره العيادة وأفحصك أنا بنفسي.
حدجه بنظرةٍ شرسة، فعدل من جاكيت بذلته ليتابع بجديةٍ وهو يتجه لسيارة “غيث” الذي يراقبهما بضحكةٍ ساخرة:
_هستناك بكره الساعة أربعة العصر، متتأخرش.
وتركه وغادر بهدوءٍ، ليتحرك الاخير تجاه السيارة، فصعد بالخلف ليعود بها السائق للقصر..
بغرفة “إيمان”
غفت محلها من كثرة بكائها، فشعرت بيديه تمسد على ظهرها برفقٍ، وصوته الذكوري المميز يناديها بحنانٍ:
_”عائشة”..حبيبتي فوقي.
فتحت عينيها الناعسة، لتراه يقف أمامها، فارتسمت على شفتيها الجافة إبتسامة شبه عابثة، لا تعلم لما غلبها البكاء في تلك اللحظة، وكأنها برؤياه تذكرت قسوة والدته، فودت لو يقربها منه عله يخفف عنها حدة ذاك الألم العالق بين صدرها، شعر “غيث” بأنها ليست على ما يرام، فسألها بقلقٍ:
_مالك في أيه؟
_مفيش تعبانة بس شوية.
نهت عبارتها بخيطين من الدموع، ذرفتهما بصدق ولو كذبت النوايا، فاختلج قلبه عنفاً لأجلها، قربها “غيث” تجاهه فاقترب “عمر” منهما ثم اقترح عليهما:
_تحبي أنادي الدكتور.
هزت رأسها رفضاً لفكرته، ومع ذلك ردت بتهذبٍ:
_مفيش داعي، أنا هروح أرتاح وبكره هروح لدكتوري إن شاء الله.
ثم إنحنت بجسدها لتحمل حقيبتها، ووقفت جوار الفراش لتودع “إيمان” وهي تهمس لها برجاءٍ الا تخبر “غيث” بما حدث، ورحلت معه للأسفل وهي تدعو الله أن لا يكتشف ما قالته والدته بزيارتها لرفيقتها.
استرخت “إيمان”بفراشها قليلاً بعد أن اطمئنت على الصغير وضمته بين ذراعيها، فوجدت الباب يفتح من أمامها، ليدلف زوجها بعدما أوصل”غيث” وزوجته للأسفل، فأسرع بجذب المقعد الجانبي ليضعه جوارها، ثم قال بلهفةٍ تسبقه بالحديث بعد أن أصبحوا بمفردهم:
_أنا إتاكدت إن شكوك من نحية “لوجين” طلعت صح، فعلاً في حاجة بينها وبين “عاصي”.
وابتلع ريقه الجاف من فرط مجهوده المبذول لصعوده إليها مسرعاً، ثم قال:
_حاسس كده إن قلبه نبض بالحب ليها بس هو مش معترف بده، ويمكن بكره إن شاء الله أخليه يحس بده.
ابتهجت”إيمان” كثيراً لما تسمعه، فرددت بتمني ورجاء:
_بدعي ربنا إنه يفكر فيها ويأخد قرار يخص حياته بقى، أنا حاسة إنه مبقاش يشوف أي ست بعد “هند” الله يرحمها.
تمدد على المقعد براحةٍ ثم قال:
_هيحصل وقريب بإذن الله.
بقصر “عاصي سويلم”
تركت المياه البـ,ـاردة تطـ,ـفئ النيـ,ـران المشتـ,ـعلة بداخلها، فمازالت كلماته المشككة بأخلاقها تطعنها كالسهام التـ,ـي تستهدف قلبها بحرفيةٍ، غامت عينيها في ظلام دامـ,ـس بدده ذاك الضوء المصاحب لذكراه، تذكرت كلماته التي رددها بثقةٍ، وثورته العارمة فور سماع ما طعنه بها أمامه، ابتسامة زارت شفتيها المغموسة أسفل المياه، فرسمت أمامها شاشة صغيرة لتريها لقطته حينما انحنـ,ـى ليجذبها إليه، وعاونها على النهوض، فقرعت الطبول بداخلها وكأن جسدها مازال يستحضر تلك اللقطة، باتت حائرة، تائهة لا تعلم ما الذي يحدث إليها بالتحديد والمضحك في الامر بأن “قاسم” الأحمق فعل المحـ,ـال لسنواتٍ ليستحوذ على قلبها ولم يستطيع، أما ذلك الأربعيني الأعزب تمكن من فعله في أيامٍ لا تذكر، أغلقت “لوجين” المياه المتدفقة عليها وهي تردد في صدمةٍ بما يهاجم تفكيرها:
_معقولة أكون حبيته!
ثم جذبت الصابون المجاور لها لتلقيه بعشوائيةٍ وهي تدور بسعادةٍ ختمتـ,ـها حينما ارتدت ملابسها ثـ,ـم هبطت للاسفل سريعاً لتبوح له عما تـ,ـريـ,ـد!… ولكن ترى هـ,ـل سيتمـ,ـكن من محـ,ـو ذكريات حبه الذي طال لأكثر من عشـ,ـرة سنين